31-مواقف متأخّرة .
32-أحزان الأحلام .
33-رثاء الطبيعة .
34-الأسى والرثاء .
35-الانتقام للدماء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص183
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
31 - مواقف متأخّرة
ودائماً ، وفي كلّ حوادث التاريخ ، يبقى بعضُ الناس في المؤخّرة
، لأنّهم يحتاطون ، فيقفون بعيداً عن الأحداث ، لئلاّ يُصيبهم شررٌ أو أثارةٌ من
سوءٍ.
لكنْ ليس مصيرُ المتأخّرين دائماً النجاةُ والسلامةُ ، وإنْ
بقوا بعيدين عن الإصابات ، فهم ليسوا بمنجاةٍ من الحسابات ، حسابات التأريخ والضمير
والواقع . وهكذا كان شأنُ الّذين تخلّفوا عن اللحوق بالحسين عليه السلام سواءً في
مسيره إلى أرض كربلاء ، أو في سيرته على أهداف كربلاء ، وخاصّةً أُولئك الّذين كانت
تمدّ إليهم الأعناق ، باعتبارهم حاملين للنصوص الفاصلة لكلّ نزاعٍ ، التي هي وصايا
النبيّ وسُنّته صلّى الله عليه وآَله وسلّم ، وهم صحابته وحاملو آرائه . ولكنّ
هؤلاء الّذين لم يلحقوا الفتحَ بتخلفّهم عن وجهة الحسين عليه السلام في المسير
والسيرة ، وجدوا أنفسهم - بعد الحسين عليه السلام - بين مخالب القتلة ، وزهوهم بعد
المذبحة التي ارتكبوها بحقّ الثائرين .
ومهما فرضنا لهؤلاء المتخلّفين من البساطة ، وأنّهم لم يكونوا
يتصوّرون أنّ الدولةَ الإسلاميّة تُقدِمُ على قتل جمع من خيرة رجال المسلمين ، وفي
مجموعتهم كوكبةٌ من آل محمّد ، وعلى رأسهم الحسيُن ابن بنت رسول الله صلّى الله
عليه واَله وسلّم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص184
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنّهم فوجئوا بذلك ، فأُسقطَ في أيديهم لكنّ بُعْدَهم عن
مجريات الأحداث ، إلى الحدّ الذي يؤدّي بهم إلى هذه السذاجة ، وتخلّفهم عن ركب
الدفاع عن حياض الإسلام ، والالتحاق بالوحيد المتبقّى من سلالة محمّد صلّى الله
عليه واَله وسلّم ، هو في نفسه يشكّل نقطة محاسبة عسيرة . وكفاهم ذُلاً ومهانةً ،
أنْ يحضروا مجلس الحكّام القتلة ليُشاهدوا بأعينهم ما يجري على رأس الحسين - ذلك
الرأس الذي رأتْه أعينُهم ذاتها على صدر الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم ، وعلى
عاتقه وفي حِجْره - ولكنْ في حالة أُخرى ، وبالضبط كما يروونها هم- :
فهذا أنس بن مالك : [319] قال : لمّا قُتلَ الحسينُ جيء برأسه
إلى عُبيد الله ابن زياد ، فجعل ينكثُ بقضيبٍ على ثناياه ، وقال : إنْ كانَ لحسنَ
الثغر فقلتُ : أما واللهِ لأسوأنّك ، لقد رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله
وسلّم يقبّل موضع قضيبك من فيه(162)
وهل كان أنس - وهو خادم النبيّ - جريئاً حتّى يتمكّنَ من مواجهة
ابن زياد بهذا ؟
ولماذا لم يُحاول أن يُسيىء إلى ابن زياد ، قبلَ أنْ يضربَ
ثنايا الحسين لمّا حاربه وقتله ? بل قبل أن يقتل الحسين عليه السلام؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(162)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 151 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص185
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألم يكن عُبيد الله مجرماً ، ومستحقّاً للإسائة قبل هذا ؟
ثمّ ماذا يفعل أنس في مجلس عُبيد الله ، في مثل هذا الوقت ؟
وهل رأى أنسُ رسولَ الله يفعل ذلك - فقطْ - بسبطه الحسين ? دون
غيره من أعمالٍ عملها مع الحسين ، وأقوال قالها في الحسين ، والتي عرفنا بعضاً منها
في فصلي [10 و11] وهو خادمُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، ملازمٌ له على
باب داره ?
