حكومة الشيخين
والشئ المحقق ان الرسول (ص) قد اهتم اهتماما بالغا بتكييف حالة المسلمين وتقرير مصيرهم، واستمرار حياتهم في طريقها إلى التطور في مجالات الاجتماعية والسياسية، ورسم لها الطريق على أساس من المنهج التجريبي الذي لا يخضع بأي حال لعوامل العاطفة أو المؤثرات الخارجية ، فعين لها الامام أمير المؤمنين (ع) لقيادتها الروحية والزمنية، وذلك لما يتمتع به من القابليات الفذة التي هي باجماع المسلمين لم تتوفر في غيره ، ولعل من أهمها ما يلي : 1 - احاطته بالقضاء فقد كان المرجع الاعلى للعالم الاسلامي في ذلك وقد اشتهرت مقالة عمر فيه: " لولا علي لهلك عمر " ولم ينازعه أحد من الصحابة في هذه الموهبة، فقد أجمعوا على أنه أعلم الناس بعد رسول الله (ص) وأبصرهم بأمور الدين وشؤون الشريعة، وأوفرهم دراية في الشؤون السياسية والادارية، وعهدههه لمالك الاشتر من أوثق الادلة على هذا القول، فقد حفل هذا العهد بما لم يحفل به أي دستور سياسي في الاسلام وغيره فقد عنى بواجبات الدولة تجاه المواطنين ومسؤوليتها بتوفير العدل السياسى والاجتماعى لهم، كما حدد صلاحيات الحكام ومسؤولياتهم، ونص على الشروط التي يجب أن تتوفر في الموظف في جهاز الحكم من الكفاءة، والدراية التامة بشؤون العمل الذي يعهد اليه، وأن يتحلى بالخلق والايمان، والحريجة في الدين إلى غير ذلك من البنود المشرقة التي حفل بها هذا العهد والتي لا غنى للامة حكومة وشعبا عنها، وقد ألمعت كثير من رسائله إلى ولاته وعماله بالشؤون السياسية التي دلت على أنه ألمع سياسي في الاسلام وغيره، وكما كان أعلم المسلمين بهذه الامور فقد كان من أعلمهم بسائر العلوم الاخرى كعلم الكلام والفلسفة وعلم الحساب وغيرها، وقد فتق أبوابا كثيرة من العلوم تربو على ثلاثين علما حسب ما يقول المترجمون له، ومع هذهه الثروات العلمية الهائلة التي يتمتع بها كيف لا ينتخبه الرسول (ص) أو يرشحه لمنصب الخلافة التي هي المحور الذي تدور عليه سيادة الامة وأمنها . ان الطاقات العلمية الضخمة التي يملكها الامام تقضى بحكم المنطق الاسلامي الذي يؤقر الصالح العام على كل شئ أن يكون هو المرشح للقيادة العامة دون غيره، فان الله تعالى يقول : " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " وليس أدعى إلى السخرية من القول بجواز تقديم المفضول على الفاضل، فان هذا المنطق يوجب الغبن في العلم والزهد في الفضيلة وتأخير الامة وانحطاط قيمها ومثلها . 2 - ان الامام أمير المؤمنين (ع) كان من أشجع الناس، وأثبتهم قلبا، وقد استوعبت شجاعته النادرة جميع لغات الارض، وهو القائل سلام الله عليه : " لو تظافرت العرب على قتالي لما وليت عنها "، وقد قام هذا الدين بسيفه وبني على جهادهه وجهوده، وهو صاحب المواقف المشهورة يوم بدر، ويوم حنين، ويوم الاحزاب، قد حصد رؤوس المشركين، وأباد ضروسهم، وأشاع فيهم القتل، لم تنفتح ثغرة على الاسلام إلا تصدى إلى اسكاتها، وقدمه رسول الله (ص) أميرا في جميع المواقف والمشاهد، واسند إليه قيادة جيوشه العامة، وما ولج حربا إلا فتح الله على يده وهو الذي قهر اليهود، وفتح حصون خيبر، وكسر شوكتهم وأخمد نارهم . والشجاعة من العناصر الاساسية التي تتوقف عليها القيادة العامة، فان الامة اذا منيت بالازمات والنكسات وكان زعيمها ضعيف الارادة خائر القوى جبان القلب فانها تصاب حتما بالكوارث والخطوب، وتلاحقها الضربات والنكبات . ومع توفر هذه الصفة بأسمى معانيها في الامام أمير المؤمنين (ع) كيف لا يرشحه النبي (ص) للخلافة الاسلامية ؟ انه بحكم شجاعته الفذة التي تصحبها جميع الصفات الفاضلة والمثل الكريمة كان متعينا لقيادة الامة وادارة شؤونها، حتى لو لم يكن هناك نص من النبي (ص) عليه . 3 - وأهم صفة لابد من توفرها عند من يتصدى از عامة الامة نكران الذات، وايثار مصلحة الامة على كل شئ، وعدم الاستئثار بالفئ وغيره من أموال المسلمين، وكانت هذه الظاهرة من أبرز ما عرف به الامام أيام حكومته فلم يعرف المسلمون ولا غيرهم حاكما تنكر لجميع مصالحه الخاصة كالامام أمير المؤمنين (ع) فلم يدخر لنفسه ولا لاهل بيته شيئا من أموال الدولة، وتحرج فيها تحرجا شديدا، وقد أجهد نفسه على أن يسير بين المسلمين بسيرة قوامها الحق المحض والعدل الخالص، وسنذكر ذلك بمزيد من التفصيل عند البحث عن حكومته . 4 - العدالة : وهي من أبرز الصفات المائلة في شخصية الامام فقد أترعت نفسه الشريفة بتقوى الله، والتجنب عن معاصيه، فلم يؤثر أي شئ على طاعة الله، وقد تحرج أشد ما يكون التحرج عن كل ما لا يقره الدين وتأباه شريعة الله، وهو القائل : " والله لو اعطيت الاقاليم السبع بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في جلب شعيرة أسلبها من فم جرادة ما فعلت " . وكان من مظاهر عدالته النادرة انه امتنع من اجابة عبد الرحمان بن عوف حينما ألح عليه أن يقلدهه الخلافة شريطة الالتزام بسياسة الشيخين فأبى الا أن يسير على وفق رأيه واجتهاده الخاص، ولو كان من طلاب الدنيا وعشاق السلطان لاجابه إلى ذلك ثم يسير على وفق ما يراه، ولكنه لا يلتزم بشئ لا يقره، فلم يسلك أي طريق فيه التواء او انحراف عن مثل الاسلام وهدية . لقد توفرت العدالة بارحب مفاهيمها في شخصية الامام (ع) وهي من العناصر الرئيسية التي يجب أن يتحلى بها من يتقلد زمام الحكم ويلي أمور المسلمين . هذه بعض خصائص الامام (ع) فكيف لا يرشحه النبي (ص) ولا ينتخبه لمنصب الخلافة ؟ ! ! على أنا لو التزمنا بمبدأ الوراثة الذي احتج به المهاجرون على الانصار لكان الامام أولى من غيره بمقام النبي (ص) فهو ابن عمه وختنه على أبنته وأبوسبطيه، يقول سيديو : " لو كان قد تم الاعتراف بمبدأ الوراثة وهو في صالح علي منذ البداية لكان بوسع ذلك أن يمنع المنازعات النكباء التي اغرقت الاسلام في الدم. كان زوج فاطمة يضم في شخصه حق الوراثة كوارث شرعي للرسول كما يضم الحق بالانتخاب " (1). إن التأمل الدقيق الذي لا يخضع لعوامل العاطفة والتقليد يقضي بأن النبي (ص) قد عين من ينوب عنه في ادارة شؤون الخلافة، ولم يهمل هذه الجهة المصيرية لامته، وانه قد نص على الامام أمير المؤمنين لا لقاعدة الوراثة وغيرها من الاعتبارات العاطفية، وانما لتوفر الصفات القيادية في شخصيته... وان من أوهى الاقوال وأكثرها بعدا عن منطق الدليل القول بأن النبي (ص) قد أهمل أمر الخلافة، ولم يعرض لها بشئ ، وانما ترك أمرها للمسلمين، وجعل لهم الحرية في اختيار من شاؤا فان ذلك - حسب ما يقوله علماء الشيعة - تدمير للبناء الاجتماعي الذي أقامه الاسلام والقاء للامة في الفتن والازمات، وفعلا قد تحقق ذلك على مسرح الحياة الاسلامية حينما عمدت الامة إلى إلغاء النصوص الواردة من النبي في حق الامام (ع) فقد واجهت هزات عنيفة، وعصفت بها الفتن والاهواء فقد سادت الاطماع السياسية عند الكثيرين من قادة المسلمين، وتهالكوا على الامرة والسلطان، فدفعوا بالقطاعات الشعبية إلى الحروب الطاحنة، تحقيقا لاهدافهم ومطامعهم حتى شاع الثكل والحداد في جميع أنحاء العالم الاسلامي يقول الاستاذ محمد سيد الكيلاني : " لقد تنازع القوم على منصب الخلافة تنازعا قل أن نجد له مثيلا في الامم الاخرى، وارتكبوا في سبيل ذلك ما نتعفف نحن عن ارتكابه الآن، فترتب على ذلك ان أزهقت أرواح، ودمرت مدن، وهدمت قرى، وأحرقت دور، وترملت نساء، وتيتمت أطفال، وهلك من المسلمين خلق كثير... " (2). ومن الطبيعي ان ذلك الدمار الذي حل بالمسلمين كان نتيجة حتمية لانحراف الخلافة عن مجراها الاصيل الذي اراده الله لها من جعلها في العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم . وعلى أي حال فاني أحاول بكل جهد في هذه البحوث أن اتجه صوب الحق، واصور الاحداث التي رافقت بيعة الشيخين، اصور ذلك بدقة وتجرد شأن الباحث الذي يهمه الوصول إلى الواقع مهما استطاع اليه سبيلا . مؤتمر السقيفة : لا ارى هناك حادثة أخطر على الامة من مؤتمر السقيفة الذي عقده الانصار للاستيلاء على الحكم، والاستبداد بشؤون الدولة، فقد كان الحجر الاساسي لتدهور الامة، وما عانته من الكوارث والخطوب، فقد انبثت فيها الاطماع، وسادت فيها الاهواء يقول بولس سلامة : وتوالت تحت السقيفة أحدا * ث أثارت كوامنا وميولا نزعات تفرقت كغصون الـ * - ـعوسج الغض شائكا مدخولا لقد جر هذا المؤتمر السياسي سلسلة طويلة من الاحداث المريعة التي كان منها - فيما يقول المحققون - رزية كربلاء، يقول الامام كاشف الغطاء رحمه الله : تالله ما كربلا لو لا (سقيفتهم) ومثل ذا الفرع ذاك الاصل ينتجه ولابد لنا من وقفة قصيرة للبحث عن هذا المؤتمر الخطير، وكيف فاز فيه أبوبكر ؟ بواعث المؤتمر : أما البواعث التي أدت إلى تسابق الانصار إلى عقد مؤتمرهم بتلك السرعة الخاطفة، وعدم التريث في الامر حتى يوارى النبي (ص) في مثواه الاخير فهي : 1 - بوضوح - بوادر التمرد، فقد امتنعوا من الالتحاق بسرية أسامة وحالوا بين النبي (ص) وبين ما رامه من الكتابة التي وصفها بأنها تضمن لامته سعادتها وأصالتها . وأكبر الظن ان الانصار وقفوا على حقد المهاجرين وكراهيتهم للامام قبل وفاة النبي (ص) بزمان بعيد، وانهم لا يخضعون لحكمه، ولا يرضون بسلطانه لان الامام قد وترهم، وحصد رؤوس أعلامهم، يقول عثمان بن عفان للامام : " ما أصنع ان كانت قريش لا تحبكم، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين رجلا كأن وجوههم شنوف الذهب تصرع آنافهم قبل شفاههم " (3). ودلل عثمان على مدى لوعة قريش وحزنها على من قتل منها في واقعة بدر من الرجال الذين كانت وجوههم شبيهة بشنوف الذهب لنضارتها وحسنها وقد صرعت أنافهم ذلا قبل شفاههم، ومما لا شك فيه انها كانت ترى الامام (ع) هو الذي وترها، فهي تطالبه بذحلها والدماء التي سفكها ، يقول الكناني محرضا لقريش على الوقيعة بالامام والطلب بثأرها منه : في كل مجمع غاية أخزاكم * جذع أبر على المذاكى القرح لله دركم ألما تذكروا * قد يذكر الحر الكريم ويستحي هذا ابن فاطمة (4) الذي أفناكم * ذبحا بقتله بعضه لم يذبح اين الكهول واين كل دعامة * في المعضلات واين زين الابطح (5) ويروي ابن طاووس عن أبيه يقول : قلت لعلي بن الحسين (ع) : ما بال قريش لا تحب عليا ؟ فأجابه (ع) " لانه أورد أولهم النار والزم آخرهم العار... " (6) . وعلى أي حال فان الانصار قد علمت أن المهاجرين من قريش يدبرون المؤامرات ويبغون الغوائل للامام، وانهم لا يرضون بحكمه، وقد أعلنوا ذلك يوم غدير خم فقد قالوا : " لقد حسب محمد أن هذا الامر قد تم لابن عمه وهيهات أن يتم " وقد أيقن الانصار انهم سيصيبهم الجهد والعناء ان استولى المهاجرون على زمام الحكم، وذلك بسبب مودتهم للامام، فلذلك بادروا إلى عقد مؤتمرهم، والعمل على ترشيح أحدهم للخلافة . 2 - واستبان للانصار فيما أخبر به النبي (ص) أن أهل بيته لا ينالون الخلافة، وانهم المستضعفون من بعده، فقد روى شيخ الامامية الشيخ المفيد أنه بقي عند النبي (ص)، في مرضه عمه العباس، وابنه الفضل، وعلي ابن أبي طالب، وأهل بيته خاصة، فقال له العباس : إن يكن هذا الامر مستقرا فينا من بعدك فبشرنا، وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوصي بنا فقال (ص) : " أنتم المستضعفون من بعدي " (7) وسبق النبي (ص) أن أذاع ذلك بين المسلمين فاحتاطت الانصار لانفسها فبادرت لعقد مؤتمرها للاستيلاء على الحكم لئلا يسبقهم إليه المهاجرون من قريش . 3 - ان الانصار كانوا العمود الفقري للقوات الاسلامية المسلحة وقد أنزلوا الضربات القاصمة بالقرشيين فأبادوا اعلامهم وأشاعوا في بيوتهم الحزن والحداد في سبيل الاسلام، وقد علموا ان الامر اذا استتب للقرشيين فانهم سيمعنون في قهرهم واذلالهم طلبا بثأرهم وقد أعلن ذلك الحباب بن المنذر بقوله : " لكننا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم واخوانهم " وتحقق هذا التنبؤ فانه لم يكد ينتهي حكم الخلفاء القصير الامد حتى آل الحكم إلى الامويين فسعوا جاهدين في اذلال الانصار وقهرهم واشاعة الفقر والحاجة فيهم، وقد بالغ معاوية في الانتقام منهم، ولما ولي الامر من بعده يزيد جهد على الوقيعة بهم فأباح أموالهم ودماءهم وأعراضهم بجيوشه في واقعة الحرة التي لم يشاهد التاريخ لها نظيرا في فظاعتها وقسوتها . هذه بعض العوامل التي أدت إلى مبادرة الانصار لعقد مؤتمرهم الذي أحاطوه بكثير من السر والكتمان . الخطاب السياسي لسعد : ولما اجتمع الآوس والخزرج في سقيفة بني ساعدة انبرى سعد بن عبادة زعيم الخزرج إلى افتتاح مؤتمرهم، وكان مريضا فلم يتمكن ان يجهر بكلام وإنما كان يقول : ويبلغ مقالته بعض أقربائه وهذا هو نص خطابه : " يا معشر الانصار لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الاسلام ليست لاحد من العرب، إن محمدا (ص) لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمان وخلع الانداد والاوثان، فما آمن به الا القليل ما كانوا يقدرون على منعه، ولا على اعزاز دينه، ولا على دفع ضيم حتى اذا أراد الله بكم الفضيلة ساق اليكم الكرامة، وخصكم بالنعمة، ورزقكم الايمان به وبرسوله، والمنع له ولاصحابه، والاعزاز له ولدينه، والجهاد لاعدائه فكنتم أشد الناس على عدوه، حتى استقامت العرب لامر الله طوعا وكرها وأعطى البعيد المقادة صاغرا، فدانت لرسوله بأسيافكم العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راض، وبكم قرير العين، استبدوا بهذا الامر دون الناس فانه لكم دونهم... " (8) وحفل خطابه بالنقاط التالية : 1 - الاشادة بنضال الانصار وبسالتهم الفذة في نصرة الاسلام ، واعزاز كلمته، وقهر القوى المعادية له، حتى استقام أمره وهو عبل الذراع، فلهم الفضل الاكبر في نشره، وازدهارهه فهم الذين حموا النبي صلى الله عليه هوآله أيام محنته وغربته، فإذن هم أولى بالنبي (ص) وأحق بمنصبه من غيرهم لان من كان عليه العزم فهو أولى بالغنم . 2 - التنديد بالاسر القرشية التي ما آمنت بالنبي (ص) وناهضت رسالته، وناجزته الحرب، حتى اضطر إلى الهجرة ليثرب، وان من آمن به منهم لم يتمكن ان يحميه ويذب عنه، وبذلك فلا حق لهم في الحكم ولا نصيب لهم في ادارة شؤون الدولة الاسلامية التي أقامها الرسول (ص) والتي ما قامت الا على سواعد الانصار وجهادهم . المؤاخذة على سعد : ومما يؤخذ به على سعد أنه قد تناسى العترة الطاهرة التى هي عديلة القرآن الكريم فلم يعرض إلى سيدها الامام امير المؤمنين الذى هو باب مدينة علم النبي ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى، فقد تجاهله، ودعا إلى نفسه وقومه، وأول سهم سدد إلى آل البيت (ع) كان من ذلك اليوم الذي تعمد فيه الانصار والمهاجرون على الغض من كرامة عترة نبيهم في سبيل الوصول إلى كراسي الحكم، والتنعم بخيرات الدولة ومناصبها . وعلى أي حال فان سعدا قد أخطأ إلى حد بعيد في تجاهله لحق الامام عليه السلام، ولا نرى له أي مبرر في ذلك فقد جر للامة الفتن والويلات وألقاها في شر عظيم، فقد انحرفت الخلافة عما ارادها الله ورسوله من جعلها في العترة الطاهرة التي هي أحرص ما تكون على الالتزام بحر فيه الاسلام وتطبيق شؤونه وأحكامه . وقد لاقى سعد جزاء عمله فانه لم يكد يستقر الحكم إلى أبي بكر حتى جهد في ملاحقته وفرض الرقابة عليه حتى اضطر إلى الهجرة من يثرب إلى أرض الشام فتبعه خالد بن الوليد مع صاحب له فكمنا له ليلا وطعناه وألقياه في البئر، وتحدثوا أن الجن هي التي قتلته، ورووا على لسانها شعرا تفتخر فيه بقتله وهو : نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده * ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده ومن الغريب أن سياسة الحكم في تلك العصور قد استخدمت الجن واتخذته في أدواتها، وقد آمن بذلك السذج والبسطاء من غير وعي وادراك للاهداف السياسية . وهن الانصار : ولم تكن للانصار ارادة صلبة، ولا عزم ثابت كما لا دراية لهم في الشؤون السياسية، فقد منوا - على كثرتهم - بالوهن والضعف والتخاذل فكانوا بعد خطاب سعد - فيما يقول المؤرخون - قد ترادوا الكلام فيما بينهم، فقالوا : فان أبى المهاجرون من قريش، وقالوا : نحن المهاجرون وأصحابه الاولون، وعشيرته وأولياؤه فعلام تنازعون هذا الامر بعده ؟ فقالت طائفة منهم : فانا نقول : منا أمير، ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا أبدا، وثار سعد حينما رأى هذا الروح الانهزامية قد سرت في نفوس قومه فقال : " هذا أول الوهن " (9) . أجل إن هذا أول الوهن وآخرهه فقد كشف عن ضعف نفوسهم ، وتفلل صفوفهم، وعدم نضوجهم في الميادين السياسية فانهم انما عقدوا اجتماعهم، وأحاطوه بكثير من الكتمان ليسبقوا الاحداث، ويظفروا بالحكم قبل أن يعلم المهاجرون من قريش، ولكنهم ضلوا قابعين في هذا الصراع الفارغ حتى أضاعوا عليهم الفرصة فقد دهمهم المهاجرون، وأشاعوا بينهم الاختلاف والفرقة حتى سيطروا على الوضع، واستولوا على زمام الحكم . احقاد واضغان : وشئ آخر كان السبب في انهزام الانصار هو شيوع الاحقاد والاضغان فيما بينهم . لقد كانت هناك ثورات وأحقاد بين الاوس والخزرج منذ عهد بعيد أدت إلى اراقة الدماء واشاعة الفرقة والعداء فيما بينهم، وكان آخر أيام حروبهم - فيما يقول المؤرخون - هو يوم (بغاث) وذلك قبل ان يهاجر النبى (ص) إلى يثرب بست سنين، ولما أطل النبى (ص) عليهم عمل جاهدا على نشر المحبة والوئام فيما بينهم، واذابة الاحقاد والاضغان ولكنها لم تزل كامنة في نفوسهم، تظهر في كثير من الاحيان حينما تحدث عوامل التنافس فيما بينهم حسب ما نص عليه المؤرخون، وقد ظهرت بشكل سافر يوم السقيفة، فقد حقد خضير بن أسيد زعيم الاوس على سعد حينما رشحه القوم لمنصب الخلافة فكان يقول لقومه : " لئن وليتموها سعدا عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم فيها نصيبا أبدا فقوموا فبايعوا أبا بكر... " (10) . ودل ذلك على مدى الحقد الكامن في نفوس الاوس للخزرج فان سعدا ان ولي الحكم مرة واحدة فتكون بذلك فضيلة للخزرج على الاوس وهذا مما يثفل على زعيم الاوس، وفعلا قد انبرى مع قومه فبايع أبا بكر ولولاه لما تم الامر له . ومضافا إلى ذلك فان بعض الاوس ممن كانوا يحقدون على سعد ، ويستكثرون عليه هذا المنصب فان بشير بن سعد الخزرجي كان من أهم المنافسين له فانحاز مع الخزرج فبايع أبا بكر، وأفسد على سعد أمره . وعلى أي حال فان هذا الاختلاف والتشاحن مما أوجب أن يفلت الامر من أيدي الانصار ويظفر به المهاجرون من قريش . فذلكة عمر : وشئ خطير بالغ الاهمية قام به عمر لتجميد الاوضاع، وايقاف أي عملية تؤدي إلى انتخاب من يخلف الرسول (ص)، لان زميله أبا بكر لم يكن في يثرب عند وفاة النبي (ص) وانما كان في (السنح) (11). فبعث خلفه من يأتي به إلا أنه خشي أن يتقدم إلى الساحة أحد قبل مجيئه، فانطلق بحالة رهيبة، وهو يجوب في أزقة يثرب وشوارعها ويقف عند كل تجمع من الناس، ويهز بيده سيفه، وينادي بصوت عال قائلا : " إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله (ص) قد مات ، وانه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران... والله ليرجعن رسول الله فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجفوا بموته " . وجعل لا يمر بأحد يقول : مات رسول الله إلا خطبه بسيفه وتهدده وتوعده (12)، وذهل الناس، وساورتهم الاوهام والشكوك، وعصفت بهم أمواج رهيبة من الحيرة فلا يدرون أيصدقون مزاعم عمر بحياة النبي صلى الله عليه وآله وهي من أعز ما يأملون، ومن أروع ما يحملون ؟ أم يصدقون ما عاينوه من جثمان النبي (ص) وهو مسجى بين أهله لا حراك فيه ؟ ! ! ويستمر عمر يبرق ويرعد حتى " أزبد شدقاه " وهو يتهدد بالقتل ويتوعد بقطع الايدي والارجل ممن أرجف بموت النبي (ص) إلا انه لم يمض قليل من الوقت حتى جاء خدنه وصاحبه أبوبكر من (السنح) فانطلق مع إلى بيت النبي (ص) فكشف أبوبكر الرداء عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآلهه ليتحقق وفاته، وبعدما اطمئن بموته خرج إلى الناس وهو يفند مزاعم عمر، والتفت إلى الجماهير الحائرة التي أخرسها الخطب بموت منقذها العظيم قائلا : " من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت... وتلا قوله تعالى : " وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " . ولم يلبث عمر ان أسرع إلى الاذعان والتصديق، وانبرى يقول : " فوالله ما هو الا اذا سمعتها فعقرت حتى وقعت على الارض ما تحملني رجلاي، وقد علمت أن رسول الله قد مات " (13) . نقاط مهمة : ونحن إذا تأملنا بدقة وامعان هذه البادرة الغريبة التي صدرت من الشيخين نجد فيها عدة نقاط مهمة تسترعي الاهتمام والتحليل وهي : 1 - ان عمر قد أنكر بصورة جازمة، وباصرار بالغ موت النبي صلى الله عليه وآله فقد زعم أنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران وانه لابد ان يرجع إلى الارض وينكل بالمرجفين بموته، ومما لا شك فيه ان ذلگ لم يكن عن ايمان منه بحياة النبي (ص) وانما كان ذلك استغلالا للفرص، وتوصلا إلى أهدافه السياسية حسب المخططات التي وضع برامجها اقطاب حزبه كأبي بكر، وأبي عبيدة، ويدل على ذلك ما يلي : أ - أن عمر بالذات كان من المتفائلين بموت النبي (ص) في ذلك فكان يقول لاسامة : " مات رسول الله (ص) وأنت علي أمير ؟ هذا ورسول الله (ص) كان حيا، وقد اطمأن بوفاته حينما نعى (ص) نفسه إلى المسلمين، وساق لهم الامارات التي تدل على وفاته حسبما تقدمت في البحوث السابقة . ب - انه وقف امام النبي (ص) في مرضه الذي توفي فيه وقد صده عما رامه من الكتابة التي تقي أمته من الفتن والضلال، وقال له : " حسبنا كتاب الله ". ومن الطبيعي انه انما قال ذلك حينما أيقن بوفاة النبى (ص) ج - ان كتاب الله العظيم أعلن أن كل انسان لابد ان يتجرع كأس المنية قال تعالى : " كل نفس ذائقة الموت ثم الينا ترجعون " وقال تعالى : في خصوص نبيه : " انك ميت وانهم لميتون " وقال تعالى : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسول أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم وهذه الآيات تتلى في وضح النهار، وفي غلس الليل، أفهل خفيت على عمر، وهو ممن يسمع كتاب الله، ويصابح رسول الله (ص) ويماسيه ؟ وتصديقه بلا مناقشة لمقالته حينما أعلن وفاة النبى (ص) كل ذلك يقضي - بلا شبهة - انه انما قام بهذههه العملية توصلا إلى مأربه وأهدافه . ان حكم عمر بأن رسول الله (ص) سوف يرجع إلى الارض ويقطع أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجفوا بموته، لا يخلو من وهن فان تقطيع الايدي والارجل والحكم بالاعدام انما يكون للذين يخرجون عن دين الله، أو يسعون في الارض فسادا، وليس القول بموت النبى (ص) مما يوجب ذلك قطعا . 3 - إن أبا بكر أعلن في خطابه الذي نعى به النبي (ص) : " من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت " ومن المقطوع به انه لم يؤثر عن أي أحد من المسلمين انه كان يعبد رسول الله (ص) أو اتخذه ربا من دون الله، وانما أجمع المسلمون على انه عبد الله ورسوله اختاره الله لوحيه واصطفاه لرسالته . مباغتة الانصار : وحينما كان الانصار في سقيفتهم يدبرون أمرهم ويتداولون الرأي في شؤون الخلافة والبيعة، اذ خرج من مؤتمرهم وهم لا يشعرون عويم ابن ساعدة الاوسي، ومعن بن عدي حليف الانصار، وكانا من أولياء أبي بكر على عهد رسول الله (ص) ومن اعضاء حزبه، وكانت نفوسهما مترعة بالحقد والكراهية لسعد وانطلقا مسرعين واخبرا أبا بكر وعمر بذلك ففزعا وانطلقا مسرعين ومعهما أبوعبيدة بن الجراح (14) وسالم مولى أبي حذيفة وتبعهم جماعة آخرون من المهاجرين فكبسوا الانصار في ندوتهم ، واسقط ما بأيدي الانصار وذهلوا وغاض لون سعد، وتخوف من خروج الامر عنهم، وذلك لعلمه بضعف الانصار وتفلل قواهم، وتصدع وحدتهم، فهو قد أحاط مؤتمرهم بكثير من السر والكتمان، خوفا من الهاجرين وبدخولهم المفاجأ، فقد انهارت جميع مخططاته، وفشلت جميع مساعيه في عقد البيعة له . خطاب أبي بكر : وبعد أن ولج المهاجرون في مؤتمر الانصار أراد عمر أن يفتح الحديث فنهره أبوبكر وذلك لعلمه بشدته وهي لا تنجح في مثل هذا الموقف الملبد والملئ بالاضغان والاحقاد ويجب أن تستعمل فيه الاساليب السياسية والبراعة الفائقة والكلمات الناعمة لكسب الموقف، وأنبرى أبوبكر فخاطب القوم وقابلهم ببسمات فياضة بالبشر قائلا : " نحن المهاجرون أول الناس اسلاما، وأكرمهم احسابا، وأوسطهم دارا وأحسنهم وجوها، وأمسهم برسول الله (ص) وأنتم أخواننا في الاسلام وشركاؤنا في الدين نصرتم وواسيتم فجزاكم الله خيرا، فنحن الامراء وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش فلا تنفسوا على اخوتكم المهاجرين ما فضلهم الله به، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين - يعني عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح -... " (15) . دارسة وتحليل : ولابد لنا من وقفة قصيرة للنظر في هذا الخطاب : 1 - انه لم يعن بوفاة النبي (ص) التي هي أعظم رزية مني بها المسلمون، وأفجع كارثة تصدعت من هولها القلوب، وكان الاجدر به أن يعزيهم بوفاة منقذهم، ويذكرهم باحسانه وبره بدينهم ودنياهم ، ويدعوهم إلى القيام بتشييع جثمانه الطاهر حتى يواروه في مثواه الاخير ويعودوا بعد ذلك إلى عقد مؤتمر عام يضم جميع الطبقات الشعبية من المسلمين لينتخبوا عن ارادتهم وحريتهم من يرضونه خليفة لهم على تقدير أن النبى (ص) لم يعهد لاحد من بعده . 2 - ان منطق هذا الخطاب هو طلب الامرة والسلطان، ولا يعني بأي شئ آخر غير ذلك، وقد عرض فيه على الانصار أن يتنازلوا لاخوانهم المهاجرين عن الخلافة ولا ينافسوهم في شؤون الملك، ومناهم عوض ذلك أن يكونوا الوزراء إلا أنه لما تم له الامر أجحف في حقهم فلم يمنحهم أي منصب من شؤون دولته، وأقصاهم عن جميع مراتب الحكم . 3 - ان هذا الخطاب قد تجاهل بالمرة حق العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم، أو كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى حسبما يقول النبي (ص) : فكان الاولى التريث بالامر حتى يتم تجهيزه (ص) ويؤخذ رأي أهل بيته في ذلك لتحمل الخلافة طابعا شرعيا، ولا توصم بالفلتة كما وصفها عمر إذ يقول : " إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها " ويقول الامام شرف الدين : " فلو فرض أن لا نص بالخلافة على أحد من آل محمد (ص) وفرض كونهم غير مبرزين في حسب أو نسب أو أخلاق أو جهاد أو علم أو عمل، أو ايمان، أو اخلاص، ولم يكن لهم السبق في مضامير كل فضل بل كانوا كسائر الصحابة، فهل كان مانع شرعي، أو عقلي، أو عرفي يمنع من تأجيل عقد البيعة إلى فراغهم من تجهيز رسول الله (ص) ؟ ولو بأن يوكل حفظ الامل إلى القيادة العسكرية موقتا حتى يستتب أمر الخلافة ؟ أليس هذا المقدار من التريث كان أرفق بأولئك المفجوعين ؟ وهم وديعة النبي (ص) لديهم وبقيته فيهم، وقد قال الله تعالى : " ولقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " أليس من حق هذا الرسول - الذي يعز عليه عنت الامة ويحرص على سعادتها، وهو الرؤوف بها الرحيم لها - أن لا تعنت عترته فلا تفاجأ بمثل ما فوجئت به - والجرح لا يندمل والرسول لما يقبر... " (16) . 4 - ان المنطق الذي استند اليه أبوبكر لا حقبة المهاجرين من قريش بالخلافة هو انهم أمس الناس رحما برسول الله (ص) وأقربهم اليه، وهذا الملاك على أكمل وجوه، وأتم رحابه متوفر في أهل البيت (ع) فهم ألصق الناس به، وأمسهم به، وما أروع قول الامام أمير المؤمنين (ع) : " احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة " وخاطب (ع) أبا بكر بقوله : فان كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب وان كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرين غيب ويقول الكميت : بحقكم أمست قريش تقودنا * وبالفذ منها والرديفين نركب وقالوا : ورثناها أبانا وأمنا * وما ورثتهم ذاك أم ولا أب يرون لهم فضلا على الناس وجبا * سفاها وحق الهاشميين أوجب (17) وعرض الامام (ع) في حديث له عن شدة قربه من النبى (ص) وبعض مواهبه فقال : " والله إني لاخوه - أي أخ النبي (ص) - ووليه، وابن عمه ، ووارث علمه فمن أحق به مني... " . لقد انساب القوم وراء أطماعهم وأهوائهم، وتهالكوا على الحكم ، والظفر بخيراته، وأعرضوا عما الزمهم به النبى (ص) من التمسك بعترته وعدم التقدم عليها، ووجوب رعايتها في كل شئ . بيعة أبي بكر : وربح أبوبكر في خطابه السالف، وكسب به الموقف، فقد أثنى فيه على الانصار، ومجد فيه جهادهم وجهودهم في خدمة الاسلام، وبذلك قد أخمد نار الثورة في نفوسهم، كما مناهم بالحكم فجعلهم الوزراء، وفند ما كان يختلج في نفوسهم من استبداد المهاجرين بالامر، واستئثارهم بالحكم وافهمهم انه انما قدم المهاجرون لان العرب لا تدين إلا لهم، وكأن هذه القضية الاسلامية الكبرى من قضايا العرب وحدهم، وليس لبقية المسلمين فيها حق ؟ ! ! وههنا نكتة بارعة عمد اليها أبوبكر وهو انه جعل نفسه حاكما في هذا الامر، وجرد نفسه من جميع الاطماع السياسية، وبذلك فقد غزا نفوس الانصار، وملك قلوبهم وعواطفهم... وانبرى عمر فأيد مقالة صاحبه فقال : " هيهات لا يجتمع اثنان في قرن والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع ان تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم. ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة والسلطان المبين من ذا ينازعنا سلطان محمد وامارته ؟ ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لاثم أو متورط في هلكة... " . وليس في هذاالخطاب شئ جديد سوى التأكيد لما قاله أبوبكر من أحقية المهاجرين بخلافة النبى (ص) منهم أولياؤه وعشيرته، يقول الاستاذ محمد الكيلاني : " انه احتج عليهم بقرابة المهاجرين للرسول. ومع ذلك فقد كان واجب العدل يقضي بأن تكون الخلافة لعلي بن أبي طالب ما دامت القرابة اتخذت سندا لحيازة ميراث الرسول. لقد كان العباس أقرب الناس إلى النبى وكان أحق الناس بالخلافة ولكنه تنازل بحقه هذا لعلي، فمن هنا صار لعلي الحق وحده في هذا المنصب " (18) . وانبرى الحباب فرد على عمر قائلا : " يا معشر الانصار املكوا عليكم امركم، ولا تسمعوا مقالة هذا واصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر فان ابوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الامور فأنتم - والله - أحق بهذا الامر منهم، فانه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين ، انا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، انا شبل في عرينة الاسد، والله لو شئتم لنعيدنها جذعة، والله لا يرد احد علي ما اقول الا حطمت أنفه بالسيف... " . وحفل هذا الكلام بالعنف والتهديد، والدعوة إلى الحرب، واجلاء المهاجرين عن يثرب، كما عنى بالاعتزاز بنفسه، والافتخار بشجاعته، وقد رد عليه عمر وصاح به قائلا : " إذا يقتلك الله " . فقال له الحباب : " بل إياك يقتل " وخاف ابوبكر من تطور الاحداث فالتفت إلى الانصار فرشح للخلافة صاحبيه عمر وابا عبيدة فاسرع اليه عمر فاجابه بلباقة قائلا : " يكون هذا وانت حي ؟ ما كان احد ليؤخرك عن مقامك الذي اقامك فيه رسول الله (ص) " . - ويقول بعض المحققين - : لا نعلم انه متى اقامه رسول الله (ص) او دلل عليه، وانما كان مع بقية اخوانه من المهاجرين جنودا في سرية اسامة، ولو كان قد رشحه لمنصب الخلافة وقامة علما ومرجعا للامة لاقامة معه في يثرب، وما اخرجه إلى ساحات الجهاد، وهو (ص) في ساعاته الاخيرة من حياته . وعلى أي حال فقد بادر اعضاء حزبه بسرعة خاطفة إلى بيعته خوفا من تطور الاحداث فبايعه عمر وبشير، واسيد بن حضير وعويم بن ساعدة ومعن بن عدي، وابوعبيدة بن الجراح، وسالم مولى ابي حذيفة، وخالد ابن الوليد، واشتد هؤلاء في حمل الناس وارغامهم على مبايعته، وكان من أشدهم اندفاعا وحماسا عمر بن الخطاب فقد جعل يجول ويصول ويدفع الناس دفعا إلى البيعة وقد لعبت درته شوطا في الميدان، وسمع الانصار وهم يقولون : " قتلتم سعدا " . فاندفع يقول بثورة وعنف : " اقتلوه قتله الله فانه صاحب فتنة " (19) . وكادوا يقتلون سعدا، وهو مزمل وجع، وحمل إلى دارههه وهو صفر اليدين قد انهارت آماله، وتبددت احلامه، ولما تمت البيعة إلى أبي بكر اقيل به حزبه يزفونه إلى مسجد رسول الله (ص) زفاف العروس (20) والنبي (ص) مسجى في فراش الموت لم يغيبه عن عيون القوم مثواه قد انشغل الامام امير المؤمنين بتجهيزه، ولما علم (ع) ببيعة ابي بكر تمثل بقول القائل : واصبح اقوام يقولون ما اشتهوا ويطغون لما غال زيدا غوائل (21) لقد تمت البيعة لابي بكر بهذه السرعة الخاطفة، وقد اهمل فيها رأي العترة الطاهرة ولم يعن بها، ومن ذلك اليوم واجهت جميع الوان الرزايا والنكبات، وما كارثة كربلا وغيرها من المآسي التي حلت بآل البيت (ع) الا وهي متفرعة من يوم السقيفة حسب ما نص عليه المحققون. سرور القرشيين : وابتههجت قريش حينما آل الحكم إلى أبي بكر واعتبرته فوزا لها، فقد تحققت آمالها وأحلامها، وقد عبر عن مدى سرورها أبوعبرة القرشي بقوله : شكرا لمن هو بالثناء حقيق * ذهب اللجاج وبويع الصديق من بعد ما زلت بسعد نعله * ورجاء رجاء دونه العيوق ان الخلافة في قريش مالكم * فيها ورب محمد معروق (22) وفي هذا الشعر التنديد والهجاء للانصار، واظهار السرور البالغ بحرمانهم من الخلافة... ومن أبدى سروره ببيعة أبي بكر عمرو بن العاص ولم يكن في يثرب آنذاك وانما كان في سفر له فلما قدم وسمع ببيعة أبي بكر قال : قال لاوس اذا جئتها * وقل اذا ما جئت للخزرج تمنيتم الملك في يثرب * فانزلت القدر لم تنضج (23) لقد عمت الافراح والمسرات جميع القبائل القرشية، ووقفت موقف التأييد لحكومة أبي بكر، ولما بلغ أهل مكة موت النبي (ص) أرادوا أن يعلنوا الردة والخروج عن السلام إلا أنهم لما علموا بخلافة أبي بكر اذعنوا وأعلنوا الرضا والسرور . موقف أبي سفيان : وعمد أبوسفيان إلى اعلان المعارضة لحكومة أبي بكر، فقد وقف على الامام أمير المؤمنين يحفزه على مناجزة أبي بكر، ويعده بنصرته وهو يقول : " إني لارى عجاجه لا يطفئها الا دم يا آل عبد مناف، فيم أبوبكر من أموركم ؟ اين المستضعفان ؟ " . اين الاذلان ؟ علي والعباس ؟ ! ! ما بال هذا الامر في أقل حي من قريش ؟ ثم قال لعلي : ابسط يدك أبايعك فوالله لئن شئت لاملانها عليه خيلا ورجالا، وتمثل بشعر المتلمس : ولن يقيم على خسف يراد به * الا الاذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته * وذا يشج فلا يبكي له أحد لقد استغل أبوسفيان العنصرية القبيلة لاحداث الثورة والانقلاب على حكومة أبي بكر لكن الامام كان يفقه دوافعه، ويعرف ذاتياته فلم يستجب له، وانما نهره وأغلظ له في القول قائلا : " والله ما أردت بهذا إلا الفتنة وانك والله طالما بغيت للاسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك.."(24) . وراح أبوسفيان يشتد في اثارة الفتنة، ويدعو الامام إلى اعلان الثورة على أبي بكر وكان ينشد : بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم * ولا سيما تيم بن مرة أو عدي فما الامر إلا فيكم وإليكم * وليس لها إلا أبوحسن علي أبا حسن فاشدد بها كف حازم * فانك بالامر الذى يرتجى علي (25) ومن المقطوع به أنه لم تكن معارضة أبي سفيان عن ايمان منه بحق الامام (ع) وإنما كانت ظاهرية أراد بها الكيد للاسلام، والبغي عليه وقد أعرض الامام عنه ولم يعن بعواطفه الكاذبة، فان علاقة أبي بكر مع أبي سفيان كانت وثيقة للغاية فقد روى البخاري أن أبا سفيان اجتاز على جماعة من المسلمين منهم أبوبكر وسلمان وصهيب وبلال فقال بعضهم : " أما أخذت سيوف الله من عتق عدو الله مأخذها ؟ " . فزجرهم أبوبكر وقال لهم : " أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟ ! ! " ومضى مسرعا إلى النبى (ص) يخبره بمقالة القوم فرد عليه الرسول صلى الله عليه وآهل قائلا : " يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد غضبت الله " (26) ودلت هذه البادرة على مدى الصلة الوثيقة بينهما، وقد جهد أبوبكر في خلافته على استمالة أبي سفيان، وكسب وده فقد استعمله عاملا على ما بين آخر حد للحجاز، وآخر حد من نجران (27) كما عين ولده يزيد واليا على الشام ومنذ ذلك اليوم قد علا نجم الامويين وقويت شوكتهم : اندحار الانصار : وأفل نجم الانصار، وضاعت أمانيهم، وعراهم الذل والهوان ، وقد عبر عن خيبة أملهم حسان بن ثابت بقوله : نصرنا وآوينا النبي ولم نخف * صروف الليالي والبلاء على وجل بذلنا لهم انصاف مال اكفنا * كقسمة أيسار الجزور من الفضل فكان جزاء الفضل منا عليهم * جهالتهم حمقا وما ذاك بالعدل (28) وقوبلت الانصار بمزيد من الهوان في كثير من عهود الخلفاء، وقد استبان لهم الخطأ الفظيع في تقصيرهم بحق الامام أمير المؤمنين (ع) وانهم قذفوا بنفوسهم في متاهات سحيقة من هذه الحياة . موقف آل البيت (ع) : واتفق المؤرخون على أن موقف أهل البيت (ع) تجاه خلافة أبي بكر قد تميز بالكراهة فقد كانوا لا يخالجهم ريب في أنهم أحق بالامر وأولى به من غيرهم لانهم أقرب الناس وألصقهم برسول الله (ص) بالاضافة إلى ما تتوفر فيهم من القابليات الفذة والقدرة على تحمل المسؤولية وقيادة الامة، ولكن القوم لم يعنوا بهم وتجاهلوا عامدين مكانتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وقابلوهم بمزيد من العنف مما ادى إلى تشعب صدع الامة وجر الويلات والخطوب لها في جميع مراحل التاريخ . امتناع الامام عن البيعة : ونقم الامام امير المؤمنين (ع) على بيعة أبي بكر، واعتبرها اعتداء صارخا عليه، فهو يعلم ان محله من الخلافة محل القطب من الرحى ينحدر عنه السيل، ولا يرقى اليه الطير - على حد تعبيرهه - وما كان يظن ان القوم يزعجون هذا الامر ويخرجونه عن أهل بيت نبيهم، فقد بادر اليه عمه العباس قائلا له : " يابن أخي امدد يدك أبايعك، فيقول الناس : عم رسول الله صلى الله عليه وآله بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك اثنان " . فقال له الامام : " ومن يطلب هذا الامر غيرنا ؟ " (29) . وعلق الدكتور طه حسين على ذلك بقوله : " نظر العباس في الامر فرأى ابن أخيه، أحق منه بوراثة السلطان لانه ربيب النبي، وصاحب السابقة في الاسلام وصاحب البلاء الحسن الممتاز في المشاهد كلها، ولان النبي كان يدعوه أخاه حتى قالت له أم أيمن : ذات يوم مداعبة تدعوه أخاك وتزوجه ابنتك ؟ ! ولان النبي قال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي، وقال للمسلمين يوما آخر : من كنت مولاه فعلي مولاه. من أجل ذلك أقبل العباس بعد وفاة النبي على ابن أخيه ، وقال له : ابسط يدك أبايعك " (30) . لقد تخلف الامام (ع) عن بيعة ابي بكر ساخطا، وأعلن شجاه وأساه على صياع حقه، واستبداد القوم بالامر من دون أن يعنوا به وفي نهجه شذرات من بليغ كلامه عرض فيها لذلك . ارغامه على البيعة : وأجمع رأي القوم على ارقام الامام (ع) وقسره على البيعة لابي بكر فأرسلوا حفنة من الشرطة فأحاطت بداره، وأخرجوه منها، وهو مهان الجانب، وجئ به إلى ابى بكر، فصاح القوم به بعنف : " بايع أبا بكر " . فأجابهم الامام بمنطقة الفياض، وهو غير وجل من جبروتهم وسطوتهم قائلا : " أنا أحق بهذا الامر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الامر من الانصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (ص) وتأخذونه منا أهل البيت غضبا ! ! ألستم زعمتم للانصار أنكم أولى بهذا الامر منهم لما كان محمد (ص) منكم فاعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الامارة ؟ وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الانصار، نحن اولى برسول الله حيا وميتا، فانصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون... " . ووضع الامام (ع) النقاط على الحروف بهذا الاحتجاج الرائع ، ودلل على انه اولى وأحق بالامر منهم لانه اقرب إلى النبي (ص) وألصق به من غيره، فان القرب من النبي (ص) هي الجهة التي تمسك بها القوم في التغلب على الانصار، وهي متوفرة في الامام اكثر من غيره ، فهو ابن عمر النبي (ص) وختنه على بنته... وثار ابن الخطاب بعد أن أعوزته الحجة في الرد على الامام فسلك طريق العنف قائلا له : " انك لست متروكا حتى تبايع " . فزجره الامام قائلا : " احلب حلبا لك شطره، واشدد له اليوم امره يردده عليك غدا " وكشف (ع) السر في اندفعات ابن الخطاب وحماسه، فانه لم يقف هذا الموقف الصارم تجاه الامام الا من أجل ان ترجع اليه الخلافة وشؤون الملك بعد أبي بكر، وثار الامام، وهتف يزأر قائلا : " والله يا عمر، لا أقبل قولك ولا ابايعه " . وخاف أبوبكر من تطور الاحداث، وخشي من غضب الامام فاقبل عليه، فخاطبه بناعم القول قائلا : " إن لم تبايع فلا أكرهك " . وانبرى اليه أبوعبيدة محاولا اخماد ثورته، وكسب وده قائلا له : " يابن عم انك حدث السن، وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالامور، ولا أرى أبا بكر إلا على هذا الامر منك وأشد احتمالا واضطلاعا به، فسلم لابي بكر هذا الامر، فانك إن تعيش ويطل بك بقاء، فأنت لهذا الامر خليق، وبه حقيق في ضلك ودينك وعلمك، وفهمك، وسابقتك، ونسبك وصهرك... " . وأثارت هذه المخاتلة والمخادعة كوامن الالم والاستياء في نفس الامام فاندفع يخاطب المهاجرين من قريش ويذكرهم مآثر أهل البيت عليهم السلام وفضائلهم قائلا : " الله الله يا معشر المهاجرين !... لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره، وقعر بيته إلى دوركم، وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه... فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لانا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الامر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، الدافع عنهم الامور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله انه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتصلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعدا.." (31). ولو انهم استجابوا النداء الامام الذي فيه ضمان أكيد لصالح الامة ، وصيانة لهم من الزيع والانحراف في مجالاتها العقائدية وغيرها، لجنبوا الامة كثيرا من المضاعفات السيئة ولكن هيهات من ذلك فقد انساب الانساب منذ أقدم عصوره وراء شهواته واطماعه مضحيا بكل شئ في سبيل ذلك . وعلى أي حال فان القوم لم يعوا منطق الامام وتجاهلوه، وقدموا مصالحهم الخاصة على كل شئ . الاجراءات الصارمة : واقتضت سياسة أبى بكر أن يتخذ جميع الاجراءات الصارمة ضد الامام (ع) وان يسلك جميع الوسائل التي من شأنها اضعاف جبهته والتغلب عليه لانه يمثل القوى المعارضة لحكومته فقد كانت الاكثرية الساحقة من الانصار تميل للامام، وترغب في أن يتولى زمام الحكم، وهذه بعض الوسائل التي سلكتها حكومة أبى بكر : الحصار الاقتصادى : والحصار الاقتصادي من أوثق الطرق وأدقها، وأكثرها نجاحا لشل الحركة المعارضة وابادتها فان المال في جميع فترات التاريخ هو الاداة الفعالة التي تعتمد عليها الجبهة المعارضة لقلب نظام الحكم، ولا تزال الدول في جميع أنحاء العالم تسلك هذا الطريق فتصادر أموال خصومها، أو تمنعهم من التصرف بها خوفا من أن تستخدمه للاطاحة بها، وقد أمعن أبوبكر في ذلك فبادر إلى فرض الحصار الاقتصادي على الامام لئلا يقوى على الانتفاضة عليه، وقد نفذ ما يلي : اسقاط الخمس : والخمس حق مفروض لآل رسول الله (ص) نص عليه القرآن الكريم قال تعالى : " واعلموا انما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير " (32) . وقد أجمع المسلمون على أن النبي (ص) كان يختص بسهم من الخمس ، ويخص أقاربه بسهم آخر منه، وكانت هذه سيرته إلى أن اختاره الله إلى الرفيق الاعلى، ولما ولي أبوبكر أسقط سهم النبي (ص) وسهم ذي القربى ومنع بني هاشم من الخمس، وجعلهم كغيرههم (33) وقد ارسلت اليه بضعة الرسول وريحانته فاطمة الزهراء (ع) تسأله أن يدفع اليها ما بقى من خمس خيبر فأبى أن يدفع اليها شيئا (34) وقد ترك شبح الفقر مخيما على آل النبي (ص) وحجب عنهم أهم مواردهم الاقتصادية التي فرضها الله لهم : الاستيلاء على تركة النبي : واستولى أبوبكر على جميع ما تركه النبي (ص) من بلغة العيش فلم يبق ولم يذر منه أي شئ وانما حازه إلى بيت المال، وقد سد بذلك على العترة الطاهرة أي نافذة من مواردها المعاشية، وفرض عليها حصارا اقتصاديا لا تطيق معه من القيام بأي حركة ضده . حجته: وكانت حجة أبي بكر في مصادرته لتركة النبي (ص) وحرمان ورثته منها ما رواه عن رسول الله (ص) أنه قال : " لا نورث ما تركناه صدقة " (35) ولهذا الحديث استند أبوبكر في حجب سيدة النساء فاطمة عليها السلام عن ارثها من أبيها، وقد وصم هذا الحديث بالوهن والضعف 1 - إنه لو كان صحيحا ومعتبرا لعرفته سيدة النساء فاطمة (ع) وما دخلت ميدان المخاصمة والمحاججة معه، وكيف تطالبه وهي سليلة النبوة بأمر لم يكن مشروعا لها ؟ 2 - ان النبي (ص) كيف يحجب عن بضعته أمرا يرجع إلى تكليفها الشرعي، فان في ذلك تعريضا للامة للهلاك والقاء لها في ميدان الخصومة 3 - انه من الممتنع ان يحجب النبى هذا الحديث عن الامام، وهو حافظ سره، وباب مدينة علمه، وباب دار حكمته وأقضى أمته، وأبو سبطيه، ومن المقطوع به أنه لو كان لهذا الحديث أي نصيب من الصحة لعرفه الامام، وما كتمه النبي (ص) عنه . 4 - انه لو كان له أي مدى من الصحة لما خفى على امهات المؤمنين وقد ارسلن إلى عثمان بن عفان يسألنه أن يسأل لهن ميراثهن من رسول الله صلى الله عليه وآله... هذه بعض المؤاخذات التي تواجه الحديث، وهي تجعله من الضعف بأقص مكان . حوار الزهراء مع أبي بكر : وضاقت الدنيا على بضعة النبي (ص) وأرهقت ارهاقا شديدا من الاجراءات الصارمة التي اتخذها أبوبكر ضدها، ويقول الرواة إنها سلام الله عليها استقلت غضبا فلاثت خمارها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها، ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبى بكر، وهو في حشد من المهاجرين والانصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاة (36). ثم أتت أنة اجهش لها القوم بالبكاء، وارتج المجلس، فأمهلتهم حتى اذا سكن نشيجهم، وهدأت فورتهم، افتتح خطابها بحمد الله والثناء عليه، وانحدرت في خطابها كالسيل، فلم يسمع أخطب ولا أبلغ منها، وقد تحدثت في خطابها الرائع عن معارف الاسلام وفلسفته، وألقت الاضواء على علل أحكامه، وحكم تشريعاته، وعرضت إلى ما كانت عليه حالة الامم قبل أن يشرق عليها نور الاسلام من التناحر والانحطاط، ووهن العقول وضحالة التفكير ، خصوصا الجزيرة العربية فقد منيت بالذل والهوان، فكانت على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبة العجلان، وموطئ الاقدام، وقد بلغت من الانحطاط في حياتها الاقتصادية إلى حد كانت الاكثرية الساحقة تقتاد القد، وتشرب الطرق، وظللت على هذا الحال المرير ترسف في قيود الفقر، إلى أن أنقذها الله بنبيه ورسوله (ص) فدفعها إلى واحات الحضارة، وجعلها سادة الامم والشعوب، فما أعظم فضله على العرب وعلى الناس جميعا... وعرضت سيدة النساء (ع) إلى فضل ابن عمها الامام أمير المؤمنين (ع) وجهاده المشرق في نصرة الاسلام ، والذب عن حياضة في حين أن المهاجرين من قريش كانوا في رفاهية من العيش وادعين آمنين لم يكن لهم أي ضلع في نصرة القضية الاسلامية، وانما كانوا - على حد تعبيرها - ينكصون عند النزال، ويفرون من القتال ، كما كانوا يتربصون بأهل البيت الدوائر، ويتوقعون بهم نزول الاحداث وأعربت (ع) في خطابها عن أسفها البالغ على ما مني به المسلمون من الزيغ والانحراف، والاستجابة لدواع الهوى والغرور، وتنبأت عمار سيواجهون من الاحداث الخطيرة والكوارث المؤلمة نتيجة لما ارتكبوه من الاخطاء والانحراف عما أراده الله منهم من التمسك بالعترة، وبعدما أدلت بهذه النقاط المشرقة عرضت إلى حرمانها من ارث أبيها رسول الله (ص) فقالت : " وانتم الآن تزعمون : ان لا أرث لي من أبي " أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " . أفلا تعلمون... - بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية - أني ابنته ويها أيها المسلمون أأغلب على تراث أبي ؟ يابن أبي قحافة ؟ ! ! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريا أفعلى عمد تركتم كتاب الله، ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : " وورث سليمان داود " وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ يقول : " رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " وقال : " وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " وقال : " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين " . وقال : " إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين " . وزعمتم أن لا حظوة لي، ولا ارث من أبي، ولا رحم بيننا أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي . أم تقولون : هل ملتين لا يتوارثان ؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟ ثم وجهت خطابها إلى أبي بكر فقالت له : " فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد الموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون " ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم " . واتجهت نحو فئة المسلمين تستنهض همهم، وتوقظ عزائمهم للمطالبة بحقها، والثأر لها قائلة : " يا معشر الفتية واعضاد الملة، وحضنة الاسلام ما هذه الغميزة في حقي، والسنة عن ظلامتي ؟ ! ! أما كان رسول الله أبي يقول : " المرء يحفظ في ولده " سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا هالة، ولكم طاقة بما أحاول وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون : مات محمد فخطب جليل استوسع وهيه، واستنهر فتقه، وانفتق رتقه، وأظلمت الارض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر، وانتشرت النجوم لمصيبته، وأكدت الآمال وخشعت الجبال، واضيع الحريم، وأديلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى والمصيبة العظمى التي لا مثلها نازلة، ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في ممساكم ومصبحكم هتافا وصراخا، وتلاوة والحانا ولقبله ما حلت بانبياء الله ورسله، حكم فصل وقضاء حتم، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسول أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " . وأخذت تحفز الانصار، وتذكرهم بجهادهم المضئ وكفاحهم المشرق في نصرة الاسلام وحماية أهدافه ومبادئه، طالبة منهم الانتفاضة والثورة على قلب الحكم القائم قائلا : " ايها بني قيلة (37) أأهضم تراث أبي وأنتم بمرئ ومسمع ومنتدى ومجمع تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة، والاداة والقوة، وعندكم السلاح والجنة (38) توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فال تغيثون، وانتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا - أهل البيت - قاتلتم العرب وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الامم وكافحتم البهم، فلا نبرح وتبرحون نأمركم فتائمرون، حتى اذا دارت بنا رحى الاسلام، ودر حلب الايام وخضعت نعرة الشرك، وسكنت فورة الافك، وخمدت نيران الكفر وهدأت دعوة الهرج واستوسق نظام الدين فان جرتم (39) بعد البيان وأسررتم بعد الاعلان، ونكصتم بعد الاقدام، واشركتم بعد الايمان، بؤسا لقوم (نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدؤكم أول مرة) أتخشونهم ؟ " والله أحق أن تخشوه ان كنتم مؤمنين " . ولما رأت وهن الانصار، وتخاذلهم وعدم استجابتهم لنداء الحق ، وجهت لهم أعنف اللوم، وأشد العتب والتقريع قائلة : " ألا وقد قلت : ما قلت : على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس، وبثة الصدر ، ونفثة الغيظ، وتقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقية الخف، باقية العار، موسومة بغضب الله، وشنار الابد، موصومة ب " نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة انها عليها موصدة " فبعين الله ما تفعلون " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " . وأنا ابنة نذيركم بين يدي عذاب شديد " فاعملوا انا عاملون، وانظروا إنا منتظرون " (40) . وقد وجلت القلوب، وخشعت الابصار، وبخعت النفوس، وأوشكت أن ترد شوارد الاهواء، ويرجع الحق إلى نصابه ومعدنه، إلا أن ابا بكر قد استطاع بلباقته الهائلة، وقابلياته الدبلوماسية ان يسيطر على الموقف وينقذ حكومته من الانقلاب، وقد قابل بضعة الرسول (ص) بكل تكريم واحتفاء واظهر لها انه يخلص لها اكثر مما يخلص لابنته عائشة، وانه يكن لها في اعماق نفسه الاحترام والتقدير، كما اظهر لها حزنه العميق على وفاة ابيها رسول الله (ص) وانه ود ان يكون مات قبل موته، وعرض لها انه لم يتقلد منصب الحكم ولم يتخذ معها الاجراءات الصارمة عن رأيه الخاص ، وإنما كان عن رأي المسلمين واجماعهم، وقد جلب له بذلك القلوب بعد ما نفرت منه، واخمد نار الثورة وقضى على جميع معالمها . حجة الزهراء : اما حجة الزهراء (ع) على ارثها من ابيها، فقد كانت وثيقة للغاية فقد كان استدلالها بآيات محكمات لا ترد، ولا تكابر، احتجت - اولا - على توريث الانبياء الشامل لابيها بآيتي داود وزكريا، وهما صريحتان بتوريثهما، واحتجت - ثانيا - بعموم آيات المواريث، وعموم آية الوصية ويجب الاخذ بتلك العمومات وهي بالطبع شاملة لابيها وخروجه عنها ، انما هو من باب التخصيص بلا مخصص، ثم ذكرت لهم ان ما يوجب التخصيص والخروج عن هذه العمومات انما هو فيما اذا اختلف الوارث ومورثه في الدين وتقول لهم : فهل لكم اذ منعتموني عن ارثي من ابي اني واياه من اهل ملتين وهما لا يتوارثان، أولست واياه من اهل ملة واحدة... وقد بلغت بهذا المنطق إلى ابعد الغايات، وقدمت اروع الحجج في الدفاع عن حقها. تأميم فدك : وبقي هناك شئ آخر ذات اهمية بالغة في المجال الاقتصادي وهي واردات فدك، فقد كانت تقوم بسد جميع ما تحتاجه العترة الطاهرة من النفقات الاقتصادية، وتوفر لها اسباب المعيشة برخاء إلا انها اممت، واضيفت وارادتها إلى بيت المال لئلا تقوى شوكة علي (ع) على مناهضة الحكم القائم . وهنا بحوث بالغة الاهمية انفقنا على تحقيقها وقتا غير قليل، وقد حذفت واعرضنا عن ذكرها، فانه لم تكن عندنا - يعلم الله - أية رغبة في الخوض في هذه البحوث المؤلمة إلا ان دراسة حياة الامام الحسين (ع) دراسة منهجية سليمة وشاملة تتوقف على دراسة هذه الاحداث التي لعبت دورها الخطير في مسرح السياسة الاسلامية، فقد اخذت تجري كلها في فصل واحد مترابط، واعقبت اشد المحن والخطوب . مآسي الزهراء : وطافت موجات قاسية من الهموم والاحزان ببضعة النبي (ص) ووديعته فقد احتل الاسى قلبها الرقيق المعذب، وغشيتها سحب قاتمة من الكدر واللوعة على فقد أبيها الذي كان اعز عندها من الحياة، فكانت تزور جدثه الطاهر فتطوف حوله، وهي حيرى ذاهلة اللب، منهدة الكيان فتلقي بنفسها عليه، وتأخذ حفنة من ترابه الطاهر فتضعه على عينيها ووجهها وتطيل من شمه، وتقبيله، فتجد في نفسها راحة، وهي تبكي امر البكاء واشجاه، وتقول بصوت حزين النبرات : ماذا على من شم تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت علي مصائب لو أنها * صبت على الايام صرن لياليا قل للمغيب تحت أطباق الثرى * إن كنت تسمع صرختي وندائيا قد كنت ذات حمى بظل محمد * لا اختشي ضيما وكان جماليا فاليوم أخضع للذليل وأتقي * ضيمي وادفع ظالمي بردائيا فاذا بكت قمرية في ليلها * شجنا على غصن بكيت صباحيا فلاجعلن الحزن بعدك مؤنسي * ولاجعلن الدمع فيك وشاحيا (41) وتصور هذه الابيات أروع تصوير وأصدقه للوعة الزهراء وشجونها فقد مثلت أحزانها المرهقة على فراق أبيها الذي أخلصت له في الحب كما أخلص لها أبوها، ولو صبت مصائبها الموجعة على الايام لخلعت زينتها... كما صورت هذه الابيات الحزينة مدى منعتها وعزتها أيام أبيها فقد كانت من أعز نساء المسلمين شأنا واعلاهن مكانة، ولكنها بعدما فقدت أباها تنكر لها القوم، وأجمعوا على الغض من شأنها، حتى صارت تخضع للذليل، وتتقى ممن ظلمها بردائها اذ لم يكن هناك من يحميها، ولم تكن تأوي إلى ركن شديد . وقد خلدت إلى البكاء والحزن حتى عدت من البكائين الخمس (42) الذين مثلوا الحزن والاسى في هذه الحياة، وقد بلغ من عظيم وجدها على أبيها أن أنس بن مالك استأذن عليها ليعزيها بمصابها الاليم، وكان ممن وسد رسول الله (ص) في مثواه الاخير فقالت له : " أنس بن مالك ؟ " . نعم يا بنت رسول الله " . فقالت له وهي تلفظ قطعا من قلبها المذاب : " كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول الله (ص) " (43) . وقطع أنس كلامه، وطاش لبه، وخرج وهو يذرف الدموع قد غرق في عالم من الاسى والشجون . وألحت بضعة رسول الله (ص) على ابن عمها أمير المؤمنين أن يريها القميص الذي غسل فيه أباها رسول الله (ص) فجاء به اليها فاخذته بلهفة وهي توسعه تقبيلا وشما لانها تجد فيه رائحة أبيها الذي غاب في مثواه، ووضعته على عينيها، وقلبها الزاكي يتقطع من الم الحزن والاسى حتى غشي عليها وخلدت وديعة النبي (ص) إلى البكاء في وضح النهار وفي غلس الليل وظل شبح أبيها يتابعها في كل فترة م حياتها القصيرة الامد، وقد ثقل على القوم فيما يقول المؤرخون، بكاؤها فشكوها إلى الامام أمير المؤمنين (ع) وطلبوا منه ان تجعل لبكائها وقتا خاصا لانهم لا يهجعون ولا يستريحون فكلمها أمير المؤمنين (ع) فأجابته إلى ذلك فكانت في نهارها تخرج خارج المدينة وتصحب معها ولديها الحسن والحسين فتجلس تحت شجرة من أراك، فتستظل تحتها، وتبكي أباها طيلة النهار فاذا أوشكت الشمس أن تغرب تقدمها الحسنان مع أبيهما ورجعوا قافلين إلى الدار التي خيم عليها الحزن والاسى، وعمد القوم إلى تلك الشجرة فقطعوها فكانت تبكي في حر الشمس، فقام أمير المؤمنين (ع) فبنى لها بيتا أسماه " بيت الاحزان " ظل رمزا لاساها على ممر العصور، ونسب إلى قائم آل محمد (ص) انه قال فيه : ام تراني اتخذت لا وعلاها * بعد بيت الاحزان بيت سرور وكانت حبيبة رسول الله تمكث نهارها في ذلك البيت الحزين تناجي أباها وتبكيه أمر البكاء وأقساه، واذا جاء الليل أقبل علي فأرجعها إلى الدار مع ولديها الحسن والحسين . وأثر الحزن المرهق ببضعة النبي وريحانته حتى فتكت بها الامراض فلازمت فراشها، ولم تتمكن من النهوض والقيام فبادرت السيدات من نساء المسلمين إلى عيادتها فقلن لها : " كيف أصبحت من علتك يا بنت رسول الله ؟ " . فرمقتهن بطرفها، واجابتهن بصوت خافت مشفوع بالحزن والحسرات قائلة : " أجدني كارهة لدنياكن، مسرورة لفراقكن، ألقى الله ورسوله بحسراتكن، فما حفظ لي الحق، ولا رعيت من الذمة، ولا قبلت الوصية ولا عرفت الحرمة... " (44) . وخيم على النسوة صمت رهيب، وأنعكس على وجوههن حزن شديد وغامت عيونهن بالدموع، وانطلقن إلى بيوتهن بخطى ثقيلة، فعرضن على أزواجهن كلمات زهراء الرسول، فكانت وقعها عليهم أشد من ضربات السيوف، فقد عرفوا مدى تقصيرهم تجاه وديعة نبيهم وهرعن بعض امهات المؤمنين إلى عيادتها فقلن لها : " يا بنت رسول الله... صيري لنا في حضور غسلك حظا " . فلم تجبهن إلى ذلك وقالت : " أتردن أن تقلن في كما قلتن في امي لا حاجة لي في حضوركن " . إلى جنة المأوى : وتوالت الامراض على وديعة النبي (ص) وفتك الحزن بجسمها النحيل المعذب حتى انهارت قواها، واصبحت لا تقوى على النهوض من فراشها وأخذت تذوي كما تذوي الازهار عند الضماء، فقد مشى اليها الموت سريعا وهي في شبابها الغض الاهاب، وقد حان موعد اللقاء القريب بينها وبين أبيها الذي غاب عنها وغابت معه عواطفه الفياضة ولما بدت لها طلائع الرحيل عن هذه الحياة طلبت حضور ابن عمها للامام أمير المؤمنين، فعهدت اليه بوصيتها، وقد جاء فيها ان يواري جثمانها المقدس في غلس الليل البهيم، وان لا يشيعها أحد من الذين هضموها، لانهم اعداؤها وأعداء أبيها - على حد تعبيرها - كما عهدت اليه أن يتزوج من بعدها بابنت اختها أمامة لانها تقوم برعاية ولديها الحسن والحسين اللذين هما أعز عندها من الحياة، وعهدت اليه ان يعفى موضع قبرها ليكون رمزا لغضبها غير قابل للتأويل على ممر الاجيال الصاعدة، وضمن لها الامام جميع ما عهدت اليه، وانصرف عنها وهو غارق في الاسى والشجون . وأسرت بضعة الرسول (ص) إلى اسماء بنت عميس فقالت لها : " إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء بعد موتهن " فقد كانت العادة أن يدرج على المرأة ثوب فيصفها لمن رأى وقد كرهت ذلك فاحبت أن يصنع لها سرير لا يبدو فيه جسدها، فعملت لها أسماء سريرا يستر من فيه قد شاهدته حينما كانت في الحبشة، فلما نظرت اليه سرت به، وابتسمت وهي أو ابتسامة شوهدت لها منذ ان لحق ابوها بالرفيق الاعلى (45) . وفي آخر يوم من حياتها أصبحت وقد ظهر بعض التحسن على صحتها، وكانت بادية الفرح والسرور فقد علمت أنها في يومها تلحق بأبيها، وعمدت إلى ولديها فغسلت لهما، وصنعت لهما من الطعام ما يكفيهم يومهم، وأمرت ولديها بالخروج لزيارة قبر جدهما، وهي تلقي عليهما نظرة الوداع، وقلبها يذوب من اللوعة والوجد، وخرج الحسنان، وقد هاما في تيار من الهواجس، واحسا ببوادر مخيفة اغرقتهما بالهموم والاحزان والتفت وديعة النبي إلى سلمى بنت عميس، وكانت تتولى تمريضها وخدمتها فقالت لها : " يا أماه " " نعم يا حبيبة رسول الله " " اسكبي لي غسلا " فانبرت واتتها بالماء فاغتسلت فيه، وقالت لها ثانيا : " ايتيني بثيابي الجدد " . فناولتها ثيابها، وهتفت بها مرة اخرى : " اجعلي فراشي وسط البيت " . وذعرت سلمى وارتعش قلبها فقد عرفت ان الموت قد حل بوديعة النبي، وصنعت لها سلمى ما أرادت فاضطجعت على فراشها، واستقبلت القبلة والتفتت إلى سلمى قائلة بصوت خافت : " يا امه... اني مقبوضة الآن، وقد تطهرت فلا يكشفني أحد " وأخذت تتلو آيات من الذكر الحكيم حتى فارقت، وسمت تلك الروح العظيمة إلى بارئها لتلتقي بابيها الذي كرهت الحياة بعده . لقد ارتفعت تلك الروح إلى جنان الله ورضوانه، فما اظلت سماء الدنيا في جميع مراحل هذه الحياة مثلها قداسة وفضلا وشرفا وعظمة، وقد انقطع بموتهاه آخر من كان في دنيا الوجود من نسل رسول الله . وقفل الحسنان إلى الدار فلم يجدا فيها امهما فبادرا يسألان سلمى عن امهما ففاجئتهما وهي غارقة في العويل والبكاء قائلة : " يا سيدي ان امكما قد ماتت فاخبرا بذلك اباكما " . فكان ذلك كالصاعقة عليهما فهرعا مسرعين إلى جثمانها، فوقع عليها الحسن، وهو يقول : " يا اماه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني " . والقى الحسين نفسه عليها وهو يعج بالبكاء قائلا : " يا اما انا ابنك الحسين كلميني قبل ان ينصدع قلبي " . وأخذت اسماء تعوسعهما تقبيلا، وتعزيهما وتطلب منهما ان يسرعا إلى ابيهما فيخبراه، فانطلقا إلى مسجد جدهما رسول الله وهما غارقان في البكاء فلما قربا من المسجد رفعا صوتهما بالبكاء، فاستقبلهما المسلمون، وقد ظنوا انهما تذكرا جدهما فقالوا : " ما يبكيكما يا بني رسول الله ؟ لعلكما نظرتما موقف جدكما فبكيتما شوقا اليه ؟ " . " أو ليس قد ماتت أمنا فاطمة ؟ " . واضطرب الامام أمير المؤمنين وهز النبأ المؤلم كيانه، وطفق يقول : " " بمن العزاء يا بنت محمد ؟ كنت بك أتعزى ففيم العزاء من بعدك ؟ " وخف مسرعا إلى الدار، وهو يذرف الدموع، ولما القى نظرة على جثمان حبيبة رسول الله أخذ ينشد : لكل اجتماع من خليلين فرقة * وكل الذي دون الفراق قليل وان افتقادي فاطما بعد أحم * - د دليل على أن لا يدوم خليل وهرع الناس من كل صوب نحو بيت الامام، وهم يذرفون الدموع على وديعة نبيهم فقد انطوت بموتها آخر صفحة من صحفات النبوة ، وتذكروا بموتها عطف الرسول وحدبه عليهم، وقد ارتجت يثرب من الصراخ والعويل . وعهد الامام إلى سلمان الفارسي أن يعرف الناس ان مواراة بضعة النبي صلى الله عليه وآله تأخر هذه العشية، وتفرقت الجماهير، وأقبلت عائشة وهي تريد الدخول إلى بيت الامام لتلقي نظرة الوداع على جثمان بضعة الرسول فحجبتها أسماء وقالت لها : " لقد عهدت إلي أن لا يدخل عليها أحد... " (46) . ولما مضى من الليل شطره قام الامام فغسل الجسد الطاهر، ومعه أسماء والحسنان، وقد أخذت اللوعة بمجامع قلوبهم، وبعد أن أدرجها في أكفانها دعا بأطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان امهم ليلقوا عليها النظرة الاخيرة، وقد مادت الارض من كثرة صراخهم وعويلهم، وبعد انتهاء الوداع عقد الامام الرداء عليها، ولما حل الهزيع الاخير من الليل قام فصلى عليها، وعهد إلى بني هاشم وخلص اصحابه أن يحملوا الجثمان المقدس إلى مثواه الاخير، ولم يخبر أي أحد بذلك سوى تلك الصفوة من أصحابه وأهل بيته وأودعها في قبرها وأهال عليها التراب، ووقف على حافة القبر، وهو يروي ثراه بدموع عينيهه، واندفع يؤبنها بهذه الكلمات التي تمثل لوعته وحزنه على هذا الرزء القاصم قائلا : " السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك ، السريعة اللحاق بك... قل يا رسول الله عن صفيتك صبري ورق عنها تجلدي الا أن في التأسي بعظيم فرقتك، وفادح مصبيتك موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك... إنا لله وإنا اليه راجعون، لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة أما حزني فسرمد ، وأما ليلي فمسهد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر امتك على هضمها، فاحفها السؤال، واستخبرها الحال. . . هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر، والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم، فان انصرف فلا عن ملالة، وان اقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين... " (47) . وطفحت هذه الكلمات الممض والحزن العميق فقد أعلن فيها شكواه للرسول على ما ألم بابنته من الخطوب والنكبات، ويطلب منه أن يلح في السؤال منها، لتخبره بما جرى عليها من الظلم والضيم في تلك الفترة القصيرة الامد التي عاشتها . كما اعلن سلام الله عليه عن شجاه المرهق على بضعة النبي (ص) فهو في حزن دائم لا تنطفئ فيه نار اللوعة حتى يلتحق إلى جوار الله وينصرف الامام عن قبر الصديقة لكن لا عن سأم ولا عن كراهية وانما استجابة لتعاليم الاسلام الآمرة بالخلود إلى الصبر . وعاد الامام إلى بيته كئيبا حزينا، ينظر إلى أطفاله وهم يبكون على أمهم أمر البكاء وأشجاه أحزانه، وقد آثر (ع) العزلة عن الناس وعدم الاشتراك بأي أمر من أمورهم فقد أعرض عن القوم وأعرضوا عنه لا يشاركونه بأي أمر من امورهم اللهم الا اذا حلت في ناديهم مشكلة لا يهتدون إلى حلها فزعوا اليه لينتهلوا من نمير عمله . وقد قطع الحسين (ع) دور الطفولة في هذه المرحلة المحزنة وقلبه قد أترع بالاحزان والآلام، فقد فقد في تلك الفترة الحزينة جده الذي كان يفيض عليه بالعطف والحنان وفقد أمه الروؤم التي عاشت في هذه الدنيا وعمرها كعمر الزهور، وفاجأها الموت وهي في شبابها الغض الاهاب . ومن الطبيعي أنه ليس اكثر حزنا ولا اقوى صدمة على الطفل من فقد امه العطوف فانه يفقد معها جميع آمال حياته . لقد رأى الامام الحسين (ع) وهو في سنه المبكر ما عانته امه من عظيم الرزايا والخطوب فكان لها أعمق الاثر وأقساه في نفسه، وقد اعطته هذه الاحداث دراسة عن ميول الناس واتجاهاتهم وانهم لا يندفعون نحو الحق، وانما ينسابون وراء اطماعهم وشهواتهم . ولاة أبي بكر : كان جهاز الحكم الاداري في عهد أبي بكر خاضعا لارادة عمر بن الخطاب فهو المخطط لسياسة الدولة، والواضع لبرامجها الداخلية والخارجية قد وثق به أبوبكر، وأسند اليه جميع مهام حكومته، فلم يعقد أي عقد أو يقطع أي عهد إلا عن رأيه، ومشورته، كما لم يوظف أي عامل إلا بعد عرضه عليه . أما تعيين الولاة على الاقطار والاقاليم الاسلامية، أو اسناد أي منصب حساس من مناصب الجيش فانه لا يمنح لاحد إلا بعد احراز الثقة به والاخلاص منه للحكم القائم، والتجاوب مع مخططاته السياسية، فمن كانت له أدنى ميول معاكسة لرغبات الدولة، فانه لا يرشح لاي عمل من اعمالها ويقول المؤرخون : إن أبا بكر عزل خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي بعثه لفتح الشام، ولم يكن هناك أي موجب لعزله إلا أن عمر نبهه على ميوله لعلي وبين له موافقه يوم السقيفة التي كانت مناهضة لابي بكر (48) . ولم يعهد أبوبكر بأي عمل أو منصب لاحد من الهاشميين، وقد كشف عمر الغطاء عن سبب حرمانهم في حواره مع ابن عباس من انه يخشى اذا مات وأحد الهاشميين واليا على قطر من الاقطار الاسلامية ان يحدث في شأن الخلافة ما لا يحب (49) . كما حرم الانصار من وظائف الدولة، وذلك لميولها الشديد إلى علي عليه السلام، أما عماله وولاته فقد كان معظمهم من الاسرة الاموية وهم : 1 - أبوسفيان : استعمله عاملا له على ما بين آخر حد للحجاز وآخر عهد من نجران (50) . 2 - يزيد بن أبي سفيان : استعمل يزيد بن أبي سفيان واليا على الشام (51) ويقول المؤرخون انه خرج مودعا له إلى خارج يثرب . 3 - عتاب بن أسيد : عين أبوبكر عتاب بن أسيد بن أبي العاص واليا على مكة (52) . 4 - عثمان بن أبي العاص : جعله واليا على الطائف (53) ومنذ ذلك اليوم علا نجم الامويين ، واستردوا كيانهم بعد ان فقدوه في ظل الاسلام . وأبدى المراقبون لسياسة أبي بكر دهشتهم من حرمان بني هاشم من التعيين في وظائف الدولة ومنحها للعنصر الاموي الذي ناهض النبي (ص) وناجزه في جميع المواقف، يقول العلائلي : " فلم يفز بنو تيم بفوز أبي بكر بل فاز الامويون وحدهم، لذلك صبغوا الدولة بصبغتهم، وآثروا في سياستها، وهم بعيدون عن الحكم كما يحدثنا المقريزي في رسالته " النزاع والتخاصم " (54) . ان القابليات الدبلوماسية والاحاطة بشؤون الادارة والحكم، والمعرفة بشؤون الدين كان متوفرة عند الكثيرين من المهاجرين والانصار من صحابة النبي (ص) فكان الاجدر تعيين هؤلاء في مناصب الدولة، وابعاد الاسرة الاموية عنها لوقاية المجتمع الاسلامي من مكائدها وشرورها . سياسته المالية : وقبل ان نعرض إلى السياسة المالية التي نهجها أبوبكر نود ان نعرض إلى السياسة المالية التي وضع برامجها الاسلام، فقد استهدف فيها اذابة الفقر، ومكافحة الحرمان وتطوير الحياة الاقتصادية بحيث تتحقق الفرص المتكافئة لعامة المواطنين، بحيث لا يبقى أي ظل للبؤس والحاجة، ويعيش الجميع حياة يسودها الرخاء والرفاه . وكان اهم ما يعني به الاسلام الزام ولاة بالاحتياط في اموال الدولة فلم يجز لهم باي حال أن يصطفوا منها لانفسهم شيئا كما لم يجز لهم ان ينفقوا اي شئ منها لتوطيد حكمهم ودعم سلطانهم. وكان الطابع العام لهذه السياسة المساواة بين المسلمين في العطاء فليس لرئيس الدولة ان يميز قوما على آخرين فان ذلك يخلق الطبقية، ويوجد الازمات الحادة في الاقتصاد العام، ويعرض المجتمع إلى كثير من الويلات والخطوب، ويقول المؤرخون إن أبا بكر قد ساوى في العطاء بين المسلمين ولم يشذ عما سنه الرسول صلى الله عليه وآله في هذا المجال الا ان بعض البوادر التي ذكرت تجافي ذلك فقد وهب لابي سفيان ما كان في يده من اموال الصدقة كسبا لعواطفه التي تشتري وبتاع بالاموال (55) كما قام بتوزيع شطر من الاموال على المهاجرين والانصار فبعث إلى امرأة من بني عدي يقسم من المال مع زيد ابن ثابت فأنكرت ذلك وقالت : - ما هذا ؟ - قسم قسمه أبوبكر للنساء . - اترشونني عن ديني، والله لا أقبل منه شيئا ؟ ! ! وردت المال عليه (56) هذه بعض المؤاخذات التي ذكرها بعض النقاد لسياسته المالية . عهده لعمر : ولم يطل سلطان أبي بكر فقد ألمت به الامراض بعد مضي ما يزيد على سنتين من حكمه وقد صمم على تقليد زميله عمر بن الخطاب شؤون الخلافة إلا ان ذلك لاقى معارضة الكثيرين من الصحابة فقد انبرى اليه طلحة قائلا : " ماذا تقول لربك : وقد وليت علينا فظا غليظا ؟ تفرق منه النفوس وتنفض منه القلوب " (57) . وسكت أبوبكر فاندفع طلحة يوالي انكاره عليه قائلا : " يا خليفة رسول الله، إنا كنا لا نحتمل شراسته، وأنت حي تأخذ على يديه، فكيف يكون حالنا معه، وأنت ميت وهو الخليفة... " (58) . وبادر أكثر المهاجرين والانصار إلى أبي يعلنون كراهيتهم لخلافة عمر فقد قالوا له : " نراك استخلفت علينا عمر، وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا، وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليت عنا، وأنت لاق الله عزوجل فسائلك ، فما أنت قائل ؟ فأجابهم أبوبكر : " لئن سألني الله لاقولن استخلفت عليهم خيرهم في نفسي... " (59) وكان الاجدر به فيما يقول المحققون أن يستجبب لعواطف الاكثرية الساحقة من المسلمين فلا يولي عليهم أحدا إلا بعد أخذ رضاهم واتفاق الكلمة عليه، أو يستشير أهل الحل والعقد عملا بقاعده الشورى إلا أنه استحباب لعواطفه الخاصة المترعة بالحب لعمر، وقد طلب من معقيب الدوسي أن يخبره عن رأي المسلمين في ذلك فقال له : " ما يقول الناس في استخلافي عمر ؟ " . " كرهه قوم ورضيه آخرون... " . " الذينكرهوه أكثر أم الذين رضوه ؟ " . " بل الذين كرهوه " (60) . ومع علمه بأن اكثرية الشعب كانت ناقمة عليه في هذا الامر فكيف فرضه عليهم، ولم يمنحهم الحرية في انتخاب من شاؤا لرئاسة الحكم . وعلى أي حال فقد لازم عمر أبا بكر في مرضه لا يفارقه خوفا من التأثير عليه، وكان يعزز مقالته ورأيه في انتخابه له قائلا : " أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله (ص) " (61) وطلب أبوبكر من عثمان بن عفان أن يكتب للناس عهده في عمر ، وكتب عثمان ما أملاه عليه، وهذا نصه : " هذا ما عهد أبوبكر بن أبي قحافة، آخر عهده في الدنيا نازحا عنها. وأول عهده بالآخرة داخلا فيها، اني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فان تروه عدل فيكم فذلك ظني به، ورجائي فيه، وإن بدل وغير فالخير أردت ولا أعلم الغيب " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون... " (62) . ووقع أبوبكر الكتاب فتناوله عمر، وانطلق به يهرول إلى الجامع ليقرأه على الناس فانبرى اليه رجل وقد انكر عليه ما هو فيه قائلا : " ما في الكتاب يا أبا حفص ؟ " . فنفى عمر علمه بما فيه إلا أنه أكد التزامه بما جاء فيه قائلا : " لا أدري، ولكني أول من سمع وأطاع... " . فرمقه الرجل، وقد علم واقعه قائلا : ولكني والله أدرى ما فيه، أمرته عام أول، وأمرك العام... " (63) وانبرى عمر إلى الجامع فقرأه على الناس، وبذلك تم له الامر بسهولة من دون منازع إلا أن ذلك قد ترك أعمق الاسى في نفس الامام أمير المؤمنين عليه السلام فراح بعد سنين يدلي بما انطوت عليه نفسه من الشجون يقول عليه السلام في خطبته الشقشقية : " فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا، حتى مضى الاول لسبيله، فادلى بها إلى فلان - يعني عمر - بعده، ثم تمثل بقول الاعشى : شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر فيا عجبا ! ! بينا هو يستقيلها في حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها... " (64). وكشف هذه الكلمات عن مدى أحزانه وآلامه على ضياع حقه الذي تناهبته الرجال، فقد وضعوه في تيم مرة وفي عدي تارة اخرى، وتناسوا جهاده المشرق في نصرة الاسلام، وما له من المكانة القريبة من رسول الله صلى الله عليه وآله . وعلى أي حال فقد تناهبت الامراض جسم أبي بكر، ودفعته إلى النهاية المحتومة، التي ينتهي اليها كل انسان، وقد راح يبدي ندمه وأساه على ما فرط تجاه حبيبة رسول الله وبضعته قائلا : " وددت أنى لم اكشف بيت فاطمة، ولو انهم اغلقوه على الحرب " . كما انه ود لو سأل رسول الله عن ميراث العمة وبنت الاخ، وثقل حاله فدخلت عليه بنته عائشة تعوده فلما رأته يعالج سكرات الموت أخذت تتمثل بقول الشاعر : لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى * اذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فغضب أبوبكر وقال لها : ولكن قولي : " وجاءت سكرت الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " (65) ولم يلبث قليلا حتى وافاه الاجل المحتوم، وانبرى صاحبه عمر إلى القيام بشؤون جنازته، فغسله، وصلى عليه وواراه في بيت النبي (ص) وألصق لحده بلحده، ويذهب النقاد من الشيعة إلى أن هذا البيت إن كان من تركة النبي (ص) فانه لم يؤثر عنه انه وهبه لعائشة فلابد أن يكون خاضعا لقواعد الميراث حسبما تراه العترة الطاهرة في تركة النبي (ص) وعلى هذا الرأي فلا يحل دفنه فيه إلا بعد الاذن منها، ولا موضوعية لاذن عائشة لانها انما ترث من البناء لا من الارض حسب ما ذكره الفقهاء في ميراث الزوجة وإن كان البيت خاضعا لعملية التأميم حسبما يرويه أبوبكر عن النبي (ص) من أن الانبياء لا يورثون أي شئ من متع الدنيا وانما يورثون الكتاب والحكمة، وما تركوه فهو صدقة لعموم المسلمين ، فلابد إذن من ارضاء جماعة المسلمين في دفنه فيه، ولم يتحقق كل ذلك بصورة مؤكدة : وعلى أي حال فقد انتهت خلافة أبي بكر القصيرة الامد، وقد حفلت بأحداث رهيبة، وكان من أخطرها فيما يقول المحققون معاملة العترة الطاهرة كاشخاص عاديين قد جرد عنها اطار التقديس والتعظيم الذي اضفاه النبى صلى الله عليه وآله عليها، وقد منيت بكثير من الضيم والجهد، فقد كانت ترى انها أحق بمقام النبي (ص) وأولى بمكانته من غيرها، وقد أدى نزاعها مع أبي بكر إلى شيوع الاختلاف واذاعة الفتنة والفرقة بين المسلمين، كما أدى إلى امعان الحكومات التي تلت حكومة الخلفاء إلى ظلمهم واستعمال البطش والقسوة معهم، ولعل أقسى ما عانوه من الكوارث هي فاجعة كربلا التي لم ترع فيها أي حق لرسول الله (ص) في عترته وابنائه . حكومة عمر : ومهد أبوبكر الخلافة من بعده إلى عمر فتولاها بسهولة ويسر من غير أن يلاقي أي جهد أو عناء وقد قبض على الحكم بيد من حديد، فساس البلاء بشدة وعنف بالغين حتى تحامى لقاءه أكابر الصحابة فان درته - كما يقولون - كانت أهيب من سيف الحجاج حتى ان ابن عباس مع ماله من المكانة المرموقة والصلات الوثيقة به لم يستطع ان يجاهر برأيه في حلية المتعة إلا بعد وفاته، وقد خافه وهابه حتى عياله، وابناؤه، فلم يستطع أي واحد منهم أن يفرض ارادته عليهه، ونعرض - بايجاز - إلى بعض مناهج سياسته : سياسته المالية : واتفقت مصادر التاريخ الاسلامي على أن عمر عدل في سياسته عن منهج أبي بكر فلم يساو بين المسلمين في العطاء وانما ميز بعضهم على بعض وكان قد اشار على أبي بكر في أيام خلافته العدول عن سياسته فلم يقبل وقال : " إن الله لم يفضل أحدا على أحد ولكنه قال : " انما الصدقات للفقراء والمساكين " ولم يخص قوما دون آخرين "(66)، ولما أفضت اليه الخلافة عمل بما كان قد أشار به على أبي بكر، وقال : " إن أبا بكر رأى في هذا الحال رأيا ولي فيه رأي آخر لا اجعل من قاتل رسول الله (ص) كمن قاتل معه " وقد فرض للمهاجرين والانصار ممن شهد بدرا خمسة آلاف خمسة آلاف، وفرض لمن كان اسلامه كاسلام أهل بدر ولم يشهد بدرا أربعة آلاب اربعة آلاف وفرض لازواج النبي (ص) اثني عشر الفا إلا صفية وجويرية فقد فرض لهما ستة آلاف فأبتا ان بقبلا بذلك، وفرض للعباس عم رسول الله (ص) اثني عشر الفا، وفرض لاسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرض لابنة عبد الله ثلاثة آلاف فانكر عليه ذلك وقال " يا أبت لم زدته علي الفا ؟ ما كان لابيه من الفضل ما لم يكن لابي، وكان له ما لم يكن لي... " . فقال له عمر : " إن أبا اسامة كان احب إلى رسول الله (ص) من أبيك، وكان اسامة أحب إلى رسول الله منك... " (67) . وقد فضل عمر العرب على العجم، والصريح على المولى (68) وقد أدت هذه السياسة إلى ايجاد الطبقية بين المسلمين، كما استدعت إلى تصنيف القبائل بحسب أصولها (69) مما أدى إلى حنق الموالى على العرب، وكراهيتهم لهم، والتفتيش عن مثالهم، وظهور النعرات الشعوبية والقومية في حين ان الاسلام قد أمات هذه الظاهرة وجعل رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، والزم السلطة بالمساواة والعدالة بين الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم حتى لا تحدث ثغرة في صفوف المجتمع . الناقدون : وقد أثارت هذه السياسة موجة من السخط والانكار عند الكثيرين من المحققين، وفيما يلي بعضهم . 1 - الدكتور عبد الله سلام : يقول الدكتور عبد الله سلام : لست ادري كيف اتخذ عمر هذا الاجراء ؟ ولماذا اتخذه ؟ إنه اجراء اوجد تفاوتا اجتماعيا واقتصاديا، اجراء أوجد بذور التنافس والتفاضل بين المسلمين " (70) . 2 - الدكتور محمد مصطفى : وممن أنكر هذه السياسة الدكتور محمد مصطفى هدارة يقول : " وفرض العطاء على هذه الصورة قد أثر تأثيرا خطيرا في الحياة الاقتصادية للجماعة الاسلامية إذ خلق شيئا فشيئا طبقة ارستقراطية يأتيها رزقها رغدا دون ان تنهض بعمل ما مقابل ما يدخل اليها من أموال. ذلك ان فرض العطاء كان يرتكز على ناحيتين القرابة من رسول الله، والسابقة في الاسلام ولهذه القرابة ولتلك السابقة درجات ودرجات، وبهذا لم يرع عمر فرض العطاء ذلك المقابل الذي لابد ان تأخذه الدولة في صورة عمل والجهاد " (71) 3 - العلائلي : وانكر ذلك الشيخ العلائلي بقوله : " هذا التنظيم المالي أوجد تمايزا كبيرا، وأقام المجتمع العربي على قاعدة الطبقات بعد أن كانوا سواء في نظر القانون (الشريعة) فقد أوجد ارستقراطية وشعبا وعامة " (72) . هؤلاء بعض الناقدين للسياسة المالية التي انتهجها عمر، وهي حسب مقررات الاقتصاد الاسلامي من الصحابة وتضخمت الاموال الهائلة عندهم مما أوجب تغيير الحياة الاسلامية، وسيطرة الرأسماليين على سياسة الدولة وتسخير أجهزتها لمصالحهم، وقيامهم بدور المعارضة لكل حركة اصلاحية أو سياسية عادلة في البلاد، وقد اشتدت تلك الزمرة في معارضة حكومة علي (ع) وزجت بجميع ما تملك من الوسائل الاقتصادية وغيرها لاسقاط حكمة لان سياسته العادلة كانت تهدف إلى منعهم من الامتيازات ومصادرة، ثرواتهم التي ابتزوها بغير حق . حجة عمر : واعتذر عمر عن الغائه المساواة، وايجاده لهذه الطبقية في الاسلام من أن لبعض الصحابة فضلا على بعض باعتبار سبقهم إلى الاسلام، وقيامهم بعمليات الحروب وحركات الجهاد، وهذا الاعتذار - فيما يبدو - لا موضوعية له، فان النبي (ص) لم يؤثر بشئ من أموال الدولة، أي أحد من أصحابه، من الذين سبقوا للايمان وتعرضوا لانواع المحن والعذاب، أمثال عمار بن ياسر، وبلال الحبشي، وأبي ذر، كما لم يؤثر بأي شئ ابن عمه عليا، وهو بطل الاسلام، والمنافح عنه في جميع المواقف والمشاهد، وانما جعل أجر المجاهدين وثوابهم عند الله في الدار الآخرة فهو الذي يتولى جزاءهم ويثيبهم على ذلك . ان السياسة المالية التي انتهجها النبي (ص) كانت تقضي ببسط العطاء على الجميع، والمساواة فيما بينهم من أجل تماسك المجتمع ووحدته، والقضاء على جميع الوان الطبقية والحزازات . ندم عمر : وندم عمر كأشد ما يكون الندم حينما رأى انتشاء الثراء الفاحش عند كثير من الصحابة ولم تطب به نفسه، وانما راح يقول : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لاخذت من الاغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء وفيما نحسب ان هذا الاجزاء الذي يرتأيه في معالجة التضخم المالي لا يخلو من تأمل فان فضول أموال الاغنياء ان كانت من فضل الاعطيات التي كان يغدقها عليهم فهي - من دون شك - من أموال الدولة واللازم يقضي بتأميمها حفظا للتوازن الاقتصادي، وان كانت من أموال التجارة - ولا أظنها - فان الواجب أخذ الضرائب المالية منها من دون أن يمنى نفسه بمصاردتها . وعلى أي حال فان الاموال التي تأتي من الفئ، ومن جبائة الجزية والخراج هي ملك للمسلمين، ولا يجوز أن يستأثر بها فريق من الرعية دون غيرها بل لابد من توزيعها على الجميع بالسواء كما كان يصنع النبي صلى الله عليه وآله . سياسته الداخلية : وجهد عمر على فرض سلطانه بالقوة والعنف، فخافه القريب والبعيد وبلغ من عظيم خوفهم ان امرأة جاءت تسأله عن امر، وكانت حاملا ، ولشدة خوفها منه اجهضت حملها (73) وكان شديدا بالغ الشدة، خصوصا مع من كان يعتد بنفسه، يقول الرواة : إنه كان يقسم مالا بين المسلمين ذات يوم، وقد ازدحم الناس عليه فأقبل سعد بن أبي وقاص، وبلاؤه معروف في فتح فارس، فزاحم الناس حتى خلص إلى عمر، فلما رأى اعتداده بنفسه علاه بالدرة، وقال : لم تهب سلطان الله في الارض ، فاردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك، وقصته مع جبلة تدل على مدى صرامته وشدته، فقد أسلم جبلة وأسلم من كان معه، وفرح المسلمون بذلك، وحضر جبلة الموسم، وبينما يطوف حول البيت إذ وطأ ازاره رجل من فزارة فحله فانف جبلة وسارع إلى الفزاري فلطمه، فبلغ ذلك عمر فاستدعى الفزاري، وأمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه، وضيق عليه في ذلك غاية التضييق، فارتد جبلة وخرج عن الاسلام وولى إلى هرقل فاحتفى به وأضفى عليه النعم، إلا أن جبلة كان يبكي أمر البكاء على ما فاته من شرف الاسلام وقد اعرب عن حزنه وأساه بقوله : تنصرت الاشراف من أجل لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفني منها لجاج ونخوة * وبعت لها العين الصحيحة بالعور فياليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قال لي عمر ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة * وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر وقد أراد عمر أن يقوده باول بادرة تبدو منه ببرة (74) محاولا بذلك اذلاله ويحدثنا ابن أبي الحديد عن شدة عمر مع أهله فيقول : كان اذا غضب على واحد منهم لا يسكن غضبه حتى يعض على يده عضا شديدا فيدميها (75) . وعرض عثمان إلى شدة عمر حينما نقم عليه المسلمون، واشتدوا في معارضته فأخذ يذكرهم بغلظته وقسوته لعلهم ينتهون عنه فائلا : " لقد وطئكم ابن الخطاب برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه فخفتموه ورضيتم به... " (76). ووصف الامام أمير المؤمنين (ع) بعد حفنة من السنين سياسة عمر ومدى محنة الناس فيها بقوله : " فصيرها - يعني أبا بكر في توليته لعمر - في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن اشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض... " (77) . وتتجافى هذه السياسة عن سيرة الرسول (ص) وسياسته، فقد سار بين الناس بالرفق واللين، وساسهم بالرأفة والرحمة، وكان لهم كالاب الرؤف، وكان يشجب جميع مظاهر الرعب التي تبدو من بعض الناس تجاهه فقد جاءه رجل، وقد أخذته الرهبة منه، فنهزه (ص) وقال له : " انما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد " وقد سار (ص) بين أصحابه سيرة الصديق مع صديقه والاخ مع أخيه من دون أن يشعرهم بأن له أية مزية أو تفوق عليهم، وقد مدح الله تعالى معالي أخلاقه بقوله : " وانك لعلى خلق عظيم " . الحصار على الصحابة : ويقول المؤرخون : إن عمر فرض الحصار على صحابة الرسول ، ولم يسمح لهم بمغادرة يثرب، فكانوا لا يخرجون إلا باذن خاص منه ، وقد خالف بهذا الاجزاء ما أثر عن الاسلام في منحه الحريات العامة للناس جميعا، فقد منحهم حرية الرأي والقول، وحرية العقيدة، وحرية العمل وجعلها من الحقوق الذاتية للانسان، والزم الدولة بحمايتها، ورعايتها وتوفيرها وليس للسلطة أن تقف موقفا معاكسا أو مجافيا لها شريطة أن لا يستغلها الانسان في الاضرار بالغير أو يحدث فسادا في الارض . دفاع طه حسين : وبرر الدكتور طه حسين ما اتخذه عمر من فرض الحصار على الصحابة بقوله : " ولكنه خاف عليهم الفتنة، وخاف منهم الفتنة، فامسكهم في المدينة، لا يخرجون منها إلا بإذنه، وحبسهم عن الاقطار المفتوحة ، لا يذهبون اليها إلا بأمر منه خاف أن يفتتن الناس بهم، وخاف عليهم أن يغرهم افتتان الناس بهم وخاف على الدولة أعقاب هذا الافتتان... " (78) . ولا يحمل هذا التوجيه أي طابع من العمق والتحقيق، فان الصحابة الذين حاولوا السفر من يثرب إلى الاقطار المفتوحة إن كانوا من الاخيار والمتحرجين في دينهم فانهم بكل تأكيد يكونون مصدر هداية وخير للشعوب المتطلعة لهدي الاسلام فانهم - من دون شك - يذيعون فيهم أحكام الدين وآداب الاسلام ويعملون على تثقيفهم وان كانوا من الذين غرتهم الدنيا ، وخذعتهم مظاهر الفتوحات الاسلامية، فله الحق في منعهم عن السفر رسميا لا شرعا حفظا على مصالح الدولة، ووقاية للناس من الفتنة بهم ، ولكنه لم يؤثر عنه أنه فرض الحصار على فريق من الصحابة دون فريق ، وانما فرضه عليهم جميعا، ومن الطبيعي انه بذلك قد شق على كثير من أصحاب النبي (ص) فقد حال بينهم وبين حرياتهم . ولاته وعماله : وسلك عمر ما سلكه أبوبكر في ابعاد الاسرة الهاشمية عن جهاز الحكم، فلم يجعل لها أي نصيب فيه، وانما عهد إلى من ولاهم أبوبكر ، فأقرهم في مناصبهم، ومن الغريب أنه لم يعين أي واحد من الصحابة النابهين أمثال طلحة والزبير، وقد قيل له : انك استعملت يزيد بن أبي سفيان، وسعيد بن العاص، وفلانا وفلانا من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، وتركت ان تستعمل عليا والعباس والزبير وطلحة ؟ ! ! فقال : أما علي فأنبه من ذلك، وأما هؤلاء النفر من قريش، فاني أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد، وعلق ابن أبي الحديد على كلامه هذا بقوله : " فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك، ويدعيه كل واحد منهم لنفسه كيف لم يخف من جعلهم ستة متساويين في الشورى، مرشحين للخلافة ! وهل شئ أقرب إلى الفساد من هذا... " (79) . مراقبة الولاة : وكان عمر شديد المراقبة لعماله وولاته، فكان لا يولي عاملا إلا أحصى عليه ماله، واذا عزله أحصاه عليه حين العزل فان وجد عنده فرقا قاسمه ذلك الفرق فترك له شطرا، والشطر الآخر ضمه إلى بيت المال(80) واستعمل أبا هريرة الدوسي واليا على البحرين، وقد بلغه عنه أنه استأثر بأموال المسلمين فدعاه اليه، ولما حضر عنده زجره وقال له : " علمت أني استعملتك على البحرين، وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت افراسا بالف وستمائة دينار... " . واعتذر أبوهريرة فقال له : " كانت لنا أفراس تناتجت، وعطايا تلاحقت " ولم يعن به عمر وانما زجره وصاح به . " قد حسبت لك رزقك، ومؤنتك، وهذا فضل فاده " . وراوغ أبوهريرة فقال له : " ليس لك ذلك . " بلى والله وأوجع ظهرك " . وغضب عمر فقام اليه، وعلاه بدرته حتى ادماه، ولم يجد أبوهريرة بدا من احضار الاموال التي انتهبها بغير حق فقال له : " أئت بها، واحتسبها عند الله " . فرد عليه منطقه الهزيل وقال له : " ذلك لو أخذتها من حلال، واديتها طائعا، أجئت بها من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله، ولا للمسلمين ما رجعت بك اميمة (81) إلا لرعية الحمر (82) وشاطره جميع أمواله، وقد شاطر من عماله ما يلي : 1 - سمرة بن جندب . 2 - عاصم بن قيس . 3 - مجاشع بن مسعود . 4 - جزء بن معاوية . 5 - الحجاج بن عتيك . 6 - بشير بن المحتفز . 7 - أبومريم بن محرش . 