مكتبة الإمام الحسين

فهرس الكتاب

 

الفصل الاول : للتمهيد والإعداد… فقط 

 

$$$

 

بداية:

إننا قبل أن ندخل في موضوع البحث الذي نحن بصدده ، نود التأكيد على عدة أمور ترتبط بشكل أو بآخر بموقفنا من أحداث كربلاء، وبطريقة تعاملنا مع ما ينقل لنا من أحداث عاشورائية، أو غيرها. وذلك ضمن النقاط التالية:

 

الإستهجان لا يصلح أساساً للرفض:

بديهي أن استهجان أمرٍ من الأمور لا يصلح دائماً أساساً لردّه ، والحكم عليه بالبطلان، إلا إذا نشأ هذا الاستهجان من آفة حقيقية يعاني منها النص في مدلوله، توجب إثارة حالة من الشك والريب فيه.

أما إذا كان منشأ هذا الاستهجان هو عدم وجود تهيؤ نفسي وذهني لقبول أمر ما، بسبب فقد الركائز والمنطلقات التي تساعد على توفر مناخ الوعي والاستيعاب للحقائق العالية، والمعاني الدقيقة.. فان هذا الاستهجان لا يصلح أساساً لإيجاد ولو ذرّة من الشك، والريب، والتردد في صدقية النص، أو في أي شيء مما يرتبط به.

ولنأخذ مثالاً على ذلك تلك الأمور التي ترتبط بمقامات الأولياء والأصفياء التي يحتاج وعيها وإدراك آثارها بعمق إلى سبق المعرفة اليقينية بمناشئها ومكوناتها.

وكذلك الحال فيما لو استند هذا الاستهجان الى افتراضات غير واقعية، فيما يرتبط بالمؤثرات، والبواعث والحوافز لنشوء حدث تاريخي مّا.

وفي كلتا هاتين الحالتين فان المطلوب هو الإعداد الصحيح، والتشبث بالمعرفة اليقينية لكل العناصر المؤثرة في تكوين التصور السليم، بعيداً عن أسر التصورات الارتجالية والخاطئة، التي تدفع إلى الاستهجان غير المسؤول، ثم إلى الرفض غير المنطقي ولا المقبول.

وإن الإعداد القوي والرصين لإنجاز عمل معرفي، وتربية ايمانية، وروحية، وإعداد نفسي، يهيّىء لتحقيق درجة من الانسجام بين المعارف الإيمانية ويقينياتها، وبين ما ينشأ عنها من آثار وتجليات في حركة الواقع، وفي الوعي الرسالي للأحداث نعم، إن الإعداد لإنجاز هذا المهم يعتبر أمراً ضرورياً ولازماً، وله مقام الأفضلية والتقدم بالقياس إلى ما عداه من مهام.

وبدون ذلك فإننا سنبقى نواجه حالة العجز عن التعبير الصادق والصريح عن تجليات الواقع، واستجلاء آفاقه الرحبة.

 

الحقد والتآمر على عاشوراء:

وإذا أردنا ان نقترب قليلاً من أحداث كربلاء الدامية. فإننا نشعر إنها مستهدفة من فئات شتى، ولأهداف شريرة متنوعة، بإثارتهم أجواء مسمومة حولها، الأمر الذي يدعونا إلى المزيد من اليقظة والحذر، ونحن نواجه هذه الموجة الحاقدة، التي ترفع في أحيان كثيرة شعارات خادعة، وعناوين طنّانة ورنّانة، وتتخذ - أحياناَ - لبوس الإخلاص والغيرة، للتستر على تآمرها القذر على هذا التراث الإيماني الزاخر بالعطاء الإلهي السني والمبارك.

ولكن.. ورغم كيد الخائنين، ومكر أخدان الأبالسة والشياطين، فان عاشوراء ستبقى الشوكة الجارحة التي تنغرس في أحداق عيونهم، التي أعماها كيدهم اللئيم، وطمسها حقدهم الخبيث..

 

لا بد من تحمّل المسؤولية:

ونحن في نفس الوقت الذي نرفض فيه كل هذا المكر الشيطاني، والحقد الإبليسي، وكل هذا التجني على هذا الدين واحكامه، ورسومه وأعلامه، فإننا نهيب بكل المخلصين من أبنائه أن يتحملوا مسؤولياتهم في الدفاع عنه بصدق وبوعي ، والعمل على قطع الطريق على كل أولئك الحاقدين والمتآمرين. وذلك عن طريق نشر المعارف الصحيحة، وكشف زيف الشبهات التي يثيرونها، بالأسلوب العلمي الهادئ والرصين، وبالكلمة الرضيّة والمسؤولة.

وذلك يحتاج إلى التشمير عن ساعد الجدّ، والعمل الدائب في مجالات البحث العلمي، وتوفير وسائله وادواته، وإفساح المجال لأصحاب الأقلام الواعية والنزيهة، والمخلصة للمشاركة في إنجاز هذا الواجب الذي هو في الحقيقة جهاد في سبيل الله سبحانه، وما أشرفه وأجلّه من جهاد مبارك وميمون.

 

الحاقدون وهدم المنبر الحسيني:

ولقد تفطّن أعداء عاشوراء في وقت مبكر جداً الى أن أنجع الأساليب واقواها فتكاً في محاربة عاشوراء الامام الحسين عليه السلام، هو: هدم المنبر الحسيني المبارك، لأنهم ادركوا ان المنبر الحسيني هو الذي يربي الناس اخلاقياً، وإيمانياً، وسلوكياً، وعاطفياً وعقائدياً، وهو الذي يمدهم بالثقافات المتنوعة، ويثير فيهم درجات من الوعي الرسالي، ويعمق مبادىء عاشوراء في وجدانهم، ويعيدهم الى رحاب الفطرة الصافية، وينشر فيهم احكام الله، ويربي وجدانهم وضميرهم الانساني، ويصقل مشاعرهم، وينميّها، ويغذيها بالمشاعر الجياشة، والصادقة.

