مكتبة الإمام الحسين (ع)

فهرس الكتاب

 

 

المرقد الزينبي في القاهرة وضاحية الشام

 

الظاهر ان هذين المرقدين كما لعله اقرب الاحتمالات وبخاصة بالنسبة الى المرقد المصري ، ان احدهما وهو الموجود في ضاحية الشام وفي المكان الذي يعرف حاليا بقرية الست هو لزينب بنت عبدالله الاصغر بن عقيل من زوجته أم كلثوم الصغرى بنت امير المؤمنين ومن غير فاطمة الزهراء (ع) (1)، والمرقد الزينبي الموجود في محلة الفسطاط عند قناطر السباع من القاهرة الذي يقدسه المصريون ويقصدونه من سائر الجهات ويبذلون الاموال الطائلة في سبيله تقريبا الى الله تعالى هو لزينب بنت يحيى المتوح بن الحسن الانور بن زيد بن الحسن السبط (ع) ولأجل وضع هذا الظن موضع الاعتبار والعناية وحتى لا يكون كغيره من الاقوال العابرة حول هذا الموضوع ، لا بد من المرور ببعض الجوانب عن حياة الحسن الانور وابنته السيدة نفسية المعروفة عند المصريين بكريمة الدارين .

 لقد ذكر جماعة من المؤلفين في احوال اهل البيت ومن بينهم المؤلف المصري توفيق ابو علم رئيس ادارة مسجد السيدة نفسية ووكيل وزارة العدل الصادر بتاريخ 1970 ، فلقد عد في كتابه المذكور كغيره من جملة اولاد الحسن زيد بن الحسن السبط ووصفه بكرم الطبع وجلالة القدر وكثرة البر والإحسان وان الناس كانوا يقصدونه من جميع الآفاق طمعا في بره واحسانه وانه كان يتولى صدقات رسول الله (ص) وبقيت في يده الى ان جاء للحكم سليمان بن عبد الملك فعزله عنها وأرجعها اليه عمر بن عبد العزيز الخليفة الاموي العادل ، ومضى يقول : ان محمد بن بشير الخارجي كان من جملة الشعراء الذين مدحوه وقال فيه :

اذا نــزل ابن المصطفى بطن تلعة * نفى جدبها واخضر بالنبت عودها

وزيد ربــــيع الناس في كـل شتوة * اذا اخـفقـــــت انـواؤها ورعـودها

وقد توفى زيد بن الحسن وله من العمر تسعون عاما وبكاه الناس ورثاه عدد من الشعراء ، ومن اولاده الحسن الانور ، وكان من علماء اهل البيت المبرزين وولاه ابو جعفر المنصور العباسي سنة 150 هجرية امارة المدينة بعد ان عزل عنها جعفر بن سليمان وبقي على المدينة لسنة 65 فعزله عنها لوشاية عليه بأنه يساند الثوار العلويين لإعادة الخلافة اليهم ووضعه في حبسه الى ان جاء ولده المهدي الى الحكم فأخرجه من الحبس ، وكان معروفا بالصلاح والتقوى والبر والاحسان ومستجاب الدعاء على حد تعبير المؤلف .

وقد تخلف الحسن الانور كما يدعي توفيق ابو علم بتسعة ذكور وبنتين وهما نفيسة وأم كلثوم ومن اولاده الذكور يحيى المتوج ، واشتهرت نفيسة من بين اولاده بالزهد والصلاح والمعرفة وكانت تلقب بنفيسة الدارين ونفيسة العلم والطاهرة والعابدة ، ولما بلغت سن الزواج خطبها العلماء والاشراف من شباب العلويين وفتيانهم ، فكان والدها يأبى عليهم ويردهم ردا جميلا ، وحينما خطبها اسحاق المؤتمن ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) زوجها اياه وذلك سنة 161 وكان من المعروفين بالفضل والصلاح والخير ومن المحيطين بأحاديث ابيه وأجداده كما وصفه المقريزي في خططه وأولدها ولدين القاسم وأم كلثوم ، ومن نسل القاسم السادة بنو زهرة في حلب ونواحيها (2).

 ورحلت السيدة نفيسة الدارين مع زوجها من المدينة الى القاهرة وفي طريقها الى القاهرة مرت على دمشق الشام وزارت فيها بغوطة دمشق مقام السيدة زينب بنت ام كلثوم بنت امير المؤمنين وأم كلثوم هذه هي المعروفة بالصغرى من بنات امير المؤمنين ومن غير فاطمة الزهراء وكانت زوجة لعبدالله الاصغر بن عقيل بن ابي طالب كما جاء في ص 286 من المجلد الثاني تاريخ الخميس والظاهر ان زينب التي زارت قبرها نفيسة هي ابنتها لان أم كلثوم الكبرى ابنة الزهراء كانت زوجة لعمر بن الخطاب وقد اولدها ولداً سماه زيدا وبعد وفاة ابن الخطاب عنها تزوجها محمد بن عبدالله بن جعفر ولم تنجب منه كما جاء في تاريخ الخميس (3).

 ثم زارت قبر عمتها فاطمة بنت الحسن بن علي (ع) وقبر فضة جارية الزهراء (ع) وقد استقبلها جمهور كبير من اهالي دمشق وعلمائها مرحبين بقدومها ، وبعد دخولها دمشق بأيام قليلة رحلت منها الى القاهرة ودخلتها في شهر رمضان سنة 193 قبل ان يدخلها الشافعي بخمس سنين فاستقبلها المصريون رجالا ونساء احسن استقبال ونزلت دارا لاحد التجار الكبار وأخيرا استقرت في البيت الذي أعد لها مع زوجها وراح الناس بمختلف فئاتهم يترددون عليها وعلى زوجها يأخذون عنهما العلم والحديث واستفادوا من علمهما واستمر الناس يتدفقون عليهما وأصبحت رمزا للطهر والقداسة في تلك الديار .

 ولم يكن لاخيها يحيى المتوج سوى بنت واحدة تدعى زينب وكانت قد رحلت مع ابيها الى مصر وحينما دخلتها عمتها وغمرتها بعطفها وحنانها وعلقت بها وأبت ان تتزوج من احد بالرغم من توافد الخطاب على ابيها ولازمت عمتهاولاقت من عطف عمتها عليها والاحسان اليها ما جعلها تتفانى في خدمتها وتسهر على حوائجها لمدة طويلة من الزمن وبخاصة بعد ان بلغت من العمر سنا أقعدها عن القيام بأكثر حوائجها .

 وروى عنها ابو علم انها كانت تقول : لقد خدمت عمتي نفيسة اربعين سنة فما رأيتها تامت بليل ولا أفطرت في نهار الا في العيدين وأيام التشريق .

 ومضت تقول كما جاء في ص 540 من كتاب ابو علم وكيل وزارة العدل المصرية : كانت عمتي نفيسة تحفظ القرآن وتفسيره وتقرأه وتبكي وكنت اجد عندها ما لا يخطر بخاطري ولا اعلم من يأتيها به فكنت أتعجب من ذلك فتقولي لي : يا ابنة اخي من استقام مع الله كان الكون بيده وفي استطاعته .

 ويدعي توفيق ابو علم في كتابه اهل البيت بأن للسيدة نفيسة عشرات الكرامات التي لا تجوز على غير الانبياء والصديقين ومن عباده الصالحين وهي جائزة عقلا ومن جملة الممكنات التي لا تستحيل على القدرة الالهية وقد غمر الله سبحانه آل بنت نبيه بفضله وشملهم بفيوضاته حتى ظهرت على ايديهم الكرامات وتتابعت على الناس منهم البركات والنفحات من اجابة الدعوات وكشف الكربات وقضاء الحاجات ، وأضاف الى ذلك ان علماء اهل السنة قد اتفقوا على جوازها واختص بها الله من أحب من عباده وأوليائه وأصفيائه آل بيت نبيه الطاهرين .

 وبقيت السيدة نفيسة في القاهرة نحوا من عشرين سنة ولما جاء أجلها على اثر مرض ألمّ بها احتضنتها ابنة اخيها زينب بنت يحيى وتوفيت في حضنها سنة 208 وكانت قد أعدت لنفسها قبراً فدفنت فيه وراح الناس بعد ذلك يعدون قبورهم حولهاتبركا بمرقدها وفي سنة 544 أمر الحافظ لدين الله ببناء قبة على قبرها ولا تزال من اعظم المزارات عند المصريين ، وكان اخوها يحيى قد توفي قبلها في مصر وقبره لا يزال من المقدسات عند المصريين يتبركون به ويتوسلون الى الله في قضاء حوائجهم ، وبعدهما توفيت زينب بنت يحيى ودفنت بجوار قبر عمرو ابن العاص ، ومضى ابو علم يقول : وكان اهل مصر يأتون لزيارة قبرها من كل فج ، وحتى ان الظاهر الخليفة الفاطمي كان يأتي لزيارتها ماشيا على قدميه ومعه جمهور من الناس ، وأضاف الى ذلك ان النيل توقف في بعض السنين عن الجريان فتوسل المصريون بقبرها الى الله فجرى النيل على عادته ، الى غير ذلك مما جاء في كتابه عن نفيسة الدارين وابنة اخيها زينب .

