فهرس الكتاب

مكتبة الإمام الحسين

 

أفول دولة الحق

 

وليس في تاريخ هذا الشرق ولا في غيره حاكم كالامام امير المؤمنين (ع) في عدله ونزاهته، وايثاره للحق على كل شئ، فقد كان - فيما اجمع عليه المؤرخون - لم يخضع لاية نزعة عاطفية، ولم يستجب لاي هوى مطاع، وانما سار على الطريق الواضح، والمنهج السليم الذي سلكه رسول الله (ص) فلم يحاب، ولم يداهن في دينه، وتبنى النصح الخالص لجميع المسلمين، وقد حاول جاهدا ايام حكومته ان يرفع راية الاسلام، ويحقق مبادئه التي كان منها رفع الحيف والظلم، ومنع الاستغلال، وازالة الفوارق بين ابناء المسلمين وكان من اعظم ما عنى به وضع اموال الدولة في مواضعها فلم ينفق اي شئ منها الا على مرافقها التي عينها الاسلام، وما تاجر بها ، ولو اشترى بها العواطف والضمائر - كما كان يفعل معاوية - لما تنكر عليه النفعيون في جيشه كالاشعث بن قيس وغيره من اقطاب الخيانة والعمالة .

لقد احتاط في اموال الدولة كاشد ما يكون الاحتياط، واجهد نفسه وحملها من امره رهقا من اجل أن يبسط العدل الاقتصادي بين الناس ، يقول عبد الله بن رزين :

دخلت على علي يوم الاضحى فقرب، إلينا حريرة ، فقلت له :

اصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط فان الله قد اكثر الخير ، فقال :

يابن رزين سمعت رسول الله (ص) يقول :

لا يحل لخليفة من مال الله الا قصعتان قصعة ياكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين يدي الناس (1) وقد نقم على سياسته كل من استسلم لدوافع المادة وشهواتها، فراحوا يعملون جاهدين للاطاحة بحكومته، وتشكيل حكومة تضمن مصالحهم الاقتصادية والسياسية .

ومن المؤكد ان الامام كان يعلم كيف يجلب له الطاعة، وكيف يبسط سلطانه ونفوذه على اولئك الذين نقموا عليه، ولكن ذلك لا يتم الا بان يداهن في دينه فيوارب ويخادع ويعطي المال في غير حقه، فيكون كبقية عشاق الملك والسلطان، ومن الطبيعي ان الانحراف عن الحق، والمتاجرة بمصالح الامة مما ياباه علي وتاباه مثله العليا، فلا السلطة تغريه ولا اجتماع الناس حوله تزيده عزة، ولا تفرقهم عنه تزيده وحشة كما كان يقول .

لقد كان الامام يؤمن ايمانا خالصا بالدين، ويرى من الضرورة أن يكون هو المسيطر على قلوب الناس وتفكيرهم، وان لا يكون هناك اي ظل للمنافع والاهواء، ومما لا شك فيه ان هذا النوع الخالص من الايمان لم يتحقق الا للقلة القليلة من اصحابه كحجر بن عدي ومالك الاشتر وعدي بن حاتم وميثم التمار ونظرائهم ممن تغذوا بهديه، وهم الذين قرؤا القران فاحكموه ، وتدبروا الفرض فاقاموه احيوا السنة واماتوا البدعة - على حد تعبيره - اما الاكثرية الساحقة من جيشه وشعبه فانهم لم يعوا اهدافه ومبادثه ، وجهلوا القيم العليا في سياسته المشرقة التي كانت تهدف الى ضمان حقوق المظلومين والمضطهدين .

لقد تحرج الامام في سلوكه السياسي فاخضع سياسته العامة للقيم الدينية والخلقية، فبسط الحق بجميع رحابه ومفاهيمه، ولم يعد اي نفوذ للاقوياء ، ولا سلطان للرأسمالية القرشية التي كانت تعتبر السواد بستانا لقريش .

وقد هبت القوى المنحرفة عن الحق في وجه الامام فاشعلت نار الحرب ، واوقفت مسيرة الامام في تطبيق العدل الاجتماعي، ووضعت السدود والحواجز في طريقه، وقد وقف الامام العظيم ملتاعا حزينا، قد احتوشته ذئاب الاثرة والاستغلال، وتناهب مشاعره الاحداث المفزعة التي تواكبت عليه ، وكان من افجعها الفتن الداخلية التي كانت تثيرها الخوارج الذين كانوا يعيشون معه وهم يجاهرونه بالعداء، وينشرون الفتن والاختلاف، ويتربصون الفرص للخروج عليه .