ثمّ - أخيراً - لماذا لم يُحاول أنْ يُبرزَ هذا الذي رآه يفعله
الرسول بسبطه الحسين ، قبل هذا المجلس ? حتّى لا يصل الأمر إلى هذه الحال ؟
وهذا زيد بن أرقم [321] قال : كنتُ عند عُبيد الله بن زياد لعنه
الله ، إذْ أُتي برأس الحسين بن عليّ ، فوضعَ في طستٍ بين يديْه ، فأخذَ قضيباً ،
فجعل يفتر به عن شفتيه ، وعن أسنانه فلم أرَ ثغراً - قطّ - كان أحسنَ منه ، كأنّه
الدرّ ، فلم أتمالكْ أنْ رفعتُ صوتي بالبكاء , فقال : ما يُبكيك ، أيّها الشيخ ؟
قلت : يُبكيني ما رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، يمصُّ موضع هذا
القضيب ويلثمه ، ويقول : الّلهمّ إنّي أُحبه فأحبَه(163)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 163) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 152 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص186
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي نصٍّ آخر ، أنّ ابن زياد قال لزيد : إنّك شيخٌ قد خرفتَ
وذهبَ عقلك!
والذي يستوقفُ الناظر : ماذا كان يفعلُ هذا الصحابيُّ الشيخُ في
مجلس عُبيد الله ? داخل القصر ? في مثل هذه الأيّام ؟
هل كان يجهلُ أنّ النّاسَ في الكوفة قد ذهبوا لقتال الحسين عليه
السلام ؟ وأنّ الحسين قد قتل ؟
فهو إذنً قد خرف حقّاً !
ثمّ أينَ كان حماسُهُ هذا ، قبلَ أنْ يؤتى برأس الحسين عليه
السلام؟
ولماذا لم يروِ قبلَ هذا ما رواه بعدَ هذا المجلس ، لمّا [322]
خرج زيد بن أرقم من عنده - يعني ابن زياد - يوْمئذٍ وهو يقول : أما والله ، لقد
سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم، يقول : الّلهمّ إنّي استودعكه وصالح
المؤمنين .
فكيف حفظكم لوديعة رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم(164)
لكن ، كيف كان حفظُك أنتَ يا زيد, يا صحابيّ ! لوديعة رسول الله
صلّى الله عليه واَله وسلّم ? وقد أسلمْتَهُ وحدَه ، في كربلاء ، يُذْبَح هو وأهل
بيته ، وشيعته ? وأنتَ تنادم قاتله ابن زياد ?
ولكنّ هذه المواقف المتأخّرة ، هل تَسُدُّ شيئاً ممّا أُصيبَ به
الإسلام من الثلمات ? أو تردّ على الأُمّة ما فقده من الرجالات ?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 164) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 152 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص187
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولو وقفوا هذه المواقف قبلَ قتل الحسين عليه السلام ، لكانت
أشرفَ لهم ، وأنفع للأُمّة ! ولو ساروا بعد ذلك بسيرة الحسين عليه السلام ، لكان
أعذرَ لهم ، وأخلد لذكرهم , أمّا لو ضيّع الصحابةُ وديعةَ الرسول صلّى الله عليه
واَله وسلّم ، وهم السلفُ , المخاطبون بحفظها مباشرةً , فما هو عتابُهُ على
البُعداء التابعين لهم في دينهم وعقيدتهم ، وهم الخلف الّذين يستنّنون بسُنّتهم !؟
32-أحزان الأحلام
ومهما كانت الأحلامُ و واقعها ، فإنّ الحُزْن بألم عاشوراء ، لم
يقفُ على عالم اليقظة ، بل لقد تحدّثت الأخبار عن أحزان عالم الرؤيا : [324 - 325]
قال ابن عبّاس : رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم في ما يرى النائم بنصف
النهار أغبر ، أشعث ، وبيده قارورة فيها دم! فقلتُ : بأبي أنت وأُمّي ، يا رسول
الله ، ما هذا ؟ قال : هذا دمُ الحسين وأصحابه ، لم أزلْ- منذ اليوم- ألتقطُهُ!