 بعد هذه اللمحات عن حياة السيدة نفيسة حفيدة الحسن السبط (ع) يمكن القول بأن المرقد المنسوب لزينب العقيلة في مصر والذي لا يزال المصريون يقدسونه ويعظمونه هو لزينب بنت يحيى المتوج وبتعاقب العصور والاجيال اصبح ينسب لزينب العقيلة لانها اشتهرت من نساء العلويين الأوائل وأصبح اسمها مقرونا باسم اخيها الحسين (ع) بعد معركة الطف وتحدث الكتاب والمؤلفون عن مواقفها الخالدة من تلك المجزرة وما رافقها والالفاظ المشتركة تنصرف في الغالب الى أكمل الافراد وأكثرها شيوعا ، وبلا شك فان أكمل الزينبيات وأعلاهن شأنا هي زينب العقيلة ، كما يحتمل ان يكون للفاطميين ضلع في نسبة ذلك المرقد لها ونسبة المرقد الثاني لرأس اخيها الحسين وهم الذين اشاعوا بأن الرأس كان مدفونا في عسقلان ونقلوه الى القاهرة وراحوا يعظمون المرقدين لاسباب سياسية أو لغيرها .

 امام المرقد الموجود في ضاحية الشام وفي بلدة الست بالذات الذي زارته السيدة نفيسة في طريقها الى مصر فليس لزينب الكبرى عقيلة الطالبيين وبطلة كربلاء كما هو الراجح ، ومن الجائز ان يكون لزينب بنت عبدالله الاصغر بن عقيل من زوجته أم كلثوم الصغرى ابنة امير المؤمنين (ع) من غير الزهراء وهي ليست بأم كلثوم التي تزوجها عمر بن الخطاب وأولدها ولده زيدا ، وهذه قد تزوجت بعد ابن الخطاب من محمد بن جعفر ولم تنجب منه وهي شقيقة الحسين لأمه وأبيه .

 ومهما كان الحال فلا يمكن الجزم بشيء حول واقع تلك المراقد ، وأعود لأكرر ما ذكرته سابقا من ان المراقد التي يقدسها الشيعة وبقية المسلمين المعتدلين لا يقدسونها الا بصفتها رمزا لمن تنتسب اليه وتقديرا لما كان يتمتع به من القيم والمثل العليا والجهاد والتضحيات في سبيل المبدأ والعقيدة ، لا للبناء والأحجار المزخرفة والنفائس التي فيها ، وسواء كانت رفات ذلك الشخص صاحب تلك الفضائل في داخل ذلك المرقد او لم تكن في واقع الامر ، فمادام يرمز اليه فان زيارته والتوسل به الى الله سبحانه من الأمور الراجحة وتعظيما للدين وللقيم التي كان ذلك الشخص يجسدها ويستهين بحياته من اجلها .

 ان الزائر حينما يتجه الى المسجد الذي فيه مقام رأس الحسين في القاهرة ومقام السيدة زينب في ضاحية الشام وفي محلة الفسطاط من القاهرة انما يتجه بقلبه وأحاسيسه لمن ترمز اليه تلك القباب الشامخة اي لرأس الحسين وللسيدة زينب وان لم تكن في واقع الأمر قد ضمنت رفاتهما ، وليس بغريب على الله سبحانه اذا سبحانه اذا استجاب للموالين لأهل البيت علي والزهراء ومن تناسل منهما من الائمة الاطهار والصلحاء الابرار الذين عناهم النبي (ص) بقوله ، كما جاء في رواية ابي بكر بن ابي قحافة انه قال : رأيت رسول الله (ص) قد خيم خيمة وهو متكىء على قوس له عربية وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين وهو يقول : معاشر المسلمين انا سلم لمن سالم اهل هذه الخيمة وحرب لمن حاربهم وولي لمن والاهم لا يحبهم الا سعيد الجد طيب المولد ولا يبغضهم الا شقي الجد رديء الولادة (4).

 ليس بغريب اذا اجار الله من استجار بمراقدهم واستجاب لمن توسل اليه بهم في قضاء حوائجه لانهم قد بذلوا انفسهم وكل ما يملكون في سبيل وتركوا الدنيا ومتعها ونعيمها بعد ان اصبحت تحت أقدامهم من اجل اعلاء كلمة الله وخير الناس أجمعين ، ورحم الله القائل في وصفهم:

هم القوم من أصفاهم الود مخلصا * تمسك فــــي اخراه بالسبب الاقوى

هـم القــــوم فاقوا العالمين منـاقباً * محـاسنهم تحــــكى وآياتهم تـــروى

موالاتهم فــــرض وحبــــهـم هــدى * وطـاعــــتهـم ود وودهـم تــــقـــوى

 

 

المآتم الحسينية

 

 لقد كانت العشرة الاولى من شهر المحرم ولا تزال مأتما سنويا للأحزان والآلام عند الشيعة منذ مجزرة كربلاء التي كان على رأس ضحاياها الحسين بن علي سبط الرسول وسيد شباب اهل الجنة في اليوم العاشر من المحرم سنة احدى وستين للهجرة فكان الشيعة ولا يزالون في مختلف انحاء دنيا الإسلام يجتمعون في مجالسهم وندواتهم يرددون مواقف اهل البيت وتضحياتهم في سبيل الحق والعدالة وكرامة الإنسان التي داستها أمية بأقدامها ، وما حل بهم من أحفاد أمية وجلاديهم من القتل والسبي والتشريد والاستخفاف بجدهم الاعظم الذي بعثة الله رحمة للعالمين .

 هذه الذكريات الغنية بالقيم والمثل العليا والتي تعلمنا كيف نعيش احرارا وكيف نموت في مملكة الجلادين سعداء منتصرين لو ادركنا اهداف تلك الثورة وأحسنا استغلالها هذه الذكريات قد اقترنت كما يبدو بعد الاحصاء الدقيق لتاريخها بتلك المجزرة الرهيبة التي ايقظت المسلمين على اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم ونزعاتهم ، وأدركوا بعدها ان كرامة الاسلام والمسلمين قد اصبحت بسبب تخاذلهم تحت أقدام الأمويين وفراعنة العصور ، فاستولى عليهم الخوف والندم لتقصيرهم في نصرته وتخاذلهم عن دعواتهم ففريق وجدوا ان التكفير عن تخاذلهم لا يكون الا بالثورة والثأر له من اولئك الطغاة وآخرون سيطر عليهم الخوف فخلدوا الى الهدوء ينتظرون الظروف المناسبة ولكن ذلك لم يكن ليمنعهم عن الاحتفال بذكراه كلما هلّ شهر المحرم من كل عام واستبدال جميع مظاهرهم بمظاهر الحزن والاسف وتريد الاحداث التي رافقت تلك المجزرة من تمثيل بالضحايا وأسر وسبي وما الى ذلك من الجرائم التي لم يعرف المسلمون لها نظير في تاريخ المعارك والعزوات قبل ذلك اليوم .

 ومما يشير الى ان المآتم الحسينية يقترن تاريخها بتلك المجزرة ما جاء في تاريخ العراق في ظل العهد الاموي للدكتور علي الخرطبولي ان بيعة ابي العباس السفاح بدأت في الكوفة وشاء لها القدر ان تتم لابي العباس كأول خليفة من خلفاء تلك الاسرة في عيد الشيعة الاكبر وهو يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة 132 وفي نفس الوقت الذي كان الشيعة يحتفلون فيه بذكرى الحسين بن علي (ع) (5).

 ومعلوم ان كلمة عيد الشيعة الاكبر يوم العاشر من المحرم تشير الى ان الشيعة كانوا معتادين من زمن بعيد على الاحتفال بذكرى الحسين (ع) في ذلك اليوم من كل عام وانه كان من اعظم المناسبات التي اعتادوا فيها ان يندبوا الحسين ويبكونه ويرددون مواقفه وتضحياته من اجل الحق والمبدأ والعدالة التي تمكن كل انسان من حقه وتحفظ له كرامته وحريته .

 وكما اتخذ الشيعة وأهل البيت تلك الايام ايام حزن وأسف وبكاء على ما جرى للحسين وأسرته من قتل وأسر وسبي اتخذها غيرهم من الاعياد يتبادلون فيها التهاني والزيارات ويتباهون بكل مظاهر الفرح والسرور في ملابسهم وندواتهم ومآكلهم وما الى ذلك من مظاهر الفرح تحديا لشعور الشيعة واستخفافا بأهل بيت نبيهم الذين فرض الله ولاءهم على كل من آمن بمحمد ورسالته .