مؤتمر مكة :

ونزح فريق من الخوارج الى مكة، فعقدوا فيها مؤتمرا عرضوا فيه مصارع اخوانهم الذين قتلوا في النهروان، كما عرضوا فيه الاحداث الجسام التي يواجهها العالم الاسلامي، والتي ادت الى اختلافه وتفككه، وعزوها الى ثلاث - حسب ما يزعمون - الامام علي، ومعاوية وعمرو بن العاص ، وقد عقدوا النية بعد تبادل الراي على القيام باغتيالهم، وانبرى لتنفيذ هذا المخطط كل من .

1 - عبد الرحمن بن ملجم تعهد بقتل الامام علي .

2 - الحجاج بن عبد الله الصريمي تعهد بقتل معاوية .

3 - عمرو بن بكر التميمي التزم بقتل ابن العاص .

وقد اتفقوا على القيام بعملية الاغتيال في ليلة الثامن عشر من رمضان ساعة خروج هؤلاء الثلاثة الى صلاة الصبح، وقد اقاموا بمكة اشهرا ، واعتمروا في رجب، ثم تفرقوا وقصد كل واحد لتنفيذ ما عهد إليه .

راي رخيص :

من الاراء الزائفة التي تحملها بعض الكتب ما ذهب إليه الدكتور بديع شريف من اتهام الفرس بقتل علي(2) وهل وقف الدكتور على نسب ابن ملجم، وانه كان فارسيا ؟ أليس هو من مراد احدى القبائل العربية التي كانت تقطن في الكوفة، وعلق الدكتور نوري جعفر على هذا الراي بقوله :

" ومن يدري فلعل حب الفرس لعلي هو الذي جعل هؤلاء الكتاب يبغضونهم، ويكيلون لهم التهم بغير حساب " (3).

اشتراك الامويين في المؤامرة :

وذكر المؤرخون هذا الحادث الخطير بشئ كثير من التحفظ فلم يكشفوا النقاب عن ابعاده، والذي نراه في كثير من الترجيح ان المؤامرة لم تكن مقتصر على الخوارج، وانما كان للحزب الاموي ضلع كبير فيها ، والذي يدعم ذلك مايلي .

1 - ان أبا الاسود الدؤلي القى تبعة مقتل الامام على بني امية، وذلك في مقطوعته التي رثا بها الامام فقد جاء فيها :

الا أبلغ معاوية بن حرب * فلا قرت عيون الشامتينا

أفي شهر الصيام فجعتمونا * بخير الناس طرا اجمعينا

قتلتم خير من ركب المطايا * ورحلها ومن ركب السفينا(4)

ومعنى هذه الابيات ان معاوية هو الذي فجع المسلمين بقتل الامام الذي هو خير الناس، فهو مسؤول عن اراقة دمه، ومن الطبيعي ان أبا الاسود لم ينسب هذه الجريمة لمعاوية الا بعد التاكد منها، فقد كان الرجل متحرجا أشد التحرج فيما يقول .

2 - ان القاضي نعمان المصري، وهو من المؤرخين القدامى قد ذكر قولا في أن معاوية هو الذي دس ابن ملجم لاغتيال الامام، قال مانصه :

" وقيل ان معاوية عامله - اي عامل ابن ملجم - على ذلك - اى على اغتيال الامام - ودس إليه فيه، وجعل له مالا عليه.." (5)

3 - ومما يؤكد اشتراك الحزب الاموي في المؤامرة هو ان الاشعث ابن قيس قد ساند ابن ملجم، ورافقه اثناء عملية الاغتيال، فقد قال له :

" النجا فقد فضحك الصبح " ولما سمعه حجر بن عدي صاح به " قتلته يا اعور " وكان الاشعث من اقوي العناصر المؤيدة للحزب الاموي، فهو الذي ارغم الامام على قبول التحكيم وهدد الامام بالقتل قبل قتله بزمان قليل كما كان عينا لمعاوية بالكوفة .