8 - نافع بن الحرث . هؤلاء بعض عماله وولاته الذين شاطرهم أموالهم، ويقول المؤرخون إن السبب في اتخاذه لهذا الاجراء هو يزيد بن قيس فقد حفزه إلى ذلك ودعاه اليه بهذه الابيات : ابلغ أمير المؤمنين رسالة * فأنت أمين الله في النهي والامر وأنت أمين الله فينا ومن يكن * أمينا لرب العرش يسلم له صدري فلا تدعن أهل الرسانيق والقرى * يسيغون مال الله في الادم والوفر فارسل إلى الحجاج فاعرف حسابه * وارسل إلى جزء وارسل إلى بشر ولا تنسين النافعين كليهما * ولا ابن غلاب من سراة بني نصر وما عاصم منها بصفر عيابه * وذاك الذي في السوق مولى بني بدر وارسل إلى النعمان واعرف حسابه * وصهر بني غزوان إني لذو خبر وشبلا فسله المال واين محرش * فقد كان في أهل الرساتيق ذا ذكر فقاسمهم أهلى فداؤك إنهم * سيرضون ان قاسمتهم منك بالشطر ولا تدعوني للشهادة انني أغيب * ولكني أرى عجب الدهر نؤوب اذا آبوا ونغزوا اذا غزوا * فانى لهم وفر ولسنا اولي وفر اذا التاجر الداري جاء بفارة * من المسك راحت في مفارقهم تجري وعلى أثر ذلك قام فشاطر عماله نعلا بنعل (83) ومعنى هذا الشعر إن هؤلاء الولاة قد اقترفوا جريمة السرقة، وخانوا بيت مال المسلمين ولكن الحكم بمشاطرة أموالهم لا يلائم السنة، وإنما الواجب يقضي بتقديمهم إلى ساحة القضاء، فان ثبتت خيانتهم فلابد من اقامة الحد عليهم، ومصادرة الاموال التي اختلسوها، ولا وجه لمشاطرتها، كما يجب عزلهم عن وظائفهم وسلب الثقة منهم . وعلى أي حال فانه بالرغم من شدة عمر ومراقبته لولاته فان هناك كانت شكوى متصلة منهم، فقد ارسل اليه بعضهم شكوى من الولاة، وخاصة على القائمين بالخراج، وقد ارسل شكواه ببيتين من الشعر وهما : نؤوب إذا آبوا ونغزوا اذا غزوا * فانى لهم وفر ولسنا أولي وفر اذا التاجر الداري جاء بفارة * من المسك راحت في مفارقهم تجري (84) لقد لاحظ عليهم ثراءا حادثا وترفا لم يجده في غيرهم من عامة الناس ومن الطبيعي ان ذلك كان ناجما من اختلاسهم الاموال التي لم تكن خاضعة في ذلك الوقت للحساب والتدقيق . بقى هنا شئ يدعو إلى التساؤل وهو ان عمر قد استعمل الشدة والصرامة مع ولاته وعماله إلا معاوية بن أبي سفيان فان كان يحدب عليه ولم يفتح معه أي لون من الوان التحقيق، تتواتر اليه الاخبار انه قد خان بيت المال، وبالغ في السرف والبذخ فيعتذر عنه، ويقول مشيدا به : " تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية " (85) . وليس في هدي الاسلام - والحمد لله - كسروية أو قيصرية ففي الحديث " هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " . لقد كان عمر يبالغ في تسديد معاوية، ويقول الرواة ان جماعة من الصحابة عرضوا عليه ان معاوية قد جافى السنة بسيرته فهو يلبس الحرير والديباج ويستعمل أواني الذهب والفضة ولا يتحرج في سلوكه عما خالف الشرع فانكر عليهم واندفع يؤنبهم قائلا : " دعونا من ذم فتى من قريش من يضحك في الغضب، ولا ينال ما عنده من الرضا، ولا يؤخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدمه... " (86) . ويقول المؤرخون : إنه ذهب إلى رفع شأنه وتسديده إلى أبعد من ذلك كله، فقد نفخ فيه روح الطموح، وهدد به أعضاء الشورى الذين انتخبهم لتعيين من يلي الامر بعده قائلا لهم : " إنكم إن تحاسدتم، وتدابرتم، وتباغضتم غلبكم على هذا معاوية بن أبي سفيان... " (87) . ولما أمن معاوية من العقوبة، وعرف انه ملتزم من قبل الخليفة راح يعمل في الشام عمل من يريد الملك والسلطان . اعتزال الامام : ولم يختلف المؤرخون في ان الامام (ع) قد انطوت نفسه على حزن عميق، وأسى شديد على ضياع حقه، وسلب تراثه، فقد جهد القوم على الغض من شأنه، ومعاملته كشخص عادي غير حافلين بمواهبه، ومواقفه ومكانته من النبي (ص) فكان في معزل عنهم، لا يشاركهم في أي أمر من أمور الملك والسلطان، ولا يشاركونه فيها، واعرض عنهم واعرضوا عنه، حتى الصق خده بالتراب، كما يقول المؤرخون : يقول محمد بن سليمان في اجوبته عن اسئلة جعفر بن مكي عما دار بين علي وعثمان قال : " إن عليا دحضه الاولان - يعني الشيخين - واسقطاه، وكسرا ناموسه بين الناس، فصار نسيا منسيا " (88) . ويعزو الامام (ع) في حديث له مع عبد الله بن عمر إلى أبيه جميع ما لاقاه من النكبات التي منها تقدم عثمان عليه (89) . وعلى أي حال فان الامام (ع) قد اعتزل عن الناس في عهد عمر كما اعتزلهم في عهد أبي بكر، فصار جليس بيته يساور الهموم، ويسامر النجوم، ويتوسد الارق، ويفترش الارق، ويتجرع الغصص، قد كظم غيظه فلم يتصل بأحد إلا بخلص أصحابه الذين عرفوا واقعة، ومكانته كعمار ابن ياسر، وأبي ذر، والمقداد، وقد عكف على جمع القرآن، وكتابته والامعان في آياته . وأجمع المؤرخون على ان عمر كان يرجع اليه في مهام المسائل التي يسأل عنها، والامام لم يضن عليه بالجواب، اظهارا لاحكام الله التي يجب على العلماء اذاعتها بين الناس... وكان عمر يذيع فضل الامام، ويقول : " لولا علي لهلك عمر " . والشئ المحقق ان عمر كان في أكثر المسائل الفقهية اذا سئل عنها لم يهتد لجوابها، وانما يفزع إلى الامام (ع) والى سائر الصحابة، وقد اشتهرت كلمته " كل الناس افقه من عمر حتى ربات الحجال " وقال : " كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت " وقد دلل المحقق الاميني على ذلك بما لا مزيد عليه (90) . عمر والحسين : وانطوت نفس الامام الحسين على حزن لاذع، وأسى عميق على من احتل مقام أبيه فبعث ذلك في نفسه عنصرا من عناصر الاستياء والتذمر ، وكان يشعر بالمرارة بكل وعي، وهو في سنة المبكر ويقول المؤرخون : ان عمر كان يخطب على المنبر، فلم يشعر إلا والحسين قد صعد إليه، وهو يهتف : " انزل... انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك " . وبهت عمر، واستولت الحيرة على اهابه، وراح يصدقه ويقول له : " صدقت لم يكن لابي منبر " . وأخذه فأجلسه إلى جنبه، وجعل يفحص عمن أوعز اليه بذلك قائلا له : " من علمك ؟ " . " والله ما علمني أحد " (91) . شعور طافح بالالم انبعث عن عبقرية وادراك واسع، نظر إلى منبر جده الذي كان مصدر النور والوعي، فرأى أنه لا يليق بأن يرقاه أحد من بعده غير أبيه رائد العلم والحكمه في الارض . ويقول المؤرخون : إن عمر كان معنيا بالامام الحسين (ع) وطلب منه أن يأتيه اذا عرض له أمر، وقصده يوما، وهو خال بمعاوية، ورأى ابنه عبد الله فطلب الاذن منه فلم يأذن له فرجع معه، والتقى به عمر في الغد فقال له : " ما منعك يا حسين أن تأتيني ؟ " . " إني جئت، وانت خال بمعاوية، فراجعت مع ابن عمر " . " أنت أحق من ابن عمر، فإن أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم " (92) . واقتضت سياسته أن يقابل سبطي الرسول (ص) الحسن والحسين عليهما السلام بمزيد من التكريم، فقد جعل لهما نصيبا فيما يغنمه المسلمون ، ووردت إليه حلل من وشي اليمن، فوزعها على المسلمين، ونساهما، فبعث إلى عامله على اليمن ان يرسل له حلتين، فارسلهما اليه فكساهما، وقد جعل عطاءهما مثل عطاء أبيهما، والحقهما بفريضة أهل بدر، وكانت خمسة آلاف (93) ولم تظهر لنا أي بادرة عن الامام الحسين في عهد عمر سوى ما ذكرناه، ويعود السبب في ذلك إلى انعزال الامام أمير المؤمنين مع أبنائه عن جهاز الحكم، وايثارهم الانطواء عن القوم، وعدم الاشتراك معهم في أي شأن من شؤون الدولة، فقد اترعت نفوسهم بالاسى المرير والحزن العميق، وقد أعلن الامام أساه وأحزانه في كثير من المواقف، ويقول المؤرخون : إن عمر نزلت به نازلة فحار في التخلص منها، وعرض على اصحابه ذلك فقال لهم : - ما تقولون في هذا الامر ؟ - أنت المفزع، والمنزع . فلم يرضه ذلك، وتلا قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا " (94) . " أما والله إني وإياكم لنعلم ابن بجدتها والخبير بها " . - كأنك أردت ابن أبي طالب . - وأنى يعدل بي عنه، وهل طفحت حرة مثله . - لو دعوت به يا أمير المؤمنين . - إن هناك شمخا من هاشم وأثرة من علم، ولحمة من رسول الله صلى الله عليه وآله يؤتى ولا يأتي، فامضوا بنا اليه . وخفوا جميعا اليه فالفوه في حائط له، وعليه تبان، وهو يتركل على مسحاته ويقرأ " أيحسب الانسان ان يترك سدى " إلى آخر السورة ودموعه تهمي على خديه، فاجهش القوم بالبكاء، ثم سكتوا فسأله عمر عما ألم به فاجابه عنه، فقال له عمر : - أما والله لقد أرادك الحق، ولكن أبى قومك . - يا أبا حفص خفض عليك من هنا، ومن هنا، وقرأ قوله تعالى : " ان يوم الفصل كان ميقاتا " . وذهل عمر، فوضع احدى يديه على الاخرى، وخرج كأنما ينظر في رماد (95) . الحسين وآل عمر : ويقول بعض المؤرخين : ان العلاقة بين الامام الحسين وآل عمر كانت غير ودية ويعود السبب في ذلك إلى ان عاصم بن عمر شرب الخمر فشهد عليه الحسين بذلك في مجلس القضاء أيام عثمان فاقيم عليه الحد، وقد أوجبت هذه البادرة شيوع التباغض بين الاسرتين (96) . اغتيال عمر : ولم نبسط القول في خلافة عمر، ولم نلم بسيرته، ولا بما اثر عنه من الاحداث خصوصا ما صدر عنه من الفتاوى التي كانت بعضها من الاجتهاد قبال النص كتحريم المتعة وغيرها، لم نعرض لذلك فقد آثرنا الايجاز في أمثال هذه البحوث، وانما عرضنا للاحداث المتقدمة لانها تصور الحياة الاجتماعية والفكرية التي عاشها الامام الحسين في ذلك العصر، كما تلقى الاضواء على حياته . وعلى أي حال فان الذي يهمنا أن نعرض إلى اغتيال عمر وما رافقه من الاحداث الخطيرة، فقد عزا بعض الكتاب من المحدثين إلى أن اغتياله كان وليد مؤامرة حاكها الامويون للتخلص من حكمه، وفرض سلطانهم على المسلمين (97) وقد أيدوا ذلك بأن أبا لؤلؤة الذي اغتاله كان مولى للمغيرة بن شعبة، وصلة المغيرة بالامويين كانت وثيقة للغاية، وفيما أحسب أن هذا الرأى لا يحمل أي طابع من التحقيق لان علاقة عمر كانت مع الامويين طبيعية، وقوية، فلم تقع بينهما أية منافسة أو كراهية ن وكان عمر شديد الميل لهم، فقد استعمل أعلامهم ولاة على الاقطار والاقاليم الاسلامية أمثال يزيد بن أبي سفيان، وسعيد بن أبي العاص، ومعاوية، ولم يشاطر أي واحد منهم أمواله كما شاطر بقية عماله، بل كان معنيا حتى بشؤون نسائهم فقد اقرض هند بنت عتبة أم معاوية أربعة آلاف من بيت المال تتجر فيها (98) فلم يعمل عمر أي عمل يتنافى مع مصالحهم وأطماعهم ، فكيف اذن يقومون بتدبير المؤامرة لاغتياله ؟ وعلى أي حال فمن المقطوع به أن أبا لؤلؤة انما قام بوحي نفسه لا بدافع أموي لاغتيال عمر، أما بواعث ذلك - فيما نحسب - فهي انه كان شابا متحمسا لامته ووطنه، فقد رأى بلاده قد فتحت عنوة فذهب مجد قومه وانطوى عزهم ورأى ان عمر قد بالغ في احتقار الفرق والاستهانة بهم فقد تمنى أن يحول بينه وبين الفرس جبل من حديد، وقد حضر عليهم دخول يثرب إلا من كان سنه دون البلوغ (99) واصدر فتواه بعدم ارثهم إلا من ولد منهم في بلاد العرب (100) كما كان يعبر عنهم بالعلوج (101) ثم هو بالذات قد خف إلى عمر يشكو اليه مما ألم به من ضيق وجهد من جراء ما فرض عليه المغيرة من ثقل الخراج فزجره عمر ولم يعن به، وقال له : " ما خراجك بكثير من أجل الحرف التي تحسنها... " . وقد أوجدت هذه الامور في نفسه حنقا وحقدا على عمر فاضمر له الشر، وقد اجتاز عليه فسخر منه، وقال له : " بلغني انك تقول : لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت ولذعته هذه السخرية فاندفع يقول : " لاصنعن لك رحى يتحدث الناس بها... " . وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال (102) فطعنه ثلاث طعنات احداهن تحت السرة فخرقت الصفاق (103) وهي التي قضت عليه، ثم انحاز إلى أهل المسجد فطعن من يليه حتى طعن أحد عشر رجلا سوى عمر ثم عمد إلى نفسه فانتحر (104) وحمل عمر إلى داره، وجراحاته تنزف دما، وقال لمن كان حوله : - من طعنني ؟ - غلام المغيرة . - ألم أقل لكم : لا تجلبوا لنا من العلوج أحدا فغلبتموني (105) . وأحضر له أهله طبيبا فقال له : " أي الشراب أحب اليك ؟ " . " النبيذ " فسقوه منه فخرج من بعض طعناته، فقال الناس : خرج صديدا ، ثم سقوه لبنا، فخرج من بعض طناته فيئس منه الطبيب، وقال له : " لا أرى أن تمسي " (106) ولما أيقن بدنو الاجل المحتوم منه أوصى ولده عبد الله فقال له : انظر ما علي من دين، فاحصوه فاذا به ستة وثمانون الفا، فقال : " إن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي ابن كعب فان لم تف به أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم " (107) . ونحن اذا تأملنا في هذه الوصية، نجد فيها عدة أمور تدعو إلى التساؤل وهي : 1 - إن هذه الاموال الضخمة التي استدانها من بيت المال لم ينفقها إلا في شؤونه الخاصة، ولو كان قد انفقها على شؤون المسلمين لما كان هناك أي مجال لاسترجاعها من آل الخطاب، وهذا - من دون شك - لا يتفق مع ما نقله الرواة عن سيرته من أنه كان متحرجا أشد التحرج وأقساه في أموال الدولة وانه لم يكن ينفق منها أي شئ على شؤونه الخاصة . 2 - انه عهد إلى ابنه عبد الله أن يستوفي هذه الديون من آله فان وفت أموالهم بها فهو وإلا فيسأل أسرته عن وفائها، وهذا يكشف أنه قد منحها لهم وإلا فما هو المبرر لاستيفائها منهم إذ لا سلطان له على مال الغير وان كان قريبا منه، وفيما نحسب أن هذه الاموال قد وهبها لهم، وهو يتصادم مع ما نقل عنه من أنه كان يشتد على أهله حتى يرهقهم من أمرهم عسرا، وانه قد أخذهم بضروب من الشدة والعنف، وساوى بينهم وبين بقية المسلمين في العطاء . 3 - ان وصيته لولده عبد الله أن يسأل من قريش خاصة بتسديد ما عليه من ديون اذا لم تف أموال اسرته بها، يكشف عن مدى صلته العميقة، وارتباطه الوثيق بهم، وقد كان فيما يقول المؤرخون : الممثل الوحيد للفئات القرشية، وانه كان يعكس في تصرفاته جميع رغباتها وميولها . هذه بعض الملاحظات التي تواجه هذه الوصية، ولم ينص المؤرخون على أن عبد الله قام بتسديد ما على أبيه من ديون لبيت المال، فقد أهملوا هذه الجهة، ولم يعرضوا لها . وعلى أي حال فان عبد الله لما أيقن بموت أبيه طلب منه أن يعين أحدا لمركز الخلافة، ولا يهمل شؤون الامة قال له : " يا أبة استخلف على أمة محمد (ص) فانه لو جاء راعي إبلك أو غنمك، وترك إبله أو غنمه لا راعي لها، وقلت له : كيف تركت امانتك ضائعة فكيف بامة محمد (ص) ؟ فاستخلف عليهم " . فنظر اليه نظرة ريبة وشك، واندفع يجيبه : " إن استخلف عليهم، فقد استخلف أبوبكر، وان اتركهم فقد تركهم رسول الله (ص) " (108) . أما حديث عبد الله فقد كان حافلا بالوعي والمنطق، فانه ليس من الحكمة في شئ أن يهمل الرئيس شؤون رعيته، من دون ان يعين لها القائد من بعده الذي يعني بامورها السياسية والاجتماعية، فان اهماله لهذه الجهة الخطيرة يعرضها للازمات، ويلقيها في شر عظيم، وقد زعم عمر ان رسول الله (ص) لم يعن بالقيادة الروحية والزمنية من بعده، ولم يعهد بأمره لاحد، ولعل " الوجع " قد غلب عليه فاذهله، وأنساه قيام النبي (ص) بنصب الامام امير المؤمنين (ع) خليفة من بعده يوم " غدير خم " والزامه للمسلمين بمبايعته، وكان عمر بالذات ممن بايعه ، وقال له : " بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " . وعلى أي حال فان عمر قد فتكت به جراحاته، وأخذ منه الالم القاسي مأخذا عظيما، وقد جزع جزعا شديدا وأخذ يقول : " لو أن لي ما في الارض ذهبا لافتديت به من عذاب الله قبل ان أراه " (109) . وقال لولده عبد الله : ضع خدي على الارض، فلم يعن به وظن أنه قد اختلس عقله، فأمره ثانيا بذلك فلم يجبه، وفي المرة الثالثة صاح به : " ضع خدي على الارض لا أم لك ! " . وبادر عبد الله فوضع خد أبيه على الارض فاخذ يجهش بالبكاء ، وهو يقول بنبرات متقطعة : " يا ويل عمر ! ! وويل ام عمر ! ! إن لم يتجاوز الله عنه " (110) . وطلب عمر من ابنه أن يستأذن من عائشة ليدفنه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وابي بكر، فسمحت له بذلك (111) وعلقت الشيعة على ذلك كما علقت على دفن ابي بكر فقالت : إن ما تركه النبي (ص) إن كان لا يرثه أهله، وانما هو لولي الامر من بعده حسب ما يرويه أبوبكر فلا موضوعية للاذن من عائشة، وان كان يرجع إلى ورثته - كما يقول به أهل البيت - فليس لعائشة فيه أي نصيب لان الزوجة لا ترث من الارض حسبما قرره فقهاء المسلمين، ولابد له من الاذن من ورثة النبي صلى الله عليه وآله ولم يتحقق ذلك . الشورى : نحن أمام كارثة مذهلة، ومفزعة امتحن بها المسلمون امتحانا عسيرا وأخلدت لهم الفتن والمصاعب، وجرت لهم الويلات والخطوب، والقتهم في شر عظيم، تلك هي قصة الشورى التي حكت عن تآمر مفضوح في اقضاء الامام أمير المؤمنين عن ساحة الحكم، وتسليمه إلى بني أمية ارضاءا للعواطف القرشية المترعة بالحقد والكراهية للامام . ونحن - يعلم الله - لم نكن نقصد بهذه البحوث الا دراسة الاحداث التي عاشها الامام الحسين وهي - فيما نعتقد - مصدر الفتنة الكبرى التي أدت إلى مجزرة كربلا الرهيبة، وغيرها من الاحداث التي غيرت منهج الحياة الكريمة في الاسلام . وعلى أي حال فان عمر لما يئس من حياته، وأيقن بدنو الاجل المحتوم منه أخذ بمعن النظر ويطيل التفكير فيمن يتولى شؤون الحكم من بعده، وقد تذكر أقطاب حزبه الذين شاركوه في تمهيد الامر لابي بكر فرأى أنهم قد اقتطفتهم المنية فراح يصعد أهاته وحسراته، ويبدي أساه عليهم قائلا : " لو كان أبوعبيدة حيا لاستخلفته لانه أمين هذه الامة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته لانه شديد الحب لله تعالى... " . ولماذا لم يستعرض عمر الاحياء من الذين ساهموا في بناء الاسلام ؟ كسيد العترة الطاهرة الامام أمير المؤمنين (ع) والصفوة الطيبة من صحابة النبي (ص) كعمار بن ياسر وأبي ذر وغيرهم من الانصار ليرشحهم لهذا المنصب الخطير ! ! لقد انطلق يفتش في قائمة الاموات فتمنى حياة أبى عبيدة، وسالم ليقلدهما رئاسة الدولة، مع العلم أنه لم تكن لهما أية سابقة من الجهاد والخدمة في سبيل الاسلام . وطلب منه القوم أن يعين أحدا من بعده ليتولى شؤون المسلمين فأبى وقال : " أكره أن اتحملها حيا وميتا ! " . ولكنه لم يلبث أن نقض رأيه، فانتخب أعضاء الشورى الستة ، وفوض اليهم أمر الامة، كما فرض رأيهم على جميع المسلمين، وبذلك فقد تحمل الخلافة حيا، وميتا يقول ابن أبي الحديد : " وأي شئ يكون من التحمل أكثر من هذا ! ! وأي فرق بين أن يتحملها، بان ينص على واحد بعينه، وبين أن يفعل ما فعله من الحصر والترتيب..." (112) . عمر مع اعضاء الشورى : ودعا عمر أعضاء الشورى الذين أنتخبهم، وزكاهم، وزعم ان النبي (ص) قال فيهم إنهم من أهل الجنة (113) إلا أنه لما اجتمعوا عنده وجه اليهم اعنف النقد وأقساه وطعن في كل واحد منهم طعنا لاذعا ، ورماهم بالنزعات الشريرة التي توجب القدح في ترشيحهم لمنصب الامامة والخلافة، وقد روى المؤرخون حديثه بصور مختلفة، وفيما يلي بعضها . 1 - انه لما نظر اليهم قال : قد جاءني كل واحد منهم يهز عفريته يرجو أن يكون خليفة... أما أنت يا طلحة، أفلست القائل : إن قبض النبي (ص) أنكح أزواجه من بعده ؟ فما جعل الله محمدا أحق ببنات اعمامنا منا، فانزل الله فيك " وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا ازواجه من بعده أبدا " (114) . وأما انت يا زبير فوالله ما لان قلبك ولا ليلة، وما زلت جلفا جافيا، واما انت يا عثمان فوالله لروثة خير منك، واما انت يا عبد الرحمان فانك رجل عاجز تحب قومك جميعا، واما انت يا سعد فصاحب عصبية وفتنة، واما أنت يا علي فوالله لو وزن ايمانك بايمان اهل الارض لرجحهم وقام علي، موليا، فالتفت عمر إلى حضار مجلسه فقال : " والله إني لاعلم مكان رجل لو وليتموه أمركم لحملكم على المحجة البيضاء ؟... " . " من هو ؟ " . " هذا المولي من بينكم " . " ما يمنعك من ذلك ؟ " . " ليس إلى ذلك من سبيل " (115) . وقد خدش في كل واحد منهم، سوى الامام امير المؤمنين (ع) فانه أبدى اكباره له، واعترف بقابلياته وصلاحيته للحكم، وانه لو ولي أمور المسلمين لحملهم على المحجة البيضاء والطريق الواضح الا انه لا يجد سبيلا إلى ذلك . 2 - يقول المؤرخون : انه لما التقى باعضاء الشورى قالوا له : قل فينا يا أمير المؤمنين مقالة نستدل فيها برأيك، ونقتدي به، فقال : والله ما يمنعني ان استخلفك يا سعد إلا شدتك وغلظتك مع انك رجل حرب وما يمنعني منك يا عبد الرحمان إلا انك فرعون هذه الامة، وما يمنعني منك يا زبير الا انك مؤمن الرضا، كافر الغضب، وما يمنعني من طلحة إلا نخوته وكبره، ولو وليها وضع خاتمه في اصبع امرأته، وما يمنعني منك يا عثمان الا عصبيتك، وحبك قومك وأهلك، وما يمنعني منك يا علي إلا حرصك عليها، وانك احرى القوم إن وليتها ان تقيم على الحق المبين والصراط المستقيم (116) . وقد وصم اعضاء الشورى بمساوئ الصفات، فوصف عبد الرحمان ابن عوف بانه فرعون هذه الامة، ومن الغريب حقا انه لم يلبث أن فوض اليه شؤون الانتخاب وجعل قوله منطق الفصل، وفصل الخطاب... كما اتهم الامام بالحرص على الخلافة، إلا ان سيرة الامام المشرقة تدل على عكس ذلك، فانه (ع) لم يكن من عشاق السلطة ولا من طلاب الملك ، وانه انما نازع الخلفاء، واقام عليهم الحجة بانه اولى بالامر منهم لا ليتخذ من الحكم وسيلة للتمتع بخيرات البلاد كما اتخذه بعضهم، ولا من أجل التمتع بالرغبات النفسية التي تتطلب السلطان، وتتهالك عليه لبسط نفوذها واستعلائها على الناس، ان الامام (ع) لم يكن باي حال ينشد مثل هذه الاهداف الرخيصة، وانما كان يبغي الحكم لنشر العدل، واقامة الحق ، وتطبيق شريعة الله على واقع الحياة من اجل هذه الغايات النبيلة كان (ع) حريصا على الخلافة، وقد ادلى بذلك بقوله : " اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، وتقام المعطلة من حدودك، ويأمن المظلومون من عبادك ! ! " . واعرب (ع) في حديث له مع ابن عباس بذي قار عن مدى زهده بالسلطة. واحتقاره للحكم، فقد كان (ع) يخصف بيده نعلا له فالتفت إلى ابن عباس . - يابن عباس ما قيمة هذا النعل ؟ - يا امير المؤمنين لا قيمة له . - انه خير من خلافتكم هذه الا ان اقيم حقا، وادفع باطلا . إنه انما كان حريصا على الخلافة من اجل اقامة المثل العليا، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتطوير الوعي الاجتماعي، وازدهار الحياة العامة . 3 - وفي رواية ثالثة ان عمر دعا اعضاء الشورى فلما مثلوا عنده قال لهم : " اكلكم يطمع بالخلافة بعدي ؟ ؟ " . ووجموا عن الكلام، فاعاد القول عليهم ثانيا، فانبرى اليه الزبير ، رادا عليه مقالته : " وما الذي يبعدنا منها ؟ ! وليتها انت فقمت بها، ولسنا دونك في قريش، ولا في السابقة، ولا في القرابة " . ولم يسعه الرد عليه، وقال لهم : " افلا اخبركم عن انفسكم ؟ " . " قل : فانا لو استعفيناك لم تعفنا ! ! " . واخذ يدلي عليهم اتجاهاتهم وميولهم، ويحدثهم عن نفسياتهم فاتجه صوب الزبير فقال له : " اما انت يا زبير فوعق لقس (117) مؤمن الرضا، كافر الغضب يوما انسان، ويوما شيطان، ولعلها لو افضت اليك، ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير ! ! فرأيت إن افضت اليك، فليت شعري ، من يكون للناس يوم تكون شيطانا، ومن يكون يوم تغضب ؟ ! ! وما كان الله ليجمع لك امر هذه الامة، وانت على هذه الصفة " . إن الزبير حسب هذا التحليل النفسي لشخصيته مبتلى بآهات خطيرة وهي : 1 - الضجر والتبرم . 2 - عدم الاستقامة في سلوكه . 3 - الغشب الهائل الذي يفقده الرشد والتوازن . 4 - الحرص والبخل، وهما يجرانه إلى ملاطمة الناس على مد من شعير . وهذه النزعات من مساوئ الصفات، ومن اتصف ببعضها لا يصلح لان يتولى اى منصب حساس في جهاز الدولة فضلا عن ان يكون خليفة وإماما للمسلمين . واقبل على طلحة فقال له : " اقول : ام اسكت ؟ " . فزجره طلحة، وقال له : " إنك طلحة، وقال له : " إنك لا تقول : من الخير شيئا " . " اما اني اعرفك منذ اصيبت اصبعك يوم احد وائيا (118) بالذي حدث لك ولقد مات رسول الله (ص) ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم انزلت آية الحجاب " . واذا كان رسول الله (ص) ساخطا على طلحة كيف يرشحه خليفة وإماما للمسلمين ؟ كما ان هذا يناقض ما قاله : ان رسول الله (ص) مات وهو راض عن اعضاء الشورى، وعلق الجاحظ على هذا بقوله : " لو قال لعمر قائل : انت قلت : إن رسول الله (ص) مات وهو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة ؟ انه مات عليه السلام ساخطا عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه (119) ولكن من الذي كان يجسر على عمر ان يقول : له ما دون هذا، فكيف هذا ؟ ! ! " . واتجه صوب سعد بن أبي وقاص فقال له : " إنما أنت صاحب مقنب (120) من هذه المقانب تقاتل به، وصاحب قنص وقوس وسهم، وما زهرة والخلافة وأمور الناس ! ! " . ان سعد رجل عسكري لا يفقه إلا عمليات الحروب، ولا خبرة له بالشؤون الادارية والاجتماعية للامة، فكيف يرشحه للخلافة ؟ كما طعن في صلاحية قبيلة سعد لتولي شؤون الحكم . وأقبل على عبد الرحمان بن عوف فقال له : " أما أنت يا عبد الرحمان، فلو وزن نصف ايمان المسلمين بايمانك لرجح ايمانك عليهم، ولكن ليس يصلح هذا الامر لمن فيه ضعف كضعفك وما زهرة وهذا الامر ! ! " . وعبد الرحمان - حسب رأي عمر - رجل ايمان وتقوى، ولا نعلم اين كان ايمانه حينما عدل عن انتخاب سيد العترة الطاهرة الامام أمير المؤمنين عليه السلام وسلم أمور المسلمين بأيدي الامويين، فاتخذوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا، ثم انه لم تكن له شخصية قوية، ولا عزم ثابت، ولا ارادة صلبة - حسب اعتراف عمر - فكيف يرشحه للخلافة ؟ ! ! كيف يجعل قوله منطق الفصل في تعيين من يشاء لشؤون الامة ؟ ! ! والتفت إلى الامام أمير المؤمنين (ع) فقال له : " لله أن لو لا دعابة فيك ! ! أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء " . متى كانت للامام الدعابة وهو الذي ما ألف في حياته إلا الجد والحزم في القول والعمل، ثم أن من يتصف بهذه النزعة كيف يتمكن أن يحمل المسلمين على الحق الواضح والمحجة البيضاء - كما يقول عمر - ان هذه السياسة تتنافى مع الدعابة الناشئة عن ضعف الشخصية وخورها . وأكد عمر ان الامام لو ولي أمور المسلمين لسار فيهم بالحق، وحملهم على الصراط المستقيم، فكيف يجعله من أعضاء الشورى، ولا ينص عليه بالخصوص ؟ وهل من الحيطة على الامة أن يفوت عليها الفرصة، ولا يسلم أمرها بيد من يسير فيها بسيرة قوامها العدل الخالص والحق المحض ؟ ! ! واقبل على عثمان عميد الاسرة الاموية التي ناهضت الاسلام فقال له : " هيها اليك ! ! كاني بك قد قلدتك قريش هذا الامر لحبها إياك فحملت بني أمية، وبين أبي معيط على رقاب المسلمين، وآثرتهم بالفئ ، فسارت اليك عصابة من ذؤبان العرب، فذبحوك على فراشك ذبحا، والله لئن فعلوا لتفعلن، ولئن فعلت ليفعلن، ثم أخذ بناصيته فقال : فاذا كان ذلك فاذكر قولي... " (121) . ونحن اذا تأملنا قليلا في قوله لعثمان : " كأني بك قد قلدتك قريش هذا الامر لحبها إياك " نجده قد قلد عثمان بالخلافة فان نظام الشورى الذي وضعه كان حتما يؤدي إلى فوزه بالسلطة، فقد جعله أحد أعضاء الشورى وكان أكثرهم ممن له اتصال وثيق باسرة عثمان، وهم لا يعدلون عن انتخابه، ولا يقدمون غيره عليه وفي الحقيقة أنه هو الذي قلده الخلافة ، وفوض اليه أمور المسلمين، ثم انه مع دراسة لنفسيته، ووقوفه على حبه الشديد لاسرته كيف يرشحه للخلافة، وهو بالذات يعلم خطر بني امية على الاسلام، وقد أعلن ذلك في حديثه مع المغيرة بن شعبة يقول له : - يا مغيرة هل أبصرت بعينك العوراء ؟ - لا . - أما والله ليعورن بنو أمية الاسلام، كما أعورت عينك هذه، ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب، ولا أين يجي ؟ (122) . فكان الاجدر به، وهو على عتبة الموت أن يجنب الامة خطر الامويين، ولا يجعل لهم أي نصيب في الحكم . هذه بعض الروايات التي أثرت عنه في حديث مع أعضاء الشورى . نظام الشورى : لا أكاد أعرف نظاما أوهى من نظام الشورى الذى وضعه عمر ، فليس فيه أي توازن أو أصالة، فقد شذ عن حقيقة الشورى التي يجب أن تمثل رأي الامة، وتشترك القطاعات الشعبية في الانتخاب، فقد فوض في هذه الشورى الرأي إلى جماعة لا يمثلون الا آراءهم الخاصة . لقد دعا عمر من رشحهم فقال لهم : " احضروا معكم من شيوخ الانصار، وليس لهم من أمركم شئ، واحضروا معكم الحسن بن علي ، و عبد الله بن عباس، فان لهما قرابة، وارجو لكم البركة في حضورهما وليس لهما من أمركم شئ " (123) . لقد اقصى الانصار، ولم يجعل لهم أي نصيب في الانتخاب والاختيار وانما جعل لهم الاشراف المجرد الذي يعني حرمانهم، والاستهانة بهم ، فان الامر انما هو أمر اعضاء الشورى ولا يخص غيرهم... ثم انا لم نعلم ما هي البركة التي تحصل لاعضاء الشورى بحضور الامام الحسن و عبد الله ابن عباس، وهما لا يملكان من الامر شيئا ؟ والتفت إلى أبي طلحة الانصاري فعهد اليه بما يحكم أمر الشورى فقال له : " يا أبا طلحة، ان الله أعز الاسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الانصار فالزم هؤلاء النفر بامضاء الامر وتعجيله... " . واتجه نحو المقداد بن الاسود فعهد اليه بمثل ذلك، وقال له : " اذا اتفق خمسة، وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه، وان اتفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقيهما، وان اتفق ثلاثة منهم على رجل، ورضي ثلاثة منهم رجل آخر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف ، واقتلوا الباقين ان رغبوا عما اجتمع عليه الناس... " . انذاره للصحابة : وأنذر عمر الصحابة وهددهم بمعاوية وعمرو بن العاص اذا لم تتفق كلمتهم وتنازعوا على الحكم والسلطان، فقد قال لهم : " يا أصحاب محمد تناصحوا فان لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان... " . وعلق شيخ الامامية الشيخ المفيد على هذا الكلام بقوله : " انما أراد عمر بهذا القول اغراء معاوية وعمرو بن العاص بطلب الخلافة واطماعهما فيها لان معاوية كان عامله وأميره على الشام، وعمرو بن العاص عامله وأميره على مصر، وخاف أن يضعف عثمان ان تصير إلى علي فالقى هذه الكلمة إلى الناس لتنقل اليهما وهما - بمصر والشام - فيتغلبا على هذين الاقليمين ان افضت إلى علي.." (124) . موقف الامام : والتاع الامام أمير المؤمنين، وحزن أشد الحزن وأقساه، وعرف أن الشورى انما هي مؤامرة ومكيدة دبرت لصرف الامر عنه، فقد التقى بعمه العباس فبادره قائلا : " يا عم لقد عدلت عنا ! ! " . " من اعلمك بذلك ؟ " . " لقد قرن بي عثمان، وقال : كونوا مع الاكثر، ثم قال : كونوا مع عبد الرحمان، وسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمان، وعبد الرحمان صهر لعثمان، وهم لا يختلفون، فاما أن يوليها عبد الرحمان عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمان... " (125) . وصدق تفرس الامام فقد ولاها عبد الرحمان لعثمان ايثارا لمصالحة ، وابتغاء رجوعها اليه من بعده . لقد كانت الشورى باسلوبها الهزيل مؤامرة مفضوحة لاستار عليها قد دبرت ضد وصي رسول الله (ص) وباب مدينة علمه، يقول الامام كاشف الغطاء رحمه الله : " الشورى بجوهرها وحقيقتها مؤامرة واقعية، وشورى صورية ، وهي مهارة بارعة لفرض عثمان خليفة على المسلمين رغما عليهم، ولكن بتدبير بارع عاد على الاسلام والمسلمين بشر ما له دافع... " . وكوى هذا التآمر قلب الامام، واثارت الاحقاد القرشية أحزانه فراح يتحدث عنها بعد سنين، يقول (ع) : " حتى اذا مضى - يعني عمر - لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب في مع الاول منهم حتى صرت اقرن إلى هذه النظائر... " . أجل والله - يا أمير المؤمنين - انه متى اعترض الريب لاحد في انك أفضل المسلمين، واعظمهم جهادا، وأقدمهم سابقة للاسلام، ولكن اف للزمان، وتعسا للدهر الذي قرنك بامثال هؤلاء الذين حرموا الامة من التمتع بعدلك ومواهبك . استجابة الامام : بقي هنا شئ يدعو للتساؤل وهو ان الامام لماذا استجاب لان يكون من اعضاء الشورى مع وجود المفارقات الواضحة بينه وبينهم ؟ وقد أجاب عليه السلام عن ذلك بانه اراد ان يظهر تتاقض عمر فقد اعلن غير مرة ان النبوة والخلافة لا يجتمعان في بيت واحد، فلماذا اذن جعله من اعضاء الشورى المرشحين للخلافة ؟ ! ! آفات الشورى : واجمع المحققون من القدامى والمحدثين على نقد هذه الشورى وتزييف نظامها، وذكروا لها كثيرا من المضاعفات السيئة التي عادت على المسلمين بالفتن والخلاف، وخلقت لهم المصاعب والمشاكل، وقد دللنا عليها في كتابنا " حياة الامام الحسن " ولكن ضرورة البحث تقتضي ذكرها وهي : أولا - إن هذا النظام بعيد عن واقع الشورى، وقد خلى من جميع العناصر التي تتميز بها فانه لابد أن تتوفر فيها ما يلي : أ - أن تشترك الامة بجميع قطاعاته في الانتخاب . ب - أن لا تتدخل الحكومة أي تدخل مباشر أو غير مباشر في شؤون الانتخاب . ج - أن تتوفر الحريات العامة لجميع الناخبين . وفقدت الشورى العمرية هذه العناصر، ولم يعد لها أي وجود فيها فقد حظر الامة أن تشترك في الانتخاب، ولم تمنح لها الحرية في اختيار من ترغب فيه للحكم، وانما فوض أمرها إلى ستة اشخاص، وجعل آرائهم تعادل آراء بقية الشعوب الاسلامية وهذا لون من ألوان التزكية تفرضه بعض الحكومات التي لا تعني بارادة شعوبها على انه أوعز إلى البوليس بالتدخل في الامر، وعهد اليهم بقتل من لا يوافق من اعضاء الشورى على من ينتخبه بقية الاعضاء، كما عهد اليهم بتحديد مدة الانتخاب في ثلاثة أيام وقد ضيق الوقت على الناخبين خوفا من تدخل القطعات الشعبية في الامر فيفوت غرضه . ثانيا - ان هذه الشورى ضمت العناصر المعادية للامام، والحاقدة عليه، ففيها طلحة التميمي، وهو من أسرة أبي بكر الذي نافس الامام على الخلافة، ودفعه عنها وفيها عبد الرحمان بن عوف وهو صهر عثمان ، ومن أكثر المهاجرين حقدا على الامام فهو - كما يقول المؤرخون - كان من الذين استعان بهم أبوبكر لارغام الامام على مبايعته، وضمت الشورى سعد بن أبي وقاص، وكانت نفسه مترعة بالحقد والكراهية للامام من أجل أخواله الامويين فان امه حمنة بنت سفيان بن امية، وقد اباد الامام اعلامهم وصناديدهم في سبيل الدعوة الاسلامية، ولما بايع المسلمون الامام تخلف عن بيعته سعد، ومن اعضاء الشورى عثمان بن عفان عميد الاسرة الاموية وقد اختار عمر - فيما يقول بعض المؤرخين - هذه العناصر المنافسة للامام والحاقدة عليه، حتى لايؤول الامر اليه، وقد تحدث الامام (ع) عن المؤثرات التي لعبت دورها في ميدان الانتخاب قال (ع) : " لكني أسففت اذ أسفوا، وطرت اذ طاروا فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن ! ! " . وعلى أي حال فان هذه الشورى لم يكن المقصود منها - فيما يقول المحققون - إلا اقصاء الامام عن الحكم، ومنحه للامويين يقول العلائلي : " إن تعيين الترشيح مجدهم على اكتاف المسلمين، وقد وصل إلى هذه النتيجة السيد مير علي الهندي قال : إن حرص عمر على مصلحة المسلمين دفعة إلى اختيار هؤلاء الستة من خيرة أهل المدينة دون ان يتبع سياسة سلفه وكان للامويين حزب قوي في المدينة، ومن هنا مهد اختياره السبيل لمكائد الامويين، ودسائسهم هؤلاء الذين ناصبوا الاسلام العداء، ثم دخلوا فيه وسيلة لسد مطامعهم، وتشييد صرح مجدهم على اكتاف المسلمين (126) . ثالثا - لقد عمد عمر في هذه الشورى إلى ابعاد الانصار فلم يجعل لهم أي نصيب فيها، وهم الذين آووا النبي، ونصروا الاسلام في أيام محنته وغربته، وقد أوصى بهم النبي (ص) خيرا، كما انه لم يجعل نصيبا فيها لعمار وأبي ذر، وأمثالهما من اعلام الاسلام، وأكبر الظن انه انما أبعدهم لان لهم هوى وميلا للامام (ع)، ولا ينتخبون غيره، ولا يرضون سواه، ولهذا الجهة اقصاهم، وقصر اعضاء الشورى على العناصر المعادية له . رابعا - من غريب أمر هذه الشورى أن عمر قد شهد في حق أعضائها أن النبي (ص) مات وهو عنهم راض، أو انه شهد لهم بالجنة، وقد عهد إلى الشرطة بضرب أعناقهم إن تأخروا عن انتخاب احدهم - حسب ما ذكرناه - ويقول الناقدون لهذه الشورى : إن التخلف عن الانتخاب لم يكن خروجا عن الدين، ولا مروقا عن الاسلام حتى تباح دماؤهم ! ! فلم يتفق هذا الحكم مع ما أثر عن الاسلام في حرمة اراقة الدماء ووجوب التحرج فيها إلا في مواضع مخصوصة ذكرها الفقهاء، وهذا ليس منها . بقي هنا شئ آخر لا يقل غرابة عن ذلك التناقض، وهو أن عمر انما قصر أعضاء الشورى على الستة بحجة أن رسول الله (ص) مات وهو عنهم راض، وهذه الحجة لا تصلح دليلا على التعيين لان رسول الله صلى الله عليه وآله مات وهو راض عن كثير من صحابته، فتقديم الستة عليهم انما هو من باب الترجيح بلا مرجح، وهو مما يتسم بالقبح كما يقول علماء الاصول . خامسا - إن مما يؤخذ على هذه الشورى ان عمر جعل الترجيح للجبهة التي تضم عبد الرحمان بن عوف، وقدمها على الجبهة التي تضم الامام امير المؤمنين (ع) وهو تحيز ظاهر للقوى القرشية الحاقدة على الامام والباغية عليه، كما أنا لا نعلم أن هناك أي مأثرة يمتاز بها ابن عوف يستحق بها هذه الاشادة والتكريم، أليس هو واخوانه من المهاجرين كطلحة والزبير وغيره قد استأثروا باموال المسلمين وفيئهم حتى ملكوا من الثراء العريض ما لا يحصى، وتحيروا في صرفه وانفاقه وقد ترك ابن عوف - فيما يقول المؤرخون - من الذهب ما يكسر بالفؤوس لكثرته، أمثل هذا يقدم على الامام (ع) ؟ ! ! وهو صاحب المواهب والعبقريات، الذي لاند له في علمه وتقواه وتحرجه في الدين، والله تعالى يقول في كتابه : " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " . سادسا - ان هذه الشورى أوجدت التنافس بين اعضائها، فان كل واحد منهم قد رأى نفسه ندا للآخر وكفوءا له، ولم يكونوا قبل ذلك على هذا الرأي فقد كان سعد خاضعا لعبد الرحمان، وعبد الرحمان تابع لعثمان ومن خلص أصحابه ومناصريه وبعد الشورى حدث بينهما انشقاق غريب، فكان عبد الرحمان يؤلب على عثمان، ويدعو عليا ليحمل كل منهما سيفه ليناجزه وقد عهد إلى اوليائه بعد موته ان لا يصلي عليه عثمان.. وكذلك كان الزبير شيعة للامام، وقد وقف إلى جانبه يوم السقيفة، وتحمل في سبيله ضروبا شاقة وعسيرة من الجهد والعناء، وقد قال في عهد عمر : " والله لو مات عمر بايعت عليا " ولكن الشورى قد نفخت فيه روح الطموح فرأى نفسه ندا للامام ففارقه وخرج عليه يوم الجمل، وهكذا اوجدت الشورى روح التخاصم والعداء بين اعضائها، فقد رأى كل واحد منهم انه اولى بالامر، واحق به من غيره، وقد ادى التخاصم والنزاع الذي وقع بينهم إلى تصديع كلمة المسلمين وتشتيت شملهم، وقد اعلن هذه الظاهرة معاوية بن أبي سفيان في حديث مع ابي الحصين الذي أوفده زياد لمقابلته فقد قال له معاوية : - بلغني ان عندك ذهنا وعقلا، فاخبرني عن شئ أسألك عنه ؟ - سلني عما بدا لك . - اخبرني ما الذي شتت شمل امر المسلمين وملاهم وخالف بينهم ؟ - قتل الناس عثمان . - ما صنعت شيئا . - مسير علي اليك وقتاله إياك . - ما صنعت شيئا . - مسير طلحة والزبير وعائشة، وقتال علي اياهم ! ! - ما صنعت شيئا . - ما عندي غير هذا . - أنا اخبرك انه لم يشتت بين المسلمين، ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر، وذلك ان الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فعمل بما امره الله به، ثم قبضه الله اليه، وقدم أبا بكر للصلاة فرضوه لامر دنياهم اذ رضيه رسول الله (ص) لامر دينهم، فعمل بسنة رسول الله (ص) وسار بسيرته، حتى قبضه الله، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته، ثم جعلها شورى بين ستة نفر فلم يكن رجل منهم الا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه، ولو ان عمر استخلف عليهم كما استخلف أبوبكر ما كان في ذلك خلاف " (127) . إن من المظاهر الاولية لهذه الشورى اشاعة الاطماع والاهواء السياسية بشكل سافر عند بعض أعضائها فاندفعوا إلى خلق الحزبية والتكتلات في المجتمع الاسلامي للوصول إلى كرسي الحكم، مما ادى ذلك إلى كثير من المضاعفات السيئة وقد امتحن بها المسلمون امتحانا عسيرا . هذه بعض آفات الشورى التي عانى منها المسلمون أقسى ألوان الكوارث والخطوب فقد مهدت الطريق أمام الطلقاء وأبنائهم للاستيلاء على السلطة والقبض على زمام الحكم، وتخطيط سياسة للدولة لم يألفها المسلمون، ومن أبرز برامجها الاستئثار بالفئ ونهب ثروات الامة وخيراتها، والامعان في ظلم الاخيار والتنكيل بعترة النبي (ص). عملية الانتخاب : ولما مضى عمر إلى ربه، ودفن في مقره الاخير أحاط البوليس بأعضاء الشورى فالزمهم بالاجتماع، واختيار حاكم للمسلمين من بينهم تنفيذا لوصية عمر، فاجتمعوا في بيت المال، وقيل في بيت مسرور بن مخرمة، وقد أشرف على الانتخاب الامام الحسن، و عبد الله بن عباس، وبادر المغيرة ابن شعبة وعمرو بن العاص فجلسا في عتبة الباب، فنهزهما سعد وقال لهما : " تريدان أن تقولا : حضرنا، وكنا في أهل الشورى ؟ " (128) . ودلت هذه البادرة على مدى التنافس، والاحقاد فيما بين القوم فقد ضن سعد على المغيرة وابن العاص بالحضور خشية أن يقولا للناس : كنا من أهل الشورى . وتداول الاعضاء فيما بينهم الحديث عمن هو أحق بالامر وأولى به ، وكثر الصخب والجدل، وانبرى اليهم الامام أمير المؤمنين (ع) فحذرهم مغبة ما يحدث من الفتن والفساد إن استجابوا لعواطفهم، ولم يؤثروا مصلحة الامة فقال : " لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق، وصلة رحم، وعائدة كرم فاسمعوا قولي، وعووا منطقي، عسى أن تروا هذا الامر من بعد هذا اليوم تنتظي فيه السيوف، وتخان فيه العهود حتى يكون بعضكم أئمة لاهل الضلال، وشيعة لاهل الجهالة... " (129) . انهم لو سمعوا قوله، ووعوا منطقه لصانوا الامة من التيارات الجارفة وعادوا عليها بالخير العميم، ولكنهم انطلفوا وراء شهوات الملك والسلطان وتحقق ما تنبأ به الامام، فلم يمض قليل من الوقت حتى انتضت السيوف وانتشرت الحروب، وسادت الفتن والاهواء، وصار بعضهم أئمة لاهل الضلالة، وشيعة لاهل الجهالة . وعم الجدل بين القوم فلم ينتهوا إلى غاية مريحة فانفضت الجلسة على غير طائل، وجماهير الشعب تنتظر بفارغ الصبر النتيجة الحاسمة، وعقد الاجتماع مرة اخرى الا أنه باء بالفشل، فأشرف عليهم أبوطلحة الانصاري وهو يتهدد ويتوعد، قائلا : " لا والذي نفس عمر بيده ! لا أزيدكم على الايام الثلاثة. التي أمرتم... " . واقترب اليوم الثالث، وهو آخر موعد للقوم فانعقد الاجتماع وبدت فجأة الاندفاعات القبلية التي شذت عن مصلحة الامة، فقد انبرى طلحة فوهب حق لعثمان، وانما فعل ذلك استجابة لعواطفه المترعة بالكراهية للامام لانه نافس ابن عمه أبا بكر على الخلافة، واندفع الزبير فوهب حقه للامام لانه تربطه به رحم ماسة، وانطلق سعد فوهب حقه لابن عمه عبد الرحمان بن عوف، تقوية لجانبه، وتعزيزا لمركزه . وكان رأي عبد الرحمان هو الفيصل، وجانبه هو المرموق لان عمر قد وضع ثقته به، وأناط به أمر الشورى إلا انه كان ضعيف الشخصية هزيل الارادة لا قدرة له على تحمل مسؤولية الحكم فاجمع رأيه على أن يرشح غيره للخلافة، وكان له هوى مع عثمان، لانه صهره، وقد استشار عامة القرشيين في الامر فزهدوه في علي، وحرضوه على انتخاب عثمان لانه يحقق أطماعهم، ورغباتهم. وحلت الساعة الرهيبة التي غيرت مجرى التاريخ، فقال عبد الرحمان لابن اخته : - يا مسور، اذهب فادع عليا، وعثمان . - بأيهما أبدأ ؟ - بأيهما شئت . وانطلق مسور فدعاهما، وازدحم المهاجرون والانصار وسائر الناس في الجامع، فانبرى عبد الرحمان، فعرض عليهم الامر وقال : " أيها الناس، إن الناس قد اجتمعوا على أن يرجع أهل الامصار إلى أمصارهم فاشيروا علي " . فتقدم اليه الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر فأشار عليه بما يضمن لامة سلامتها ويصونها من الفرقة والاختلاف قائلا : " إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا " . وانطلق المقداد فأيد مقالة عمار قائلا ، " صدق عمار، إن بايعت عليا سمعنا وأطعنا " . واندفعت القوى الباغية، والحاقدة على الاسلام، وهي تشجب مقالة عمار والمقداد، وتدعوا إلى ترشيح عثمان عميد الامويين، وقد هتف عبد الله بن أبي سرح فخاطب ابن عوف قائلا : " ان أردت ان لا تختلف قريش فبايع عثمان " . واندفع عبد الله بن أبي ربيعة فأيد مقالة زميله قائلا : " ان بايعت عثمان سمعنا وأطعنا " . وانبرى الصحابي العظيم عمار بن ياسر فرد على ابن أبي سرح قائلا : " متى كنت تنصح للمسلمين ؟ " . وصدق عمار فمتى كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين أو يرجو وقارا للاسلام فقد كان من اعدى الناس إلى رسول الله (ص) وقد امر بقتله بعد فتح مكة ولو كان متعلقا بأستار الكعبة (130) انه لو كان هناك أي منطق أو حساب لاقصى هذا الدعي وأمثاله من التدخل في شؤون المسلمين فان بني امية وسائر القبائل القرشية يجب ان تكون في ذيل القافلة ولا يعنى بأمرها لانها هي التي ناجزت النبي (ص) وحرضت عليه القبائل وكادته وما دخلت في الاسلام الا بعد الخوف من حد السيوف، فكيف يمسح لها ان تفرض رأيها، ويؤول اليها امر المسلمين ؟ واحتدم الجدال بين الهاشميين والامويين، فانبرى عمار بن ياسر ، وهو يدعو لصالح المسلمين قائلا : " أيها الناس ان الله اكرمنا بنبيه، واعزنا بدينه فإلى متى تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم ؟ ! ! " . لقد كان منطق عمار حافلا بروح الاسلام وهديه فان قريشا وسائر العرب انما أعزها الله بدينه، وأسعدها برسوله، فهو مصدر عز العرب وشرفهم، وكان الواجب عليهم أن يقابلوه بالمعروف والاحسان، فلا يخرجون هذا الامر عن أهله الذين هم سدنه علمه، وخزنه وحيه، انه ليس من العدل في شئ ان يمنعوا جاهدين في قهرهم واذلالهم . وانبرى رجل من مخزوم فقطع على عمار كلامه قائلا له : " لقد عدوت طورك يابن سمية، وما أنت وتأمير قريش لانفسها ؟ ! ! " . ولم يدخل أي بصيص من نور الاسلام وهدية في قلب هذا المخزومي ، فقد راح يندد بعمار فنسبه لامه سمية وهي ممن يعتز بها الاسلام، ويفخر بنضالها المشرق، وتضحيتها الفذة، فهي وزوجها ياسر، وابنهما البار في طليعة القوى الخيرة المؤسسة للاسلام، وقد عانت في سبيله أقسى ألوان المحن والخطوب . ان امر الخلافة لجميع المسلمين يشترك فيه ابن سمية وغيره من الضعفاء الذين أعزهم الله بدينه، وليس لطغاة قريش أي حق في التدخل بشؤون المسلمين لو كان هناك منطق او حساب . وكثر النزاع واحتدم الجدال بين القوى الاسلامية وبين القرشيين فخاف سعد ان يفوت الامر من القوم فالتفت إلى ابن عمه عبد الرحمن قائلا له : " يا عبد الرحمن، افرغ من امرك قبل أن يفتتن الناس " . والتفت عبد الرحمن إلى الامام " هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه، وفعل أبي بكر وعمر ؟ " ورمقه الامام بطرفه، وعرف غايته، فاجابه بمنطق الاسلام ، ومنطق الاحرار : " بل على كتاب الله، وسنة رسوله، واجتهاد رأيي.." . ان مصدر التشريع في الاسلام انما هو كتاب الله وسنة نبيه، فعلى ضوئها تعالج مشاكل الرعية، ويسير نظام الدولة، وليس فعل أبي بكر وعمر من مصادر التشريع الاسلامي، على انهما اختلفا أشد الاختلاف في النظم السياسية، فقد انتهج أبوبكر في سياسته المالية منهجا أقرب إلى المساواة من سياسة عمر، فانه الغى المساواة في العطاء، وأوجد نظام الطبقية، فقدم بعض المسلمين على بعض، وشرع حرمة المتعتين متعة الحج ومتعة النساء في حين انهما كانتا مشروعتين في عهد رسول الله (ص) وأبي بكر، وكانت له آراؤه الخاصة في كثير من المجالات التشريعية . فعلى أي المنهجين يسير ابن أبي طالب ربيب الوحي ورائد العدالة الاجتماعية في الاسلام . ان ابن عوف يعلم علما جازما لا يخامره ادنى شك ان الامام لو تقلد زمام الحكم لطبق شريعة الله في الارض، وساس المسلمين سياسة قوامها العدل الخالص، والحق المحض، ولم يمنح الاسر القرشية أي جهة من الامتياز وساوى بينها وبين غيرها في جميع الحقوق والواجبات، فتفوت بذلك مصالح هذه الطبقة التي جنت على الاسلام، وجرت للمسلمين أعظم الويلات والخطوب . إن الامام لو وافق على الالتزام بما شرط عليه ابن عوف لما أمكنه أن يطبق أي منهج من مناهج سياسته الهادفة إلى نشر العدل بين الناس ، ومن المقطوع به ان الامام حتى لو التزم بهذا الشرط ظاهرا لحالت قريش بينه وبين تطبيق أهدافه، ولم تدع له أي مجال لتحقيق العدالة الاجتماعية، ويكون خروجها عليه مشروعا لانه لم يف لها بوعده . وعلى أي حال فان عبد الرحمن لما يئس من تغيير اتجاه الامام انبرى إلى عثمان فشرط عليه ذلك فسارع إلى اجابته، وأظهر استعداده الكامل لكل ما شرطه عليه وفيما أحسب أن هناك اتفاقا سريا بينهما أحيط بكثير من الكتمان، فانه بأي حال لا ينتخب الامام وان اجابه إلى ما شرطه عليه ، وانما طلب منه البيعة لاجل التغطية على مخططاته فاستعمل هذه المناورة السياسية، ويرى بعض المؤرخين من الافرنج إلى أن عبد الرحمن استعمل طريقة المداورة والانتهازية، ولم يترك الانتخاب يجري حرا . يقول المؤرخون : إن عبد الرحمن بادر إلى عثمان فصفق بكفه على يده وقال له : " اللهم اني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان... " . ووقعت هذه المبادرة كصاعقة على القوى الخيرة التي جهدت على أن يسود حكم الله بين المسلمين، وانطلق الامام صوب ابن عوف فخاطبه قائلا : " والله ما فعلتها إلا لانك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم.." (131) . وألقى الامام الاضواء على اختيار عبد الرحمان لعثمان من انه لم يكن من صالح الامة وانما كان وليد الاطماع والاهواء السياسية فقد رجا ابن عوف أن يكون خليفة من بعد عثمان، واتجه الامام صوب القرشيين فقال لهم : " ليس هو أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " . ولذع منطق الامام ابن عوف فراح يهدده . " يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا " . وغادر الامام المظلوم المهتضم قاعة الاجتماع، وهو يقول : " سيبلغ الكتاب أجله " . وانطلق ابن الاسلام البار عمار بن ياسر فخاطب ابن عوف : " يا عبد الرحمان، أما والله لقد تركته، وانه من الذين يقضون بالحق، وبه كانوا يعدلون " . وكان المقداد ممن ذابت نفسه أسى وحزنا، وراح يقول : " تا الله ما رأيت مثل ما اتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم ! ! واعجبا لقريش ! ! لقد تركت رجلا ما أقول : ولا اعلم أن أحدا أقضى بالعدل، ولا اعلم، ولا اتقى منه لو أجد اعوانا " . وقطع عليه عبد الرحمان كلامه وراح يحذره من الفتنة قائلا : " اتق الله يا مقداد فاني خائف عليك الفتنة " . وانتهت بذلك مأساة الشورى التي اخلدت للمسلمين الفتن وألقتهم في شر عظيم، فلم يرع في تأسيسها وتنفيذها بهذا الشكل أي حق للاسرة النبوية، وانما عمد القوم بشكل سافر إلى الغض من شأنها، ومعاملتها معاملة عادية اتسمت بالحقد والكراهية لها، وضاعت بذلك وصايا النبي (ص) في حقها، ولم يعن بما قاله في شأنها : من أنها عديلة الكتاب العظيم ، أو كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق غرق وهوى . لقد شاهد الامام الحسين (ع) وهو في غضارة العمر فصول هذه الشورى، وما أعقبته من انتشار الاطماع السياسية، والتهالك على السلطة بشكل فظيع، مما أدى إلى تشكيل الاحزاب، والتسلح باسباب القوة لاجل الفوز بالحكم والظفر بخيراته يقول الشاعر : إني أرى فتنة هاجت مراجلها * والملك بعد أبي ليل لمن غلبا لقد أصبح الحكم هو الامل المنشود والحلم الذي يداعب جميع الفئات يقول الجهيشاري : لما توفي يزيد بن عبد الملك وأفضي الامر إلى هشام أتاه الخبر وهو في ضيعة له مع جماعة فلما قرأ الكتاب سجد وسجد من كان معه من أصحابه خلا سعيد فانه لم يسجد فأنكر عليه هشام وقال له : - لم لم تسجد ؟ - علام أسجد ؟ اعلى ان كنت معنا فطرت إلى السماء . - إنا طيرناك معنا . - الآن طاب السجود . وسجد معهم (132) ودلت هذه البادرة وامثالها مما ذكره المؤرخون على تهالك ذلك المجتمع على الحكم لا من اجل أن يتخذ وسيلة للصلاح الاجتماعي وتطوير حياة الامة حسب ما يريده الاسلام، وانما من أجل الاطماع والاستعلاء على الناس . وعلى أي حال فان تلك الاحداث المؤلمة قد باعدت ما بين القوم وبين دينهم، وكان لها الاثر الايجابي في هضم العترة الطاهرة، وتعاقب الخطوب المفزعة عليها، ومن بينها كارثة كربلاء الخالدة في دنيا الاحزان، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة الشيخين .
(1) روح الاسلام (ص 292). (2) أثر التشيع في الادب العربي (ص 15). (3) شرح النهج 9 / 22 . (4) فاطمة : هي بنت أسد أم الامام أمير المؤمنين . (5) شرح النهج . (6) معجم ابن الاعرابي 4 / 16. (7) الارشاد (ص 99). (8) الكامل 2 / 222، الطبري 3 / 307. (9) الكامل لابن الاثير 2 / 222. (10) تاريخ ابن الاثير 2 / 224. (11) السنح : محل يبعد عن المدينة بميل، وقيل هو أحد عواليها ، ويبعد عنها بأربعة أميال . (12) شرح النهج لابن أبي الحديد. (13) الكامل 2 / 219. (14) تاريخ الطبري 3 / 62. (15) تاريخ الطبري 3 / 62. (16) النص والاجتهاد (ص 7) . (17) الهاشميات (ص 31 - 33). (18) اثر التشيع في الادب العربي (ص 5). (19) العقد الفريد 3 / 62 . (20) شرح النهج 2 / 8. (21) شرح النههج 2 / 5 . (22) شرح النهج 6 / 8، الموفقيات (ص 80 ) (23) شرح النهج. (24) تاريخ ابن الاثير 2 / 220. (25) شرح النهج 6 / 7 . (26) صحيح البخاري 2 / 362 . (27) شرح النهج 6 / 10 - 11. (28) شرح النهج 6 / 10 - 11. (29) الامامة والسياسة 1 / 4 . (30) علي وبنوه (ص 19). (31) الامامة والسياسة 1 / 11 - 12. (32) سورة الانفال : آية 41 . (33) الكشاف في تفسير آية الخمس . (34) صحيح البخاري 3 / 36، صحيح مسلم 2 / 72. (35) بلاغات النساء (ص 19)، اعلام النساء 3 / 1207، شرح ابن ابي الحديد. (36) الملاءة : الازار. (37) بنو قيلة : هم الآوس والخزرج من الانصار . (38) الجنة - بالضم - ما يستتر به من السلاح . (39) جرتم : أي ملتم. (40) اعلام النساء 3 / 1208، بلاغات النساء (ص 12 - 19). (41) المناقب لابن شهراشوب 2 / 131. (42) البكائون الخمس : آدم ويعقوب، ويوسف، وعلي بن الحسين وفاطمة، جاء ذلك في بحار الانوار 10 / 44 . (43) سنن ابن ماجة (ص 18) المواهب اللدنية للقسطلاني 2 / 382. (44) تاريخ اليعقوبي 2 / 95. (45) مستدرك الحاكم 3 / 162. (46) مناقب ابن شهراشوب 3 / 365. (47) النهج محمد عبده 2 / 207 - 208. (48) شرح النهج 1 / 135 . (49) مروج الذهب المطبوع على هامش ابن الاثير 5 / 135. (50) فتوح البلدان للبلاذري (ص 103) . (51) تاريخ ابن الاثير 2 / 289 . (52) الاصابة 2 / 444 . (53) تاريخ ابن الاثير 2 / 289 . (54) الامام الحسين (ص 191). (55) تاريخ الطبري 2 / 202. (56) شرح النهج 1 / 133 . (57) شرح النهج 1 / 55 . (58) شرح النهج 6 / 343 ط دار احياء الكتب العربية. (59) الامامة والسياسة 1 / 19 . (60) الآداب الشرعية والمنح المرعية 1 / 49. (61) تاريخ الطبري 4 / 52 . (62) الامامة والسياسة 1 / 19، طبقات ابن سعد، تاريخ الطبري . (63) الامامة والسياسة 1 / 20. (64) مروج الذهب 2 / 195 . (65) تاريخ ابن الاثير 2 / 290. (66) شرح النهج 8 / 111. (67) الخراج (ص 242) . (68) شرح النهج 8 / 111 . (69) العصبية القبلية (ص 190). (70) الغلو والفرق الغالية في الحضارة الاسلامية (ص 251) . (71) اتجاهات الشعر العربي (ص 108) . (72) الامام الحسين (ص 232). (73) شرح النهج 1 / 74. (74) البرة : حلقة من صفر توضع في أنف الجمل الشرود فيربق بها جبل يقاد به . (75) شرح النهج 6 / 342. (76) حياة الامام الحسن بن علي 1 / 175. (77) نهج البلاغة 1 / 162. (78) الفتنة الكبرى 1 / 17. (79) نهج البلاغة 9 / 20 - 30 (80) الفتنة الكبرى 1 / 20 . (81) أميمة : ام أبي هريرة . (82) شرح ابن أبي الحديد 3 / 163. (83) الغدير 6 / 275 - 276. (84) فتوح البلدان (ص 384 ) (85) تاريخ الطبري 6 / 114. (86) الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة 3 / 377 . (87) نهج البلاغة الطبعة الاولى 1 / 187. (88) نهج البلاغة 9 / 28 طبع دار احياء الكتب العربية . (89) نهج البلاغة 9 / 54. (90) الغدير 6 / 83 - 333 . (91) الاصابة 1 / 332. (92) الاصابة 1 / 332 . (93) تاريخ ابن عساكر 4 / 321. (94) سورة الاحزاب : آية 70 . (95) شرح نهج البلاغة 12 / 79 - 80. (96) المنمق في اخبار قريش (ص 499 ) (97) من أنصار هذا الرأي الاستاذ العلائلي، وقد نص عليه في سمو المعنى في سمو الذات (ص 31)، الطبعة الثانية. (98) تاريخ ابن الاثير 3 / 33 . (99) شرح النهج 12 / 185 . (100) الموطأ 2 / 12 . (101) شرح النهج. (102) مروج الذهب 2 / 212 (103) الصفاق : الجلد الاسفل الذي تحت الجلد . (104) شرح النهج 12 / 185 . (105) شرح النهج 12 / 187 . (106) الامامة والسياسة 1 / 21، الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة 2 / 461. (107) شرح النهج 12 / 188. (108) مروج الذهب 2 / 217. (109) شرح النهج 12 / 192 . (110) شرح النهج 12 / 193 (111) شرح النهج 12 / 190. (112) شرح النهج 12 / 260 . (113) الكامل لابن الاثير 3 / 35 . (114) سورة الاحزاب : آية 53. (115) شرح النهج 12 / 159. (116) الامامة والسياسة 1 / 24. (117) الوعق : الضجر المتبرم، اللقس : من لا يستقيم على وجه. (118) وائيا : غاضبا . (119) المشاقص : جمع مشقص وهو نصل السهم. (120) المقنب : جماعة الخيل. (121) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 185 - 186 الطبعة الاولى. (122) نهج البلاغة 12 / 82 . (123) الامامة والسياسة 1 / 24. (124) شرح النهج 3 / 99. (125) الطبري 5 / 35. (126) الامام الحسين 1 / 267. (127) العقد الفريد 3 / 73 - 74. (128) تاريخ ابن الاثير . (129) نهج البلاغة محمد عبده 25 / 31. (130) الاستيعاب 2 / 375. (131) منشم - بكسر الشين - اسم امرأة بمكة كانت عطارة، وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها، فاذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم، فكان يقال : " أشأم من عطر منشم " جاء ذلك في صحاح الجوهري 5 / 2041، وقد استجاب الله دعاء الامام فكانت بين عثمان و عبد الرحمن أشد المنافرة والخصومة، وقد أوصى ابن عوف ان لا يصلي عليه عثمان بعد موته. (132) الوزراء والكتاب (ص 59). |