 وجاء في ص 202 من البداية والنهاية لابن كثير المجلد الثامن ان النواصب من اهل الشام لقد عاكسوا الرافضة والشيعة فكانوا في يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون افخر ثيابهم ويتخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه انواع الاطعمة ويظهرون الفرح والسرور فرحا بقتله لانه حاول ان يفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها على حد تعبيره .

 ولا يزال المسلمون في اهل السنة يعتبرون اول يوم من المحرم عيدا اسلاميا يتبادلون فيه التهاني والزيارات ويصرفون اكثر ساعاته في نوادي اللهو والطرب والحفلات ويسمونه بعيد الهجرة مع العلم بأن هجرة النبي من مكة الى المدينة كانت في السادس من ربيع الاول وفي الثاني عشر منه دخل المدينة ونزل ضيفاً على ابي ايوب الانصاري .

 ومهما كان الحال فلقد رافقت هذه الذكرى في اوساط الشيعة مصرع الحسين (ع) وكان الائمة يحرصون على تخليدها واستمرارها لتكون حافزا للاجيال على مقاومة الظلم والطغيان والاستهانة بالحياة مع الظالمين تقودهم بمعانيها السامية الخيرة للتضحية والبذل بسخاء في سبيل المبدأ والعقيدة .

 لقد دخل الامام علي بن الحسين زين العابدين الى المدينة بعد ان أطلق سراحه وسراح عماته وأخواته يزيد بن معاوية وهو يبكي أباه وأهله واخوته وظل لفترة طويلة من الزمن يبكيهم حتى عده الناس من البكائين ، وكان عندما يساله سائل عن كثرة بكائه يقول : لا تلوموني فان يعقوب النبي فقد ولدا من اولاده فبكى عليه حتى ابيضت عيناه من الحزن وهو حي في دار الدنيا ، وقد نظرت الى عشرين رجلا من اهل بيتي على رمال كربلاء مجزرين كالاضاحي أفترون حزنهم يذهب من قبلي .

 وروى الرواة عن الإمام الصادق (ع) انه قال ما وضع بين يدي جدي علي بن الحسين طعام الا وبكى بكاء شديدا وان احد مواليه قال له : جعلت فداك اني اخاف عليك ان تكون من الهالكين ، فقال : انما اشكو ثبتي وحزني الى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون اني لم اذكر مصارع بني فاطمة إلى وخنقتني العبرة .

 وأحيانا كان الإمام السجاد يطلب المناسبة ويخلقها احيانا ليحدث الناس بما جرى للحسين وأهل بيته فيذهب الى سوق القصابين في المدينة ليسألهم عما اذا كانوا يسقون الشاة قبل ذبحها وانه ليعلم انهم يفعلون ذلك لانه من السنن المأثورة ولكنه يريد ان يحدثهم عما جرى لابيه ليبعث في نفوسهم النقمة على الظلم والظالمين ، فيقول لهم : لقد ذبح ابو عبدالله عطشانا كما تذبح الشاة فيجتمعون عليه ويبكون لبكائه ، وكان اذا رأى غريباً دعاه إلى بيته لضيافته ثم يقول : لقد ذبح ابو عبدالله غريباً جائعاً ، واستمر طيلة حياته حزيناً كئيباً ، وهكذا كان غيره من الائمة يحرصون على بقاء تلك الذكرى حية في نفوس الاجيال خالدة خلود الدهر لانها لا تنفصل بمعانيها السامية عن اهداف الاسلام العليا ومقاصده الكريمة .

 وقال الإمام الصادق (ع) لجماعة من اصحابه دخلوا عليه في اليوم العاشر : أتجتمعون وتتحدثون ؟ فقالوا : نعم يا ابن رسول الله ، فقال : أتذكرون ما صنع بجدي الحسين لقد ذبح والله كما يذبح الكبش وقتل معه عشرون شابا من اهله وبنيه واخوته ما لهم على وجه الأرض من مثيل .

 وروى عنه معاوية بن وهب وقد دخل عليه في اليوم العاشر من المحرم فرآه حزينا كاسف اللون وهو يدعو ويقول : الله يا من خصنا بالكرامة ارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس وارحم تلك الخدود التي تقلبت على قبر ابي عبدالله الحسين وارحم تلك الصرخة التي كانت لأجله ، ومضى يقول في دعائه لزوار الحسين والباكين عليه كما جاء في رواية ابن وهب : اللهم ارحم تلك الأنفس والابدان حتى توفيهم على الحوض يوم العطش الاكبر ، ولما استغرب معاوية بن وهب ما رآه من بكاء الإمام ومن دعواته لزوار قبر ابي عبدالله والباكين عليه ، قال له : يا ابن وهب ان من يدعو لزوار قبر الحسين والباكين لما اصابه في السماء اكثر ممن يدعون لهم في الأرض ، ودعاء الاماء لزوار قبر الحسين يشير إلى ان الشيعة كانوا يتوافدون لزيارته من ذلك التاريخ .

 ودخل جعفر بن عفان عليه فقال له : بلغني انك تقول الشعر في الحسين وتجيده فأنشدني من شعرك فيه ، ثم قام وأجلس نساءه خلف الستر فلما قرأ عليه من شعره في الحسين جعل يبكي وارتفع الصراخ والعويل من داخل الدار حتى ازدحم الناس على باب الدار مخافة ان يكون قد حدث فيها حادث فلما وقف الناس على واقع الأمر تعالى الصراخ من كل جانب ثم قال له : لقد شهدت ملائكة الله المقربون قولك في الحسين وبكوا كما بكينا .

 وكان جعفر بن عفان من شعراء اهل البيت ، وله مواقف مع ابن ابي حفصة شاعر العباسيين الذي كان يتملق اليهم بانتقاص العلويين ، وهجائهم ومن قصائده التي كان يتملق بها للعباسيين قوله في ابيات يخاطب لها العلويين :

خلو الطريق لمعشر عاداتهم * حـــطم المناكب كل يوم زحام

ارضوا بما قسم الاله لكم به * ودعـــوا وراثة كل اصيد حام

انى يكون وليــس ذلك بكائن * بنـــي البــنات وراثـة الاعمام

فرد عليه جعفر بن عفان بقوله :

لــــــم لا يـــكــون وان ذاك لكــــائن * لبـــــنـي البــــنــات وراثـة الاعمـام

للبنـــت نـصـــــــف كـامل مـن مالـه * والعــم متـــــروك بغــــيـر سهــــــام

مـا للطـــــليـــــق وللتــــراث وانمــا * صلى الطليق مخافة الصمصام (6)

 وكان الامام الرضا (ع) يجلس للعزاء في العشرة الاولى من شهر المحرم ولا يرى ضاحكا قط ، كما كانت مظاهر الحزن والاسف تستولي على الائمة الاطهار وأصحابهم وتبدو ظاهرة في بيوتهم ومجالسهم ويقولون لمن يحضر مجالسهم من الخاصة والعامة : قولوا متى ما ذكرتم الحسن وأصحابه : يا ليتنا كنا معك فنفوز فوزاً عظيماً ، انهم كانوا يريدون من اصحابهم وشيعتهم وجميع المسلمين ان يكونوا مع الحسين وأصحاب الحسين العاملين بمبادئ القرآن وسنن الانبياء والمصلحين العاملين لخير الانسان في كل زمان ومكان بأرواحهم وعزيمتهم وقلوبهم ، وبقاء هذه الذكرى خالدة خلود الانسان وأن يشحنوا النفوس بالنقمة على الظالمين وفرانة العصور الذين يتحكمون بكرامة الانسان وخيرات الارض التي اوجدها الله لأهل الأرض لا للحاكمين والجلادين .

 ويريدون منهم ان يكونوا في كل زمان ومكان ثورة عارمة على من يحمل روح يزيد وجلاديه ولا يختلف عنهما الا بالإسم ويضحوا بأنفسهم من اجل الحق والعدل كما ضحى الحسين وأصحابه في ثورته على يزيد زمانه ، لقد ارادوا منهم ذلك صراحة تارة وتلميحا اخرى كما يبدو ذلك من حثهم وترغيبهم على زيارة الحسين وتحمل المشاق وان عظمت في سبيلها لتبقى مواقفه وتضحياته ماثلة لدى الاجيال تتخذ منها دروساً في الجهاد والتضحيات في سبيل العقيدة والمبدأ .