إن المؤامرة - كما يقول الرواة - قد احيطت بكثير من السر والكتمان فما الذي اوجب فهم الاشعث ودعمه لها لولا الايعاز إليه من الخارج .

4 - ان مؤتمر الخوارج قد انعقد في مكة أيام موسم الحج، وهي حافلة - من دون شك - بالكثيرين من اعضاء الحزب الاموي الذين نزحوا الى مكة لاشاعة الكراهية والنقمة على حكومة الامام، واغلب الظن انهم تعرفوا على الخوارج الذين كانوا من اعدى الناس للامام، فقاموا بالدعم الكامل لهم على اغتيال الامام، ومما يساعد على ذلك ان الخوارج بعد انقضاء الموسم اقاموا بمكة الى رجب فاعتمروا في البيت ثم نزحوا الى تنفيذ مخططهم فمن المحتمل ان يكونوا في طيلة هذه المدة على اتصال دائم مع الحزب الاموي، وسائر الاحزاب الاخرى المناهضة لحكم الامام .

5 - والذي يدعو الى الاطمئنان في ان الحزب الاموي كان له الضلع الكبير في هذه المؤامرة هو ان ابن ملجم كان معلما للقران (6) وكان ياخذ رزقه من بيت المال، ولم تكن عنده اية سعة مالية فمن اين له الاموال التي اشترى بها سيفه الذي اغتال به الامام بالف وسمه بالف ؟ ؟ ومن اين له الاموال التي اعطاها مهرا لقطام وهو ثلاثة الاف وعبد وقينة ؟ كل ذلك يدعو الى الظن أنه تلقى دعما ماليا من الامويين ازاء قيامه باغتيال الامام .

6 - ومما يؤكد ان ابن ملجم كان عميلا للحزب الاموي هو انه كان على اتصال وثيق بعمرو بن العاص وزميلا له منذ عهد بعيد، فانه لما فتح ابن العاص مصر كان ابن ملجم معه، وكان أثيرا عنده فقد أمره بالنزول بالقرب منه (7) واكبر الظن انه احاط ابن العاص علما بما اتفق عليه مع زميليه من عملية الاغتيال له وللامام، ومعاوية، ولذا لم يخرج ابن العاص الى الصلاة وانما استناب غيره، فلم تكن نجاته وليدة مصادفة وانما جاءت وليدة مؤامرة حكيت اصولها مع ابن العاص .

هذه بعض الامور التي توجب الظن باشتراك الحزب الاموي في تدبير المؤامرة ودعمها .

اغتيال الامام :

واطل على المسلمين شهر رمضان الذي أنزل فيه القران، وقد كان الامام على يقين بانتقاله الى حظيرة القدس في بحر هذا الشهر العظيم، فكان يجهد نفسه ويرهقها على ان يفطر على خبز الشعير وجريش الملح، وان لا يزيد على ثلاث لقم حسب ما يقوله المؤرخون، وكان يحيى ليالي هذا الشهر بالعبادة، ولما اقبلت ليلة الثامن عشر احسن الامام بنزول الرزء القاصم فكان برما تساوره الهموم والاحزان، وجعل يتامل في الكواكب وهي مرتعشة الضوء كانها ترسل أشعة حزنها إلى الارض، وطفق يقول :

" ما كذبت ولا كذبت انها الليلة التي وعدت فيها " .

وأنفق الامام ليله ساهرا، وقد راودته ذكريات جهاده وعظيم عنائه في الاسلام، وزاد وجيبه وشوقه لملاقاة ابن عمه رسول الله (ص) ليشكو إليه ما عاناه من أمته من الاود .

وتوجه الامام بمشاعره وعواطفه الى الله يطلب منه الفوز والرضوان وقبل أن تشرق أنوار ذلك الفجر الذي دام في ظلامه على البؤساء والمحرومين انطلق الامام فاسبغ الوضوء، وتهيا الى الخروج من البيت، فصاحت في وجهه وز كانها صاحب ملتاعة حزينة تنذر بالخطر العظيم الذي سيدهم أرض العرب والمسلمين، وتنبا الامام من لوعتهن بنزول القضاء، فقال :

" لا حول ولا قوة إلا بالله صوائح تتبعها نوائح " (8) .

