حكومة عثمان
واستقبل المسلمون خلافة عثمان بكثير من القلق والوجوم والاضطراب وفزعت القوى الخيرة، وخافت على دينها، واعتبرت فوز الامويين بالحكم انتصارا للقوى المناهضة للاسلام، ويرى (دوزي) ان انتصار الامويين انما هو انتصار للجماعة التي كانت تضمر العداء للاسلام (1) . وتحقق ما خشيه المسلمون وخافوه فانه لم يمض قليل من الوقت حتى جهدت حكومة عثمان على مملاة القرشيين، ومصانعة الوجوه والاعيان ، ومنحهم الامتيازات الخاصة وتسليطهم على فئ المسلمين وخراجهم، والتلاعب باقتصاد الدولة، ومنح الوظائف العالية لبني أمية وآل أبي معيط، وغيرهم من الذين يرجون لله وقارا حتى سادت الفوضى وعمت الفتن جميع أرجاء البلاد . وعلى أي حال فان عثمان حينما فرضه ابن عوف خليفة على المسلمين حفت به بنو أمية وسائر القبائل القرشية، وهم يعلنون الدعم الكامل لحكومته، ويهتفون بحياته، وجاءوا به يزفون إلى مسجد رسول الله (ص) ليعلن سياسة دولته وموقفها تجاه القضايا الداخلية والخارجية، واعتلى أعواد المنبر فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله (ص) ولم يجلس فيه أبو بكر ولا عمر، وانما كان يجلس أبوبكر دونه بمرقاة، وعمر كان يجلس دونه بمرقاة، وتكلم الناس في ذلك فقال بعضهم : " اليوم ولد الشر " (2). واتجهت الناس بقلوبها ومشاعرها لتسمع الخطاب السياسي الذي يلقيه عثمان إلا انه حينما نظر إلى الجماهير ارتج عليه، فلم يدر ما يقول : وجهد نفسه فتكلم بهذه الكلمات المضطربة التي لم تلق أي أضواء على سياسته فقد قال : " أما بعد : فان أول مركب صعب، وما كنا خطباء، وسيعلم الله وان أمرءا ليس بينه وبين آدم إلا أب ميت لموعوظ... " (3). ونزل عن المنبر، وهو وجل القلب، مصفر الوجه، فجعل الناس ينظر بعضهم إلى بعض وهم يهزؤن ويسخرون... ولابد لنا من الالمام بمظاهر شخصيته والوقوف على اتجاهاته السياسية، كما لابد من التأمل في الاحداث التي رافقت حكومته والتي كان لها التأثير المباشر في كثير من الفتن والخطوب التي مني بها العالم الاسلامي، ونحن لا نجد بدا من عرض ذلك لان دراسة هذه الاحداث تلقى الاضواء على حياة الامام الحسين (ع) ويكشف لنا كثيرا من جوانب كارثة كربلاء التي جاءت نتيجة حتمية لتلك الاحداث التي لعبت دورها الخطير في تغيير مناجي العقيدة الاسلامية . مظاهر شخصيته : أما المظاهر الكاشفة عن ابعاد شخصية عثمان، والمحددة لذاتياته فأهمها ما يلي : 1 - إنه كان ضعيف الارادة خائر العزيمة، فلم تكن له أية شخصية قوية متماسكة يستطيع بها أن يفرض آراءه وارادته، كما لم تكن له أية قدرة على مواجهة الاحداث والتغلب عليها، قد اخذ الامويون بزمامه ، واستولوا على جميع مقدرات حكومته، فلم يستطع أن يقف موقفا ايجابيا يتسم بالصلابة ضد رغباتهم، وأهوائهم، فكان بالنسبة اليهم - فيما يقول بعض المؤرخين - كالميت في يد الغاسل، وكان الذي يدير شؤون دولته مروان بن الحكم، فهو الذي يعطي ما يشاء، ويمنع من يشاء ويتصرف في مقدرات الامة حسب ميوله من دون ان يعني بأحكام الاسلام، ولا رأي لعثمان، ولا اختيار له في جميع الاحداث التي تواجه حكومته، فقد وثق بمروان واعتمد عليه، وأناط به جميع شؤون الدولة، يقول ابن أبي الحديد نقلا عن بعض مشايخه : ان الخليفة في الحقيقة والواقع انما كان مروان وعثمان له اسم الخلافة . ان قوة الارادة لها الاثر التام في تكوين الشخصية واستقامتها، فهي تكسب الشخص قوة ذاتية يستطيع أن يقف بحزم أمام التيارات والاعاصير التي تواجهه في هذه الحياة، ومن المستحيل أن يحقق الشخص أي هدف لامته ووطنه من دون أن تتوفر فيه هذه النزعة، وقد منع الاسلام منعا باتا أن يتولى ضعيف الارادة قيادة الامة، وحظر عليه مزاولة الحكم لانه يعرض البلاد للويلات والخطوب، ويغري ذوي القوى بالتمرد والخروج من الطاعة، وتمنى الامة بالازمات والاخطار . ووصفه بعض المؤرخين بالرأفة والرقة واللين والتسامح إلا أن ذلك كان مع أسرته وذويه أما مع الجبهة المعارضة لحكومته فقد كان شديد القسوة ، فقد بالغ في ارهاقهم وأضطهادهم، وقابلهم بمزيد من العسف والعنف ، فنفى أبا ذر من يثرب إلى الربذة، وفرض عليه الاقامة الجبرية في مكان انعدمت فيه جميع وسائل الحياة، حتى مات طريدا غريبا، ونكل بالصحابي العظيم عمار بن ياسر فأمر بضربه حتى أصابه فتق، وألقته شرطته في الطريق مغمى عليه، واوعز إلى شرطته بضرب القارئ الكبير عبد الله بن مسعود فالهبت جسمه سياطهم وألقوه في الطريق بعد أن هشموا بعض أضلاعه ، وحرم عليه عطاءه، وهكذا اشتد في القسوة مع اعلام المعارضة . نعم كان شديد الرأفة والرقة بارحامه من بني امية وآل أبي معيط ، فمنحهم خيرات البلاد، وحملهم على رقاب الناس، واسند اليهم جميع المناصب الحساسة في الدولة . 2 - وظاهرة ثانية من نزعات عثمان هو انه كان شديد القبلية فقد أترعت نفسه بالعواطف الجياشة تجاه قبيلته، حتى تمنى أن تكون مفاتيح الفردوس بيده ليهبها لبني أمية، وقد آثرهم بالفئ، ومنحهم الثراء العريض، ووهبهم الملايين من أموال الدولة، وجعلهم ولاة على الاقطار والاقاليم الاسلامية وكانت تتواتر لديه الاخبار بانهم جانبوا الحق وظلموا الرعية، وأشاعوا الفساد في الارض فلم يعن بذلك ولم يفتح معهم أي لون من ألوان التحقيق ورد الشكاوى الموجهة ضدهم، وسنعرض لذلك بمزيد من التفصيل . 3 - والظاهر الثالثة من نزعات عثمان هو انه كان يميل إلى الترف والبذخ، ولم يعن ببساطة العيش والزهد في الدنيا كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله ففتنن بالبذخ والترف فاتخذ القصور، واصطفى لنفسه ما شاء من بيت المال واحاط نفسه بالثراء العريض من دون ان يتحرج في ذلك، ووصفه الامام أمير المؤمنين (ع) بقوله : " نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه " وكان ذلك من موجبات النقمة عليه، وسنتحدث عن هذه الظاهرة بمزيد من التفصيل عند البحث عن سياسته المالية . هذه بعض نزعات عثمان، وقد أوجبت اخفاقه وفشله في الميادين السياسية، واذاعة التذمر والنقمة عليه . نظمه الادارية: أما النظم الادارية السائدة في حكومة عثمان فانها كانت تعني بمملاة القرشيين، ومصانعة الوجوه والاعيان، والتسامح واللين مع ذوي النفوذ والقوة، والغض عما يقترفون من المخالفات القانونية، فقد تعمد عبيدالله ابن عمر جريمة القتل، فقتل بغير حق الهرمزان وجفينة، وبنت أبي لؤلؤة وقد أقفل معه عثمان سير التحقيق، وأصدر مرسوما خاصا بالعفو عنه مملاة لاسرة عمر، وقد قوبل هذا الاجراء بمزيد من الانكار، فقد اندفع الامام امير المؤمنين إلى الانكار عليه، وطالبه بالقود من ابن عمر، وكذلك طالبه المقداد، ولكن عثمان لم يعن بذلك، وكان زياد بن لبيد اذا لقى عبيدالله يقول له : ألا يا عبيد الله مالك مهرب * ولا ملجأ من ابن اروى ولا خفر أصبت دما والله في غير حله * حراما وقتل الهرمزان له خطر على غير شئ غير أن قال قائل * أتتهمون الهرمزان على عمر فقال سفيه :والحوادث جمة * نعم أتهمه قد أشار وقد أمر وكان سلاح العبد في جوف بيته * يقلبه والامر بالامر يعتبر وشكا عبيدالله إلى عثمان فدعا زيادا فنهاه عن ذلك الا انه لم ينته وتناول عثمانا بالنقد فقال فيه : أبا عمرو عبيدالله رهن * - فلا تشكك - بقتل الهرمزان فاتك ان غفرت الجرم عنه * وأسباب الخطا فرسا رهان لتعفو اذ عفوت بغير حق * فما لك بالذي تخلي يدان وغضب عثمان على زياد فنهاه، وحذره العقوبة حتى انتهى (4) ، وأخرج عبيدالله من يثرب إلى الكوفة، وأقطعه بها أرضا، فنسب الموضع اليه فقيل : " كوفية ابن عمر " وقد أثارت هذه البادرة عليه نقمة الاخيار والمتحرجين في دينهم، فقد رأووا أن الخليفة عمد بغير وجه مشروع إلى تعطيل حدود الله، ارضاءا لعواطف آل الخطاب وكسبا لودهم . وعلى أي حال فان النظم الادارية السائدة في أيام عثمان كانت خاضعة لمشيئة الامويين ورغباتهم، ولم تسر على ضوء الكتاب والسنة، فقد عمد الامويون جاهدين إلى العبث بمقدرات الامة، واشاعة الجور في البلاد ، ويرى كرد علي أن غلطات عثمان الادارية كانت من أهم الاسباب في قتله (5) . ولاته وعماله : وعمد عثمان إلى فرض أسرته وذوي قرباه على الامة فجعلهم ولاة وحكاما على الاقاليم الاسلامية يقول المقريزي : " وجعل عثمان بن أمية أوتاد خلافته " (6) . ولم تتوفر فيهم المقدرة الادارية أو القابلية على تحمل مسؤولية الحكم فعرضوا البلاد للويلات وأشاعوا فيها الفساد والجور، ويقول المؤرخون : إنه شجع عماله على الاستفادة من بيت المال فأبو موسى الاشعري سمع لاحد عماله بالتجارة في أقوات أهل العراق (7) ويرى السيد مير علي أن المسلمين تذمروا من استبداد الحكام واغتصابهم الاموال (8) وفيما يلي بعض عماله : 1 - سعيد بن العاص : واسند عثمان ولاية الكوفة إلى سعيد بن العاص فولاه أمر هذا القطر العظيم بعد عزله الوليد بن عقبة لاقترافه جريمة شرب الخمر، وقد استقبل الكوفيون واليهم الجديد بالكراهية وعدم الرضا لانه كان شابا مترفا متهورا لا يتحرج من المنكر، يقول المؤرخون : إنه قال مرة في رمضان من رأى منكم الهلال ؟ فقام الصحابي العظيم هاشم بن عتبة المرقال فقال : " أنا رأيته " فلم يعن به وإنما وجه اليه منكر القول وأقساه قائلا : " بعينك هذه العوراء رأيته ؟ ! " . فالتاع هاشم وانبرى منكر عليه قائلا : " تعيرني بعيني، وانما فقئت في سبيل الله، وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك " . وأصبح هاشم مفطرا، عملا بقول رسول الله (ص) : " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته " وفطر الناس لافطاره، وانتهى الخبر إلى سعيد فارسل اليه وضربه ضربا مبرحا، وحرق داره، وقد أثار ذلك حفائظ النفوس ونقم عليه الناس لانه اعتدى بغير حق على علم من أعلام الجهاد في الاسلام (9) . وكان سعيد في منتهى الطيش والغرور فقد أثر عنه أنه قال : " انما السواد - يعني سواد الكوفة - بستان لقريش " وأثار ذلك عليه موجة من الغضب والاستياء فقد اندفع زعيم الاحرار مالك الاشتر رادا عليه قائلا : " أتجعل مراكز رماحنا، وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك ؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه " . وهكذا اتخذ الحكم المنحرف الذي فرض على الامة بقوة السيوف خيرات المجتمع بستانا لقريش التي ناهضت الاسلام وناجزته الحرب . وانضم قراء المصر وفقهاؤهم إلى الزعيم مالك مؤيدين مقالته ومنكرين على الوالي غروره وطيشه، وغضب مدير شرطة سعيد فرد عليهم ردا غليظا، فبادروا اليه فضربوه ضربا عنيفا حتى أغمي عليه، وقاموا من مجلسه وأطلقوا ألسنتهم بنقده، وذكر مثالب عثمان وسيئاته، وأخذوا يذيعون سيئات قريش وجرائم بني امية، ورفع سعيد من فوره رسالة إلى عثمان أخبره فيها بشأن القوم، فاجابه عثمان بان ينفيهم إلى الشام، وكتب في نفس الوقت رسالة إلى معاوية يأمره فيها باستصلاحهم . ولم يرتكب هؤلاء الاحرار اثما أو فسادا، ولم يقترفوا جرما حتى يقابلوا بالاضطهاد والنفي، وانما نقدوا أميرهم لانه قال غير الحق، وشذ عن الطريق القويم، وقد منح الاسلام الحرية التامة لنقد الحاكمين والمسؤولين اذا شذوا في سلوكهم، وجاروا على رعيتهم، وجعل هذه الحرية حقا ذاتيا لكل مواطن، والزم الدولة برعايتها وتوفيرها للناس . وعلى أي حال فقد قامت السلطة باخراجهم بالعنف والقهر من أوطانهم وأرسلتهم إلى الشام فتلقاهم معاوية، وأمر بانزالهم في كنيسة، وأجرى لهم بعض الرزق، وجعل يناظرهم، ويعظهم، ويحبذ لهم مسالمة السلطة والرضا بسياستها إلا انهم لم يستجيبوا له، وأنكروا عليه ما قاله سعيد : من أن السواد بستان لقريش، معلنين على أنه لا ميزة للقابل القرشية على غيرها حتى تختص بخيرات البلاد . ولما يئس منهم معاوية كتب إلى عثمان يستعفيه من بقائهم في الشام خوفا من أن يفسدوا أهلها عليه، فاعفاه عثمان، وأمره بردهم إلى الكوفة فلما عادوا اليها انطلقت السنتهم بالنقد في ذكر مثالب الامويين ومساوئهم ورفع سعيد أمرهم إلى عثمان ثانيا فأمره بنفيهم عن وطنهم إلى حمص والجزيرة، فأخرجهم من وطنهم إلى حمص، فقابلهم واليها عبد الرحمان ابن خالد بأعنف القول وأقساه، وسامهم سوء العذاب وأمعن في ارهاقهم والتنكيل بهم، فكان فيما يقول الرواة : اذا ركب أمر بهم ليسيروا حول ركابه مبالغة في اذلالهم واحتقارهم، ولما رأوا تلك القسوة أظهروا الطاعة والاذعان للسلطة، وكتب إلى عثمان في شأنهم، فاجابه إلى ذلك، وأمره بردهم إلى الكوفة، ولما نزحوا عن حمص جعلوا طريقهم إلى يثرب لمقابلة عثمان، فلما انتهوا اليها قابلوه، وعرضوا عليه ما عانوه من التنكيل والارهاق، ولم يلبثوا قليلا حتى فاجأهم سعيد، فقد جاء في مهمة رسمية إلى عثمان فوجد القوم عنده يشكونه، ويسألونه عزله، إلا انه أعرض عنهم ولم يستجب لهم، وألزمهم بالانصياع إلى أوامر واليهم، كما أمره أن يرجع ويزاول عمله، وقفل القوم قبله راجعين إلى مصرهم، وقد سبقوه اليه ، فقاموا باحتلاله، وأقسموا أن لا يدخله سعيد ما حملوا سيوفهم، ثم خرجوا في جماعة مسلحين بقيادة الزعيم مالك الاشتر حتى انتهوا إلى (الجرعة) فرابطوا فيها ليحولوا بين سعيد وبين دخوله إلى الكوفة، وأقبل سعيد فقاموا اليه، وعنفوه اشد العنف، وحرموا عليه دخول مصرهم، فولى منهزما إلى عثمان يشكوهم اليه، ولم يجد عثمان بدا من عزله، فعزله وولى غيره مكانه على كره منه (10) . وعلى أي حال فان عثمان قد نكل بالناقدين لسعيد بن العاص، وهم قراء المصر وفقهاؤه : ونفاهم عن أوطانهم من أجل شاب طائش متهور لانه من اسرته وذويه، وكان ذلك من موجبات النقمة عليه لا في الكوفة وانما في جميع الاقاليم الاسلامية التي انتهى اليها أمرهم . 2 - عبد الله بن عامر : و عبد الله بن عامر بن كريز هو ابن خال عثمان وقد ولاه امارة البصرة بعد أن عزل عنها أبا موسى الاشعري، وكان عمره أربعا أو خمسا وعشرين سنة (11)، وقد اختاره لولاية هذا المصر العظيم، وكان الاولى ان يختار له من ثقاة الصحابة، وخيارهم لتستفيد الناس من هديه وصلاحه وتقواه، وتستمد منه الخير والرشاد، ولكنه لم يعن بذلك وانما عمد إلى ولايته لانه ابن خاله، وقد سار فيما يقول الرواة سيرة ترف وبذخ، فكان ولاجا خراجا، كما وصفه الاشعري (12) فهو اول من لبس الخز في البصرة وقد لبس جبة حمراء (13) وقد انكر عليه سياسته وسيرته عامر بن عبد الله التميمي كما عاب على عثمان سلوكه وسيرته، وقد روى الطبري انه اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان، فاجتمع رأيهم ان يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره باحداثه، واختاروا عامر بن عبد الله لمقابلته، ولما التقى به قال له : " إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما فاتق الله عزوجل، وتب اليه، وانزع عنها... " . فاحتقره عثمان، واعرض عنه، وقال لمن حوله : " انظروا إلى هذا فان الناس يزعمون انه قارئ، ثم هو يجئ فيكلمني في المحقرات، فوالله ما يدري اين الله ؟ " . وما هي المحقرات التي كلمه بها ؟ إنه لم يكلمه الا بتقوى الله والعدل في الرعية، وايثار مصلحة المسلمين، واتباع سيرة النبي (ص) ولكن عثمان شق عليه ذلك، واعتبر نصيحته من المحقرات . والتفت اليه عامر فقال ساخرا منه : " أنا لا ادري اين الله ؟ " . " نعم " . " إني لادري ان الله بالمرصاد " . وغضب عثمان فارسل إلى مستشاريه وعماله فعرض عليهم نقمة المعارضين له، ونقل لهم حديث عامر معه، وطلب منهم الرأي في ذلك، فاشار عليه ابن خاله عبد الله بن عامر قائلا : " رأي لك يا أمير المؤمنين ان تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وان تجمهرهم في المغازي حتى يذلوا لك، فلا يكون همة احدهم الا نفسه ، وما هو فيه من دبر دابته، وقمل فروته.." . وأشار عليه آخرون بخلاف ذلك إلا انه استجاب لرأي عبد الله الداعي إلى مقابلة الناقمين عليه بالعسف والعنف، ورد عماله، وأمرهم بالتضييق على المعارضين له، كما أمرهم بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم عطائهم حتى يشيع الفقر والبؤس فيهم فيضطروا إلى طاعته (14) . ولما قفل عبد الله بن عامر إلى البصرة عمد إلى التنكيل بعامر بن عبد الله وأوعز إلى عملائه أن يشهدوا عليه شهادة زور وبهتان بأنه قد خالف المسلمين في أمور أحلها الله، وأنه لا يأكل اللحم، ولا يرى الزواج ولا يشهد الجمعة (15) ودون شهادتهم بذلك، ورفعها إلى عثمان فأمره بنفيه إلى الشام، وحمله على قتب حتى يشق عليه السفر، ولما انتهى إلى الشام انزله معاوية (الخضراء) وبعث اليه بجارية لتكون عينا عليه، وتنقل له اخباره وشؤونه، وأشرفت عليه الجارية فرأته يقوم في الليل متعبدا ، ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة، ولا يتناول من طعام معاوية شيئا، وكان يتناول كسرا من الخبز ويجعلها في الماء تحرجا من أن يدخل جوفه شئ من الحرام، وانبرت الجارية فأخبرت معاوية بشأنه، فكتب إلى عثمان بأمره فاوعز اليه بصلته (16) . وقد نقم المسلمون على عثمان، وعابوا عليه ما ارتكبه في شأن هذا الرجل الصالح الذي أمره بتقوى الله والعدل في الرعية . وظل عبد الله بن عامر واليا على البصرة يسير فيها بسيرة لم يألفها المسلمون فلم يتحرج عن الاثم والبغي والاعتداء، ولما قتل عثمان نهب ما في بيت المال وسار إلى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضم اليهم ، وأمدهم بالاموال ليستعينوا بها على مناجزة الامام أمير المؤمنين، وهو الذي أشار عليهم بالنزوح إلى البصرة، والانصراف عن الشام (17). 3 - الوليد بن عقبة : وعهد عثمان بولاية الكوفة إلى الوليد بن عقبة بعد أن عزل عنها سعد ابن أبي وقاص الزهري، وأجمع المؤرخون على أنه كان من فساق بني أمية ومن أكثرهم مجونا، وانحرافا عن الاسلام وهو ممن أخبر النبي (ص) بانه من أهل النار (18) وكان أبوه عقبة من ألد أعداء رسول الله (ص) فكان يأتي بالفروث فيطرحه على بابه (19) وقد بصق في وجه النبي (ص) فهدده (ص) بانه إن وجده خارجا من جبال مكة يأمر بضرب عنقه ، فلما كانت واقعة بدر امتنع من الخروج فأصر عليه أصحابه بالخروج معهم فأخبرهم بمقالة النبي (ص) له، فاغروه وخدعوه، وقالوا له : لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه فاستجاب لهم، وخرج لحرب رسول الله (ص) فلما هزم الله المشركين حمل به جمله في جدود من الارض فأخذه المسلمون، وجاءوا به أسيرا، فأمر عليا بضرب عنقه ، فقال اليه وقتله (20) وقد اترعت نفس الوليد بالحقد على النبي لانه قد وتره بأبيه، وقد أسلم مع من أسلم من كفار قريش خوفا من حد السيف الذي نزع روح أبيه . وقد لقبه القرآن الكريم بالفاسق، ويقول المؤرخون والمفسرون : إنه نزلت آيتان في فسقه : " الاولى " : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " (21) وكان سبب نزول هذه الآية ان النبي (ص) أرسله إلى بني المصطلق لاخذ الصدقة فعاد اليه وأخبره بانهم منعوه عنها فخرج (ص) اليهم غازيا فتبين له كذبه ونزلت الآية معلنة فسقه . " الثانية " : قوله تعالى : " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا " (22) وسبب نزولها أنه جرت مشادة بينه وبين الامام أمير المؤمنين (ع) فقال له الوليد : اسكت فانك صبي وأنا شيخ، والله اني أبسط منك لسانا، وأحد منك سنانا، وأشجع منك جنانا، وأملا منك حشوا في الكتيبة، فقال له علي : اسكت فانك فاسق، فانزل الله فيهما هذه الآية، ونظم الحادثة حسان بن ثابت بقوله : أنزل الله والكتاب عزيز * في علي وفي الوليد قرانا فتبوا الوليد من ذاك فسقا * وعلي مبؤ إيمانا ليس من كان مؤمنا عرف الله * كمن كان فاسقا خوانا فعلي يلقى لدى الله عزا * ووليد يلقى هناك هوانا سوف يجزى الوليد خزيا ونارا * وعلي لا شك يجزى جنانا(23) ولما عهد اليه عثمان بولاية الكوفة كان يشرب الخمر جهارا، وقد دخل قصره وهو ثمل يتمثل بأبيات لتأبط شرا . ولست بعيدا عن مدام وقينة * ولا بصفا صلد عن الخير معزل ولكن أروي من الخمر هامتي * وأمشى الملا بالساحب المتسلسل (24) ويقول الرواة : إنه كان يستمع إلى الغناء ويظل يسمر مع ندمائه ومغنيه سكرانا من أول الليل إلى الصباح، وكان يؤثر بمنادمته صديقا له من نصارى تغلب هو أبوزبيد الطائي، وقد انزله دارا على باب المسجد ثم وهبها له فكان الطائي يخرج من منزله حتى يشق الجامع اليه فيسمر عنده ويشرب فيشق المسجد وهو سكران (25) ويقول المؤرخون : إنه شرب الخمر فصلى بالناس وهو ثمل صلاة الصبح أربع ركعات، وصار يقول في ركوعه وسجوده : اشرب واسقني، ثم قاء في المحراب وسلم، وقال للمصلين خلفه : هل أزيدكم ؟ فقال له ابن مسعود : لا زادك الله خيرا، ولا من بعثك إلينا، وأخذ فروة نعله، وضرب بها وجهه، وحصبه الناس فدخل القصر، والحصباء تأخذه، وهو ثمل مترنح(26) وفي فضائحه ومخازيه يقول الحطيئة جرول بن اوس العبسي : شهد الحطيئة يوم يلقى ربه * ان الوليد أحق بالغدر نادى وقد تمت صلاتهم * أأزيدكم ؟ ثملا ولا يدرى ليزيدهم خيرا ولو قبلوا * منه ازادهم على عشر فأبوا أبا وهب ولو فعلوا * لقرنت بين الشفع والوتر حبسوا عنانك إذ جريت * ولو خلوا عنانك لم تزل تجري(27) ويقول فيه الحطيئة مرة اخرى : تكلم في الصلاة وزاد فيها * علانية وجاهر بالنفاق ومج الخمر عن سنن المصلي * ونادى والجميع إلى افتراق أأزيدكم على أن تحمدوني * فما لكم ومالي من خلاق(28) وأسرع جماعة من خيار الكوفيين وصلحائهم إلى يثرب يشكون الوليد إلى عثمان، وقد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه في حالة سكره ، ولما قابلوا عثمان، وشهدوا عنده بما رأوه من شرب الوليد للخمر، زجرهم عثمان، وقال لهم : " ما يدريكم أنه شرب الخمر ؟ " . " هي الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية " . وأعطوه خاتمه الذي انتزعوه منه في حال سكره لتأييد شهادتهم ، وغضب عثمان، وقام فدفع في صدورهم، وقابلهم باخبث القول، وأقساه فخرجوا منه وقد ملك الذعر إهابهم وانطلقوا إلى الامام أمير المؤمنين ، وأخبروه بما ألم بهم فانبرى الامام إلى عثمان، فقال له : " دفعت الشهود وأبطلت الحدود ؟ " . وهدأ عثمان، وخاف من عواقب الامور فاتجه نحو الامام قائلا بصوت خافت : " ما ترى ؟ " . " أرى ان تبعث إلى صاحبك، فان أقاما الشهادة في وجهه، ولم يدل بحجة أقمت عليه الحد... " . ولم يجد عثمان بدا من الاذعان لقول الامام فكتب إلى الوليد يأمره بالشخوص اليه ولما وصلت إلى الوليد رسالة عثمان نزح من الكوفة إلى يثرب ولما مثل بين يدي عثمان دعا بالشهود فاقاموا عليه الشهادة فلم يدل باية حجة، وبذلك خضع لاقامة الحد، ولم ينبر اليه أحد لاقامة الحد عليه خوفا من عثمان، فقام الامام أمير المؤمنين (ع) ودنا منه فسبه الوليد وقال : " يا صاحب مكس " (29) وقام اليه عقيل فرد سبه، وجعل الوليد يروغ عن الامام فاجتذبه، وضرب به الارض، وعلاه بالسوط ، وتميز عثمان غيظا وغضبا فصاح بالامام . " ليس لك أن تفعل به هذا " . فاجابه الامام بمنطق الشرع قائلا : " بلى وشر من هذا اذا فسق، ومنع حق الله أن يؤخذ منه " (30) . ودلت هذه البادرة على تهاون عثمان بحدود الله، وعدم اكتراثه باقامتها، وعلق الاستاذ العلائلي على هذه البادرة بقوله : " هذه القصة تضع بين أيدينا شيئا جديدا غير العطاء الذي يرجع إلى مكان العاطفة تضع بين أيدينا صورة من الاغضاء عن مجاوزة السلطة للقانون والاغضاء في واقعة دينية، بحيث يجب على الخليفة أن يكون أول من يغار عليها، وإلا هدد مكانه وافسح للناس مجال التقول والتجريح، وبالاخص حين جاءت حكومته عقيب حكومة عمر التي عرفت بالشدة فيما يتعلق بالحدود الدينية حتى لو كان من أقرب ذوي القربى . إذن فهذه المبالغة في الاغضاء والصفح والمجاوزة لا ترجع إلى مكان العاطفة وحدها ان كانت بل إلى الحزبية أيضا حتى تتناصر مجتمعة... " (31) . وعلى أي حال فان الوليد قد ترك أثرا سيئا في الكوفة فقد تأثرت بمجونه فكانت سيرته نقطة تحول في هذه المدينة - التي كانت تضم الصحابة والتابعين - إلى مدينة المجان واللاهين، فقد أعزى الوليد الناس إلى الاندفاع نحو المتع واللهو، واسست في الكوفة دور للغناء والطرب، وانتشر فيها المجان، وكان من المغنين فيها عبد الله بن هلال الذي لقب بصاحب ابليس (32) وحنين الخيري الشاعر النصراني (33) . 4 - عبد الله بن سعد : واستعمل عثمان أخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر فجعل بيده صلاته وخراجه(34) وكان من اخطر المشركين، وأكثرهم عداءا للنبي (ص) وسخرية منه، وكان يقول مستهزءا بالنبي (ص) : إني أصرفه حيث أريد، وقد أهدر النبي دمه، وإن وجد متعلقا بأستار الكعبة، وقد هرب بعد فتح مكة فاستجار بعثمان فغيبه، وبعدما اطمأن أهل مكة أتى به عثمان إلى النبي، فصمت (ص) طويلا ثم آمنه وعفا عنه، فلما انصرف عثمان التفت النبي إلى أصحابه، قال لهم : ما صمت إلا ليقوم اليه بعضكم ليضرف عنقه، فقال له رجل من الانصار : هلا أومأت الي يا رسول الله ؟ فقال : إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الاعين (35) . ولما ولي عبد الله مصر ساس المصرين سياسة عنف وجور وكلفهم فوق ما يطيقون، وأظهر الكبرياء والجبروت، فضجروا منه، فخف خيارهم إلى عثمان يشكونه اليه، فبعث اليه رسالة يستنكر فيها سيرته وسياسته في القطر، ولم يستجب ابن أبي سرح لعثمان، وراح مصرا على غيه واعتدائه على الناس، وعمد إلى من شكاه لعثمان فقلته، وشاع التذمر والسخط عليه فتشكل وفد كبير من المصريين وكان عددهم فيما يقول الرواة : سبع مائة شخص فخفوا إلى عثمان، وقد نزلوا في الجامع وشكوا إلى الصحابة ما صنع بهم ابن أبي سرح فانبرى طلحة إلى عثمان فكلمه بكلام قاسي، وارسلت اليه عائشة تطالبه بانصاف القوم، وكلمه الامام أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : " إنما يسألك القوم رجلا مكان رجل، وقد ادعوا قبله دما ، فاعزله عنهم واقض بينهم، فان وجب عليه حق فانصفهم منه... " . واستجاب - على كره - للقوم، وقال لهم : " اختاروا رجلا أوليه عليكم مكانه " فاشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فكتب عهده إلى مصر ووجه معه عدة من المهاجرين والانصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن ابي سرح (36) ونزحوا عن المدينة فلما بلغوا إلى الموضع المعروف ( بحمس) واذا بقادم من يثرب تأملوه فاذاهو ورش غلام عثمان فتفحصوا عنه، وفتشوه واذا به يحمل رسالة من عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره فيها بالتنكيل بالقوم، وتأملوا في الكتاب فاذا به بخط مروان فقفلوا راجعين إلى يثرب وقد صمموا على خلع عثمان أو قتله (37) . 5 - معاوية بن أبي سفيان : لم يستعمل عثمان معاوية على الشام واليا وانما استعمله عمر وأقره عثمان عليها ولكنه زاد في نفوذه وبسط في سلطانه، ومهد له الطريق في نقل الخلافة الاسلامية اليه يقول طه حسين : " وليس من شك في أن عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما اتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان، وتثبيتها في بني أمية فعثمان هو الذي وسع على معاوية في الولاية فضم اليه فلسطين وحمص وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الارجاء، وجمع له قيادة الاجناد الاربعة، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين، ثم مد له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر، وأطلق يده في أمور الشام أكثر مما أطلقها عمر. فلما كانت الفتنة نظر معاوية فاذا هو أبعد الامراء بالولاية عهدا، وأقواهم جندا، وأملكهم لقلب الرعية " (38) . ان عثمان هو الذي مد في سلطان معاوية، وزاد في سعة ولايته ، وبسط له النفوذ حتى كان من أقوى الولاة، وأعظمهم نفوذا، وأصبح قطره من أهم الاقطار الاسلامية وأمنعها، وأكثرها هدوءا واستقرارا . هؤلاء بعض ولاة عثمان، وكلهم من بني أمية وآل أبي معيط، ولم يمنحهم الحكم إلا إثرة ومحاباة، وتقوية لنفوذ الامويين وحملهم على رقاب المسلمين، وقد علق السيد مير علي الهندي على ولاة عثمان بقوله : " كان هؤلاء هم رجال الخليفة المفضلين، وقد تعلقوا بالولايات كالعقبان الجائعة، فجعلوا ينهشونها، ويكدسون الثروات منها بوسائل الارهاق التي لا ترحم " (39) . سياسته المالية : لم تكن سياسة عثمان المالية إلا امتدادا لسياسة عمر (40)، فليس لعثمان منهج خاص في السياسة المالية سوى الذي سنة عمر، من ايجاد الطبقية وتقديم بعض الناس على بعض في العطاء، وقد شذت هذه السياسة عما فتنه الاسلام من لزوم المساواة ووجوب الانفاق على المرافق العامة، واصلاح الحياة الاقتصادية ومكافحة الفقر، والقيام باعالة الضعيف والمحتاج، وليس لولاة الامور أن يصطفوا منها أي شئ، وليس لهم أن يمنحوها لدعم حكمهم وسلطانهم وقد تحرج الاسلام في ذلك أشد الحرج يقول رسول الله صلى الله عليه وآله : " إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة " (41) وكتب الامام أمير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الارض إلى قثم بن العباس عامله على مكة كتابا القى فيه الاضواء على السياسة المالية التي انتهجها الاسلام وهذا نصه : " انظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيبا به مواضع الفاقة والخلات، وما فضل عن ذلك فاحمله الينا لنقسمه فيمن قبلنا " (42) . هذا هو اتجاه الاسلام في أموال الدولة فهو يلزم ولاة الامور بانفاقها على مواضع الفاقة والمحتاجين لئلا يبقى بائس أو محروم في البلاد، ولكن عثمان لم يعن بذلك، وانما انفق الاموال العامة على الاشراف والوجوه وبني أمية وآل أبي معيط، فتكدست عندهم الاموال وحاروا في صرفها... لقد أصبحت الاموال الهائلة التي تتدفق على الخزينة المركزية تمنح للامويين وادعوا أن المال انما هو ملكهم لا مال الدولة، وانها ملك لبني امية ، فقد منحوا نفوسهم بجميع الامتيازات (43) وفيما يلي قائمة في الاموال التي منحها لهم ولغيرهم : عطاياه للامويين : وخص عثمان بني امية بالاموال، ومنحهم الهبات الضخمة وهي كما يلي : 1 - الحارث بن الحكم . ووهب عثمان الحارث صهره من عائشة ما يلي : أ - ثلاثمائة ألف درهم (44). ب - وهبه ابل الصدقة التي وردت إلى المدينة . ج - أقطعه سوقا في يثرب يعرف بتهروز بعد ان تصدق به النبي على جميع المسلمين (45). 2 - أبوسفيان : ووهب عثمان إلى أبي سفيان رأس المنافقين مائتي ألف من بيت المال (46) . 3 - سعيد بن العاص : ومنح عثمان سعيد بن العاص مائة ألف درهم (47) . 4 - عبد الله بن خالد : وتزوج عبد الله بن خالد بن أسيد بنت عثمان فامر له بستمائة ألف درهم وكتب إلى عبد الله بن عامر واليه على البصرة أن يدفعها اليه من بيت المال (48) . 5 - الوليد بن عقبة : الوليد بن عقبة أخو عثمان من امه استقرض من عبد الله بن مسعود أموالا طائلة من بيت المال فأقرضه، وطلبها منه عبد الله فأبى أن يدفعها ورفع رسالة إلى عثمان يشكوه اليه، فكتب عثمان إلى عبد الله رسالة جاء فيها : " انما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال " فغضب ابن مسعود، وطرح مفاتيح بيت المال وقال : " كنت أظن اني خازن للمسلمين، فاما اذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك " وأقام بالكوفة بعد أن استقال من منصبه (49) . فبيت المال في عرف السياسة العثمانية ملك للامويين، وليس ملكا للمسلمين، ونترك هذا الحكم إلى القراء . 