 انهم كانوا يحثون ويرغبون في زيارته في اكثر من فصل من فصول السنة لان الزائر عندما يقف امام ضريحه الطاهر اذا كان مدركا لواقعه لابد وأن يتصور موقف الحسين وحيدا في مقابل تلك الحشود التي اجتمعت لقتاله غير هياب ولا وجل يدافع ويناضل عن شريعة جده وكرامة الانسان بعزيمة أثبت من الجبال الرواسي كما وصفها بعض شعراء الطف بقوله :

من تحتهم لو تزول الارض لا تنصبوا * على الهوى هضبا ارسى من الهضب

هذه الخواطر التي تعترض زائر الحسين لا بد وأن تحدث في نفسه نقمة على الظلم والظالمين وتدفعه على الصمود في الشدائد والأهوال وتؤكد صلاته بأهل هذا البيت الذين يجسدون الإسلام فكراً وقولا وعملا ، هذا بالإضافة الى ان الزائر يعاهد الله ورسله وملائكته بالمضي على خطا الحسين وآبائه وأبنائه ومتابعتهم في القول والعمل ومواقفهم من الظالمين حينما يقف على ضريحه ويخاطبه بقوله : وأشهد الله وملائكته ورسله اني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم وولي لمن والاكم وعدو لمن عاداكم واني بكم مؤمن ولكم تابع في ذات نفسي وشرائع ديني وخواتيم عملي في منقلبي ومثواي .

 ان هذا التأكيد من الائمة الاطهار على زيارة الحسين (ع) والترغيب المغري بها في عدد من المواسم خلال كل عام لم يصدر منهم بالنسبة لزيارة غيره من الائمة ولا لزيارة من هو اعظم منه كجده المصطفى وأبيه المرتضى في حين ان كل واحد منهم كل يجسد الإسلام بجميع فصوله وخطوطه في اقواله وأفعاله وقد وهب حياته لله ولخير الناس اجمعين وهانت عنده الدنيا بكل ما فيها من متع ونعيم مغريات . ان ذلك لم يكن إلا لأن شهادة الحسين (ع) بما رافقها من الجرائم والفظائع تثير الاحاسيس وتحرك الضمائر الهامدة وتحث على مقارعة الظلم والصبر في الشدائد والأهوال في سبيل المبدأ والعقيدة ولأجل ما رافقها من تلك الاحداث القاسية التي لم يسجل التاريخ لها نظيراً فقد اتخذها الائمة (ع) وسيلة لاثارة العواطف والهاب المشاعر وبعث الروح النضالية في نفوس الجماهير المسلمة لتكون مهيأة للثورة على الظلمة والجبابرة في كل ارض وزمان وفي الوقت ذاته فان تلك المآتم والذكريات تكشف عن طبيعة القوى التي تناهض اهل البيت وتناصبهم العداء ومدى بعدها عن الإسلام ، وتبين في الوقت ذاته ان جوهر الصراع بينهم وبين الحاكمين ليس ذاتيا ولا مصلحيا كما جرت العادة عليه في الصراعات بين الناس بل هو من اجل الإسلام وتعاليم الإسلام والجور الذي اصاب الناس .

 لقد كان موقف الائمة (ع) من تلك المآتم والحث عليها والترغيب بها منذ قتل الحسين (ع) من جملة الدوافع التي جعلت الشيعة يلتزمون بها بدون انقطاع في كل بلد حلوا فيه بالرغم مما كانوا يتعرضون له من الحاكمين وأعداء اهل البيت من التنديد والتنكيل والسخرية ومع كل ما قام به الحاكمون من جور وارهاب فلم يفلحوا في كبح ذلك التيار الشيعي الجارف الذي بقي يتعاظم باستمرار مع الزمن وبقي في تصاعد مستمر حتى في عهد العباسيين الذين وصلوا الى الحكم على حساب العلويين كما تؤكد ذلك عشرات الشواهد ومع ذلك فقد كانوا عليهم أشد من الأمويين وحاربوهم على جميع الجبهات وتعرضوا في عهودهم لأسوأ انواع العسف والجور والتشريد .

فلقد قال المنصور العباسي عندما عزم على قتل الإمام الصادق : قتلت من ولد فاطمة الفا او يزيدون وتركت إمامهم وسيدهم جعفر بن محمد كما جاء في شرح ميمية ابي فراس والادب في ظل التشيع (7).

 وترك لخليفته المهدي ميراثا من رؤوس العلويين كان قد وضعها في غرفة من غرف قصره ودفع مفاتيحا لزوجة خليفته ريطة وأوصاها بأن لا تفتحها إلا هي وزوجها بعد وفاته فأيقنت انها مملوءة من التحف والأموال ، ولما توفي فتحها المهدي هو وزوجته ليلا فوجدها مملوءة من رؤوس العلويين بينها رؤوس شيوخ وأطفال وشبان وفي كل رأس رقعة باسمه ونسبه (8).

 وهو القائل لعمه عبد الصمد بن علي عندما لامه على تسرعه في القتل والعقوبات ان بني مروان لم تبلى رممهم وآل ابي طالب لم تغمد سيوفهم ونحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء ولا نستطيع ان نبسط هيبتنا الا بنسيان العفو واستعمال العقوبة.

 لقد وصل المنصور الى الحكم على حساب آل ابي طالب كما ذكرنا وبعد ان استتبت له الأمور قتل منهم الفا او يزيدون ووضع السيف في رقابهم لا لشيء الا لانه يخاف منهم على هيبته وسلطانه والخوف وحده يبرر له ويغره من الحاكمين قتل الملايين من البشر في كل عصر وزمان وفي الوقت ذاته يتغنون بالحرية والديمقراطية والسلام وما الى ذلك من الشعارات كما كان العباسيون والامويون يتسترون بالإسلام ورسالة الاسلام ويتقربون من الوعاظ وشيوخ السوء ليصنعوا لهم المبررات لجرائمهم .

 وجاء في مناقب ابن شهر اشوب ان المنصور قال للإمام الصادق (ع) : لاقتلنك ولأقتلن اهلك حتى لا ابقي على الأرض منكم قامة سوط ولقد هم بقتله اكثر من مرة وكان يستعين عليه بالله وحده فأنجاه الله من شره .

 ويدعي عبد الجواد الكليدار آل طعمة في كتابه تاريخ كربلاء أنه اول من تجرأ على قبر الحسين وهدمه عندما رأى الشيعة يتوافدون الى زيارته ويرددون تلك المأساة الدامية التي حلت بأهل البيت .

 وجاء في مروج الذهب للمسعودي انه جلس يوما مع المسيب بن زهرة وكان من أعوانه وجلاديه فذكر الحجاج بن يوسف ووفاءه للمروانيين في معرض التعريض والتنديد بأعوانه ففهم المسيب غايته فقال له المسيب : يا امير المؤمنين والله ان الحجاج لم يسبقنا الى امر من الأمور ، ولم يخلق الله على وجه الأرض احدا أحب الينا من نبينا محمد ابن عبدالله (ص) ومع ذلك فقد أمرتنا بقتل اولاده وعترته فأطعناك وقتلناهم فهل كان الحجاج أنصح لبني مروان منا لك ، فسكت المنصور ولم يرد عليه .

 وروى الرواة عن اساليب تعذيبه للعلويين انه كان يضع العلويين في الاسطوانات ويسمرهم في الحيطان وأحيانا يضعهم في سجن مظلم ويتركهم يموتون جوعا ويترك الموتى بين الاحياء فتقتلهم الروائح الكريهة ثم يهدم السجن على الجميع كما جاء في تاريخ اليعقوبي . ولقد فر ابو القاسم الرسي بن ابراهيم بن طباطبا المعروف باسماعيل الديباج الى بلاد السند خوفا من المنصور وقال كما جاء عنه :

لم يروه مـا اراق البغي مـن دمـــنا * فـي كل ارض فلم يقصر مـن الطلب

وليس يشفي غليلا في حشاه سوى * ان لا يـرى فـوقها ابــــنـا لـبنت نبي

وحكم المسلمين من بعده ولده المدي بنفس الروح اللئيمة الحاقدة على العلويين وصلحاء المسلمين وخفت في عهده حدة القتل الجماعي للعلويين وشيعتهم ومطاردتهم ولكنه سخر جماعة من أعوانه ومرتزقته لانتحال صفة الزندقة لكل من يناوئه من العلويين وشيعتهم ، وأصبح الاتهام بالزندقة من أيسر التهم التي تلصق بالابرياء كما جاء في التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية .

 وقال عبد الرحمن بدوي : ان الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنبا الى جنب مع الانتساب الى مذهب الرافضة وفي ذلك يقول الطغرائي من جملة أبات له :

ومتى تولى آل احمد مسلم * قتــــلـوه ووصموه بـالالحاد

 ولما جاء دور خليفته الهادي العباسي سلط على العلويين جلاديه وجلاوزته فألحوا في طلبهم ومطاردتهم وقطع ارزاقهم وأعطياتهم وكتب الى سائر المقاطعات الاسلامية يهدد ويتوعد كل من يأويهم ويحسن اليهم وكانت معركة فخ التي قتل فيها اكثر من مائة وخمسين من رجال العلويين ونسائهم وأطفالهم بسبب ما لحقهم من الاضطهاد يومذاك وتولى قيادتها الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ، وكان موسى الهادي قد استخلف على المدينة اسحاق بن عيسى فأوعز اسحاق الى رجل من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبد العزيز بن عبدالله فحمل على الطالبيين وأفرط في التحامل عليهم ومضايقتهم فاجتمع على الحسين بن علي صاحب فخ جماعة من الشيعة فخرج بهم وكانت المعركة في القرب من مكة وفي المكان المعروف بفخ وقتل الحسين ومن معه من العلويين وشيعتهم وحملت رؤوسهم الى موسى الهادي ، ولما بلغ العمري والي المدينة ما جرى للحسين بن علي قائد معركة فخ امر بعده داره ودور الطالبيين وصادر اموالهم وممتلكاتهم .

 وجاء في مقاتل الطالبيين للإصفهاني ان النبي (ص) مر بفخ فنزل وصلى ركعتين وقبل ان ينتهي منهما بكى وهو في صلاته فلما رآه المسلمون بكوا لبكائه ولما سألوه عن سبب بكائه قال : نزل عليّ جبريل لما صليت الركعة الاولى وقال : يا محمد ان رجلا من ولدك يقتل في هذ المكان وأجر الشهيد معه أجر شهيدي ، فبكيت لما يجري على ذريتي من بعدي (9).

 ولما جاء دور الرشيد الخليفة العباسي الخامس مثل أسوأ الادوار معهم وأقسم كما جاء في الاغاني طبع دار الكتب بالقاهرة على استئصالهم وكل من يتشيع لهم وقال : حتام اصبر على آل ابي طالب والله لأقتلنهم وأقتل شيعتهم أينما حلوا وأمر بأخراجهم من بغداد الى المدينة وأمر واليه عليها ان يأخذ الضمانات منهم ويتعهد بعضهم ببعض وعندما ارسل الجلودي لحرب محمد بن جعفر بن محمد أمره ان يغير على دور آل ابي طالب ويسلب ما على نسائهم من الثياب ولا يترك لكل واحدة منهن الا ثوبا واحدا يسترها .

 ولم يكتب بذلك حتى هدم قبر الحسين وقطع السدرة الكبيرة التي كانث الى جانبه لا لشيء الا لان زوار قبر الحسين (ع) كانوا يستظلون تحتها من حرارة لشمس ، وقد تولى له تنفيذ هذه المهمة موسى بن عيسى ابن موسى العباسي (10).

وتوج موبقاته كلها بحبس الامام موسى بن جعفر (ع) وأخيراً بقتله بالسم بواسطة جلاديه وجلاوزته وفي عهده امتلأت سجونه من العلويين وشيعتهم وكل من يتهم بالتشيع لهم على حد تعبير احمد امين في المجلد الثالث من ضحى الاسلام .

 واشتهر المتوكل بعدائه الشديد للعلويين ، فقد جاء في تاريخ ابن الاثير وهو يستعرض حوادث سنة 236 ان المتوكل العباسي كان شديد البغض والكراهة لعلي وآل علي واذا بلغه ان احدا يتولى عليا وآل علي صادر أمواله وقتله وأضاف الى ذلك انه كتب الى واليه في مصر يأمره باخراج آل ابي طالب منها وطردهم الى العراق وكانوا في مصر يرددون في مجالسهم ما صنعه الامويون مع الحسين وأسرته واصحابه ويبكون لما اصابهم فأخرجهم الوالي منها واستتر اكثر من كان فيها من شيعة اهل البيت ، كما استعمل على المدينة ومكة المكرمة عمر بن الفرج الرجحي فمنع من البر بآل ابي طالب كما منع العلويين من التعرض للناس والاتصال بأحد ، ولم يبلغه عن احد بر علويا الا أنهكه عقوبة وأثقله عزما فساءت حالة العلويين واضطر نساؤهم الى التزام بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع في الصلاة الواحدة تلو الاخرى ويجلسن عاريات على منازلهن لكي يشترين ما يسد رمقهن من خبز الشعير بأثمان غزلهن .

 لقد قضت مشيئة خليفة المسلمين العباسي في نسبه الاموي الحاقد في روحه ومشاعره ان تعتكف العلويات الطاهرات في بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع اذا حضرت اوقات الصلاة ، ثم يجلسن على مغازلهن عاريات ليشترين بأثمان غزلهن ما يسد رمقهن من الخبز ، وأن تختال نساؤهم وجواريهم الفاجرات الراقصات بالحلي وحلل الحرير والديباج بين الغلمان والسكارى من حواشي الخليفة ، ويجلسن على موائد الطعام المؤلفة من جميع المأكولات والخمور وأهل البيت ونساؤهم وأطفالهم يتلوون من آلام الجوع أذلاء صاغرين ، وكان يقرب اليه كل من يكره علياً امير المؤمنين كعلي بن الجهم وأمثاله ممن كانوا يشتمون عليا (ع) ونظرا لان أباه الجهم بن بدر كان من الموالين لعلي قال بعض شعراء الشيعة في علي بن الجهم :

لعمرك ليس الجهم بن بدر بشاعر * وهـذا عـــلـــي ابنـه يـدعي الشعرا

ولكن ابي قـد كـــــــان جـاراً لأمـه * فلــمـا ادعى الاشعار أوهمني امرا

يشير بهذين البيتين الى الحديث الشائع عن النبي (ص) انه قال لعلي (ع) بحضور جماعة من المهاجرين والانصار : يا علي لا ينغصك الا ابن حيض او زنا .

 وكان ابن السكيت من كبار العلماء والادباء في زمانه وقد ألزمه المتوكل بتعليم ولديه المعتز والمؤيد ، فقال له يوما : أيهما أحب اليك ابناي هذان او الحسن والحسين ؟ فرد عليه ابن السكين بقوله : والله ان قنبرا خادم الحسن والحسين أحب الي منك ومن ولديك فأوعز المتوكل الى جلاديه من الاتراك ان يستخرجوا لسانه من قفاه ففعلوا به ذلك ومات من ساعته وكان يقول:

يصـــــاب الفــــتى مـن عثـرة بلسانه * وليس يصاب المرة من عثرة الرجل

فعـــــثرتـه فـي القــــول تذهب رأسه * وعــــثـرته في الرجل تبرأ على مهل

لقد نسي رحمه الله هذين البيتين اللذين كان يرددهما وكأنه كان يعني نفسه بهما ، لقد سيطر عليه الولاء لأهل البيت واستفزه استخفاف المتوكل بهم فأبت له نفسه الكبيرة ان يتقيه ويقول ما لا يؤمن به فذهب في قافلة الشهداء ولعله كان من أفاضلهم بمقتضى قول النبي (ص) أفضل الشهداء عمي الحمزة ورجل قال كلمة حق في وجه جائر فقتله .

لم يكتف المتوكل بالتنكيل بشيعة اهل البيت ومطاردتهم فأراد ان يمنعهم عن زيارة الحسين ففرض عليهم الضرائب وهددهم وتوعدهم بالقتل ومصادرة اموالهم وممتلكاتهم فلم يخضعوا لتهديده ولا لوعيده واستمرت وفود الشيعة على كربلاء في تصاعد مسترم يكمنون بالنهار ويسيرون ليلا ولما لم يجد سبيلا لاستئصال هذه الظاهرة الشيعية اتخذ قار بهدم القبر وازالة معالمه ليضيع مكانه ولا يهتدون اليه ويأبى الله الا ان يتم نورة ولو كره المشركون .

 لقد اراد معاوية من قبله ان لا يتحدث احد فضل علي وآثاره فكتب الى عماله في جميع المقاطعات الاسلامية برئت الذمة ممن يروي حديثا في فضل عليّ وآل علي وممن يذكرهم بخير ، وكتب المتوكل الهاشمي وابن عم العلويين الى عماله برئت الذمة ممن يبر العلويين ويحسن الى احد منهم ، وقتل معاوية الحسن بن علي والمئات من صلحاء المسلمين لانهم لم يعلنوا براءتهم من علي وآل علي ، وكذلك فعل المتوكل وأسلافه من أحفاد هاشم وعبد المطلب ، وقتل يزيد بن معاوية الحسن بن علي وعشرين شابا من أحفاد ابي طالب ، وقال المنصور العباسي حفيد عبد المطلب : قتلت من ولد فاطمة الفا او يزيدون وترك لولده المهدي غرفة من غرف قصره مملوءة برؤوسهم ومع كل رأس رقعة باسمه ونسبه ليقتدي به خليفته من بعده(11) وهدم المتوكل قبر امير المؤمنين وقبر الحسين حتى لا يهتدي اليهما احد من الشيعة ويذهب لزيارتهما ، ولكن طيب تراب القبر دل على القبر .