وخرج الامام الى بيت الله فجعل يوقظ الناس على عادته الى عبادة الله ثم شرع في صلاته وبينما هو ماثل بين يدي الله وذكره على شفيته إذ هوى عليه المجرم الخبيث عبد الرحمن بن ملجم، وهو يهتف بشعار الخوارج " الحكم لله لا لك " فعلا راس الامام بالسيف فقد جبهته الشريفة التي طالما عفرها بالسجود لله، وانتهت الضربة الغادرة الى.

دماغه المقدس الذي ما فكر فيه إلا في سعادة الناس، وجمعهم على صعيد الحق .

ولما أحس الامام بلذع السيف انفرجت شفتاه عن ابتسامة، وانطلق صوته يدوي في رحاب الجامع قائلا :

" فزت ورب الكعبة " .

لقد كنت - يا أمير المؤمنين - أول الفائزين، وأعظم الرابحين بمرضاة الله، فقد سايرت الحق منذ نعومة اظفارك، فلم تداهن في دينك ولم تؤثر رضا احد على طاعة الله، قد جاهدت وناضلت من أجل أن تعلو كلمة الله في الارض، ووقيت رسول الله (ص) بنفسك ومهجتك .

لقد فزت، وانتصرت مبادؤك، وبقيت انت وحدك حديث الدهر بما تركته من سيرة مشرقة اضاءت سماء الدنيا، وغذت الاجيال بجوهر الحق والعدل .

وخف الناس مسرعين الى الجامع حينما اذيع مقتل الامام فوجدوه طريحا في محرابه وهو يلهج بذكر الله، قد نزف دمه، ثم حمل الى داره والناس تعج بالبكاء وهم يهتفون بذوب الروح .

قتل الامام الحق والعدل.

قتل ابو الضعفاء واخو الغرباء .

واستقبلته عائلته بالصراخ، فامرهن (ع) بالخلود الى الصبر ، وغرق الامام الحسن بالبكاء فالتفت إليه الامام قائلا :

" يا بني لا تبك فانت تقتل بالسم، ويقتل اخوك الحسين بالسيف.

" وتحقق تنبؤ الامام فلم تمض حفنة من السنين واذا بالحسن اغتاله معاوية بالسم، فذابت احشاؤه، واما الحسين فتناهب جسمه السيوف والرماح ، وتقطعت أوصاله على صعيد كربلاء .

ويقول المؤرخون ان الامام الحسين لم يكن حاظرا بالكوفة حينما اغتيل أبوه وانما كان في معسكر النخيلة قائدا لفرقة من الجيش الذي اعده الامام لمناجزة معاوية، وقد ارسل إليه الامام الحسن رسولا يعرفه بما جرى على ابيه، فقفل راجعا الى الكوفة، وهو غارق بالاسى والشجون، فوجد أباه على حافة الموت فالقى بنفسه عليه يوسعه تقبيلا ودموعه تتبلور على خديه .

واخذ الامام العظيم يوصي اولاده بالمثل الكريمة والقيم الانسانية ، وعهد إليهم أن لا يقتلوا غير قاتله، وان لا يتخذوا من قتله سببا لاثارة الفتنة واراقة الدماء بين المسلمين كما فعل بنو أمية حينما قتل عميدهم عثمان.

الى الرفيق الاعلى :

واخذ الامام يعاني الام الاحتضار وهو يتلو آيات الذكر الحكيم ، وكان آخر ما نطق به قوله تعالى :

" لمثل هذا فليعمل العاملون " ثم فاضت روحه الزكية، تحفها ملائكة الرحمن، فمادت اركان العدل في الارض ، وانطمست معالم الدين لقد مات ملاذ المنكوبين والمحرومين الذي جهد نفسه أن يقيم في ربوع هذا الكون دولة تكتسح الاثرة والاستغلال، وتقيم العدل والحق بين الناس .

وقام سبطا رسول الله (ص) بتجهيز ابيهما فغسلا جسده الطاهر وادرجاه في اكفانه، وفي الهزيع الاخير من الليل حملوه الى مقره الاخير فدفنوه في النجف الاشرف، وقد واروا معه العدالة الاجتماعية، والقيم الانسانية ويقول المؤرخون ان معاوية لما وافاه النباء بمقتل الامام فرح ، واتخذ يوم قتله عيدا رسميا في دمشق فقد تمت بوارق اماله، وتم له اتخاذ الملك وسيلة لاستعباد المسلمين وارغامهم على ما يكرهون .

