في مكة
وبعد ما اعلن الامام الحسين (ع) رفضه الكامل لبيعة يزيد اتجه مع اهل بيته إلى مكة التي هي حرم الله، وحرم رسوله، عائذا ببيتها الحرام الذي فرض فيه تعاى الامن والطمانينة لجميع العباد . لقد اتجه إلى هذا البلد الامين ليكون بمامن من شرور الامويين واعتداءاتهم، ويقول المؤرخون : إنه خرج ليلة الاحد لليلتين بقيتا من رجب سنة (60 هـ) (1) وقد خيم الذعر على المدنيين حينما رؤوا آل النبي (ص) ينزحون عنهم إلى غير ماب . وفصل الركب من يثرب، وهو جاد في مسيرته، وكان الامام (ع) يتلو قوله تعالى : " رب نجني من القوم الظالمين " لقد شبه خروجه بخروج موسى على فرعون زمانه، وكذلك قد خرج على طاغية زمانه فرعون هذه الامة ليقيم الحق، ويبني صروح العدل وسلك الطريق العام الذي يسلكه الناس من دون أن يتجنب عنه، واشار عليه بعض اصحابه ان يحيد عنه - كما فعل ابن الزبير - مخافة أن يدركه الطلب من السلطة في يثرب، فاجابه عليه السلام بكل بساطة وثقة في النفس قائلا : (لا والله لا فارقت هذا الطريق ابدا او انظر إلى ابيات مكة، أو يقضي الله في ذلك ما يجب ويرضى.." . لقد رضي بكل قضاء يبرمه الله، ولم يضعف، ولم توهن عزيمته الاحداث الهائلة التي لا يطيقها اى انسان، وكان يتمثل في اثناء مسيرته بشعر يزيد بن المفرغ : لا ذعرت السوام في فلق الصبح * مغيرا ولا دعيت يزيدا يوم اعطي مخافة الموت ضيما * والمنايا ترصدنني أن احيدا (2) لقد كان على ثقة ان المنايا ترصده ما دام مصمما على عزمه الجبار في أن يعيش عزيزا لا يضام ولا يذل ولا يخضع لحكم يزيد..ويقول بعض الرواة انه كان في مسيرته ينشد هذه الابيات : اذا المرء لم يحم بنيه وعرسه * ونسوته كان اللئيم المسببا وفي دون ما يبقي يزيد بنا غدا * نخوض حياض الموت شرقا ومغربا ونضرب كالحريق مقدما * اذا ما راه ضيغم راح هاربا ودل هذا الشعر على مدى عزمه على أن يخوض حياض الموت سواء أكانت في المشرق أم في المغرب ولا يبايع يزيد بن معاوية. مع عبد الله بن مطيع : واستقبله في أثناء الطريق عبد الله بن مطيع العدوي، فقال له : - أين تريد أبا عبد الله، جعلني الله فداك ؟ - اما في وقني هذا أريد مكة، فاذا صرت إليها استخرت الله في أمري بعد ذلك . - خار الله لك، يا ابن بنت رسول الله فيما قد عزمت عليه، اني أشير عليك بمشورة فاقبلها مني . - ما هي ؟ - اذا أتيت مكة فاحذر أن يغرك أهل الكوفة، فيها قتل أبوك واخوك طعنوه بطعنة كادت أن تاني على نفسه، فالزم الحرم فانك سيد العرب في دهرك " فو الله لئن هلكت ليهلكن اهل بيتك بهلاكك " . وشكره الامام وودعه ودعاله بخير (3) وسار موكب الامام يجد السير لا يلوي على شئ حتى انتهى إلى مكة فلما نظر الامام إلى جبالها تلا قوله تعالى : " ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " (4) . لقد كانت هجرته إلى مكة كهجرة موسى إلى مدين، فكل منهما قد فر من فرعون زمانه، وهاجر لمقاومة الظلم ومناهضة الطغيان . في مكة : وانتهى الامام إلى مكة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان (5) وقد حط رحله في دار العباس بن عبد المطلب (6) وقد استقبل استقبالا حافلا من المكيين، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشية، وهم يسالونه عن أحكام دينهم، واحاديث نبيهم، يقول ابن كثير : " وعكف الناس بمكة يفدون إليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمعون منه ، ويضبطون ما يروون عنه " (7) لقد كان بجاذبيته الروحية مهوي القلوب ، وندي الافئدة، وقد حامت حوله النفوس تروي غليلها من نمير علومه التي هي امتداد من علوم جده مفجر العلم والنور في الارض . احتفاء الحجاج والمعتمرين به : وأخذ القادمون إلى بيت الله من الحجاج والمعتمرين من سائر الافاق يختلفون إليه (8) ويهتفون بالدعوة إليه، ويطوفون حوله، هذا يلتمس منه العلم والحديث، وذاك يقتبس منه الحكم النافعة، والكلم الجامعة ليهتدي بانوارهما في ظلمات الحياة (9) ولم يترك الامام ثانية من وقته تمر دون أن يبث الوعي الاجتماعي، ويدعو الى اليقظة والحذر من السياسة الاموية الهادفة إلى استعباد المسلمين واذلاهم . فزع ابن الزبير : وكان ابن الزبير لاجئا الى مكة فرارا من البيعة ليزيد، وقد ثقل عليه اختلاف الناس على الامام الحسين (ع) واجماعهم على تعظيمه وتبجيله وزهد الناس وانصرافهم عنه لانه لم يكن يتمتع بصفة محبوبة، ولا بنزعة كريمة، يقول زيد بن علي الجذعاني : " وكانت فيه خلال لا تصلح معها الخلافة لانه كان بخيلا ضيق العطن (10) سيئ الخلق، حسودا كثير الخلاف أخرج محمد بن الحنفية، ونفى عبد الله بن عباس الى الطائف " (11) ومن مظاهر ذاتياته الشح والبخل، وفيه يقول الشاعر : رايت أبا بكر وربك غالب * على أمره يبغي الخلافة بالتمر (12) وقد عانى الشعب في أيام حكمه القصير الجوع والحرمان، كما عانت الموالي التي بالغت في نصرته أشد ألوان الضيق، وقد عبر شاعرهم عن خيبة أملهم في نصرته يقول : إن الموالي أمست وهي عاتبة * على الخليفة تشكو الجوع والسغبا ماذا علينا وماذا كان يرزؤنا * أي الملوك على من حولنا غلبا(13) واظهر ابن الزبير النسك والطاعة والتقشف تصنعا لصيد البسطاء واغراء السذج، وقد وصفه الامام امير المؤمنين (ع) بقوله : " ينصب حبالة الدين لاصطفاء الدنيا " (14) . ومن المؤكد أنه لم يكن يبغي في خروجه على سلطان بني أمية وجه الله وانما كان يبغي الملك والسلطان، وقد أدلى بذلك عبد الله بن عمر حينما ألحت عليه زوجته في مبايعته، وذكرت له طاعته وتقواه فقال لها : " أما رايت بغلات معاوية التي كان يحج عليها الشهباء ؟ فان ابن الزبير ما يريد غيرهن " (15) . وعلى أي حال فان ابن الزبير لم يكن شئ اثقل عليه من أمر الحسين لعلمه بانه لا يبايعه احد مع وجود الحسين (ع) لانه ابن رسول الله (ص) فليس على وجه الارض أحد يساميه ولا يساويه - كما يقول ابن كثير - (16) واكد ذلك (اوكلي) قال : ان ابن الزبير كان مقتنعا تماما بان كل جهوده ستضيع عبثا طالما بقي الحسين على قيد الحياة، ولكن اذا أصابه مكروه فان طريق الخلافة سيكون ممهدا له . وكان يشير على الامام بالخروج إلى العراق للتخلص منه، ويقول له : " ما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك ؟ فو الله لو أن لي مثلهم ما توجهت إلا إليهم " (17). ولم يمنح ابن الزبير النصيحة للامام، ولم يخلص له في الراي، وانما أراد أن يستريح منه، ولم تخف على الامام دوافعه، فراح يقول لاصحابه : " إن هذا - وأشار إلى ابن الزبير - ليس شئ من الدنيا أحب إليه من أن اخرج من الحجاز وقد علم أن الناس لا يعدلونه بي فود أني خرجت حتى يخلو له " (18) . ولم تحفل السلطة الاموية بابن الزبير وإنما وجهت جميع اهتمامها نحو الامام الحسين . راي الغزالي : واستبعد الشيح محمد الغزالي أن ابن الزبير قد أشار على الحسين بالخروج إلى العراق ليستريح منه، قال : " فعبد الله بن الزبير اتقى الله وأعرق في الاسلام من أن يقترف هذه الدنية " (19) . وهذا الراي بعيد عن الواقع فان ابن الزبير لم تكن له أية حريجة في الدين فهو الذي أجج نار الفتنة في حرب الجمل وزج أباه فيها، وقد تهالك على السلطان، وضحى بكل شئ في سبيله، وقد كان من أعدى الناس للعترة الطاهرة، ومن كان هذا شانه فهل يكون تقيا وعريقا في الاسلام ؟ راي رخيص : من الاراء الرخيصة ما ذهب إليه أنيس زكريا المعروف بنزعته الاموية ان من أهم الاسباب التي أدت إلى قتل الامام الحسين (ع) تشجيع ابن الزبير له في الخروج إلى العراق، فقد كان له أثره المهم في نفسه (20) وهذا القول من أهزل الاراء فان الامام الحسين (ع) لم يتاثر بقول ابن الزبير، ولم ينخدع بتشجيعه له، وانما كانت هناك عوامل أخرى حفزته إلى الخروج إلى العراق، وقذ ذكرناها بالتفصيل في البحوث السابقة . فزع السلطة المحلية : وذعرت السلطة المحلية في مكة من قدوم الامام إليها، وخافت أن يتخذها مقرا سياسيا لدعوته، ومنطلقا لاعلان الثورة على حكومة دمشق ، وقد خفت حاكم مكة عمرو بن سعيد الاشدق وهو مذعور فقابل الامام ، فقال له : - ما أقدمك ؟ - عائذا بالله، وبهذا البيت..(21) . لقد جاء الامام عائذا ببيت الله الحرام الذي من دخله كان آمنا ، وكان محصنا من كل ظلم واعتداء . ولم يحفل الاشدق بكلام الامام وانما رفع رسالة إلى يزيد أحاطه بها علما بمجيئ الامام إلى مكة، واختلاف الناس إليه، وازدحامهم على مجلسه، واجماعهم على تعظيمه، وأخبره ان ذلك يشكل خطرا على الدولة الاموية . قلق يزيد : واضطرب يزيد كاشد ما يكون الاضطراب حينما وافته الانباء بامتناع الحسين عن بيعته وهجرته إلى مكة، واتخاذها مركزا لدعوته، وارسال العراق الوفود والرسائل إلى الدعوة لبيعته، فكتب إلى عبد الله بن عباس رسالة، وهذا نصها : " أما بعد : فان ابن عمك حسينا، وعدو الله ابن الزبير التويا ببيعتي ولحقا بمكة مرصدين للفتنة، معرضين أنفسهما للهلكة، فاما ابن الزبير فانه صريع الفنا، وقتيل السيف غدا، وأما الحسين فقد أحببت الاعذار إليكم أهل البيت مما كان منه، وقد بلغني أن رجالا من شعيته من أهل العراق يكاتبونه، ويكاتبهم، ويمنونه الخلافة، ويمنيهم الامرة ، وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتائج الارحام ، وقد قطع ذلك الحسين، وبته، وأنت زعيم أهل بيتك، وسيد بلادك ، فالقه فاردده عن السعي في الفتنة، فان قبل منك وأناب فله عندى الامان، والكرامة الواسعة، وأجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه وإن طلب الزيادة فاضمن له ما أديك، وأنفذ ضمانك، وأقوم له بذلك وله علي الايمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة بما تطمئن به نفسه، ويعتمد في كل الامور عليه، عجل بجواب كتابي، وبكل حاجة لك قبلي والسلام وختم كتابه بهذه الابيات : يا أيها الراكب العادي مطيته * على غذافرة في سيرها فحم ابلغ قريشا على ناي المزار بها * بيني وبين الحسين الله والرحم وموقف بفنا البيت أنشده * عهد الاله غدا وما توفي به الذمم عنيتم قومكم فخرا بامكم * أم لعمري حصان عفة كرم هي التي لا يداني فضلها أحد * بنت الرسول وخير الناس قد علموا اني لاعلم أو ظنا كعالمه * والظن يصدق أحيانا فينتظم ان سوف يترككم ما تدعون بها * قتلى تهاداكم العقبان والرخم يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ سكنت * وامسكوا بحبال السلم واعتصموا قد جرب الحرب من قد كان قبلكم * من القرون وقد بادت بها الامم فانصفوا قومكم لا تهلكوا برحا * فرب ذي برح زلت به القدم ودلت هذه الرسالة على غباوة يزيد فقد حسب ان الامام يطلب المال والثراء في خروجه عليه، ولم يعلم أنه انما ناهضه لا يبغي بذلك إلا الله والتماس الاجر في الدار الاخرة . جواب