 فكان معاوية بمحاولته الفاشلة اخفاء فضائل امير المؤمنين كأنه يأخذ بضبعه الى السماء على حد تعبير الشعبي وعبدالله بن عروة بن الزبير لولديهما ، وكان المتوكل بمحاولاته لاخفاء قبر الحسين (ع) انه يجعله من الابراج التي تناطح السحاب وتثير أحقاد الحاكمين من حكام العصور .

 ونعود بعد هذه اللمحات القصار عن مواقف العباسيين من العلويين الى الحديث عن مرقد الحسين لنعود إلى اعطاء صورة اوسع عن جور العباسيين بعد الفراغ من هذا الفصل الذي خصصناه للمآتم الحسينية وزيارة مرقده ، وما دمنا بصدد الحديث من المآتم الحسينية وزيارة مرقد الحسين نعود لأبي الفرج الاصفهاني لنرى ما فعله المتوكل بقبر الحسين ومع زائريه ، فقد جاء في مقاتل الطالبيين ان المتوكل الهاشمي كان شديد الوطأة على آل ابي طالب غليظاً على جماعتهم وشديد الحقد والغيظ عليهم وكان وزيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان يشاركه في سوء الرأي بهم فحسن له القبيح في معاملتهم وبلغ فيهم ما لم يبلغه احد من بني العباس قبله ، وكان من سوء فعله ان كرب قبر الحسين وعفى آثاره ووضع على سائر الطرق المؤدية اليه مسالح من جنده لا يجدون احدا في طريقه لزيارته الا قتلوه او انكهوه تعذيباً ، ومضى يقول : لقد حدثني احمد بن الجعد الوشا وقد شاهد بنفسه ذلك فقال : كان السبب في حراثة قبر الحسين ان بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها الى المتوكل قبل خلافته يغنين له اذا شرب ، فلما تولى الخلافة بعث الى تلك المغنية فعرف انها كانت غائبة في زيارة الحسين (ع) ولما بلغها خبره اسرعت في الرجوع وبعثت اليه بجارية من جواريها كان يألفها فقال لها : اين كنتم ؟ فقالت : لقد خرجت مولاتي الى الحج وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان ، فقال : والى اين حججتم ونحن في شعبان ؟ فقالت : قصدنا قبر ابن عمك الحسين بن علي (ع) ، فاستشاط غضبا وأمر بمولاتها فوضعها في سجنه وصادر أملاكها وبعث برجل من اصحابه يقال له ( الديزج ) وكان يهوديا الى مرقد الحسين وأمره بهدمه وأن يكرب محله ولا يترك له أثراً كما أمره بهدم كل ما حوله من الابنية ، فمضى لذلك ونفذ جميع ما أمره به المتوكل فهدم ما حوله من البناء والبيوت التي كان اصحابها يستقبلون الزوار فيها وكرب نحوا من مائتين جريب حوله ، فلما بلغ الى القبر لم يتقدم لهدمه احد ممن كانوا معه من جنود المتوكل وأنصاره فأحضر قوما من اليهود فهدموه ثم كربوه وأجروا الماء عليه وعلى ما حوله من الاراضي ، وأوكل امر ملاحقة الزوار الى جنوده وجلاوزته فكل من وجدوه متوجها لزيارته اعتقلوه وأرسلوه اليه ، وأضاف الى ذلك الاصفهاني في مقتله ان محمد بن الحسين الاشتاني قال :

 لقد بعد عهدي بالزيارة في تلك الايام خوفا من السلطة الحاكمة ، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها وساعدني رجل من العطارين على ذلك فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتى اتينا نواحي الغاضرية وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين حتى اتينا محل القبر وقد خفي علينا فجعلنا نشمه ونتحرى جهته حتى اتيناه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق وأجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق فزرناه ثم انكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها في جميع انواع الطيب ، فقلت للعطار الذي كان معي : أي رائحة هذه ؟ فقال : لا والله ما شممت مثلها شيئا من العطر ، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع ، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا الى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه الى ما كان عليه (12).

 وجاء في الامالي للشيخ الطوسي عن عبدالله بن دانية الطوري انه قال : حججت سنة 247 فلما انتهيت من اعمال الحج ورجعت الى العراق زرت امير المؤمنين علي بن ابي طالب على حال خيفة من السلطان ، ثم توجهت الى زيارة الحسين (ع) في كربلاء فاذا مرقده قد حرث وفجر فيه الماء وأرسلت الثيران والعوامل في الارض ، فبعيني وبصري رأيت لاثيران تساق في الارض فتنساق لهم حتى اذا وصلت القبر حادث عنه يمينا وشمالا فتضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك ولا تطأ القبر بحال ابدا فلم أتمكن من الزيارة فتوجهت الى بغداد وأنا اقول :

تـالله ان كانــــــت أميــــة قـد أتت * قتــــــل ابـن بنت نبـــيهـا مظلومـا

فلقـــــــد اتـــــــاه بنـو ابيـه بمثلـه * هـذا لعــــــمـرك قبــــره مهـدومـاً

اسفوا على ان لا يكونوا شاركوا * فـي قـــتــــلــــــه فتتبعـوه رميمــا

وقيل كما هو الشائع ان الابيات للشاعر البسامي ويجوز ان يكون عبدالله بن دانية قد استشهد بها بعد شيوعها .

 وقال الطبري في المجلد التاسع وفي أحداث 236 ان عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية التي فيها القبر من وجدناه عند قبر الحسين بعد ثلاثة ايام بعثنا به الى المطبق ، فهرب الناس من حواليه (13).

 وقد أثر هذا الارهاب الى حد ما على نشاط تحركات الشيعة نحو زيارة مراقد الائمة (ع) وبخاصة زيارة الحسين ، بعد ان تعاظم أسلوب القمع والارهاب لبعض الوقت الى حد حمل الامام الثاني عشر محمد بن الحسن (ع) الى اصدار توجيه عام الى الشيعة ينهاهم فيه عن زيارة مرقد الإمامين موسى بن جعفر ومحمد الجواد في مقابر قريش وحرم الحسين في كربلاء كما جاء في أعلام الورى وغيبة الطوسي ، ولكن اساليب القمع والارهاب لم تدم طويلا وكان لها ردة فعل واسعة في الاوساط الشيعية فما ان أحس الشيعة بالانفراج حتى اخذوا يتوافدون على زيارة مرقد الحسين بكثافة وبصورة أشد تنوعا مما كانت عليه قبل أن يصدر الحاكمون أوامرهم بالمنع والتنكيل بالزائرين .

 واعتقد الشيعة ان المرقد الشريف لم يتأثر ابدا بالماء وظل على حاله والشيعة يتوافدون عليه في مواسم معدودة من كل عام ، وبعد قرن من الزمن كتب ابن حوقل عن المشهد الذي بني فوق ضريح الحسين (ع) ووصفه بأنه غرفة واسعة تعلوها قبة لها باب من كل جهاتها الاربع ، وفي عهد البويهيين هاجم البلدة المحيطة بضريح الحسين (ع) فريق من الأعراب جاءوا من عين التمر وضربوا المشهد وغيره من الاماكن المجاورة له فصب عليهم بنو بويه جام غضبهم وعاقبوهم بأقسى ما يكون من العقوبات وأعاد عضد الدولة بناء المرقد وما تهدم حوله الى ما كان عليه وبسط عليها الحماية فجعل الناس يتهافتون الى زيارته من كل مكان .

 وفي ربيع الاول من سنة 407 هجرية ، 1016 ميلادية ، شب حريق في البناء فتهدمت القبة التي على المرقد والاروقة واحترقت وأعاد بنائها الحسين بن الفضل وبنى سورا حول كربلاء ، ومن ذلك الوقت تشابه تاريخ النجف وكربلاء فاحترمهما الاتراك الذين احتلوا العراق ، وزار ملك شاه سنة 479 المشهدين ووزع الصدقات والأموال على أهالي البلدتين ونجتا من غزو المغول وتوالت زيارة أمراء الشيعة وحكامهم الى البلدتين ورعايتهما وخلال القرن السابع زار كربلاء الخان غازي احد حكام ايران وحمل معه الى المرقد الشريف بعض الهدايا الثمينة وشق ارغون من نهر الفرات الى البلدة قناة اصبحت تعرف فيما بعد بنهر الحسينية كما حافظ العثمانيون على المشهدين في كربلاء والنجف وكانت الأوامر تصدر الى الولاة في بغداد بالمحافظة عليهما والعناية بهما (14). وبقي مرقد الحسين ومراقد الائمة (ع) كعبة تتوافد اليهما الملايين في كل عام من مختلف انحاء العالم للتبرك بهما والعبادة والتوسل الى الله سبحانه بقضاء حوائجهم بالرغم من جميع وسائل الارهاب والقمع التي استعملها الحاكمون للتنكيل بالوافدين على مراقدهم وبقي اعداؤهم لعنة على لسان الاجيال ومراقدهم محلا لتجمع النفايات في البلاد التي دفنوا فيها .