6 - الحكم بن أبي العاص . كان هذا الرجس الخبيث من ألد اعداء رسول الله (ص) وقد نفاه (ص) إلى الطائف، وقال : " لا يساكنني " ولم يزل منفيا هو وأولاده طيلة خلافة الشيخين، ولما انتهى الحكم إلى عثمان أصدر عنه العفو فقدم إلى يثرب، وهو يسوق تيسا، وعليه ثياب خلقة فدخل على عثمان فكساه جبة خز وطيلسان (50) ووهب من الاموال مائة الف (51) ، وولاه على صدقات قضاعة فبلغت ثلاثة مائة الف، فوهبها له (52) . وأدت هباته للحكم إلى شيوع التذمر والنقمة عليه من جميع الاوساط الاسلامية . 7 - مروان بن الحكم : اما مروان بن الحكم فهو وزيره ومستشاره الخاص، وجميع مقدرات الدولة تحت تصرفه، وقد منحه الثراء العريض، ووهب من الاموال ما يلي : أ - اعطاه خمس غنائم افريقية، وقد بلغت خمس مائة الف دينار وقد عيب عليه في ذلك، وهجاه الشاعر الثائر عبد الرحمان بن حنبل بقوله : سأحلف بالله جهد اليميـ * -ن ما ترك الله امرا سدى ولكن خلقت لنا فتنة * لكي نبتلي لك او تبتلى فان الامينين قد بينا * منار الطريق عليه الهدى فما اخذا درهما غيلة * وما جعلا درهما في الهوى دعوت اللعين فأدينته * خلافا لسنة من قد قضى وأعطيت مروان خمس العبا * د ظلما لهم وحميت الحمى (53) ب - أعطاه ألف وخمسين أوقية، لا نعلم أنها من الذهب أو الفضة وهي من الامور التي أشاعت التذمر والنقمة عليه (54). ج - أعطاه مائة الف من بيت المال، فجاء زيد بن أرقم خازن بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وجعل يبكي فنهزه عثمان وقال له : " أتبكي إن وصلت رحمي ؟ " . " ولكن أبكي لاني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت انفقته في سبيل الله، في حياة رسول الله (ص) لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا " . فصاح به عثمان . " الق المفاتيح ياابن أرقم فانا سنجد غيرك " (55). د - أقطعه فدكا (56) . هـ - كتب له بخمس مصر (57). هذه بعض صلاته للامويين، وقد نقم عليه المسلمون، وسخط عليه الاخيار والاحرار، فان هذه الاسرة هي التي عادت الله ورسوله وحاربت الاسلام، وليس من الحق ولا من العدل أن تستأثر باموال المسلمين وفيئهم في حين قد شاعت الحاجة في جميع انحاء البلاد . منحه للاعيان : ووهب عثمان الوجوه والاعيان ممن يخاف سطوتهم، وقد أعطى من الشخصيات ما يلي : 1 - طلحة : وأوصل طلحة بمائتي الف دينار (58)، وكانت له عليه خمسون الفا فقال له طلحة. تهيأ مالك فاقبضه، فوهبه له وقال : هو لك يا أبا محمد على مرؤتك (59) . 2 - الزبير : ومنح الزبير بن العوام ستمائة الف، ولما قبضها حار فيها فجعل يسأل عن خير المال ليستغل صلته، فدل على اتخاذ الدور في الاقاليم والامصار (60) فبنى احدى عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر (61) . 3 - زيد بن ثابت : ووهب أموالا ضخمة لزيد بن ثابت حتى بلغ به الثراء العريض انه لما توفي خلف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس، عدا ما ترك من الاموال والضياع ما قيمته مائة الف (62). ومنح أموالا أخرى للمؤيدين لسياسته كحسان بن ثابت وغيره ، وقد ذكرها المؤرخون بالتفصيل، وهي تذكرنا باصحاب الملايين في عصرنا الحديث، لقد اتسع الثراء العريض بشكل فاحش عند بعض الصحابة حتى ان بعضهم خاف أن يقلل الله ثوابه في الدار الآخرة يقول خباب بن الارت : " لقد رأيتني مع رسول الله (ص) ما أملك دينارا ولا درهما وان في ناحية بيتي في تابوتي لاربعين ألف واف (63) ولقد خشيت أن تكون عجلت طيباتنا في حياتنا الدنيا " (64) ويرى فان فلوتن أن هذه السياسة الاقتصادية أدت إلى انتشار الترف والفساد (65). اقطاع الاراضي : واقطع عثمان اراضي في الكوفة مع العلم انها ملك للمسلمين لانها مما فتحت عنوة فقد اقطع اراضي في داخل الكوفة وخارجها، اما التي في داخل الكوفة فقد أقيمت فيها الدور والمساكن، وسميت " مساكن الوجوه " وقد اقطع لجماعة من الصحابة وهم : طلحة، وسميت دار الطلحيين، وكانت في الكناسة، واقطع عبيد الله بن عمر، وسميت (كويفة ابن عمر) واقطع اسامة بن زيد وسعد، وابن اخيه هاشم بن عتبة، وأبا موسى الاشعري، وحذيفة العبسي و عبد الله بن مسعود، وسلمان الباهلي، والمسيب الفزاري، وعمرو بن حريث المخزومي، وجبير بن مطعم الثقفي وعتبة بن عمر الخزرجي، وأبا جبير الانصاري، وعدي بن حاتم الطائي، وجرير البجلي، والاشعث الكندي والوليد بن عتبة، وعمار بن عتبة، والفرات بن حيان العجلي، وجابر ابن عبد الله الانصاري، وأم هاني بنت أبي طالب . وأقطع اراضي واسعة تدر بالربح الكثير لجماعة وهم : 1 - طلحة بن عبد الله اقطعه (النشاستج) . 2 - عدي بن حاتم منحه (الردحاء) . 3 - وائل بن حجر الحضرمي منحه (رضيعة زادر) . 4 - خباب بن الارت منحه (صعبنا) . 5 - خالد بن عرفطة اقطعه ارضا عند (حمام اعين) . 6 - الاشعث الكندي اعطاه (ظيزنابار) . 7 - جرير بن عبد الله البجلي اقطعه ارضا على شاطئ الفرات ( الجرفين) . 8 - عبد الله بن مسعود اقطعه ارضا بالنهرين . 9 - عبد الله بن مالك الزهري اعطاه قرية (هرمز) . 10 - عمار بن ياسر أعطاه (اسبينا). 11 - الزبير بن العوام اقطعه ارضا . 12 - اسامة بن زيد اقطعه ارضا ثم باعها (66) . هذه بعض الاراضي التي اقطعها عثمان، وقد اندفع جماعة من الطبقة الارستقراطية إلى شراء ارض العراق الخصبة فاشترى طلحة ومروان بن الحكم، والاشعث بن قيس (67) ورجال من قبائل العراق حتى شاع الاقطاع وظهرت الملكيات الواسعة والاقطاعات الكبيرة وقام بزراعتها الموالي والرقيق والاحرار، وظهر تضخم المال وكثرة الاتباع عند فريق خاص من الناس ويرى ما سينون وفلهوزن ان اقطاع هذه الاراضي الزراعية قد حدث قبل أيام عثمان . وعلى أي حال فان هذا الاقطاع الكبير قد اوجد النظام الطبقي ، وخلق الصراع بين ابناء الامة . استئثاره بالاموال : واستنزف عثمان بيوت الاموال فاصطفى منها لنفسه وعياله ما شاء ، ويقول المؤرخون : انه كانت في بيوت الاموال جواهر ثمينة لا تقدر قيمتها فأخذها، وحلى بها بناته ونساءه (68) وقد بالغ هو بالذات في البذخ والسرف إلى حد لم يألفه المسلمون، فقد أشاد دارا في يثرب فبناها بالحجر والكلس وجعل أبوابها من الساج والعرعر، واقتنى اموالا، وجنانا وعيونا بالمدينة (69) وكان ينضد اسنانه بالذهب، ويتلبس باثواب الملوك، وانفق الكثير من بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (70) ولما قتل وجد عند خازنه ثلاثون الف الف درهم، وخمسون ومائة الف دينار، وترك الف بعير وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى ما قيمتها مائتا الف دينار (71) . ان السياسة المالية التي انتهجها عثمان قد خلقت الطبقية وعادت بالاضرار البالغة على المسلين يقول محمد كرد علي : " لقد أوجدت هذه السياسة المالية طبقتين من الناس الاولى الطبقة الفاحشة في الثراء التي لا عمل لها إلا اللهو والتبطل، والاخرى الطبقة الكادحة التي تزرع الارض، وتعمل في الصناعة وتشقى في سبيل اولئك السادة، ومن أجل الحصول على فئات موائدهم ، وترتب على فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية انعدام الاستقرار في الحياة السياسية والاجتماعية على السواء، وقد سارت الدولة الاموية في أيام حكمها على هذه السياسة فاخضعت المال للتيارات السياسية، وجعلوه سلاحا ضد أعدائهم، ونعيما مباحا لانصارهم " (72) . وبهذا العرض الموجز ينتهي بنا الحديث عن سياسته المالية التي شذت عما الزم به الاسلام من التحرج في أموال الدولة ووجوب انفاقها على مكافحة الفقر وتطرير الحياة الاقتصادية في جميع أنحاء البلاد . الجبهة المعارضة : ونقم المسلمون على عثمان، واشتد خيارهم وصلحاؤهم في معارضته وقد أنكروا عليه ايثاره لبني امية وآل أبي معيط، وحملهم على رقاب المسلمين، ومنحهم خيرات البلاد ووظاي ف الدولة، مع امعانهم في الظلم والجور، وهو لم يحرك ساكنا تجاههم، وكان يقابل المعارضين بالشتم والاحتقار . أما الجبهة المعارضة فكانت مختلفة الاتجاه بين اليمين واليسار فطلحة والزبير وعائشة ومن ينتمي اليهم لم يكن الغرض من نقمتهم عليه المطالبة بالاصلاح الاجتماعي وان تظاهروا بذلك لاغراء البسطاء والسذج، وانما غرضهم الوصول إلى كرسي الحكم والاستيلاء على السلطة، والظفر بنعم البلاد . أما الطائفة الاخرى من المعارضة فكانت تضم أعلام الاسلام، وحماة الدين أمثال عمار بن ياسر، وأبي ذر، و عبد الله بن مسعود، ونظرائهم من الذين صدقوا ما عاهدوا عليه الله، وأبلوا في سبيل هذا الدين بلاءا حسنا، فرأوا أن حكومة عثمان قد أماتت السنة وأحيت البدعة، ورأوا صادقا يكذب، واثرة بغير حق - كما يقولون - فطالبوا عثمان بتغيير سلوكه وان يتبع الهدى، ويسير بين المسلمين بالحق فلم يعن بهم ولو انه استجاب لنصحهم لجنب الامة كثيرا من الفتن والمصاعب . التنكيل بالمعارضين : وأمعن عثمان بالتنكيل بالمعارضين، والمنددين بسياسته، فصب عليهم جام غضبه، وبالغ في ظلمهم وارهاقهم إلى حد بعيد، وفيما يلي بعضهم 1 - عمار بن ياسر : ومكانة عمار بن ياسر في الاسلام معلومة فهو صاحب النبي (ص) وخليله، لقي في سبيل الاسلام اعظم الجهد، وأقسى البلاء، عذبته قريش مع أبويه أعنف العذاب، استشهد أبواه في سبيل هذا الدين، وقد أشاد القرآن الكريم بفضله فقد نزلت في حقه الآية الكريمة " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة " (73) وقال تعالى فيه : " أو من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس " (74) . وقد اهتم النبي (ص) في شأن عمار اهتماما فكان موضع عنايته وتبجيله، وقد سمع (ص) شخصا ينال من عمار فتأثر واندفع يقول : " ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار، إن عمارا جلدة ما بين عيني وانفي، فاذا بلغ ذلك من الرجل فاجتنبوه " (75) . ولما انتقل النبي (ص) إلى جنة المأوى كان عمار من ألمع أصحاب الامام أمير المؤمنين، فاختص به ولازمه، وكان من التخلفين عن بيعة أبي بكر، فانه لم ير أحدا أحق بمكانة النبي سوى الامام امير المؤمنين (ع) وبعدما فرض عمر عثمان خليفة على المسلمين كان عمار من أشد الناقمين عليه، وكان السبب في نقمته عليه ما يلي : 1 - ان عثمان لما استأثر بالسفط الذي في بيت المال وكان يضم الجواهر الثمينة التي لا تثمن بقيمة، أنكر عليه الامام أمير المؤمنين، وأيده عمار فقال له عثمان : أعلي يابن المتكاء (76) تجترئ ؟ واوعز إلى شرطته باخذه، فقبضوا عليه، وأدخلوه إلى منزله فضربه ضربا مبرحا حتى غشي عليه، وحمل إلى منزل ام الؤمنين السيدة ام سلمة، ولم يفق من شدة الضرب حتى فاتته صلاة الظهرين والمغرب، فلما أفاق قام فتوضأ وصلى العشاء، وقال : " الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في الله " وغضبت عائشة فاخرجت شعرا من شعر رسول الله (ص) وثوبا من ثيابه، ونعلا من نعاله، وقالت : " ما اسرع ما تركتم سنة نبيكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد، وغضب عثمان حتى لا يدري ما يقول : ولا يعرف كيف يعتذر عن خطيئته (77) . 2 - ان اعلام الصحابة رفعوا مذكرة لعثمان ذكروا فيها أحداثه ومخالفاته للسنة، وطالبوه بالكف عنها فاخذها عمار، ودفعها اليه فقرأ صدرا منها عثمان، واندفع نحو عمار فقال له : - أعلي تقدم من بينهم ؟ - إني أنصحهم لك . - كذبت يابن سمية . - انا والله ابن سمية وابن ياسر . وامر عثمان جلاوزته فمدوا يديه ورجليه، وضربه عثمان برجليه على مذاكيره، فاصابه الفتق، وكان ضعيفا فاغمي عليه (78) . 3 - ان عثمان لما نكل بالصحابي العظيم أبي ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله فنفاه إلى الربذة، ومات فيها غريبا، ولما جاء نعيه إلى يثرب حزن عليه المسلمون فقال عثمان مستهزءا : " رحمه الله " . فاندفع عمار ينكر عليه ذلك قائلا : " رحمه الله من كل أنفسنا " . وانتفخت أوداج عثمان، فقابل عمار بافحش القول، وأقساه قائلا : " يا عاض أيرابيه، أتراني ندمت على تسييره ؟ " . وهذا الكلام لا يليق باي رجل عادي فضلا عن عثمان الذين يزعمون ان الملائكة كانت تستحي منه . وأمر عثمان غلمانه فدفعوا عمارا، وأرهقوه كما امر بنفيه إلى الربذة فلما تهيأ للخروج أقبلت بنو مخزوم إلى الامام امير المؤمنين فسألوه ان يذاكر عثمان في شأنه، فانطلق نحوه الامام، وقال له : " اتق الله، فانك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره ؟ " . فثار عثمان وصاح بالامام . - أنت أحق بالنفي منه . - رم ان شئت ذلك . واجتمع المهاجرون فعذلوه، ولاموه على ذلك فاستجاب لهم وعفا عن عمار (79) . ان عثمان لم يرع مكانة عمار من النبي (ص) وسابقته للاسلام ، فاعتدى عليه وبالغ في تنكيله لانه أمره بالعدل، ودعاه إلى الحق . 2 - أبوذر : وأبوذر صاحب رسول الله (ص) وخليله، وهو أقدم أصحابه الذين سبقوا للاسلام، وكان أزهد الناس في الدنيا، واقلهم احتفالا بمنافعها، وكان رسول الله (ص) يأتمنه حين لا يأتمن أحدا من أصحابه ويسر اليه حين لا يسر إلى أحد (80) وهو احد الثلاثة الذين احبهم الله وأمر نبيه بحبهم كما انه أحد الثلاثة (81) الذين تشتاق لهم الجنة (82) . ولما حدثت الفتن أيام عثمان واستأثر بنو امية بمنافع الدولة وخيرات البلاد، وقف أبوذر موقف المسلم المؤمن بدينه فاخذ يندد بسياسة عثمان ويدعوه إلى ان يضع حدا للتدهور الاجتماعي، وقد نهاه عثمان فلم ينته وانطلق يوالي انكاره فكان يقف امام الذين منحهم عثمان بالثراء العريض ويتلو قول الله تعالى : " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " وغاظ ذلك مروان بن الحكم الذي تكدست عنده الاموال الضخمة التي وهبها له عثمان، وقد ضاق ذرعا بأبي ذر فشكاه إلى عثمان فارسل اليه ينهاه عن ذلك فابى أبوذر وقال : " أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ؟... فوالله لان أرضى الله بسخط عثمان أحب الي وخير لي من أن أسخط الله برضاه... " . والتاع عثمان وضاق ذرعا بأبي ذر ولكنه كظم غيظة، وراح يفتش عن الوسائل التي يقضي بها على خصمه . اعتقاله في الشام : واستمر الصحابي العظيم أبوذر يوالي انكاره على عثمان يبغي بذلك وجه الله ويلتمس الدار الآخرة لم يخفه الموت ولم تغره الحياة وقد حنق عليه عثمان وأمر بنفيه إلى الشام ويقول المؤرخون : ان عثمان سأل حضار مجلسه فقال لهم : " أيجوز لاحد أن يأخذ من المال فاذا أيسر قضى ؟ " . فانبرى كعب الاخبار وكان خصيصا بعثمان فافتاه بالجواز وصعب على أبي ذر أن يتدخل كعب في امور الدين وهو يهودي النزعة، ويشك في اسلامه فصاح به : " يابن اليهوديين أتعلمنا دبننا ؟ " . فثار عثمان واندفع يناصر كعبا فصاح بأبي ذر . " ما أكثر أذاك ؟ وولعك باصحابي الحق بمكتبك في الشام . وأمر به فسير إلى الشام فلما انتهى اليها رأى منكرات معاوية وبدعه رآه قد أطلق يديه في بيت المال الذي جمع من جهود الشعب، فجعل ينكر عليه، ويذيع بين المسلمين مساوئ عثمان، وقد أنكر على معاوية حينما قال : " المال مال الله " فقال له : " المال مال المسلمين " كما أنكر عليه بناءه الخضراء فكان يقول له : " يا معاوية ان كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة، وان كانت من مالك فهذا الاسراف... " . وأخذ يدعو المسلمين إلى اليقظة، والحذر من السياسة الاموية، وكان يقول لاهل الشام : " والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها والله ما هي في كتاب الله ، ولا في سنة نبيه، والله إني لارى حقا يطفأ، وباطلا يحيى، وصادقا يكذب واثرة بغير تقى، وصالحا مستأثر عليه " (83) . وكان الناس يؤمنون بحديثه ويصدقون مقالته، وأخذ يبث الوعي الاجتماعي، ويدعو إلى انصاف المحرومين، ويحرض الفقراء على استرجاع حقوقهم من الفئة الحاكمة، وخاف الطاغية معاوية ان تندلع نار الثورة عليه فنهى الناس عن الاجتماع به، وخاطبه . " يا عدو الله تؤلب الناس علينا، وتصنع ما تصنع ! ! فلو كنت قاتلا رجلا من أصحاب محمد من غير اذن امير المؤمنين - يعني عثمان - لقتلتك " فرد عليه البطل العظيم غير حافل بسلطانه قائلا : " ما أنا بعدو لله، ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوان الله ولرسوله اظهرتما الاسلام، وابطنتما الكفر... " . وظل أبوذر يواصل نشاطه الاجتماعي، ودعوته إلى ايقاظ المجتمع ويحفزهم على الثورة، فالتاع معاوية، وكتب إلى عثمان يخبره بخطره عليه ويلتمس منه أن ينقله عنه، فكتب اليه عثمان ان يرسله على اغلظ مركب وأوعره حتى يلقى الجهد والعناء، فارسله معاوية مع جلاوزة لا يعرفون مكانته، ولايحترمون مقامه، فلم يسمحوا له أن يستريح من الجهد، ومضوا في سيرهم لا يلون على شئ حتى تسلخت بواطن فخذه، وكان ان يموت ولما انتهى إلى يثرب دخل على عثمان وهو منهوك القوى فاستقبله عثمان بالجفوة قائلا : " أنت الذي فعلت وفعلت ؟ ! " . " نصحتك فاستغششتني، ونصحت صاحبك - يعني معاوية - فاستغشني " . فصاح به عثمان : " كذبت، ولكنك تريد الفتنة، وتحبها، وقد انغلت الشام علينا " . فوجه اليه أبوذر نصيحته قائلا : " اتبع سنة صاحبيك - يعني أبا بكر وعمر - لم يكن لاحد عليك كلام " . فثار عثمان وصاح به . " مالك ولذلك لا ام لك " . فقال ابوذر : " والله ما وجدت لي عذرا إلا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر " . وصرخ عثمان فقال لمن في مجلسه : " أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب أما ان اضربه أو احبسه، أو اقتله فانه فرق جماعة المسلمين او انفيه من ارض الاسلام " . والتاع الامام أمير المؤمنين فراح يندد بعثمان ويقول له : " يا عثمان سمعت رسول الله (ص) يقول : " ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة اصدق من ابي ذر " . ولم يحفل أبوذر بعثمان وانما مضى في دعوته يواصل انكاره فكان يقول له : " تستعمل الصبيان، وتحمي الحمى، وتقرب أولاد الطلقاء ؟ " . واخذ يذيع بين المسلمين ما سمعه من رسول الله في ذم الامويين ومدى خطرهم على الاسلام فكان يقول : " قال رسول الله (ص) : اذا كملت بنو امية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا.."(84). واصدر عثمان آوامره بمنع مجالسة ابي ذر، وحرم مخالطته والكلام معه لانه يأمر المعروف وينهى عن المنكر، ولم يقره على سياسته النكراء . اعتقاله في الربذة : واستمر أبوذر في جهاده وانكاره على السياسة الاموية، لم يثنه عن عزمه جور الامويين واضطهادهم له، وقد ضاق عثمان به ذرعا فرأى ان خير وسيلة له ان ينفيه عن سائر الامصار الاسلامية، ويعتقله في بعض المجاهيل التي لا سكن فيها، فارسل الشرطة خلفه فلما حضر بادره أبوذر قائلا : " ويحك يا عثمان ! ! أما رأيت رسول الله، ورأيت ابا بكر وعمر هل رأيت هذا هديهم ؟ انك لتبطش بي بطش الجبارين... " . فقطع عليه عثمان كلامه، وصاح به . " اخرج عنا من بلادنا " . " أتخرجني من حرم رسول الله (ص) ؟ " . " نعم وانفك راغم " . " اخرج إلى مكة ؟ " . " لا " " إلى البصرة " . " لا " " إلى الكوفة " . " لا " . " إلى اين اخرج " " إلى الربذة حتى تموت فيها " . واوعز إلى مروان باخراجه فورا إلى يثرب، وأمره بأن يخرجه مهان الجانب محطم الكيان، وحرم على المسلمين مشايعته والخروج معه، ولكن اهل الحق ابوا إلا مخالفة عثمان وسحق اوامره فقد خف لتوديعه الامام امير المؤمنين والحسنان وعقيل وعقيل و عبد الله بن جعفر، واشتد مروان نحو الامام الحسن (ع) فقال له : " ايه يا حسن ! ! إلا تعلم ان عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل ؟ فان كنت لا تعلم فاعلم ذلك... " . وثار الامام امير المؤمنين فحمل على مروان، وضرب اذني دابته وصاح به : " تنح نحاك الله إلى النار " . وولى مروان منهزما إلى عثمان يخبره بعصيان امره، والاعتداء عليه . كلمة الامام امير المؤمنين (ع) : ووقف الامام امير المؤمنين على أبي ذر فودعه، وقد غامت عيناه بالدموع وألقى عليه هذه الكلمات التي حددت أبعاد شخصيته قائلا له : " يا أبا ذر انك غضبت لله فارج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم، ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك، وستعلم من الرابح غدا، والاكثر حسدا ؟ ولو أن السماوات والارض كانتا على عبد رتقا، ثم اتقى الله لجعل الله منهما مخرجا، لا يؤنسك الا الحق، ولا يوحشك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لاحبوك ، ولو قرضت منها لآمنوك.." . وألقت هذه الكلمات الاضواء على ثورة أبي ذر، وأنها كانت من أجل الحق ومن اجل المبادئ العليا التي جاء بها الاسلام، وقد خافه القوم على دنياهم وخافوه من اجل نهبهم لثروات الامة، وتلاعبهم باقتصادها ومقدراتها، وقد مجد الامام في أبي ذر هذه الروح الطيبة، وطلب منه أن يهرب بدينه ليكون بمنجاة من شرور القوم وآثامهم، فانه هو الرابح في آخرته والسعيد يوم يلقى الله، وهم الخاسرون الذين تلفح وجوههم النار وهم فيها خالدون . كلمة الامام الحسن : وبادر الامام الحسن نحو عمه أبي ذر فصافحه وودعه وداعا حارا وألقى عليه هذه الكلمات التي تنم عن عظيم مصابه وحزنه : " يا عماه لو لا أنه ينبغي للمودع أن يسكت، وللمشيع أن ينصرف لقصر الكلام، وان طال الاسف، وقد أتى القوم اليك ما ترى، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيك وهو عنك راض " . كلمة الامام الحسين : وانطلق الامام الحسين إلى أبي ذر، وقد أخذ منه الاسى مأخذا عظيما فألقى عليه هذه الكلمات المشرقة : " يا عماه ان الله تبارك وتعالى قادر ان يغير ما قد ترى، ان الله كل يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم، ومنعتهم دينك، فما أغناك عما منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم ؟ فاسأل الله الصبر، واستعذ به من الجشع والجزع، فان الصبر من الدين والكرم، وان الجشع لا يقدم رزقا، والجزع لا يؤخر أجلا... " . ما أروع هذه الكلمات التي كشفت الستار عن عداء الامويين لابي ذر فانهم قد خافوه على دنياهم، وخافوه على مناصبهم، وقد أمره (ع) بالخلود إلى الصبر، ونهاه عن الجزع، فانه لا يؤخر اجلا، وقد تذرع الامام بهذا الخلق العظيم في يوم الطف فانه لم يخضع للامويين ولم يجزع عما ألم به من عظيم الكوارث والخطوب . كلمة عمار بن ياسر : وأقبل عمار بن ياسر وقد غامت عيناه بالدموع فودع خليله وصاحبه أبا ذر وقال له : " لا آنس الله من اوحشك، ولا آمن من اخافك، أما والله لو أردت دنياهم لآمنوك، ولو رضيت اعمالهم لاحبوك، وما منع الناس أن يقولوا بقولك : إلا الرضا بالدنيا، والجزع من الموت، ومالوا إلى سلطان جماعتهم عليه، والملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم، ومنحهم القوم دنياهم فخسروا الدنيا والآخرة ألا ذلك هو الخسران المبين... " . وبكى أبوذر بكاءا مرا فألقى نظرة الوداع الاخير على أهل البيت الذين أخلص لهم وأخلصوا له، وتكلم بهذه الكلمات التي يلمس فيها ذوب قلبه قائلا : " رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إني ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصريين (85) فافسد الناس عليهما فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع الا الله، والله ما اريد الا الله صاحبا، وما اخشى مع الله وحشة... " . وتحركت راحلة أبي ذر، وانصرفت به إلى الربذة مشردا عن حرم الله وحرم رسوله، وقد اترعت نفسه بالحزن والاسى على فراق أهل البيت (ع) الذين هم وديعة رسول الله (ص) في امته . لقد مضى أبوذر إلى الربذة ليموت فيها جوعا، وفي يد عثمان ذهب الارض ينفقه على بني امية وآل ابي معيط، ويحرمه على أبي ذر شبيه المسيح عيسى بن مريم هديا وسمتا . ولما قفل الامام امير المؤمنين (ع) راجعا من توديع أبي ذر استقبلته جماعة من الناس فاخبروه بغضب عثمان واستيائه منه لانه خالف أوامره التي حرمت على المسلمين الكلام مع أبي ذر وتوديعه، فقال (ع) : " غضب الخيل على اللجم " (86). وبادر عثمان نحو الامام فصاح به : " ما حملك على رد رسولي ؟ " . " أما مروان فانه استقبلني يردني فرددته عن ردي، وأما امرك فلم ارده.." . " أولم يبلغك أني قد نهيت الناس عن تشييع أبى ذر ؟ " . " أوكل ما امرتنا به من شئ يرى طاعة الله والحق في خلافه أتبعنا فيه امرك ؟ " . " أقد مروان " . " وما اقيده ؟ " . " ضربت بين اذني راحلته " . " أما راحلتي فهي تلك، فان اراد ان يضربها كما ضربت راحلته فليفعل، وأما انا فوالله لئن شتمني لاشتمنك أنت بمثلها، لا اكذب فيه ، ولا اقول الا حقا " . " ولم لا يشتمك إذ شتمته، فوالله ما انت عندي بافضل منه " . وارتاع الامام من عثمان الذي هام بحب اسرته، فساوى بينه وهو من النبي (ص) بمنزلة هارون من موسى، وبين الوزع ابن الوزع مروان ابن الحكم الذي لعنه النبي (ص) وهو في صلب ابيه، وثار الامام (ع) فقال لعثمان : " إلي تقول هذا القول ؟ وبمروان تعدلني ؟ ! ! فأنا والله أفضل منك، وأبي أفضل من أبيك، وامي افضل من امك، وهذه نبلي قد نثلتها... " . وسكت عثمان ولم يطق جوابا، وانصرف الامام حزينا قد ساورته الهموم والآلام . 3 - عبد الله بن مسعود : ونكل عثمان تنكيلا فظيعا بالصحابي العظيم عبد الله بن مسعود فقد امعن في قهره وظلمه، أما سبب ذلك فهو ما المعنا اليه عند البحث عن امارة الوليد بن عقبة على الكوفة، فقد نقم عليه عبد الله حينما استقرض من بيت المال، ولم يؤده اليه، وقد رفع الوليد إلى عثمان امره فأنكر على ابن مسعود ذلك فاستقال من منصبه، وقفل راجعا إلى يثرب فلما انتهى اليها كان عثمان على المنبر يخطب فلما رآه خاطب المسلمين وقال لهم : " قدمت عليكم دويبة سوء، من يمشي على طعامه يقئ ويسلح " . ورد عليه ابن مسعود وقال له : " لست كذلك، ولكني صاحب رسول الله (ص) يوم بدر ، ويوم بيعة الرضوان " . وأثار كلام عثمان موجة من الغضب والاستياء في المجتمع فاندفعت عائشة تعلن سخطها قائلة له : " أي عثمان أتقول هذا لصاحب رسول الله ؟ " . وأمر عثمان شرطته باخراج الصحابي العظيم من المسجد، فاخرج منه وهو مهان الجانب، وقام اليه أبو عبد الله بن زمعة أو يحموم غلام عثمان فاحتمله ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الارض، فدق ضلعه ، وثار الامام أمير المؤمنين (ع) فخاطب عثمان : " يا عثمان أتفعل هذا بصاحب رسول الله (ص) بقول الوليد ابن عقبة ؟ ؟ " . " ما بقول الوليد فعلت هذا، ولكني وجهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال... " . ورد عليه الامام . " أحلت عن زبيد على غير ثقة... " (87) . وحمل الامام ابن مسعود إلى منزله، وقام برعايته حتى إبل من مرضه وقاطعه عثمان، وهجره، وفرض عليه الاقامة الجبرية في يثرب، وقطع عنه عطاءه، ومرض ابن مسعود مرضه الذي توفي فيه فدخل عليه عثمان عائدا فقال له : - ما تشتكي ؟ - ذنوبي . - ما تشتهي ؟ - رحمة ربي . - أدعو لك طبيبا ؟ - الطبيب أمرضني . - آمر لك بعطائك . - منعتنيه وأنا محتاج اليه، وتعطينه وأنا مستغني عنه . - يكون لولدك . - رزقهم على الله . - استغفر لي يا أبا عبد الرحمان . - أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي (88). وانصرف عثمان، ولم يفز برضاء ابن مسعود، ولما ثقل حاله أوصى أن لا يصلي عليه عثمان، وان يصلي عليه صاحبه عمار بن ياسر، ولما توفي قامت الصفوة من أصحابه بتجهيزه ودفنه ولم يعلموا عثمان بذلك ، فلما علم غضب وقال : سبقتموني، فرد عليه عمار . " إنه أوصى أن لا تصلي عليه... " . وقال ابن الزبير : لاعرفنك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي (89) وننهي بهذا الحديث الكلام عن الجبهة المعارضة التي نقمت على عثمان لاستبداده باموال الدولة، وانفاقها على اسرته وذويه في حين أن المجاعة والحرمان قد شملت جميع انحاء البلاد . لقد نقم عليه المعارضون، واشتدوا في معارضته حنيما بدل سنة الله فحمل بني امية وآل أبى معيط على رقاب المسلمين، وخصهم بالمناصب العليا في الدولة، ووهبهم جميع خيرات البلاد . الثورة : وكانت الثورة نتيجة للنضج الاجتماعي واصلاحية إلى حد كبير - كما يقول العلائلي - (90)، فقد شاع التذمر، وعم السخط، وأخذت المجالس والاندية تتحدث عن مظالم عثمان، واستبداده بشؤون المسلمين، وتنكيله بخيار المسلمين، وقد اجتمع أهل الحل والعقد فراسلوا جميع الامصار يستنجدون بهم، ويطالبونهم بارسال الجيوش للقيام بقلب الحكم القائم ، وهذا نص مذكرتهم لاهل مصر : " من المهاجرين الاولين وبقية الشورى إلى من بمصر من الصحابة والتابعين، أما بعد : ان تعالوا الينا، وتداركوا خلافة رسول الله (ص) قبل أن يسلبها أهلها فان كتاب الله قد بدل، وسنة رسوله قد غيرت ، واحكام الخليفتين قد بدلت، فنشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله، والتابعين باحسان الا أقبل الينا، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم، وفارقكم عليه الخلفاء، غلبنا على حقنا ، واستولى على فيئنا، وحيل بيننا وبين أمرنا، وكات الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة، وهي اليوم ملك عضوض من غلب على شئ أكله " (91) . وحفلت هذه المذكرة بذكر الاحداث الخطيرة التي ارتكبتها حكومة عثمان هي : 1 - تبديل كتاب الله، وإلغاء احكامه، ونبذ نصوصه . 2 - تغيير سنة النبي (ص) واهمال تشريعاته الاقتصادية والاجتماعية . 3 - تبديل احكام الخليفتين . 4 - استئثار السلطة بالفئ وانفاقها على رغباتها ومصالحها الخاصة . 5 - صرف الخلافة الاسلامية عن مفاهيمها الخيرة إلى ملك عضوض لا يعني بأهداف الامة . وتحفز الاخيار والمصلحون إلى ارسال الوفود إلى يثرب للاطلاع على أوضاع الخليفة والتعرف على شؤونه . مذكرة اخرى لاهل الثغور : وأرسلت الجبهة المعارضة مذكرة اخرى للمرابطين في الثغور من الصحابة يطالبونهم بالقدوم إلى يثرب للاطاحة بالحكم القائم وهذا نصها : " إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزوجل، تطلبون دين محمد (ص) فان دين محمد قد أفسده خليفتكم فاقيموه..." (92) . وألهبت هذه المذكرة القلوب، وتركت النفوس تغلي كالمرجل غيظا وغضبا على عثمان . وفود الامصار : واستجابت الاقطار الاسلامية لنداء الصحابة فارسلت وفودها إلى يثرب لتقصي الحقائق، والاطلاق على الاحداث والوفود التي أقبلت هي : أ - الوفد المصري : وأرسلت مصر وفدا كان عدده أربع مائة شخص، وقيل أكثر من ذلك بقيادة محمد بن أبي بكر، و عبد الرحمان بن عديس البلوي . ب - الوفد الكوفي : وأرسلت الكوفة وفدها بقيادة الزعيم مالك الاشتر، وزيد بن صوحان العبدي، وزياد بن النضر الحارثي، و عبد الله الاصم العامري، ويرأس الجميع عمرو بن الاهثم . ج - الوفد البصري وأوفد البصرة مائة رجل بقيادة حكيم بن جبلة، ثم أوفدت خمسين رجلا وفيهم ذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح القيسي وابن المحرش وغيرهم من الوجوه والاعيان . ورحبت الصحابة بالوفود، وقابلتها بمزيد من الاحتفاء والتكريم ، وأخذت تعرض عليها أحداث عثمان، وتحرضها على اقصائه عن الحكم والوقيعة به . مذكرة المصريين لعثمان : ورأى الوفد المصري أن يرفع مذكرة لعثمان يدعوه فيها إلى التوبة والاستقامة في سياسته وسلوكه وهذا نصها : " أما بعد : فاعلم ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، فالله الله، ثم الله الله، فانك على دنيا فاستقم معها آخرة، ولا تنسى نصيبك من الآخرة، فلا تسوغ لك الدنيا، واعلم انا لله ولله نغضب ، وفي الله نرضى، وانا لن نضع سيوفنا عن عواتقتنا حتى تأنينا منك توبة مصرحة، أو ضلالة مجلحة (93) مبلجة فهذه مقالتنا لك، وقضيتنا إليك والله عذيرنا منك والسلام.." (94) . واضطرب عثمان، وقرأ الرسالة بامعان وقد أحاط به الثوار فبادر اليه المغيرة، وطلب منه الاذن بالكلام معهم فاذن له ولما قرب منهم صاحوا به : " يا أعور وراءك " وصاحوا به ثانيا . " يا فاجر وراءك " . وصاحوا به ثالثا . " يا فاسق وراءك " . ورجع المغيرة خائبا مهانا قد أخفق في سفارته، ودعا عثمان عمرو بن العاص وطلب منه أن يكلم القوم، فمضى اليهم وسلم عليهم فلم يردوا عليه السلام لعلمهم بفسقه وفجوره، وقالوا له : " ارجع يا عدو الله " . " ارجع يابن النابغة، لست عندنا بأمين، ولا مأمون " . ورجع خائبا في وفادته، لم يستجب له القوم، وقابلوه بمزيد من التوهين والاستخفاف . استنجاده بالامام : وعلم عثمان ان لا ملجأ له إلا الامام امير المؤمنين فاستغاث به ، وطلب منه أن يدعو القوم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فاجابه إلى ذلك بعد أن أخذ منه المواثيق على الوفاء بعهده، ومضى الامام إلى الثوار وهو يحمل الضمان لجميع مطاليبهم، فلما رأوه قالوا له : " وراءك " . تعطون كتاب الله، وتعتبون من كل ما سخطتم عليه " . " أتضمن ذلك ؟ " . " نعم " . " رضينا " . وأقبل وجوههم وأشرافهم مع الامام فدخلوا على عثمان فعاتبوه ولاموه على ما فرط في أمور المسلمين، وطالبوه أن يغير سياسته وسلوكه ويسير بين المسلمين بالحق فاستجاب لهم، وطالبوا منه أن يكتب لهم كتابا بذلك ، فاجابهم إلى ما أرادوا وكتب لهم هذا الكتاب : " هذا كتاب من عبد الله عثمان امير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين ان لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه، يعطى المحروم ، ويؤمن الخائف، ويرد المنفي، ولا يجمر في البعوث، ويوفر الفئ وعلي ابن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين، على عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب " . وشهد فيه كل من الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيدالله وسعد بن مالك بن ابي وقاص، و عبد الله بن عمرو، وزيد بن ثابت، وسهل بن حنيف، وأبوأيوب خالد بن زيد، وكتب ذلك في ذى القعدة سنة (35 هـ) وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا إلى جماعتهم، وطلب منه الامام أمير المؤمنين أن يخرج إلى الناس ويعلن لهم بتنفيذ طلباتهم ففعل عثمان ذلك فأعطاهم عهد الله وميثاقه أن يسير فيهم بكتاب الله وسنة نبيه، وان يوفر لهم الفئ ولا يؤثر به أحدا من أقربائه، وقفل المصريون راجعين إلى بلادهم . نقضه للميثاق : ونقض عثمان ما قطعه على نفسه، ولم يف للمسلمين بما عاهدهم عليه ويقول المؤرخون إن السبب في ذلك أن مروان الذي كان مستشارا له ووزيرا، قد دخل عليه فلامه وعذله على ما صنع قائلا : " تكلم واعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا، وان ما بلغهم عن امامهم كان باطلا، فان خطبتك تسير في البلاد، قبل ان يتحلب الناس عليك من امصارهم فيأتيك من لا تستطيع دفعه... " . وامتنع عثمان من اجابته لانه دعاه لان يناقض نفسه، وان يقول غير الحق، ولكنه ما زال به يحذره مغبة ما صنع، ويخوفه عاقبة الامور ، ولم تكن لعثمان ارادة صلبة، ولا عزم ثابت، فكان العوبة بيد مروان فاستجاب له، واعتلى المنبر فخاطب الناس قائلا : " أما بعد : إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر فلما تيقنوا انه باطل ما بلغهم رجعوا إلى بلادهم... " . وانبرى المسلمون إلى الانكار عليه، وناداه عمرو بن العاص : " اتق الله يا عثمان، فانك قد ركبت نهابير(95) وركبناها معك فتب إلى الله نتب معك " . فصاح به عثمان . " وانك هنا يا ابن النابغة ؟ قملت والله جبتك منذ تركتك من العمل ؟ " . وارتفعت أصوات الانكار من جميع جنبات الحفل وهي ذات لهجة واحدة . " اتق الله يا عثمان " . " اتق الله يا عثمان " . وانهارت اعصابه، وتحطمت قواه فحار في الجواب، ولم يجد بدا من أن يعلن التوبة مرة اخرى عما اقترفه، ونزل عن المنبر، وهو خائر القوى، ومضى إلى منزله (96) . استنجاده بمعاوية : ولما تبين للثوار أنه لم يقلع عن سياسته، وانه جاد في سيرته لا يغير منها ولا يبدل أحاطوا به، وطالبوه بالاستقالة من منصبه فلم يستجب لهم ورأى أن يستنجد بمعاوية ليبعث له قوة عسكرية تحميه من الثوار، وقد كتب اليه هذه الرسالة : " أما بعد : فان أهل المدينة قد كفروا، وخلعوا الطاعة، ونكثوا البيعة فابعث الي من قبلك مقاتلة أهل الشام على صعب وذلول... " (97) . وحمل الكتاب مسور بن مخرمة، ولما قرأه معاوية قا له مسور : " يا معاوية : إن عثمان مقتول فانظر فيما كتب به اليك.." . وصارحه معاوية بالواقع وبما اتطوت عليه نيته قائلا : " يا مسور : إني مصرح ان عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ورسوله ويرضاه ثم غير فغير الله عليه، أفيتهيأ لي أن أرد ما غير الله عزوجل " (98) . ولم يستجب معاوية له، وكان فيما يقول المؤرخون : يترقب مصرعه ليتخذ من دمه وسيلة للظفر بالملك والسلطان، وقد تنكر لالطافه، وأياديه عليه وعلى اسرته، يقول الدكتور محمد طاهر دروش : " واذا كان هناك وزر في قتل عثمان فوزره على معاوية، ودمه في عنقه، ومسؤوليته عن ذلك لا تدفع، فهو اولى الناس به، وأعظم الرجال شأنا في دولته، وقد دعاه فيمن دعا، يستشيره في هذا الامر وهو داهية الدهاة فما نهض اليه برأيه، ولا دافع عنه بجنده، وكأنه قد استطال - كما استطال غيره - حياته فترك الايام ترسم بيدها مصيره، وتحدد نهايته فاذا جاز لاحد أن يظن بعلي أو بطلحة والزبير وغيرهم تقصيرا في حق عثمان فمعاوية هو المقصر، واذا جاز ان يلام أحد غير عثمان فيما جرى فمعاوية هو الملوم..."(99). وعلى أي حال فان معاوية لما ابطأ عن اجابته، بعث عثمان رسالة إلى يزيد بن كرز والي أهل الشام يستحثهم على القدوم اليه لانقاذه من الثوار ولما انتهى اليهم كتابه نفروا إلى اجابته تحت قيادة يزيد القسري إلا ان معاوية أمره بالاقامة بذي (خشب) وان لا يتجاوزه فاقام الجيش هناك حتى قتل عثمان . وكتب عثمان رسائل اخرى إلى أهل الامصار والى من حضر الموسم في مكة يطلب منهم القيام بنجدته الا انهم لم يستجيبوا له لعلمهم بالاحداث التي ارتكبها . الاحاطة بعثمان : وأحاط الثوار بعثمان، وقد رجع اليهم الوفد المصري حينما استبان المكيدة الخطيرة التي دبرت ضده، وقد حاصروا عثمان وهم يهتفون بسقوطه ويطالبونه بالاستقالة من منصبه، وقد أشعل نار الثورة في نفوسهم مروان ابن الحكم فقد اطل عليهم، وخاطبهم : " ما شأنكم ؟ كأنكم قد جئتم لنهب ؟ شاهت الوجوه، تريدون ان تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا... " . ونفذ صبر الثوار فعزموا على قتله، وصمموا على تقطيع أوصاله ، والتنكيل به . ونقلت كلمات مروان إلى أمير المؤمنين فخف إلى عثمان مسرعا فقال له : " أما رضيت من مروان، ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الضعينة يقاد حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه، ولا في نفسه، وأيم الله لاراه سيوردك، ثم لا يصدرك ، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك " . وتركه الامام، وانصرف عنه، فقالت نائلة زوج عثمان للامويين : " انتم والله قاتلوه، وميتمو أطفاله " . والتفتت إلى عثمان تنصحه بان يعزب عن مروان، ولا يطيعه قائلة له : " انك متى أطعت مروان قتلك " . واحاط به الثوار فمنعوا عنه الماء والطعام، وحاصروه، وهو مصر على سياسته لم يقلع عنها، وقد اترعت النفوس بالحقد والكراهية له، وقد جنى هو على نفسه لاطاعته لمروان، وانصياعه لرغبات بني أمية . يوم الدار : واندلعت نيران الثورة، واشتد اوارها فقد أحاط الثوار بدار عثمان وقد خرج اليهم مروان فبرز اليه عروة بن شييم الليثي فضربه على قفاه بالسيف فخر لوجهه، وقام اليه عبيد بن رفاعة الزرقي بسكين ليقطع رأسه فعذلته فاطمة الثقفية وكانت امه من الرضاعة فقالت له : " إن كنت تريد قتله فقد قتلته، فما تصنع بلحمه أن تبضعه " فاستحي منها وتركه ومشى اليه الناس، وتسلقوا عليه الدار، ولم يكن عنده أحد يدافع عنه فقد ورمت منه القلوب، ونفرت منه النفوس، ورمي بالحجارة وناداه الناس . " لسنا نرميك، الله يرميك ؟ " . فرد عليهم عثمان . " لو رماني الله لم يخطأني "(100). واحتف به بعض الامويين يدافعون عنه، وقد نشب بينهم وبين الثوار قتال عنيف، وقد فر من ساحة القتال خالد بن عقبة بن أبي معيط واليه يشير عبد الرحمان بن سيحان بقوله : يلومونني في الدار إن غبت عنهم * وقد فر عنهم خالد وهو دارع وقتل من أصحاب عثمان زياد بن نعيم الفهري، والمغيرة بن الاخنس ونيار بن عبد الله الاسلمي وغيرهم . الاجهاز على عثمان : وأحاط الثوار بعثمان بعد أن انهزم عنه بنو أمية وآل أبي معيط ، فاجهز عليه جماعة من المسلمين في طليعتهم محمد بن أبي بكر فقد قبض على لحيته وقال له : - قد أخزاك الله يا نعثل . - لست بنعثل، ولكن عبد الله وأمير المؤمنين . - ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان . - يابن أخي دع عنك لحيتي، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه . - ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك . وطعن جبينه بمشقص كان في يده، ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ في أصل اذن عثمان، حتى دخلت في حلقه، ثم علاه بالسيف ووثب عليه عمرو بن الحمق الخزاعي فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات، وكسر عمير بن ضابئ ضلعين من أضلاعه، وحاولوا حز رأسه، فالقت زوجتاه نائلة، وابنة شيبة بن ربيعة بانفسهما عليه ، فامر ابن عديس بتركه لهما (101) . وألقي عثمان جثة هامدة على الارض، لم يسمح الثوار بمواراته، وقال الصفدي : انهم القوه على المزبلة ثلاثة أيام (102) مبالغة في تحقيره وتوهينه وتكلم بعض خواصه مع الامام أمير المؤمنين ليتوسط في شأنه مع الثوار في دفنه، فكلمهم الامام فاذنوا في دفنه (103) ويصف جولد تسهير دفنه بقوله : " وبسط جثمانه دون ان يغسل على باب فكان رأسه يقرع قرعا، يقابل بخطوات سريعة من حامليه، وهم يسرعون به في ظلام الليل، والاحجار ترشفه واللعنات تتبعه ودفنوه في حش كوكب (104) ولم يرض الانصار بمواراته في مقابر المسلمين " (105) . وأما غلاماه اللذان قتلا معه فقد سحبوهما وألقوهما على التلال فأكلتهما الكلاب (106) . وعلى أي حال فقد كانت الثورة على عثمان ثورة اجتماعية لا تقل شأنا عن أنبل الثورات الاصلاحية التي عرفها التاريخ فقد كانت تهدف إلى الحد من سلطة الحاكمين، ومنعهم من الاستبداد بشؤون الناس، واعادة الحياة الاسلامية إلى مجراها الطبيعي . متارك حكومة عثمان : وتركت حكومة عثمان كثيرا من المضاعفات السيئة التي امتحن بها المسلمون اشد الامتحان فقد اشعلت نار الفتن في جميع أنحاء البلاد، وجرت للمسلمين الويلات والخطوب، ونتحدث - بايجاز - عن الاحداث الكبرى التي مني بها العالم الاسلامي من جراء حكومته وهي : 1 - ان حكومة عثمان قد عمدت إلى التهاون في احترام القانون ، وتجميد السلطة القضائية، فان أفراد الاسرة الاموية قد جافوا في كثير من تصرفاتهم وسلوكهم الاحكام الدستورية، وكان موقف عثمان معهم يتسم بالميوعة والتسامح، فلم يتخذ معهم أي اجراء حاسم، وانما كان مسددا لهم ومتأولا لاخطائهم، كما ألمعنا إلى ذلك في البحوث السابقة، وكان من النتائج المباشرة لذلك شيوع الفوضى في السلوك، وفساد الاخلاق والتمرد على القانون . 