ابن عباس : وأجابه ابن عباس " أما بعد : فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكة، فاما ابن الزبير فرجل منقطع عنا برايه وهواه يكاتمنا مع ذلك اضغانا يسرها في صدره يوري علينا وري الزناد، لافك الله أسيرها فارى في أمره ما انت راء . واما الحسين فانه لما نزل مكة وترك حرم جده، ومنازل آبائه سالته عن مقدمه فاخبرني ان عمالك بالمدينة أساؤا إليه، وعجلوا عليه بالكلام الفاحش، فاقبل إلى حرم الله مستجيرا به، وسالقاه فيما اشرت إليه، ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة، ويطفئ به النائرة ويخمد به الفتنة، ويحقن به دماء الامة ، فاتق الله في السر والعلانية، ولا تبيتن ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة، ولا ترصده بمظلمة، ولا تحقر له مهراة (22) فكم من حافر لغيره حفرا وقع فيه، وكم من مؤمل أملا لم يؤت أمله، وخذ بحظك من تلاوة القران ، ونشر السنة، وعليك بالصيام والقيام لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها فان كل ما اشتغلت به عن الله يضر ويفنى وكل ما اشتغلت به من أسباب الاخرة ينفع ويبقى. والسلام..." (23) . وحفلت هذه الرسالة بما يلي : 1 - إنه لا علاقة لبني هاشم بابن الزبير،، ولا هم مسؤولون عن تصرفاته، فقد كان عدوا لهم يتربص بهم الدوائر، ويبغي لهم الغوائل . 2 - ان الامام الحسين انما نزح من يثرب إلى مكة لا لائارة الفتنة وانما لاسائة عمال يزيد له، وقد قدم إلى مكة ليستجير ببيتها الحرام . اقصاء حاكم المدينة : كان الوليد بن عتبة بن أبي سفيان واليا على يثرب بعد عزل مروان عنها، وكان - فيما يقول المؤرخون - فطنا ذكيا يحب العافية ويكره الفتنة، ولما امتنع الامام الحسين (ع) من البيعة ليزيد لم يتخذ معه الاجراءات الصارمة، ولم يكرهه على ما لا يحب، وانما فسح له المجال في الرحيل إلى مكة من دون أن يعوقه عنها، في حين قد اصر عليه مروان بالتنكيل به فرفض ذلك، وقد نقل الامويون موقفه المتسم باللين والتسامح مع الحسين الى يزيد فغضب عليه وعزله عن ولايته (24)، وقد عهد بها إلى جبار من جبابرة الامويين عمرو بن سعيد الاشدق (25) وقد عرف بالقسوة والغلظة، قدم إلى المدينة في رمضان بعد أن تسلم ولايته عليها فصلى، بالناس صلاة العتمة، وفي الصباح خرج على الناس وعليه قميص احمر وعمامة حمراء فرماه الناس بابصارهم منكرين ما هو عليه ، فصعد المنبر فقال : " يا اهل المدينة، ما لكم ترموننا بابصاركم كانكم تقروننا سيوفكم ؟ انسيتم ما فعلتم ! أما لو انتقم في الاول ما عدتم إلى الثانية، اغركم اذ قتلتم عثمان فوجدتموه صابرا حليما، واماما، فذهب غضبه، وذهبت ذاته ، فاغتنموا انفسكم، فقد وليكم امام بالشباب المقتبل البعيد الامل، وقد اعتدل جمسه، واشتد عظمه، ورمى الدهر ببصره، واستقبله باسره، فهو إن عض لهس، وان وطئ فرس، لا يقلقه الحصى، ولا تقرع له العصا " وعرض في خطابه لابن الزبير فقال : " فو الله لنغزونه، ثم لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه، على رغم انف من رغم.." (26) ورعف الطاغية على المنبر فالقى إليه رجل عمامة فمسح بها دمه فقال رجل من خثعم : " دم على المنبر في عمامة، فتنة عمت وعلا ذكرها ورب الكعبة " (27) . وقد أثر عن رسول الله (ص) أنه قال : " ليرعفن على منبري جبار من جبابرة بني أمية فيسيل رعافه " (28) : وعزم الاشدق على مقابلة الجبهة المعارضة بالقوة والبطش، وقد حفزه إلى ذلك ما حل بسلفه الوليد من الاقصاء وسلب الثقة عنه نتيجة تساهله مع الحسين (ع)، ولعل من أوثق الاسباب التي دعت الامام الحسين (ع) إلى مغادرة الحجاز هو الحذر من بطش هذا الطاغية به ، والخوف من اغتياله وهو في الحرم . الحسين مع ابن عمر وابن عباس : وكان عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر مقيمين في مكة حينما أقبل الامامم الحسين إليها، وقد خفا لاستقباله والتشرف بخدمته، وكانا قد عزما على مغادرة مكة، فقال له ابن عمر ! " أبا عبد الله، رحمك الله، اتق الله الذي إليه معادك، فقد عرفت من عداوة أهل البيت - يعني بني أمية - لكم، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية، ولست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء موطن، يريدون في ذلك قتله، وسفك دمه، وهو لم يشرك بالله ولا اتخذ من دونه وليا، ولم يتغير عما كان عليه رسول الله (ص). " وانبرى ابن عباس يؤيد كلامه، ويدعم قوله قائلا : " ما أقول : فيهم الا انهم كفروا بالله ورسوله، ولا ياتون الصلاة الا وهم كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله الا قليلا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا الى هؤلاء، ومن يظل الله فلن تجد له سبيلا، وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، وأما أنت يا بن رسول الله فانك راس الفخار برسول الله، فلا تظن يابن بنت رسول الله أن الله غافل عما يفعل الظالمون وأنا اشهد أن من رغب عن مجاورتك، وطمع في محاربتك، ومحاربة نبيك محمد فماله من خلاق..." . وانبرى الامام الحسين فصدق قوله قاثلا : " اللهم نعم " . وانطلق ابن عباس يظهر له الاستعداد للقيام بنصرته قاثلا : " جعلت فداك يابن بنت رسول الله، كانك تريدني إلى نفسك ، وتريد مني أن أنصرك، والله الذي لا إله إلا هو ان لو ضربت بين يديك بسيفي