فأُحصيَ ذلك اليوم ، فوجدوه قتل يومئذٍ .
وأُمّ سلمة ، زوجة الرسول ، المتّقية ، المحبّة لأهل بيته ،
الحنون على الحسين ، والتي لها ذكر مكرّر في سيرة الحسين عليه السلام ، قد أفزعها
المنام كذلك هي الأُخرى :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص188
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[327] عن سلمى قالت : دخلتُ على أُمّ سلمة ، وهي تبكي ، فقلتُ :
ما يبكيك ؟ قالت : رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، وعلى رأسه ولحيته
التراب ، فقلتُ : مالك ؟ يا رسول الله ، مالك ؟
قال : شهدتُ قتلَ الحسين ، آنفاً(166)
33- رثاء الطبيعة
ومن الأحداث بعد مذبحة كربلاء ، أنّ الطبيعة شاركت في إعلان
الحزن ،
بأساليب غريبة لم تؤثر عند عامة الحوادث .
فمنها بكاء السماء دماً :
[287] قال ابن سيرين : لم تبك السماءُ على أحدٍ بعد يحيى بن
زكريّا ، إلاّ على الحسين بن عليّ(167)
[295] قالت نصرة الأزديّة : لمّا أنْ قُتلَ الحسينُ بن عليّ
مَطَرَتْ السماءُ دماً فأصبحت وكلّ شيءِ لنا ملآَنُ دماً .
[291] وقالت امرأة : كُنّا زماناً بعد مقتل الحسين ، وإنَّ
الشمس تطلع محمرّة على الحيطان والجدران بالغداة والعشيّ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(166)مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ( 7/ 152 )
(167)مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ( 7/ 149 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص189
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قالت : كانوا لا يرفعون حجراً إلاّ وجدوا تحته دماً(168)
ومنها ظلمة السماء
[288]: قال خليفة : لمّا قُتِلَ الحسينُ اسودّت السماءُ وظهرت
الكواكبُ نهاراً ، حتّى رأيتُ الجوزاء عند العصر ، وسقطَ الترابُ الأحمرُ(169)
[293] قال عيسى بن الحارث الكندي : لمّا قُتِلَ الحسينُ مكثنا
سبعةَ أيّام إذا صلّينا العصرَ ، نظرنا إلى الشمس على أطراف الحيطان كأنّها
الملاحفُ المعصفرة ، ونظرنا إلى الكواكب يضرب بعضها بعضاً(170)
[296] قال أبو قبيل : لمّا قُتِلَ الحسينُ بن عليّ كسفت الشمسُ
كسفةً بدت الكواكبُ نصفَ النهار حتّى ظننّا أنّها هي(171)
[301] قالت أُمّ حبّان : يوم قُتِلَ الحسينُ اظلمّتْ علينا
ثلاثاً ، ولم يمسّ أحدٌ من زعفرانهم شيئاً فجعله على وجهه إلاّ احترقَ ، ولم يقلبْ
حَجَرٌ ببيت المقدِس إلاّ أصبحَ تحتَهُ دمٌ عبيطٌ(172)
وقد اعترف ببعض هذه الأحداث حكّام بني أُمّية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(168)و(169)و(171)و(172)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 / 149
) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص190
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[302] قال معمر : أوّلُ ما عُرِفَ الزُهْريّ : تكلّمَ في مجلس
الوليد بن عبد الملك ، فقال الوليد : أيّكم يعلمُ ما فعلتْ أحجار بيت المقدس يوم
قُتِلَ الحسين بن عليّ ? فقال الزُهْريُّ : بلغني أنّه لم يقلبْ حَجَرٌ إلاّ وُجِدَ
تحته دمٌ عبيطٌ.