 ومهما كان الحال فلقد انفرجت الازمة التي اجتاحت الشيعة بموت المتوكل العباسي الى حد ما واستيلاء ولده المتصر على السلطة من بعده كما نص على ذلك ابن الاثير وغيره من المؤرخين فلقد قال في معرض حديثه عن حوادث سنة 248 ان المنتصر أمر بزيارة قبر الحسين وعلي (ع) وآمن العلويين وأطلق سراحهم ورد عليهم فدكا وكان اول ما أحدثه ان عزل عن المدينة صالح بن علي الذي كان يتتبعهم بكل انواع الاذى والظلم والجور وعين مكانه علي بن الحسن بن اسماعيل بن العباس بن محمد ، ولما دخل عليه ليودعه وهو في طريقه الى المدينة قال له : يا علي اني موجهك الى لحمي ودمي وساعدي فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملني فيهم .

 واسترم الشيعة أينما حلوا يحتفلون بذكرى الحسين الاليمة ويرددون ما جرى عليه وعلى اسرته وعائلته من القتل والسبي والتمثير وبكل مظاهر التشيع في العشرة الأولى من المحرم وغيرها من المناسبات سواء في ذلك البلاد التي غلب عليها التشيع كالعرق أو غيرها من المقاطعات التي كان الشيعة فيها يشكلون الاقلية بالنسبة الى غيرهم كما هو الحال في مصر يوم كانت في سلطة كافور الاخشيدي الذي كان كما يصفه بعض المؤرخين شديد التعصب على اهل البيت وشيعتهم ، ومع ذلك فقد اظهروا فيها من الصلابة والتماسك مع قلتهم بالنسبة لغيرهم ما فرض على كافور ان يصانعهم ويتغاضى عما يقومون به في كل عام من مظاهر الحزن والجزع لما اصاب اهل البيت (ع) .

 ولم تنفرج الازمة في مصر انفراجا كاملا الا بعد ان تغلب عليها الفاطميون وحكمها المعز لدين الله الفاطمي فارتفعت معنويات الشيعة بوجودهم وهيأوا لهم جميع الاجواع المناسبة واشتركوا معهم في احياء تلك الذكرى وبذلوا في سبيلها الأموال بسخاء لا مثير له ، وكان ذلك منهم كما لا يبعد ردا على حملات التشكيك في نسبهم التي شنها عليهم العباسيون وساهم فها كبار علماء السنة يومذاك .

 وقال المقريزي في خططه : كان الفاطميون في يوم عاشوراء ينحرون الابل والبقر لإطعام الناس ويكثرون النوح والبكاء ويتظاهرون بكل مظاهر الحزن والاسف واستمروا على ذلك حتى انقرضت دولتهم وجاء عهد الايوبيين الذين مثلوا أدوار الأمويين والعباسيين مع الشيعة ، وأضاف المقريزي الى ذلك بروايته عن ابن ذولاق في سيرة المعز لدين الله انه في يوم عاشوراء من سنة 363 انصرف خلق من الشيعة الى قبري أم كلثوم ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالهم بالنياحة والبكاء على الحسين ومن قتل معه من اسرته وبنيه وكسروا اواني السقائين .

 وفي سنة 396 جرى الامر على ما كان يجري في كل عام من تعطيل الاسواق وخروج المنشدين الى جامع القاهرة ونزولهم مجتمعين بالنوح والبكاء والنشيد ، واستطرد المقريزي في وصف ما كان عليه حال الفاطميين من قيامهم بمناسبة ذكرى مصرع الحسين بمظاهر الحزن والاسف حكومة وشعبا ، ومضى يقول : اذا كان يوم العاشر احتجب الخليفة عن الناس لمدة من الوقت فاذا ارتفع النهار ركب قاضي القضاة والشهود وغيروا زيهم ومضوا الى مشهد الحسين ، فاذا دخلوا اخذوا ينشدون الشعر في رثاء اهل البيت (ع) الى ان تمضي عليهم ثلاث ساعات والنشيد متواصل وبعدها يستدعيهم الخليفة الى قصره فيدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما الى باب الذهب فيجدون الدهاليز قد فرشت بالحصر فيجلس القاضي والداعي الى جانب الخليفة ويجلس الباقون من سائر الطبقات في الاماكن التي أعدت لهم فيقرأ القراء شيئاً من القرآن ، ثم ينشدون المراثي ويتقدمون بعد ذلك الى المائدة لتناول الطعام المؤلف من الاجبان والالبان والعسل وغير ذلك وبعد الفراغ يتوجه فريق من الناس والمنشدين ينوحون ويبكون في شوارع القاهرة وقد أغلقت المحلات والحوانيت وتعطلت جميع الأعمال في ذلك النهار حتى المساء الى غير ذلك من المظاهر التي كانت تعم المدن والقرى في جميع انحاء مصر طيلة العهد الفاطمي وظلت هذه المظاهر تتصاعد وتشتد في مصر وغيرها من الاقطار الى ان جاء دور الايوبيين فحاربوا هذه المظاهر وتوعدوا الناس والشيعة بأقصى العقوبات اذا استمروا عليها واستبدوا مظاهر الحزن والاسى بمظاهر الفرح والسرور عند دخول شهر المحرم وأصبح اليوم العاشر منه من اعظم اعيادهم يتباهون فيه بالملابس الفاخرة وأنواع الطعام والحلوى والاواني الجديدة وما الى ذلك مما يعبر عن ارتياحهم واغتباطهم في ذلك اليوم ليرغموا بذلك أنوف الشيعة على حد تعبير المقريزي في خططه .

 وفي عهد البويهيين كان الشيعة والحكام يمثلون دور الفاطميين وجاء في تاريخ ابي الفداء خلال حديثه عن أحداث 352 ان معز الدولة كان في اليوم العاشر من المحرم يأمر بتعطيل الاسواق كما يأمر الناس ان يخرجوا بالنياحة والنساء ناشرات الشعور قد شققن ثيابهن ولطمن وجوههن ، وأيد ذلك ابن كثير في بدايته وهو يتحدث عن البويهيين وما كانوا يصنعونه في بغداد في الأيام الأولى من شهر المحرم والعاشر منه في كل عام الى غير ذلك مما رواه الرواة والمؤرخون عن مواقف الشيعة وحكامهم من ذكرى مجزرة الطف منذ حدوثها خلال القرون التي حكم الشيعة فيها بعض المناطق الاسلامية وغيرها من القرون التي كان الحكم فيها لاعداء الشيعة كالامويين والعباسيين والايوبيين والاتراك ، وبالرغم من كل وسائل العنف التي مارسها الحاكمون ضد التشيع ومظاهره فقد بقيت المآتم الحسينية تقام ولم تتأثر بالاخطار ووسائل العنف من الحاكمين وأعداء اهل البيت الذين ادركوا ان المآتم الحسينية في واقعها ليست الا تعبيراً عن المعارضة لحكمهم الجائر وادانة صريحة لتجاوزاتهم واستغلالهم لخيرات الشعوب والمستضعفين في الارض ، ولعل هذا المحتوى للمآتم الحسيني كان من اولى الدوافع لدعوة الائمة (ع) على احياء هذه الذكرى والالتزام بها مهما كانت النتائج والمضاعفات ، كما كان لتلك المآتم التي كانت تعقد هنا وهناك حتى في أشد الادوار تعقيدا وقسوة آثار واضحة في حدوث تلك الانتفاضات الشيعية التي كانت ترفع شعارات الثورة الحسينية وتجعل منها منارا وشعار لبعث الروح النضالية والتضحية في سبيل الحق والعقيدة الى أبعد الحدود وفي الوقت ذاته فلقد كانت تلك الشعارات التي ترفع هنا وهناك كما يبدو من اقوى الدوافع على تمكين الثورة الحسينية في عقول الناس وقلوبهم سواء في ذلك ما كان منها في العصر الاموي او العباسي ، فانتفاضات الحسينيين في العصر العباسي ردا على ما ارتكبه اولئك الطغاة من قتل وتشريد وأسر وتفنن في اساليب التعذيب ، هذه الانتفاضات كانت روح كربلاء تحركها وتدفعها الى المضي في المقاومة مهما كلفها ذلك من التضحيات وما زالت الانتفاضات التي تحدث على مرور الزمن هنا وهناك تستلهم من ثورة الحسين (ع) التي لم يحدث التاريخ عن ثورة اكثر منها عطاء وتصميما .