2 - ان حكومة عثمان لم تتخذ الحكم وسيلة من وسائل الاصلاح الاجتماعي، وانما اتخذته وسيلة للاثراء والاستغلال، والسيطرة على الشعوب مما أهاب بكثير من الفئات أن ينظروا إلى الحكم بما انه مغنم وسبب للتمتع بنعم الدنيا وخيراتها، وقد أدى ذلك إلى تهالك الجماعات والافراد نحو الملك والسلطان فطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم لم يكونوا ينشدون أي هدف انساني أو اجتماعي في تمردهم على حكومة الامام أمير المؤمنين (ع) وانما كانوا هائمين فيي طلب الامرة والخلافة، واعقب عصيانهم بلبلة الروح الدينية، وزعزعة الايمان في النفوس، وانتشار الاحزاب النفعية التي حالت بين المجتمع الاسلامي وبين حكومة القرآن . 3 - وخلقت حكومة عثمان طبقة ارستقراطية اشاعت الترف والبذخ وتهالكت على اللذة والمجون، وكان من بينها الاسر القرشية التي غرقت بالاموال وحارت في صرفها في حين ان الاوساط الاجتماعية كانت تعاني الضيق والحرمان مما أدى إلى ثورة المصلح الكبير أبي ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله على الرأسمالية القرشية التي جمعت بغير وجه مشروع ، ومطالبته بتأميمها، وارجاعها إلى الخزينة المركزية لتنفق على تطوير الحياة الاقتصادية وتنمية الدخل الفردي، واذابة الفقر والحاجة في جميع القطاعات الشعبية، حسب ما يريده الاسلام . 4 - وعملت حكومة عثمان على احياء العصبية القبلية التي حاربها الاسلام فقد جهد عثمان على تقوية اسرته، وبسط نفوذها، وحمايتها من القانون ، ومنحها جميع أسباب القوة مما ادى إلى تكتل الاسر العربية، وشيوع النعرات الجاهلية من الافتخار بامجاد الاباء والاعتزاز بالانساب، وغير ذلك مما سنذكره في بحوث هذا الكتاب . 5 - تطلع النفعيين إلى الوصول إلى الحكم والاعتماد على قوة السيف من دون ان يعنى بارادة الامة يقول يوليوس فلهوزن : " فمنذ ذلك الحين صار للسيف القول الفصل في أمر رئاسة الحكومة التيوقراطية، وفتح باب الفتنة، ولم ينسد بعد ذلك أبدا سدا تاما، ولم يمكن ذلك الحين المحافظة على وحدة ممثلة في شخص امام على رأس الجماعة إلا في الظاهر على الاكثر وبالقوة والقهر. فالحقيقة ان الجماعة قد انشقت وتفرقت شيعا وأحزابا كل منها يحاول أن يفرض سلطانه السياسي، وأن يلجأ للسيف تأييدا لامامة على الامام الحاكم بالفعل... " (107) . لقد انتشرت الاطماع السياسية، وتهالك النفعيون على الوصول إلى كرسي الحكم مما ادى إلى اشاعة الفتن والفوضى في جميع انحاء البلاد . 6 - التطبيل بدم عثمان، واتخاذه شعارا للفتنة واراقة الدماء والتمرد على القانون لا من قبل الامويين فقط وانما من قبل جميع الفئات الطامعة في الحكم كطلحة والزبير وعائشة وغيرهم من الذين ساهموا مساهمة ايجابية في الثورة على عثمان، وقد اطلت في سبيل هذه الاطماع الرخيصة انهار من الدماء الزكية، وشاع الثكل والحداد في ربوع الوطن الاسلامي . هذه بعض المتارك التي خلفتها حكومة عثمان وهي - من دون شك - قد اثرت تأثيرا عميقا في تطور الاحداث، واتجاه المجتمع نحو الاطماع السياسية، وانتشار الانتهازية والوصولية بشكل فظيع مما ادى إلى الصراع العنيف على الحكم، وتحول الحكومة الدينية إلى الملكية التي لا تعنى بأي حال بأمور الاسلام وتطبيق أهدافه كما باعدت ما بين المسلمين وبين أهل البيت عليهم السلام الذين نص الرسول (ص) على امامتهم، واوصى الامة باتباعهم، فقد تحطمت بشكل سافر تلك القدسية التي احاطهم بها، واتجهت السلطات التي تلت حكومة الخلفاء إلى تمزيق أوصالهم والتنكيل بهم، ولم ترع فيهم قرابة الرسول (ص) التي هي أحق بالرعاية من كل شئ . بقي هنا شئ وهو ان الامام الحسين (ع) كان في عهد عثمان في شرخ الشباب، ويقول المؤرخون : انه انضم إلى الجيش الاسلامي الذي اتجه إلى فتح طبرستان سنة (30 هـ) وكان على قيادته سعيد بن العاص فابلى الجيش بلاءا حسنا وفتح الله على يده ورجع ضافرا (108) ولم تظهر لنا بادرة اخرى عن الامام الحسين في تلك الفترة، ولعل السبب يعود - فيما نحسب - إلى ان الاسرة النبوية كانت من الجبهة المعارضة لحكومة عثمان، وقد قامت بدور ايجابي في التنديد بسياسته، وقد صب عثمان جام غضبه على اصحاب الامام امير المؤمنين كأبي ذر وعمار وابن مسعود فامعن في ظلمهم وارهاقهم وقد شاهد الامام الحسين (ع) تلك الاحداث المفزعة فاضافت إلى نفسه آلاما وعرفته بواقع المجتمع واتجاهاته . وزعم بعض المؤرخين ان الامام الحسن والحسين دافعا عن عثمان حينما أحاط به الثوار وقد دللنا على عدم صحة ذلك بصورة موضوعية في كتابنا (حياة الامام الحسن) وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة عثمان .
(1) اتجاهات الشعر العربي (ص 26) . (2) تاريخ ابن كثير 7 / 148، تاريخ اليعقوبي 2 / 140. (3) الموفقيات (ص 202). (4) تاريخ الطبري 5 / 41. (5) الادارة الاسلامية (ص 57) . (6) النزاع والتخاصم (ص 18) . (7) الطبري 4 / 262 . (8) مختصر تاريخ العرب (ص 43). (9) حياة الامام الحسن 1 / 240. (10) تاريخ الطبري 5 / 85، تاريخ أبي الفداء 1 / 68، الانساب 5 / 39 - 43. (11) الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة 2 / 253 . (12) الكامل 3 / 38 . (13) اسد الغابة 3 / 192. (14) تاريخ الطبري 5 / 94، تاريخ ابن خلدون 2 / 39 . (15) الفتنة الكبرى 1 / 116. (16) الاصابة 3 / 85 . (17) أسد الغابة 3 / 192 . (18) مروج الذهب 2 / 223 . (19) طبقات ابن سعد 1 / 186. (20) الغدير 8 / 273 . (21) سورة الحجرات : آية 6، يقول ابن عبد البر في الاستيعاب 2 / 62 لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن الآية نزلت في الوليد . (22) سورة السجدة : آية 18. (23) تذكرة الخواص (ص 115) . (24) الاخبار الطوال (ص 156) . (25) الاغاني 5 / 122، مروج الذهب 1 / 232، العقد الفريد 6 / 348. (26) السيرة الحلبية 2 / 314 . (27) الاغاني 4 / 178 - 179 . (28) الاغاني 4 / 178. (29) المكس : النقص والظلم . (30) مروج الذهب 2 / 225. (31) الامام الحسين (ص 33) . (32) الاغاني 2 / 351 . (33) الاغاني 2 / 349 . (34) الولاة والقضاة (ص 11) . (35) تفسير القرطبي 7 / 40، سنن أبي داود 2 / 220. (36) أنساب الاشراف 5 / 26 . (37) حياة الامام الحسن 1 / 250. (38) الفتنة الكبرى 1 / 120. (39) روح الاسلام (ص 90) . (40) تاريخ العراق في ظل الحكم الاموي (ص 22) . (41) صحيح البخاري 5 / 17. (42) نهج البلاغة محمد عبده 2 / 128 . (43) العقيدة والشريعة في الاسلام (ص 53) . (44) انساب الاشراف 5 / 52. (45) انساب الاشراف 5 / 28 . (46) شرح النهج 1 / 67 . (47) انساب الاشراف 5 / 28 . (48) تاريخ اليعقوبي 2 / 145 . (49) الانساب 5 / 30. (50) تاريخ اليعقوبي 2 / 41 . (51) المعارف (ص 84) . (52) الانساب 5 / 28. (53) تاريخ ابي الفداء 1 / 168 . (54) سيرة الحلبي 2 / 87 . (55) شرح ابن أبي الحديد 1 / 67 . (56) تاريخ أبي الفداء 1 / 168، المعارف (ص 84) . (57) طبقات ابن سعد 3 / 24. (58) تاريخ الطبري 5 / 139 . (59) تاريخ الطبري 5 / 139 . (60) طبقات ابن سعد . (61) صحيح البخاري 5 / 21 . (62) مروج الذهب 1 / 344. (63) الوافي : درهم وأربعة دوانق، القاموس : مادة دوق . (64) طبقات ابن سعد 6 / 8 . (65) السيادة العربية (ص 22). (66) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة (ص 145 - 146 ) نقلا عن فتوح البلدان (ص 272) . (67) خطط الكوفة (ص 21) الحضارة الاسلامية 1 / 123. (68) الانساب 5 / 36 . (69) مروج الذهب 1 / 334 . (70) السيرة الحلبية 2 / 87 . (71) طبقات ابن سعد 3 / 53. (72) الادارة الاسلامية " ص 82 ". (73) سورة الزمر : آية 9 نص على نزولها في عمار القرطبي في تفسيره 5 / 239، وابن سعد في طبقاته 3 / 178. (74) سورة الانعام : آية 122، نص على نزولها في عمار السيوطي في تفسيره 1 / 239، وابن كثير في تفسيره 2 / 172 . (75) سيرة ابن هشام 2 / 114. (76) المتكاء : العظيمة البطن، والتي لا تمسك بولها. (77) الانساب 5 / 48 . (78) الانساب 5 / 49، العقد الفريد 2 / 273. (79) الانساب 5 / 54، اليعقوبي 2 / 150 . (80) كنز العمال 8 / 15 . (81) الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنة : الامام علي وأبوذر وعمار . (82) مجمع الزوائد 9 / 330. (83) الانساب 5 / 52. (84) حياة الامام الحسن 1 / 258. (85) المصرين : البصرة ومصر. (86) يضرب مثلا لمن يغضب غضبا لا ينتفع به. (87) الانساب 5 / 36. (88) حياة الامام الحسن 1 / 253 - 254 . (89) تاريخ ابن كثير 7 / 163، مستدرك الحاكم 3 / 13. (90) الامام الحسين (ص 66) . (91) الامامة والسياسة 1 / 35. (92) تاريخ الطبري 5 / 115، الكامل 5 / 70. (93) مجلحة : مشتق من جلح على الشئ أقدم عليه . (94) تاريخ الطبري 5 / 111 - 112، الانساب 5 / 64 - 65. (95) النهابير : المهالك. (96) تاريخ الطبري 5 / 110، الانساب 5 / 74 . (97) الكامل لابن الاثير 5 / 67، تاريخ اليعقوبي 2 / 152 . (98) الفتوح 2 / 218. (99) الخطابة في صدر الاسلام 2 / 23. (100) حياة الامام الحسن بن علي 1 / 279. (101) الغدير 9 / 206 . (102) تمام المتون (ص 79) . (103) حياة الامام الحسن 1 / 281 . (104) حش كوكب : اسم بستان لليهود كانوا يدفنون موتاهم فيه . (105) العقيدة والشريعة في الاسلام (ص 45). (106) سيرة الحلبي. (107) تاريخ الدولة العربية (ص 50 - 51). (108) الطبري 5 / 57، العبر 2 / 34، ولم يذكر صاحب الفتوحات الاسلامية انضمام الامام الحسين إلى ذلك الجيش. |