متارك حكومة الامام :

وتركت حكومة الامام آثارا بالغة الاهمية والخطورة في المجتمع الاسلامي ولعل من اهممها ما يلي:

1 - انها ابرزت الواقع الاسلامي بجميع طاقاته في عالم السياسة والحكم، فقد كان الامام يهدف في حكمه الى ازالة الفوارق الاجتماعية بين الناس، وتحقيق الفرض المتكافئة بينهم على اختلاف قومياتهم واديانهم ، ومعاملة جميع الطوائف بروح المساواة والعدالة فيما بينهم من دون أن تتمتع اي طائفة بامتياز خاص وقد اوجدت هذه السياسة للامام رصيدا شعيبا هائلا، فقد ظل علي قائما في قلوب الجماهير الشعبية بما تركه من صنوف العدل والمساواة، وقد هام بحبه الاحرار، ونظروا إليه كاعظم مصلح اجتماعي في الارض، وقدموه على جميع اعلام تلك العصور، يقول ايمن ابن خريم الاسدي مخاطبا بني هاشم وعلى راسهم الامام :

أأجعلكم واقواما سواء * وبينكم وبينهم الهواء

وهم أرض لارجلكم وأنتم * لا رؤوسهم وأعينهم سماء (9)

2 - ان مبادئ الامام وآراءه النيرة ظلت تطارد الامويين وتلاحقهم في قصورهم فكانوا ينظرون إليها شبحا مخفيا يهدد سلطانهم، مما جعلهم يفرضون سبه على المنابر للحط من شانه، وصرف الناس عن قيمه ومبادئه .

3 - ان حكومة الامام التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية الكبرى قد جرت لابنائه كثيرا من المشاكل والمصاعب، والحقت بهم التنكيل والقتل من حكام عصرهم، وقد تنبا النبي الاعظم (ص) بذلك فقد روى أبو جعفر الاسكافي أن النبي (ص) دخل على فاطمة فوجد عليا نائما فذهبت لتوقظه، فقال (ص) :

" دعيه فرب سهر له بعدي طويل ، ورب جفوة لاهل بيتي من اجله " فكبت فاطمة، فقال لها :

لا تبكي فانه معي وفي موقف الكرامة عندي (10) .

لقد امعن الحكم الاموي والعباسي في ظلم ابناء الامام لانهم تبنوا حقوق المظلومين والمضطهدين، وتبنوا المبادئ العليا التي رفع شعارها الامام امير المؤمنين فناضلوا كاشد ما يكون النضال في سبيل تحقيقها على مسرح الحياة، وكان من اشد ابناء الامام حماسا واندفاعا في حماية مبادئ ابيه الامام الحسين (ع) فقد انطلق الى ساحات الجهاد عازما على الموت آيسا من الحياة ليحمي مبادئ جده وأبيه ويرفع راية الاسلام عالية خفاقة وينكس اعلام الشرك والالحاد، ويحطم قيود العبودية والذل .

4 - وأوجد الامام في اثناء حكمه القصير وعيا اصيلا في مقارعة الظلم، ومناهضة الجور فقد هب في وجه الحكم الاموي اعلام اصحابه كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعبد الله بن عفيف الازدي وامثالهم من الذين تربوا بهدي الامام، فدوخوا اولئك الظالمين بثورات متلاحقة اطاحت بزهوهم وجبروتهم، لقد كان حكم الامام - حقا - مدرسة للنضال والثورة، ومدرسة لبث الوعي الديني والادراك الاجتماعي ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن مخلفات حكومة الامام .