هذا بيدي حتى انخلعا جميعا سن كفي لما كنت ممن وفى من حقك عشر العشر، وها انا بين يديك مرني بامرك " . وقطع ابن عمر كلامه، وأقبل على الحسين فقال له : " مهلا عما قد عزمت عليه، وارجع من هنا الى المدينة، وادخل في صلح القوم، ولا تغب عن وطنك، وحرم جدك رسول الله (ص) ولا تجعل لهؤلاء الذين لا خلاق لهم على نفسك حجة، وسبيلا، وإن أحببت أن لا تبايع فانت متروك حتى ترى رايك، فان يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلى قليلا فيكفيك الله أمره " . وزجره الامام، ورد عليه قوله قائلا : والبيضاء، فيقتلونك، ويهلك فيك بشر كثير، فاني قد سمعت رسول الله (ص) يقول : " حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه ليخذلهم الله إلى يوم القيامة، وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل، فلعل الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين. " . فقال له ابي الضيم " " أنا أبايع يزيد، وأدخل في صلحه ؟ ! ! وقد قال النبي (ص) فيه وفي أبيه ما قال " : وانبرى ابن عباس فقال له : " صدقت أبا عبد الله قال النبي (ص) في حياته : " ما لي وليزيد لا بارك الله في يزيد، وانه يقتل ولدي، وولد ابنتي الحسين، والذي نفسي بيده، لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه الا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم " . وبكى ابن عباس والحسين، والتفت إليه قائلا : " يا بن عباس أتعلم أني ابن بنت رسول الله (ص) ؟ " . " اللهم نعم..نعلم ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله غيرك وان نصرك لفرض على هذه الامة كفريضة الصلاة والزكاة التي لا يقبل أحدهما دون الاخرى.." . فقال له الحسين : " يا بن عباس، ما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله (ص) من داره، وقراره، ومولده وحرم رسوله، ومجاورة قبره ومسجده وموضع مهاجره، فتركوه خائفا مرعوبا لا يستقر في قرار، ولا ياوي في " اف لهذا الكلام أبدا ما دامت السماوات والارض، اسالك يا عبد الله أنا عندك على خطا من أمري ؟ فان كنت على خطا ردني فانا أخضع، وأسمع وأطيع " : فقال ابن عمر : " اللهم لا، ولم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسول الله على خطا وليس مثلك من طهارته وصفوته من رسول الله (ص) على مثل يزيد ابن معاوية، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف وترى من هذه الامة ما لا تحب، فارجع معنا إلى المدينة، وان لم تحب أن تبايع، فلا تبايع أبدا، واقعد في منزلك " . " والتفت إليه الامام فاخبره عن خبث الامويين، وسوء نواياهم نحوه قائلا : " هيهات يا بن عمر ان القوم لا يتركوني، وإن أصابوني، وان لم يصيبوني، فلا يزالون حى أبايع وأنا كاره، أو يقتلوني، أما تعلم يا عبد الله ان من هوان الدنيا على الله تعالى أنه أتي براس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني اسرائيل، والراس ينطق بالحجة عليهم ؟! ! أما تعلم يا أبا عبد الرحمن ان بني اسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيا ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كلهم كانهم لم يصنعوا شيئا، فلم يعجل الله عليهم ثم أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر.." (29) . وكشفت هذه المحاورة عن تصميمه على الثورة، وعزمه على مناجزة يزيد لانه لا يتركه وشانه، فاما أن يبايع، وبذلك يذل هو ويذل الاسلام وتستباح حرماته، وأما أن يقتل عزيزا كريما، فاختار المنية للحفاظ على كرامته وكرامة الامة ومقدساتها . وصيته لابن عباس : وأقبل الحسين على ابن عباس، فعهد إليه بهذه الوصية قائلا : " وأنت يابن عباس ابن عم أبي، لم تزل تامر بالخير منذ عرفتك ، وكنت مع أبي تشير عليه بما فيه الرشاد والسداد، وقد كان أبي يستصحبك ويستنصحك ويستشيرك، وتشير عليه بالصواب، فامض إلى المدينة في حفظ الله، ولا تخف علي شيئا من أخبارك، فاني مستوطن هذا الحرم ، ومقيم به ما رايت أهله يحيبونني، وينصرونني، فاذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم، واستعصمت بالكلمة التي قالها ابراهيم يوم ألقي في النار (حسبي الله ونعم الوكيل، فكانت النار عليه بردا وسلاما..)(30) . رسائله الى زعماء البصرة : وكتب الامام الى رؤساء الاخماس بالبصرة يستنهضهم على نصرته والاخذ بحقه وقد كتب إلى الاشراف ومن بينهم : 1 - مالك بن مسمع البكري 2 - الاحنف بن قيس 3 - المنذر بن الجارود 4 - مسعود بن عمرو 5 - قيس بن الهيثم 6 - عمر بن عبيد الله بن معمر(31) وقد أرسل كتابا إليهم بنسخة واحدة وهذا نصه : " أما بعد : فان الله اصطفى محمدا (ص) من خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلغ ما أرسل به، وكنا أهله وأولياءه وأوصياؤه وورثته، وأحق الناس بمقامه فاستاثر علينا قومنا بذلك، فرضينا، وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه : وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فان السنة قد أميتت، والبدعة قد أحببت فان تسمعوا قولي : اهدكم إلى سبيل الرشاد.." (32). والقت هذه الرسالة الاضواء على الخلافة الاسلامية فهي - حسب تصريح الامام - حق لاهل البيت (ع) لانهم الصق الناس برسول الله (ص) وأكثرهم وعيا لاهدافه إلا أن القوم استاثروا بها، فلم يسع العترة الطاهرة إلا الصبر كراهة للفتنة وحفظا على وحدة المسلمين...