34 - الأسى والرثاء
لم يبقَ أحدٌ لم يدخلْ عليه الحزنُ والألمُ بقتل الحسين عليه
السلام ، فالإمام لم يكن شخصاً ، بل كان شاخِصاً ، إليه تشخصُ أعينُ الأُمّة كي
يُنجدها من المأزق الذي حاصرها وحاصر دينها ودنياها .
ولئنْ تقاعسَ الناسُ عن إدراك ما يجبُ عليهم أنْ يفعلوه في تلك
الظروف العصيبة ، ولم يتمكّنوا من الإقدام على الفداء والتضحية ، إلاّ أنّ الإمام
الحسين عليه السلام بتضحيته وإقدامه فَجَّرَ في نفوسهم كوامنها ، فلم يحبسوا عن
الإمام نصرهم بالعواطف ، بعد أنْ فاتهم نصرُه بالنفوس ، وإنْ كان بعد أنْ خسروا
وجوده الشريف ، وما يحمله من معارف ومعاني ومكارم فكانت المراثي ، التي تعتبرُ - في مثل ذلك الظرف الرهيب -
استمراراً لثورة الحسين ، واحداً من نتائجها لمّا انطلقت الألسنُ عن صمتها .
وأوّلُ مَنْ أعلنَ الرثاءَ أُمّ سلمة ، زوجةُ الرسول صلّى الله
عليه واَله وسلّم ، التي ساهمتْ في نشر أخبار سيرة الحسين عليه السلام بكثرة ، فقد
كانتْ تستطلعُ أخبارَ الحسين قبل الواقعة ، فقالتْ لجارية لها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص191
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[89] أُخرجي فخبّريني ، فرجعت الجارية ، فقالتْ : قُتِلَ
الحُسينُ ! فشهقتْ شهقةً غشيَ عليها، ثمّ أفاقتْ ، فاسترجعتْ ، قالتْ : قتلوه ?
قتلهم الله ، قتلوه ? أذلّهم الله ، قتلوه ? أخزاهم الله .
[329] قالت : قد فعلوها ? ملأ الله بيوتهم - أو قبورهم - ناراً
, ووقعت مغشيّاً عليها (173)
وكان ابن عبّاس يتوقّعُ خبرَ الحسين بن عليّ إلى أنْ أتاهُ آتٍ
، فسارّه بشيىءِ ، فأظهر الاسترجاع ، قال الراوي : [330] فقلنا : ما حدثَ يا أبا
العبّاس؟ قال : مصيبةٌ عظيمةٌ عندَ الله نحتسبها(174)
وحتّى الجنّ قد أسهموا في هذا الحُزن العظيم ، مع المؤمنين ،
ومع الطبيعة ، فقد جاءت الأخبار بما يلي : [335] قالت أُمّ سلمة : سمعتُ الجنّ
تنوحُ على الحسين يوم قُتِلَ ، وهنّ يقلن:
أيّها القاتلون ظلماً حـــسيـناً
* أبْشِروا بالعـــــذاب والتنكيلِ
كلّ أهل السماء يدعو عليكم * من نبيّ ومــــــــرسَل وقتيلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(173)و(174)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 153 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص192
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قد لُعنتم على لسان ابن داو د و موسى وصاحب الإنجيلِ(175)
[336] وجنيّة تنوح :
ألا يا عينُ فاحتفلي بجهدِ * ومن يبكي على الشهداء بعدي
على رهطٍ تقودهم المنايا * إلى متجبّرٍ في ملك عبدِ(176)
[337] قال أبو جناب الكلبيّ : أتيتُ كربلاء ، فقلتُ لرجلٍ من
أشراف العرب بها : بلغني أنّكم تسمعون نوح الجنّ ؟ قال : ما تلقى حرّاً ، ولا عبداً
، إلاّ أخبرك أنّه سمع ذاك . قلتُ : أخبرني ما سمعتَ أنتَ , قال : سمعتُهم يقولون :
مسحَ
الرسولُ جبيـــــنَهُ * فلهُ بريـــــقٌ في الخدودِ
أبواهُ من عَلْيا قــــريشٍ * جدّهُ خيرُ الجدودِ(177)
[338] كان الجصّاصون إذا خرجوا في السحر سمعوا نَوْحَ الجنّ على
الحسين ينشدون ذلك الشعر .