خلافة الحسن :

وتقلد الامام الحسن (ع) ازمة الخلافة الاسلامية بعد أبيه، فتسلم قيادة حكومة شكلية عصفت بها الفتن، ومزقت جيشها الحروب والاحزاب ولم تعد هناك اية قاعدة شعبية تستند إليها الدولة، فقد كان الاتجاه العام الذي بمثله الوجوه والاشرف مع معاوية، فقد كانوا على اتصال وثيق به قبل مقتل الامام وبعده، كما كان لهم الدور الكبير في افساد جيش الامام حينما مني جيش معاوية بالهزيمة والفرار، وعلى اي حال فان الامام الحسن بعد أن تقلد الخلافة اخذ يتهيا للحرب، وقد أمر بعقد اجتماع عام في جامع الكوفة وقد حضرته القوات المسلحة وغيرها، والقى الامام خطابا رائعا ومؤثرا دعا في الى تلاحم القوى ووحدة الصف، وحذر فيه من الدعايات التي تبثها اجهزة الحكم الاموي، ثم ندب الناس لحرب معاوية فلما سمعوا ذلك وجلت قلوبهم وكمت افواههم، ولم يستجب منهم احد سوى البطل الملهم عدي بن حاتم فانبرى يعلن دعمه الكامل للامام، ووجه اعنف اللوم والتقريع لاهل الكوفة على موقفهم الانهزامي واستبان للامام وغيره ان جيشه لا يريد الحرب، فقد خلع يد الطاعة، وانساب في ميادين العصيان والتمرد .

وبعد جهود مكثفة قام بها بعض المخلصين للامام نفر للحرب اخلاط من الناس - على حد تعبير الشيخ المفيد - كان أكثرهم من الخوارج والشكاكين وذوي الاطماع، وهذه العناصر لم تؤمن بقضية الامام، وقد تطعمت بالخيانة والغدر، ويقول الرواة ان الامام اسند مقدمة قيادة جيشه لعبيد الله بن العباس الذي وتره معاوية بابنيه ليكون ذلك داعية اخلاص له و حينما التقى جيشه بجيش معاوية، مد إليه معاوية أسلاك مكره فمناه بميلون درهم يدفع نصفه في الوقت والنصف الاخر اذا التحق به (11) وسال لعاب عبيد الله فاستجاب لدنيا معاوية ومال عن الحق فالتحق بمعسكر الظلم والجور ومعه ثمانية الاف من الجيش (12) غير حافل بالخيانة والعار، ولا بالاضرار الفظيعة التي ألحقها بجيش ابن عمه، فقد تفللت جميع وحداته وقواعده ، ولم تقتصر الخيانة على عبيد الله، وانما خان غيره من كبار قادة ذلك الجيش، فالتحقوا بمعاوية، وتركوا الامام في أرباض ذلك الجيش المنهزم يصعد آهاته وآلامه .

ولم تقتصر محنة الامام وبلاؤه في جيشه على خيانة قادة فرقة، وإنما تجاوز بلاؤه الى ما هو أعظم من ذلك، فقد قامت فصائل من ذلك الجيش باعمال رهيبة بالغة الخطورة وهي :

1 - الاعتداء على الامام :

وقام الرجس الخبيث الجراح بن سنان بالاعتداء على الامام فطعنه في فخذه بمغول (13) فهوى الامام جريحا، وحمل الى الموانى لمعالجة جرحة (14) وطعنه شخص آخر بخنجر في أثناء الصلاة (15) كما رماه شخص بسهم في أثناء الصلاة إلا انه لم يؤثر فيه شيئا (16) وأيقن الامام أن أهل الكوفة جادون في قتله واغتياله .

2 - الحكم عليه بالكفر .

واصيب ذلك الجيش بدينه وعقيدته فقد رموا حفيد نبيهم وريحانته بالكفر والمروق من الدين، فقد جابهه الجراح بن سنان رافعا عقيرته قائلا :

" اشركت يا حسن كما أشرك أبوك..." (17).

وكان هذا راي جميع الخوارج الذين كانوا يمثلون الاكثرية الساحقة في ذلك الجيش .

3 - الخيانة العظمى :

والخيانة العظمى التي قام بها بعض زعماء ذلك الجيش انهم راسلوا معاوية وضمنوا له تسليم الامام اسيرا أو اغتياله متى رغب وشاء، (18) واقض ذلك مضجع الامام فخاف ان يؤسر ويسلم الى معاوية فيمن عليه، ويسجل بذلك يدا لبني أميه على الاسرة النبوية، كما كان (ع) يتحدث بذلك بعد ابرام الصلح 4 - نهب امتعة الامام .

وعمد اجلاف أهل الكوفة الى نهب امتعة الامام واجهزته فنزعوا بساطا كان جالسا عليه كما سلبوا منه رداءه (19) .