كما حفلت هذه الرسالة بالدعوة إلى الحق بجميع رحابه ومفاهيمه، فدعت إلى احياء كتاب الله وسنة نبيه فان الحكم الاموي عمد إلى اقصائهما عن واقع الحياة... وعلق بعض الكتاب على دعوة الامام لاهل البصرة لبيعته فقال : " ان رسالة الحسين إلى أهل البصرة ترينا كيف كان يعرف مسؤليته ويمضي معها، فاهل البصرة لم يكتبوا إليه : ولم يدعوه الى بلدهم، كما فعل أهل الكوفة، ومع هذا فهو يكتب إليهم، ويعدهم للمجابهة المحتومة ذلك أنه حين قرر أن ينهض بتبعات دينه وأمته، كان قراره هذا آتيا من أعماق روحه وضميره، وليس من حركة أهل الكوفة ودعوتهم إياه " . وعلى أي حال فقد بعث الامام كتبه لاهل البصرة بيد مولى له يقال له سليمان، ويكني أبا رزين، وقد جد في السير حتى انتهى الى البصرة فسلم الكتب الى أربابها . جواب الاحنف بن قيس : وأجاب الاحنف بن قيس زعيم العراق الامام برسالة كتب فيها هذه الاية الكريمة ولم يزد عليها " فاصبر ان وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون "(33) وقد طلب من الامام الخلود الى الصبر، ولا يستخفه الذين لا يوقنون بالله ولا يرجون له وقارا . جريمة المنذر : أما المنذر بن الجارود العبدي فقد كان من اجلاف العرب وحقرائهم فقد عمد إلى رسول الامام فبعثه مخفورا الى ابن زياد، وكان زوج ابنته ليظهر له الاخلاص والولاء، فقتله ابن مرجانة وصلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة (34) واعتذر بعض المؤرخين عن المنذر أو هو اعتذر عن نفسه بانه خشي أن يكون الرسول من قبل ابن مرجانة لاختياره فلذا سلمه إليه وهو اعتذار مهلهل، فان اللازم كان اجراء التحقيق معه حتى يستبين له الامر . استجابة يزيد بن مسعود : واستجاب الزعيم الكبير يزيد بن مسعود النهشلي إلى تلبية نداء الحق فاندفع بوحي من ايمانه وعقيدته إلى نصرة الامام، فعقد مؤتمرا عاما دعا فيه القبائل العربية الموالية له وهي : 1 - بنو تميم 2 - بنو حنظلة 3 - بنو سعد ولما اجتمعت هذه القبائل، انبري فيهم خطيبا، فوجه خطابه أولا إلى بني تميم فقال لهم: " يا بني تميم : كيف ترون موضعي فيكم، وحسبي منكم ؟ ! " وتعالت أصوات بني تميم، وهي تعلن ولاءها المطلق، واكبارها له قائلين بلسان واحد : " بخ بخ ! ! أنت والله فقرة الظهر، وراس الفخر حللت في الشرف وسطا، وتقدمت فيه فرطا.." وسره تاييدهم فانطلق يقول : إني جمعتكم لامر أريد أن أشاوركم، وأستعين بكم عليه.." واندفعوا جميعا يظهرون له الولاء والطاعة قائلين : " إنا والله نمنحك النصيحة، ونجهد لك الراى فقل حتى نسمع " وتطاولت الاعناق، واشرابت النفوس لتسمع ما يقول : الزعيم الكبير، وانبرى قائلا : " إن معاوية مات، فاهون به - والله - هالكا ومفقودا، الا انه قد انكسر باب الجور والاثم، وتضعضعت أركان الظلم، وكان قد احدث بيعة عقد بها أمرا ظن أنه قد أحكمه، وهيهات الذي أراد ! ! اجتهد والله ففشل، وشاور فخذل، وقد قام يزيد شارب الخمور وراس الفجور يدعي الخلافة على المسلمين، ويتامر عليهم بغير رضا منهم مع قصر حلم وقلة علم، لا يعرف من الحق موطا قدميه، فاقسم بالله قسما مبرورا لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين . وهذا الحسين بن علي، وابن رسول الله (ص) ذو الشرف الاصيل والراي الاثيل (35) له فضل لا يوصف، وعلم لا ينزف، وهو أولى بهذا الامر لسابقته وسنه، وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير، ويحسن إلى الكبير، فاكرم به راعي رعية، وامام قوم وجبت لله به الحجة وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحق، ولا تسكعوا في وهد الباطل، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (ص) ونصرته، والله لا يقصر أحدكم عن نصرته إلا أورثه الله الذل في ولده، والقلة في عشيرته . وها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها، وادرعت لها بدرعها، من لم يقتل يمت، ومن يهرب لم يفت، فاحسنوا رحمكم الله رد الجواب " وحفل هذا الخطاب الرائع بامور بالغة الاهمية وهي : أولا - : الاستهانة بهلاك معاوية، وانه قد انكسر بموته باب الظلم والجور . ثانيا - : القدح في بيعة معاوية ليزيد . ثالثا - : عرض الصفات الشريرة الماثلة في يزيد من الادمان على الخمر، وفقد الحلم، وعدم العلم، وعدم التبصر بالحق . رابعا - : الدعوة إلى الالتفات حول الامام الحسين (ع) وذلك لما يتمتع به من الصفات الشريفة كاصالة الفكر، وغزارة العلم، وكبر السن، والعطف على الكبير والصغير وغير ذلك من النزعات الكريمة التي تجعله أهلا لامامة المسلمين . خامسا - : انه عرض للجماهير عن استعداده الكامل للقيام بنصرة الامام والذب عنه . ولما أنهى الزعيم العظيم خطابه انبرى وجهاء بني حنظلة فاظهروا الدعم الكامل له قائلين : " يا أبا خالد : نحن نبل كنانتك، وفرسان عشيرتك. إن رميت بنا اصبت، وان غزوت بنا فتحت. لا تخوض والله غمرة الا خضناها ولا تلقى والله شدة إلا لقيناها ننصرك باسيافنا ونقيك بابداننا اذا شئت " وكان منطقا مشرفا دل على تعاطفهم، ووقوفهم إلى جانبه، رقام من بعدهم بنو عامر فاعربوا عن ولائهم العميق له قائلين : " يا أبا خالد نحن بنو أبيك، وحلفاؤك لا نرضى إن غضبت ، ولا نبقى ان ظعنت والامر اليك فادعنا اذا شئت.." . وأما بنو سعيد فاظهروا التردد وعدم الرغبة فيما دعاهم اليه، قائلين : " يا أبا خالد : ان ابغض الاشياء الينا خلافك، والخروج عن رايك، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال يوم الجمل، فحمدنا أمرنا، وبفي عزنا فينا، فامهلنا نراجع المشورة، وناتيك براينا..". وساءه تخاذلهم فاندفع يندد بهم قائلا : " لئن فعلتموها لارفع الله السيف عنكم أبدا، ولا زال سيفكم فيكم.." . جوابه للامام : ورفع يزيد بن مسعود رسالة للامام دلت على شرفه ولبله، واستجابته لدعوته، وهذا نصها : " أما بعد : فقد وصل إلي كتابك، وفهمت ما ندبتني إليه، ودعوتني له من الاخذ بحظي من طاعتك، والفوز بنصيبي من نصرتك..