[339] ولمّا قتل الحسين بن عليّ سُمع منادٍ ينادي ليلاً ،
يُسمعُ صوتُه ولم يُرَ شخصُه :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(175)(176)و(177)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 154 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص193
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عقرتْ ثمودٌ ناقةً فاستُؤصِلـــــوا * وجـرتْ سوانِحُهم بغير الأسعدِ
فبنو رسول الله أعظمُ حرمــــــةَ * وأجـــلّ من أُمّ الفصيل المقصدِ
عجباً
لهم ولما أتوا لم يُمسخوا * والله يملي للطغاة الجُحَدِ(178)
وأمّا الإنسُ :
فقد فجرّتْ واقعةُ كربلاء قرائحَ أصحابَ الولاء لأهل البيت ، من
الشعراء , وقد ملأتْ مراثيهم دواوينَ الأشعار وكتبَ الأخبار ، وعرفَ كثيرٌ من شعراء
العربية برثائهم للحسين عليه السلام فقطْ.
وفي طليعة أهل الرثاء : خالدُ بن عَفران : من أفاضل التابعين
كان بدمشق ، وحدّثوا : أنّ رأس الحسين بن عليّ عليه السلام ، لمّا صُلِبَ بالشام ،
أخفى خالدُ بن عَفران شخصه عن أصحابه، وطلبوه شهراً حتّى وجدوه، فسألوه عن عزلته ؟
فقال : أما ترون ما نزل بنا ؟ ثمّ أنشد يقول :
جاؤوا
برأسك يابن بنت محمّــــــدٍ * متزمـــــّلاً بدمائـــــــه تـــــــزميلا
وكأنّما بكَ يابنَ بنــتِ محــــمّــــــدٍ
* قتــــلوا جــــهاراً عامدين رسولا
قتلوكَ
عطشاناً ولم يترقّــــبــــــوا * فــــي قتلـــكَ التنزيـــــلَ والتأويلا
ويكــبّرونَ بــــأنْ قُتـــلتَ وإنّمــــا * قتلوا بكَ التكبيرَ والتهليلا(179)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(178)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 155 )
(179)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 392 ) في ترجمة( خالد
بن
عَفران).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص194
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[400] ومنهم - وقيل : إنّه أوّلُ من رَثى الإمام عليه السلام -
سليمانُ بن قَتّة
قال :
وإنّ
قتيلَ الطــــــفِّ مــــــن آلِ هـــاشمٍ * أذلّ رقابــــــاً من قــــــريشٍ
فــــــــذلَتِ
فإنْ
تبتغوهَ عائذَ البيت تفضحوا(180) * كعادٍ تعمّــــــــتْ عن هداها فضلّـــــــتِ
مررتُ
عـــــــلى أبــــــياتِ آلِ محــــــمّدٍ * فلمْ أرَهــــــا أمثالَهــــــا
حــــــيثُ حلّتِ
وكانوا
لنا غُــــــنماً فعــــــادوا رزيّـــــةً * لقدْ عَظُمتْ تــــــلكَ
الــــــرزايا وجــلّتِ
فلا
يُبعــــــدُ اللهُ الديارَ وأهلَهـــا(181) * لقدْ عــــــظمتْ منهــــــم بـرغْمي
تخلّتِ
إذا