هذه بعض الاحداث الرهيبة التي قام بها ذلك الجيش الذي تمرس في الخيانة والغدر .

الصلح :

ووقف الامام الحسن من هذه الفتن السود موقف الحازم اليقظ الذي تمثلت فيه الحكمة بجميع رحابها ومفاهيمها، فراى انه أمام امرين :

1 - ان يفتح باب الحرب مع معاوية، وهو على يقين لا يخامره ادنى شك ان الغلبة ستكون لمعاوية، فاما ان يقتل هو واصحابه واهل بيته الذين يمثلون القيم الاسلامية، ويخسر الاسلام بتضحيتهم قادته ودعاته من دون ان تستفيد القضية الاسلامية اي شئ فان معاوية بحسب قابلياته الدبلوماسية يحمل المسؤلية على الامام، ويلقي على تضحيته الف حجاب، او انه يؤسر فيمن عليه معاوية فتكون سبة على بني هاشم وفخرا لبني امية .

2 - ان يصالح معاوية فيحفظ للاسلام رجاله ودعاته، ويبرز في صلحه واقع معاوية، ويكشف عنه ذلك الستار الصفيق الذي تستر به ، وقد اختار (ع) هذا الامر على ما فيه من قذى في العين وشجي في الحلق ، ويقول المؤرخون إنه جمع جيشه فعرض عليهم الحرب أو السلم فتعالت الاصوات من كل جانب وهم ينادون .

" البقية البقية " (20) .

لقد استجابوا للذل، ورضوا بالهوان، وما لوا عن الحق، وقد ايقن الامام أنهم قد فقدوا الشعور والاحساس، وانه ليس بالمستطاع أن يحملهم على الطاعة ويكرههم على الحرب فاستجاب - على كره ومرارة - الى الصلح .

لقد كان الصلح امرا ضروريا يحتمه الشرع، ويلزم به العقل ، وتقضي به الضروف الاجتماعية الملبدة بالمشاكل السياسية فان من المؤكدانه لو فتح باب الحرب لمني جيشه بالهزيمة، ومنيت الامة من جراء ذلك بكارثة لاحد لابعادها .

اما كيفية الصلح وشروطه واسبابه وزيف الناقدين له فقد تحدثنا عنها بالتفضيل في كتابنا حياة الامام الحسن (ع) .

موقف الامام الحسين :

والشئ المحقق ان الامام الحسين قد تجاوب فكريا مع أخيه في أمر الصلح، وانه تم باتفاق بينهما فقد كانت الاوضاع الراهنة تقضي بضرورته ، وانه لا بد منه، وهناك بعض الروايات الموضوعة تعاكس ما ذكرناه ، وان الامام الحسين كان كارها للصلح وقد هم ان يعارضه فانذره أخوه بان يقذفه في بيت فيطينه عليه حتى يتم أمر الصلح، فراى أن من الوفاء لاخيه أن يعطيه ولا يخالف له أمرا فاجابه الى ذلك، وقد دللنا على افتعال ذلك وعدم صحته اطلاقا في كتابنا حياة الامام الحسن .

عدي بن حاتم مع الحسين :

ولما ابرم أمر الصلح خف عدي بن حاتم ومعه عبيدة بن عمر الى الامام الحسين وقلبه يلتهب نارا فدعا الامام الى اثارة الحرب قائلا :

" يا أبا عبد الله شريتم الذل بالعز، وقبلتم القليل وتركتم الكثير ، اطعنا اليوم، واعصنا الدهر، دع الحسن، وما راى من هذا الصلح ، واجمع إليك شيعتك من اهل الكوفة وغيرها وولني وصاحبي هذه المقدمة ، فلا يشعر ابن هند الا ونحن نقارعه بالسيوف..".

فقال الحسين (ع)، " إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل لنقض بيعتنا " (21) ولو كان الحسين يرى مجالا للتغلب على الاحداث لخاض الحرب ، وناجز معاوية، ولكن قد سدت عليه وعلى اخيه جميع النوافذ والسبل ، فرؤا انه لا طريق لهم الا الصلح .