وان الله لم يخل الارض قط من عامل بخير، ودليل على سبيل نجاة، وانتم حجة الله على خلقه، ووديعته في أرضه تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وانتم فرعها، فاقدم سعدت باسعد طائر فقد ذلك لك اعناق بني تميم ، وتركتهم أشد تتابعا في طاعتك من الابل الظماء لورود الماء يوم خمسها(36) وقد ذلك لك رقاب بني سعد، وغسلت درن قلوبها بماء سحابة مزن حين استهل برقها فلمع.." . وحفلت هذه الرسالة بسمو أدبه، وكريم طباعه، وتقديره البالغ للامام، ويقول بعض المؤرخين انها انتهت الى الامام في اليوم العاشر من المحرم بعد مقتل أصحابه وأهل بيته، وهو وحيد فريد قد أحاطت به القوى الغادرة، فلما قرا الرسالة طفق يقول : " ما لك، آمنك الله من الخوف، وارواك يوم العطش الاكبر " ولما تجهز ابن مسعود لنصرة الامام بلغه قتله فجزع لذلك وذابت نفسه أسى وحسرات (37). استجابة يزيد البصري : ولبى نداء الحق يزيد بن نبيط البصري، وكان - فيما يقول المؤرخون - يتردد إلى دار مارية ابنة سعد أو منقذ، وكانت دارها من منتديات الشيعة، وفيها تذاع فضائل أهل البيت (ع) وتنشر ماثرهم، ولما وجه الامام دعوته الى أهل البصرة لنصرته استجاب لها يزيد بن نبيط، ولحق به من أولاده العشرة عبد الله وعبيد الله، وخاف عليه أصحابه أن يدركه الطلب من شرطة ابن زياد، فقال لهم : لو استوت اخفافها بالجدد لهان علي طلب من طلبني (38) واستوى على جواده مع ولديه، وصحبه مولاه عامر، وسيف بن مالك والادهم بن أمية فلحقوا بالامام في مكة وصحبوه الى العراق واستشهدوا بين يديه في كربلا (39) . نقمة العراق على الامويين : وكره العراقيون بصورة عامة حكم الامويين، وبغضوا سلطانهم ، وفيما نحسب ان الاسباب في ذلك ما يلي: 1 - ان العراق أيام معاوية أصبح يساس بالروح العسكرية والاحكام العرفية التي يا تتقيد بالقانون خصوصا أيام زياد بن سمية فقد كان ياخذ البرئ بالسقيم، والمقبل بالمدبر، ويقتل على الظنة والتهمة، مما أدى إلى اشاعة الكراهية للامويين . 2 - ان الكوفة كانت في عهد الامام أمير المؤمنين (ع) عاصمة الدولة الاسلامية، وفي أيام معاوية أصبحت دمشق العاصمة ومركز الحكم وأصبح العراق مصرا كسائر الامصار، وانتقلت عنه الخزينة المركزية ، وقد أخذ الكوفيون يندبون حظهم التعيس بعد تحول الخلافة عنهم وأصبح اسم الامام عندهم رمزا الى دولتهم المفقودة، وتعلقت آمالهم بابناء الامام فكانوا ينظرون إليهم انهم الابطال لاستقلال بلادهم السياسي وتحررها من التبعية لدمشق فقد كره أهل العراق الخضوع لاهل الشام، كما كره أهل الشام الخضوع والسيطرة لاهل العراق وقد صور شاعر الشام هذه النزعة بقوله : أرى الشام تكره ملك العراق * وأهل العراق لهم كارهونا وقالوا : علي امام لنا * فقلنا : رضينا ابن هند رضينا وصور شاعر العراق هذه النزعة السائدة عند العراقيين بقوله مخاطبا أهل الشام : أتاكم علي باهل العراق * وأهل الحجاز فما تصنعونا فان يكره القوم ملك العراق * فقدما رضينا الذي تكرهونا (40) وكانت الثورات المتلاحقة التي قام بها العراق انما هي لكراهية أهل الشام والتخلص من حكم الامويين . 3 - ان السياسة الخاطئة التي تبعها معاوية مع زعماء الشيعة الذين تبنوا القضايا المصيرية للشعب العراقي وكافة الشعوب الاسلامية وما عانوه من القتل والتنكيل قد هزت مشاعر الكوفيين، وأوغرت صدورهم بالحقد على الامويين، كما ان سب الامام على المنابر قد زاد في بغضهم للامويين وأشعل جذوة المعارضة في نفوسهم . 4 - ان الامويين كانوا ينظرون الى أهل الكوفة انهم الجبهة المعارضة لحكمهم وانهم المصدر الخطير الذي يهدد دولتهم فقابلوهم بمزيد من القسوة والارهاب، مما دعى الكوفيين إلى العمل المستمر لمناهضة الحكم الاموي وتقويض سلطانه...هذه بعض الاسباب التي أدت إلى نقمة العراق على الحكم الاموي وبغضهم له. اعلان التمرد في العراق : وبعد هلاك معاوية أيقن العراقيون بانهيار الدولة الاموية، وقد رؤوا أن في تقليد يزيد مهام الخلافة انما هو استمرار للحكم الاموي الذي جهد على اذلالهم وقهرهم . وقد أجمعت الشيعة في الكوفة على مناجزته والخروج على سلطانه ورؤوا أن في كفاحهم له جهادا دينيا، حسب ما يقول جولد تسهير " (41) ويرى (كريمر) ان الاخيار والصلحاء من الشيعة كانوا ينظرون إلى يزيد نظرتهم إلى ورثة أعداء الاسلام وخلفاء أبي سفيان (42): وعلى أي حال فان شيعة الكوفة لم ترض بحكم يزيد، وأجمعت على خلعه، والبيعة للامام الحسين (ع) وقد قاموا بما يلي : المؤتمر العام : وعقدت الشيعة بعد هلاك معاوية مؤتمرا عاما في بيت أكبر زعمائهما سليمان بن صرد الخزاعي، واندفعوا اندفاعا كليا في القاء الخطب