افتقرتْ قيسٌ جــــــبرنا فــــــقيرَهــا * وتقتُلنا قيــــــسٌ إذا النعــــــلُ
زلّــــــــتِ
وعند
غــــــنيٍّ قطــــــرةٌ من دمــــــائنا * سنجزيهم يومــــــاً بهــــــا
حــــــيثُ حلّتِ
ألمْْ
تَرَ أنّ الأرضَ أضحــــــتْ مـريضةً * لفقدِ حــــــسينٍ والــبلادَ اقشعرّتِ(182)
[401] وأنشدوا لبعض الشعراء في مرثية الحسين بن عليّ:
لقدْ هدَّ جسمي رزءُ آلِ محــــمّدٍ
* وتلـــكَ الرزايا والخطوبُ عظامُ
وأبكتْ
جفوني بالفراتِ مصارعٌ * لآَلِ النــــبيّ المــصطفى وعظامُ
عظامٌ
بأكنافِ الفراتِ زكـــــــيّةٌ * لهنَّ عــــلينا حــــرمةٌ و ذِمــــامُ
فكم
حُــــرّةٌ مسبــــيّةٌ فاطمــــيَةٌ * وكم من كــــريمٍ قــدْ علاهُ حسامُ
لآلِ
رسولِ الله صلّــــتْ عـــليهمُ * ملائكةٌ بيضُ الوجــــوهِ كـــــرامُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(180) البيت في مختصر تاريخ دمشق : ( فإن تبتغوه عائذ البيت
تصبحوا ) .
(181) الشطر الثاني من البيت السابق ، وهذا الشطر كلاهما من
مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور .
(182)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 158 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص195
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أفاطمُ أشجاني بَنُوكِ ذَوُو العُــلا * وشِبتُ وإنّي صــــادقٌ
لَغُــــــلامُ
وأصبحتُ لا ألْتَذُّ طيبَ معيشــــةٍ * كأَنَ عَلَيَّ الطّيــــباتِ
حــــــــرامُ
ولا الباردُ العذبُ الفراتُ أُسيغهُ * ولا ظلَ يهنيني الغــــَداةَ
طعــــامُ
يقولونَ
لي صبراً جميلاً وسلوةً * ومالي إلى الصبرِ الجميلِ مرامُ
فكيفَ اصطباري بعد آلِ محمـــّدٍ * وفي القلبِ منهمْ لوعةٌ وسقــامُ
35- الانتقام للدماء
ولئن كانت فتنةُ الله لعباده الصالحين - من الأنبياء والأئمّة
والأولياء - شديدةَ الوطأة عليهم ، ولكنّها كانتْ وَعْداً وعهداً ربّانياً ،
اتّخذوه ، وصَدَقُوهُ ، فصبروا على الأذى في جنب الله ، وصابروا ، ورابطوا على
مواقع الحقّ ، ولم يتراجعوا ، ولم يهنوا ، ولم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا ،
وجاهَدُوا بكلّ قُوّةٍ وصلابة وإصرار ، حتّى فازوا برضا الله عنهم ، كما رَضُوا عنه
، وحازوا خلود الذكر في الدنيا ، وجنّات عدنٍ في الآَخرة .
وصَدَقهم الله وعدَهُ ، بالانتقام من المُجْرِمين ، وليعلموا
أنّ وعدَ الله حقٌّ ، وأنّ الله منجزُ وعدِه رُسُلَهُ ، إلى أنْ يرثَ ويرثُوا الأرض
، ويستخلفهم عليها ، وعْداً عليه حقّاً في كلّ الكتب السماوية : التوراة والإنجيل
والزبور ، والقرآن .