تحول الخلافة :

وتحولت الخلافة الاسلامية من طاقتها الاصيلة ومفاهيمها البناءة الى ملك عضوض مستبد لا ظل فيه للعدل، ولا شبح فيه للحق قد تسلطت الطغمة الحاكمة من نبي امية على الامة وهي تمعن في اذلالها ونهب ثرواتها، وارغامها على المعبودية، يقول بعض الكتاب :

" ونجم عن زوال الخلافة الراشدة وانتقال الخلافة الى بني أمية نتائج كبيرة فقد انتصرت أسرة بني أمية على الاسرة الهاشمية، وهذا كان معناه انتصار الارستقراطية القرشية، واصحاب رؤوس المال والمضاربات التجارية على اصحاب المبادئ والمثل، لقد كان نصر معاوية هزيمة لكل الجهود التي بذلت للحد من طغيان الراسمالية القرشية ، هزيمة لحلف الفضول، وهزيمة للدوافع المباشرة لقيام الاسلام وحربه على الاستغلال والظلم، هزيمة للمثل والمبادئ، ونجاح للحنكة والسياسة المدعومة بالتجربة والمال، ولقد كان لهذه الهزيمة وقع مفجع على الاسلام واجيال المسلمين.

" ويقول (نيكلسون) :

" واعتبر المسلمون انتصار بني امية وعلى راسها معاوية انتصارا للارستقراطية والوثنية التي ناصبت الرسول واصحابه العداء، والتي جاهدها رسول الله (ص) حتى قضى عليها، وصبر معه المسلمون على جهادها ومقاومتها حتى نصرهم الله، واقاموا على انقاضها دعائم الاسلام ذلك الدين السمح الذي جعل الناس سواسية في السراء والضراء، وازال سيادة رهط كانوا يحتقرون الفقراء، ويستذلون الضعفاء، ويبتزون الاموال.." .

وعلى أي حال فقد فجع العالم الاسلامي - بعد الصلح - بكارثة كبرى فخرج من عالم الدعة والامن والاستقرار الى عالم ملئ بالظلم والجور فقد اسرع الامويون بعد ان استتب لهم الامر الى الاستبداد بشؤون المسلمين، وارغامهم على ما يكرهون .

وعانى الكوفيون من الظلم ما لم يعانه غيرهم، فقد اخذت السلطة تحاسيهم حسابا عسيرا على وقوفهم مع الامام في ايام صفين، وعهدت في شؤونهم الى الجلادين امثال المغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه فصبوا عليهم وابلا من العذاب الاليم، واخذ الكوفيون يندبون حظهم التعيس على ما اقترفوه من عظيم الاثم في خذلانهم للامام امير المؤمنين وولده الحسن، وجعلوا يلحون على الامام الحسين بوفودهم ورسائلهم لينقذهم من ظلم الامويين وجورهم الا ان من المدهش حقا انه لما استجاب لهم شهروا في وجهه السيوف، وقطعوا اوصاله واوصال ابنائه على صعيد كربلا...

وبهذا ينتهي بنا المطاف عن افول دولة الحق .

 

(1) جواهر المطالب في مناقب الامام ابي الحسن (ص 43) لشمس الدين ابو البركات، من مصورات مكتبة الامام امير المؤمنين.

(2) الصراع بين الموالي والعرب (ص 32 - 33).

(3) الصراع بين الموالي ومبادئ الاسلام (ص 103) .

(4) تاريخ ابن الاثير 3 / 198.

(5) المناقب والمثالب (ص 98) للقاضي نعمان المصري من مصورات مكتبة الامام الحكيم .

(6) لسان ميزان 3 / 440.

(7) لسان ميزان 3 / 440

(8) مروج الذهب 2 / 291.

(9) الاغاني 1 / 21 .

(10) شرح النهج 4 / 107.

(11) شرح ابن أبي الحديد 4 / 28 .

(12) تاريخ اليعقوبي 2 / 191.

(13) المغول : آلة تشبه السيف .

(14) الارشاد (ص 170) .

(15) و (16) حياة الامام الحسن 2 / 102 - 105 :

(17) حياة الامام الحسن 2 / 103.

(18) حياة الامام الحسن 2 / 100 .

(19) تاريخ اليعقوبي.

(20) حماة الاسلام 1 / 123، المجتنى لابن دريد (ص 36).

(21) الاخبار الطوال (ص 203).