الحماسية التي تظهر مساوئ الحكم الاموي وفضائحه، كما أشادوا بالامام الحسين ودعوا إلى البيعة له . خطبة سليمان : واعتلى سليمان بن صرد منصة الخطابة، فافتتح اولى جلساتهم بهذا الخطاب، وقد جاء فيه : " ان معاوية قد هلك، وان حسينا قد قبض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته، وشيعة أبيه فان كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، وان خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه.." . وتعالت أصواتهم من كل جانب وهم يقولون بحماس بالغ : " نقتل أنفسنا دونه.." . " لا بل نقاتل عدوه.." (43) . وأظهروا رغبتهم الملحة ودعمهم الكامل للامام، وقرروا ما يلي : 1 - خلع بيعة يزيد 2 - ارسال وفد للامام يدعونه للقدوم إليهم 3 - بعث الرسائل للامام من مختلف الطبقات الشعبية التي تمثل رغبة الجماهير الحاشدة لحكم الامام . وفد الكوفة : وأوفدت وفدا إلى الامام يدعوه إلى القدوم اليهم، ومن بين ذلك الوفد عبد الله الجدلي (44) ولما مثل الوفد عند الامام عرض عليه اجماع أهل الكوفة على نصرته والاخذ بحقه، وانه ليس لهم امام غيره ، وحثوه على القدوم إليهم . الرسائل : وعمد أهل الكوفة بعد مؤتمرهم فكتبوا الرسائل إلى الامام (ع) وهي تعرب عن اخلاصهم وولائهم له، وتحثه على القدوم إليهم ليتولى قيادة الامة وهذه بعضها . 1 - قد جاء فيما بعد البسملة ما نصه : " من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شداد ، وحبيب بن مظاهر، وشيعته والمسلمين من أهل الكوفة . أما بعد : فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد - يعني معاوية - الذي انتزى على هذه الامة فابتزها أمرها، واغتصبها فيئها، وتامر عليها بغير رضى منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود...إنه ليس علينا امام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.." (45). وكتبت هذه الرسالة في أواخر شهر شعبان، وحملها عبد الله الهمداني وعبد الله بن وائل الهمداني وقد أمروهما بالاسراع والحذر من العدو ، وأخذا يجذان في السير لا يلويان على شئ وقدما مكة لعشر مضين من رمضان(46) وسلما الرسالة للامام وعرفاه بشوق الناس الى قدومه . وقد عرضت هذه الرسالة مساوئ الحكم الاموي، فوصفت معاوية بالجبار العنيد، وانه ابتز أمر الامة بالقهر والغلبة، وتامر عليها بغير رضى منها، وقد قتل خيارها وصلحاءها وجعل العطاء خاصة للاغنياء والوجوه ، وحرم منه بقية طوائف الشعب، كما عرضت الى مقاطعة الشيعة لحاكم الكوفة النعمان بن بشير، وانهم اذا بلغهم قدوم الامام قاموا باقصائه عن الكوفة والحاقه بدمشق . 2 - وقد أرسل الرسالة الثانية جماعة من أهل الكوفة وهذا نصها : " إلى الحسين بن علي من شيعته والمسلمين، أما بعد : فحي هلا (47) فان الناس ينتظرونك ولا راي لهم غيرك (48) فالعجل ثم العجل والسلام " (49) وحمل هذه الرسالة قيس بن مسهر الصيداوي من بني أسد، وعبد الرحمن ابن عبد الله الارحبي وعمارة بن عبد الله السلولي، كما حملوا معهم نحوا من خمسين صحيفة من الرجل والاثنين والثلاثة والاربعة(50) وهي تحت الامام على الاسراع إليهم والترحيب بقدومه، وتعلن دعمهم الكامل له . 3 - وأرسل هذه الرسالة جماعة من الانتهازيين الذين لا يؤمنون بالله، وهم شبث بن ربعي اليربوعي ومحمد بن عمر التميمي، وحجار بن ابجر العجلي، ويزيد بن الحارث الشيباني، وعزرة بن قيس الاحمسي ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، وهذا نصها : " أما بعد : فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام (51) فاقدم على جند لك جندة والسلام عليك،.." (52) . وأعربت هذه الرسالة عن شيوع الامل وازدهار الحياة، وتهياة البلاد عسكريا للاخذ بحق الامام، ومناجزة خصومه، وقد وقعها أولئك الاشخاص الذين كانوا في طليعة القوى التي زجها ابن مرجانة لحرب الامام ومن المؤكد أنهم لم يكونوا مؤمنين بحقه، وانما اندفعوا لمساومة السلطة الاموية، والحصول منها على الاموال ومتع الحياة، كما صرح الامام الحسين بذلك أمام أصحابه . 4 - ومن بين تلك الرسائل " انا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة، فاقدم علينا فنحن في مائة الف سيف، فقد فشا فينا الجور، وعمل فينا بغير كتاب الله وسنة نبيه، ونرجوا أن يجمعنا الله بك على الحق، وينفي عنابك الظلم، فانت أحق بهذا الامر من يزيد وأبيه الذي غضب الامة، وشرب الخمور، ولعب بالقرود والطنابير ، وتلا عب بالدين " (53). 5 - وكتب جمهور أهل الكوفة الرسالة الاتية ووقعوها وهذا نصها : " للحسين بن علي أمير المؤمنين من شيعة أبيه (ع) أما بعد : فان الناس ينتظرونك لا راي لهم في غيرك العجل العجل يابن رسول الله (ص) لعل الله أن يجمعنا بك على الحق ويؤيد بك المسلمين والاسلام...بعد أجزل السلام وأتمه عليك ورحمة الله وبركاته " (54). 6 - وكتب إليه جماعة هذه الرسالة الموجزة : " انا معك، ومعنا مائة الف سيف " (55). 