 لقد واجهت هذه الذكرى في تاريخها الطويل قمعا واضطهادا كانا يضطرانها الى الخمود والتستر كما شهدت انفراجات محدودة حينا وأحيانا انفراجات واسعة ، ولكن أعمال القمع والاضطهادا لم تفلح في القضاء التام عليها بل بقيت تقام في مواعيدها وفي دو من التستر حتى في العصر الاموي ، وفي عصري المنصور والمتوكل اللذين يعتبران من أشد العهود قسوة وظلما ، وكانت عندما تتوفر لها الانفراجات الواسعة تنفجر كالبركان كما حدث لها في عهود الفاطميين والبويهيين في بغداد وجهاتها والحمدانيين في سوريا والموصل وعندما اصبح الحكم في بلاد وجهاتها والحمدانيين في سوريا والموصل وعندما اصبح لاحكم في بلاد الفرص وغيرها بيد الشيعة لان اساليب العنف والاضطهاد من الصعب ان تستأصل المبادئ والمعتقدات وحتى العادات بل تزيدها ترسيخا وصلابة ، وعندما تتوفر لها الظروف والمناسبات تبرز بشكل اقوى وأشد مما كانت عليه وقديما قيل : لا شيء أجدى وأنفع للأفكار والمعتقدات من محاربتها .

 ان الذين يحاربون الافكار والمعتقدات يساهمون في ترسيخها وحياتها من حيث لا يريدون ، ولا شيء أدل على ذلك من مواقف الامويين والعباسيين المسعورة بل وجميع الحاكمين من اهل البيت وفضائلهم وآثارهم ، ومع كل ما بذلوه من جهود للقضاء عليها فقد بقيت من افضل الرموز الشامخة وأقدسها وظلوا في القمة بين عظماء التاريخ ، وظهر من صحيح فضائلهم وآثارهم مأملا لخافقين وما زالت محاسنهم تحكى وآياتهم تروى ، هذا بالإضافة الى ما اضافه عليها المحبون مما كان اهل البيت انفسهم يحاربونه ويرونه اساءة لهم ويقولون لعن الله من قال فينا ما لم نقله في انفسنا وكانوا في مجالسهم ومجتمعاتهم يلعنون اصحاب تلك المقالات ويتبرأون منهم ومن مقالاتهم ، ويقولون لمن يجتمعون اليهم من اصحابهم وغيرهم : لعن الله من قال فينا ما لم نقله في انفسنا .

 لقد كان لتلك المواقف الجائرة التي وقفها الحاكمون من المآتم الحسينية ومن زيارة الحسين وأبيه التي تعني فيما تعنيه الاجانة لاولئك الطواغيت والمعارضة المستترة لسياستهم الجائرة كان لها ردود فعل في الاوساط الشيعية جعلتهم يتصلبون في تمسكهم بتلك المآتم ويعتبرونها وسيلة للتنفيس عن عواطفهم الحزينة الغاضبة والكبت النفسي الذي كان الشيعي يعانيه من ضغط الحاكمين وقسوتهم .

 ومهما كان الحال فلقد مرت تلك المآتم والذكريات منذ ان ولدت بعد مصرع الحسين (ع) وحتى عشرنا الحالي بأدوار كثيرة ولم تثبت على صيغة واحدة في تلك العصور المتعاقبة ، وكان من الطبيعي ان تتطور حسب متطلبات العصر وأن تخمد وتنطلق بين الحين والآخر حسب الظروف المحيطة بها .

 لقد انطلقت بشكل لم يكن معروفا ومألوفا من قبل خلال الحكم الشيعي في مصر وبغداد وحلب وجهاتها وفي فترات متعاقبة من الزمن وعادت الى ما كانت عليه في العصر الذي سبق عصر الفاطميين بعد ان تقلص ظل حكام الشيعة في تلك المقاطعات وظلت تقام في مواعيدها في أجواء تتسم بالسرية والتكتم كما كانت عليه في تلك العصور المظلمة . وفي العصور المتأخرة تطورت بشكل أخرجها عما وجدت من اجله وعما كان الائمة (ع) قد رسموه لها لتبقى منطلقا ورمزا لمعارضة الحكم المستبد الظالم وأدخلت عليها بعض الزيادات التي تسيء اليها والى التشيع ويستغلها اعداء الشيعة للتنديد والتشويه والسخرية وهذه الزيادات لقد أدخلت عليها كما هو الراجح عن طريق الاقطار الشيعية بعد ان حكمها الشيعة وغلب على اهلها التشيع كايران وأفغانستان وغيرهما من الاقطار التي تسربت اليها عادات الهنود القدامى كالضرب بالسلاسل الحديدية والسيوف وما الى ذلك من المظاهر التي لا يقرها الشرع ولا تحقق الاهداف التي كان الائمة يحرصون عليها من تلك الذكريات .

 ولا يزال هذا النوع من المظاهر الدخيلة يمارس خلال الايام الاولى من شهر المحرم في العراق وايران ، في حين ان الذين يضربون ظهورهم بالسلاسل الحديدية ورؤوسهم بالسيوف ليصبغوا أبدانهم بالدماء ليسوا من الملتزمين بالدين ويمارسون الكثير من المنكرات ، وقد انتقلت هذه الظاهرة الشاذة عن طريق بعض الفئات الى بعض القرى الشيعية من جنوب لبنان في مطلع النصف الثاني من القرن الهجري المنصرم ولا تزال حتى يومنا هذا مصدر لسخرية الاجانب الذين يقصدون تلك البلدة في اليوم العاشر من المحرم ويسمونه يوم جنون الشيعة ، وبلا شك ان الائمة (ع) لا يرضون بهذه المظاهر ويتبرأون منها .

 اما بقية القرى الشيعية من جنوب لبنان فلا تزال تحتفظ بذكرى مجزرة كربلاء في العشرة الاولى من شهر المحرم وفي بعض المناسبات الطارئة بين الحين والخرى ولكن بالشكل المألوف الذي لا يتعدى قراءة أبيات في رثاء الحسين ومن قتل معه لبعض شعراء الطف باسلوب يستيثير العواطف وبعض الجوانب المثيرة من السية الحسينية التي تلهب المشاعر وتحض على الظالمين وفي اليوم العاشر يتولى احد الحضور قراءة المصرع بكامله مع الاحتفاظ بمظاهر الحزن في الغالب .

 وستبقى تلك المآتم مع الزمن تستمد اصالتها واستمرارها من مواقف الحسين وبطولاته الخالدة التي ضرب فيها اروع الامثلة في البذل والعطاء وعلم ابناء آدم كيف يعيشون احرارا ويموتون كراما في مملكة الجبابرة وفراعنة العصور لو ارادوا ان يعيشوا احرارا ويموتوا كراماً .

 

1 ـ لقد نص في تاريخ الخميس ص 286 من المجلد الثاني ان عبدالله الاصغر كان متزوجا من أم كلثوم الصغرى بنت امير المؤمنين ، وجاء في اهل البيت لابي علم ان زينب الشام هي ابنة أم كلثوم كما سنتعرض لذلك خلال هذا الفضل وهي غير أم كلثوم التي تزوجها ابن الخطاب ومات عنها .

2 ـ انظر ص 283 و284 و538 لتوفيق ابو علم .

3 ـ انظر ص 285 و286 .

4 ـ اهل البيت لابو علم ص 8 .

5 ـ انظر ص 226 من تاريخ العراق عن الاخبار الطوال للدينوري .

6 ـ انظر مقتل المقرم عن رجال الكشي ومعاهد التنصيص ص 119 .

7 ـ ص 159 من الميمية وص 68 من الادب في ظل التشيع وتاريخ الطبري والنزاع والتخاصم للمقريزي .

8 ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي .

9 ـ انظر مقاتل الطالبيين لابي الفرج ص 290 وما بعدها .

10 ـ تاريخ الشيعة للمظفر والكنى والالقاب للشيخ عباس القمي والمناقب لابن شهر اشوب والكامل لابن الاثير.

11 ـ انظر الطبري والنزاع والتخاصم للمقريزي .

12 ـ انظر مقاتل الطالبيين لابي الفرج ص 395 و396 .

13 ـ المطبق سجن تحت الأرض لا يرى الشمس ولا الهواء غالباً وقلما ينجو احد ممن يدخلون اليه وهي سجن المحكومين بالإعدام .

14 ـ انظر ص 135 من كتاب الحسين وبطلة كربلاء للشيخ محمد جواد مغنية .