وقبل هذا الأمر المعلن في النصوص المقدّسة ، والذي لا يستيقنُه
الّذين لا يؤمنون ، فهم لا يؤمنون بالغيب ، وإنْ كان أمرُ الانتقام من قتلة
الصالحين والمصلحين ، هو مكشوفٌ للعيان واضحٌ لكلّ ذي عينين إذا أتعبَ جفنيه
ففتحهما على ما حوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص196
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألَيْسَ فراغُ المجتمع من الصلحاء المخلصين للأُمّة والوطن
انتقاماً عينياً ، إذ يعني ذلك فراغ الساحة للعابثين ، والانتهازيّين ، والنفعيّين
؟
أليس قتلُ الجماعة المؤمنة ، ذاتُ المستويات الرفيعة في الشرف
والكرامة ، بين الأُمّة ، يؤدّي إلى تجرّؤ القتلة والظلمة على ارتكاب الجرائم
الأكثر ، لأنّه يهونُ عليهم قتل الآَخرين ، بعد قتل الأشراف ؟
أليسَ سكوتُ الأُمّة على فظائع مروّعة ، ومجازر رهيبة ، مثل
مذبحة كربلاء، بجرائمها وبشاعتها ، يكشفُ عن عجز الأُمّة عن التصّدي للظالم ،
وخضوعها ، بما يؤدّي إلى إقدامه على الإجرام الأوسع ، كما فعل بنو أُميّة في وقعة
الحرّة بل على الهتك الأعظم لحرمات الله ، كما فعلوه في إحراق الكعبة وهدمها ؟
إنّ هذه النتائج الواقعة ، كانتْ هي النتائج المنظورة والمرئيّة
لكلّ أحدٍ ممّن يحمل قبساً من نور الوعيْ والعقل والفكر ، و يجد عليها هدىً ، ولم
يكن بحاجة إلاّ إلى الْتفاتةٍ صغيرة
وقد أخبر الإمامُ الحسينُ عليه السلام عن بعض هذه النتائج قبل
أنْ يردَ أرض كربلاء ، وبعد أنْ وردها [268] قال : والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا
هذه العلقةَ من جوفي , فإذا فعلوا ، سلّطَ الله عليهم من يُذلّهم ، حتّى يكونوا
أذلّ من فرم الأَمَة
[266] وقال : لا أراهم إلاّ قاتليّ ، فإذا فعلوا ذلك لم
يَدَعُوْا لله حرمةً إلاّ انتهكوها ، فيسلّطُ اللهُ عليهم مَنْ يُذلّهم حتّى يكونوا
أذلَّ من فرم الأَمَة !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص197
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولقد كان القتلُ للأنبياء والأئمّة عادةً ، وكرامتهم من الله
الشهادة ، وإنّما بَرزَ الّذين كُتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم ، ليُثبتوا أنّهم
أوفياء بوعد ربّهم ، ولدينهم ، وأهدافهم .
فكذلك كان الانتقامُ للدماء الزاكية سُنّةً إلهيةً جاريةً .
وقد ذكّر الله تعالى نبيَه بذلك ، كما في الحديث : [286] أوحى
الله تعالى إلى محمّدٍ صلّى الله عليه واَله وسلّم : أنّي قد قتلتُ بيحيى بن زكريّا
سبعين ألفاً ، وأنا قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً (183) .
وأمّا آحادُ الحُثالات التي تكدّستْ في كربلاء، وارتكبتْ جريمةَ
عاشوراء: فهم أحقرُ من أن يُذكروا ، ويذكر ما جرى عليهم ، فكفاهم ذُلّا ، وخزياً ،
وعاراً وشناراً ، ما أقدموا عليه من قتل ابن بنت رسول الله ، والكوكبة
الأخيار من آله ، والهالة المشعّة من الصالحين حوله .
مع أنّ التاريخ لم يغفلْ ما جرى على كلّ واحدٍ منهم من الانتقام
الإلهيّ في هذه الدنيا ، على يَدِ الأخيار من أنصار الحقّ الّذين اختارهم اللهُ
لهذه المهمّة العظيمة , ليصبحوا عبرةً لمن اعتبرَ ، ولمن يعتبرُ على طول التاريخ ،
من الظَلمة ، ليعلموا أنّ الله لهم بالمرصاد ، وليأتينّهم موعدُهم ولو بعد حين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(183) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 149 ) .