7 - وكانت آخر الرسائل التي وصلت إليه هذه الرسالة : " عجل القدوم يابن رسول الله فان لك بالكوفة مائة الف سيف فلا تتاخر " (56). وقد تتابعت عليه الرسائل ما ملا منها خرجين، ويقول المؤرخون : إنه اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر الف كتاب (57) ووردت إليه قائمة فيها مائة وأربعون الف اسم يعربون عن نصرتهم له حال ما يصلى إلى الكوفة(58) كما وردت عليه في يوم واحد ستمائة كتاب (59). وعلى أي حال فقد كثرت كتب أهل الكوفة إلى الامام وقد وقع فيها الاشربف وقراء المصر وهي تمثل تعطشهم لقدوم الامام ليكون منقذا لهم من طغمة الحكم الاموي ولكن بمزيد الاسف فقد انطوت صحيفة ذلك الامل، وانقلب الوضع وتغيرت الحالة، واذا بالكوفة تنتظر الحسين لتسقي سيوفها من دمه، وتطعم نبالها من لحمه..تريد أن تحتضن جسد الحسين لتوزعه السيوف، تطعنه الرماح، وتسحقه الخيول بحوافراها : الكوفة تنتظر الحسين لتثب عليه وثبة الاسد، وتنشب أظفارها بذلك الجسد الطاهر، الكوفة تنتظر الحسين لتسبي عياله بدل أن تحميهم، وتروع أطفاله بدل أن تؤويهم (60). وهكذا شاءت المقادير، ولا راد لامر الله على نكث القوم لبيعة الامام واجماعهم على حربه ويقول المؤرخون ان الامام بعد ما وافته هذه الرسائل عزم على أن يلبي أهل الكوفة ويوفد إليهم ممثله العظيم مسلم بن عقيل.
(1) خطط المقريزي 2 / 285، المنتظم لابن الجوزي، الافادة في تاريخ الائمة السادة وفي الفتوح 5 / 34 انه خرج لثلاث ليال مضين من شعبان. (2) تاريخ الطبري. (3) المنتظم لابن الجوزي الجزء الخامس، الفتوح 5 / 34 وجاء في تاريخ ابن عساكر 13 / 55 ان الحسين مر بابن مطيع وهو يحفر بئرا ، فقال له : إلى اين فداك أبي وأمي، فقال له : أردت مكة، وذكر له كتب أهل الكوفة إليه، فقال ابن مطيع : فداك ابي وامي متعنا بنفسك ولا تسر إليهم، فابي الحسين ثم قال له ابن مطيع : إن بئري هذه قد رسحتها وهذا اليوم أوان تمامها قد خرج إلينا في الدلو شئ من مائها، فلو دعوت الله لنا فيها بالبركة، فقال (ع) : هات من مائها فاتاه منه فشرب منه، وتمضمض ورده في البئر فعذب ماؤها، وجاء في وسيلة المال في عد مناقب الال (ص 185) لصفي الدين : ان عبد الله لقى الحسين فقال له : جعلت فداك أين تريد ؟ فقال : أما الان فمكة، وأما بعدها فاستخير الله، فقال : خار الله لك وجعلنا فداك الزم الحرم فانك سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز احدا، وتتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فو الله ان هلكت لنسترقن بعدك. (4) الفتوح 5 / 37. (5) المنتظم لابن الجوزي، الافادة في تاريخ الائمة السادة . (6) تاريخ ابن عساكر 13 / 68، وفي الاخبار الطوال (ص 209) انه نزل في شعب علي . (7) البداية والنهاية. (8) الفصول المهمة لابن الصباغ (170) وسيلة المال في عد مناقب الال (185). (9) نهضة الحسين (ص 73). (10) العطن : مبرك الابل، ومربض الغنم. (11) فوات الوفيات 1 / 448 . (12) المعارف لابن قتيبة (ص 76). (13) مروج الذهب 3 / 22 . (14) شرح النهج 7 / 24 . (15) المختار (ص 95) . (16) البداية والنهاية 8 / 150 وجاء في وسيلة المال (ص 185) وقد ثقلت وطاة الحسين على ابن الزبير لان اهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين بالبلد، ولا يتهيا له ما يطلب منهم مع وجود الحسين. (17) تاريخ الاسلام للذهبي 2 / 268 . (18) تاريخ ابن الاثير 4 / 16، الطبري 6 / 216 . (19) من معالم الحق (ص 131). (20) الدولة الاموية في الشام (ص 54) . (21) تذكرة الخواص (ص 248). (22) المهراة : الحفرة (23) تذكرة الخواص (ص 248 - 250) تاريخ ابن عساكر 13 / 70 (24) البداية والنهاية 8 / 148 . (25) الاشدق : لقب بذلك لتشادقه الكلام، وقيل انما لقب بذلك لانه كان افقم مائل الذقن، جاء ذلك في البيان والتبيين 1 / 315 ، وقيل انما لقب بذلك لانه أصابه اعوجاج في حلقه لاغراقه في شتم علي جاء ذلك في معجم الشعراء (231). (26) تاريخ الاسلام للذهبي 2 / 268 . (27) سمط النجوم العوالي 3 / 57 . (28) مجمع الزوائد 5 / 240. (29) الفتوح 5 / 38 - 42. (30) مقتل الخوارزمي 1 / 193. (31) تاريخ ابن الاثير 3 / 268 . (32) تاريخ الطبري 6 / 200. (33) سير اعلام النبلاء 3 / 200 . (34) تاريخ الطبري 6 / 200. (35) الراي الاثيل : الاصيل. (36) خمسها : بالكسر الابل الضماء التي ترعى ثلاثة أيام وترد الرابع (37) اللهوف (ص 16 - 19) . (38) تاريخ الطبري 6 / 198 . (39) مقتل المقرم (ص 158) نقلا عن ذخيرة الدارين (ص 224). (40) الاخبار الطوال (ص 70) طبع ليدن (41) و (42) العقيدة والشريعة في الاسلام (ص 69). (43) الارشاد (ص 223 - 224). (44) مقاتل الطالبيين (ص 95) . (45) انساب الاشراف (ق 1 ج 1) الامامة والسياسة 2 / 3 – 4 الطبري . (46) الفتوح 5 / 44 . (47) حي هلا : اسم فعل بمعنى اقبل وعجل (48) في تاريخ اليعقوبي 2 / 215، لا امام لهم غيرك . (49) الارشاد (ص 224). (50) أنساب الاشراف ق 1 ج 4 . (51) الجمام : الابار . (52) أنساب الاشراف ق 1 ج 1 مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (ص 74). (53) تذكرة الخواص (ص 248) الصراط السوي في مناقب آل النبي للسيد محمود القادي من مصورات مكتبة الامام أمير المؤمنين، ويصورة موجزة رواه المسعودي في مروج الذهب 3 / 4 . (54) وسيلة المال (ص 185) الفصول المهمة لابن الصباغ (ص 170 ) (55) أنساب الاشراف ق 1 ج 1 . (56) بحار الانوار 10 / 180 . (57) اللهوف (ص 19). (58) الوافي في المسالة الشرقية 1 / 43 . (59) الدر المسلوك في احوال الانبياء والاوصياء 1 / 107 من مخطوطات مكتبة الامام الحكيم . (60) مع الحسين في نهضته (ص 157). |