فاذا ما تم لهم تدمير المنبر الحسيني؛ فانهم يكونون قد حرموا الناس من ذلك كله وسواه، وكذلك حرموهم من ثواب إقامة هذه الشعيرة الإلهية، وما اعظمه من ثواب، واجلها من كرامة إلهية سنيّة.

وكان التشكيك بهذا المنبر الشريف، وبما يقال فيه من أبسط وسائل التدمير، وأقلها مؤونةً أعظمها أثراً، وأشدها فتكاً.

ولقد كان الانكى من ذلك كله، والأدهى هو ان بعض من يفترض فيهم ان يكونوا حماة هذا الدين، والذابين عن حريمه، والمدافعين عن حياضه، من العلماء، الذين محضهم الناس حبهم، وثقتهم، واخلصوا لهم، لا لأجل اشخاصهم، وانما حباً واخلاصاً منهم لدينهم ومعتقداتهم، التي يرون انهم الامناء عليها، والحريصون على حفظها ونشرها، ان هذا البعض قد اسهم عن غير عمد – وبعضهم عن عمد وقصد - في صنع هذه الكارثة، التي من شأنها ان تأتي على كل شيء ، كالنار في الهشيم. فعملوا على اثارة شكوك الناس بخطباء هذا المنبر المقدس، وفيما يقدمونه من ثقافة عاشورائية، واتهموهم بالكذب، وبالتحريف، وبالافتعال المتعمد للأحداث، كل ذلك ملفّع بأحكام عامة، وبمطلقات غائمة، وشعارات رنّانة، يغدقونها بلا حساب اسهاماً منهم في زعزعة ثقة الناس بهذه المجالس، الأمر الذي لا يمكن ان يصب إلا في خانة الخيانة للدين، والإعتداء على عاشوراء، وعلى الامام الحسين عليه السلام في رسالته، وفي اهدافه الجهادية والإيمانية الكبرى.

ان الطريقة التي توجه فيها التهم الى قراء العزاء توحي للناس بأنهم – وحدهم - تجسيد للأمية والجهل، ولقلة الدين، ومثال حي لأناس يعانون من الخواء من الاخلاق النبيلة، ومن الدين، ومن الفضيلة، ومن كل المعاني الانسانية، وان كل همهم يتجه الى تزييف الحقائق، وتزيين الخرافات، والاباطيل ، واجتراح الأساطير للناس، بلا كلل ولا ملل..

ولنفترض وجود بعض الهنات فيما يقرؤونه، ولسنا نجد من ذلك ما يستحق الذكر، فان ذلك لا يبرر لنا اتهامهم بوضع الاساطير والاباطيل، لانهم ينقلون ما وجدوه، ويتلون علينا ما قرأوه، فان كان ثمة من ذنب فانما يقع على غيرهم دونهم..

 

حجم التزوير:

وفي حين اننا لا ننكر وجود شاذ نادر حاول ان يزور، أو يحرف او يختلق أمراً، أو ان ينسج من خياله تصويراً لمشهد بعينه، لكننا نقول: ان هذا النوع من الناس في ندرته، وفي قلته، وفي حجم محاولاته ، وفي تأثيره اشبه بالشعرة البيضاء في الثور الأسود؛ فلا يمكن ان يبرر ذلك اطلاق تلك الاحكام العامة والشاملة الهادفة الى نسف الثقة بكل شيء..

نقول هذا، وكلنا شموخ واعتزاز لإدراكنا ان عاشوراء حدث هائل، بدأت ارهاصاته منذ ولد، وحتى قبل ان يولد الامام الحسين عليه السلام، واستمرت الارتجاجات التي احدثها تتوالى عبر القرون والاحقاب، ولسوف تبقى الى ان يرث الله الارض ومن عليها..

وقد اشتمل هذا الحدث نفسه بالاضافة الى ارهاصاته، وتردداته، وآثاره، على مئات الحوادث، والتفصيلات، والخصوصيات الصغيرة، والكبيرة، والمؤثرة على أكثر من صعيد، وفي اكثر من مجال..

ولكن .. وبرغم هذا الاتساع والشمول، فان أحداً لم يستطع، ولن يستطيع - مهما بلغ به الجد - أن يثبت علمياً أياً من حالات التزوير او الخرافة ، إلا الشاذ النادر الذي يكاد لا يشعر به أحد بالقياس الى حجم ما هو صحيح وسليم، رغم رغبة جهات مختلفة بالتلاعب بالحقيقة، وبالتعتيم عليها، وذلك لشدة حساسية هذا الحدث، وتنوع مراميه، وتشعب مجالاته، واختلاف حالاته وتأثيراته..

وحتى، الذين ينسب اليهم انهم اسهموا في اثارة هذه الحملة الشعواء، يسجلون هذه الحقيقة بوضوح، ويعتزون بها، فيذكر الكتاب المنسوب الى الشهيد المطهري عن المرحوم الدكتور آيتي قوله: "ان تأريخ أبي عبدالله الحسين عليه السلام يعتبر نسبة الى كثير من التواريخ الاخرى تاريخاً محفوظاً من التحريف، ومصاناً منه"(1).

وذلك إن دل على شيء فهو يدل على ان الله سبحانه قد حفظ هذا الدم الزاكي ليكون هو الحافظ لهذا الدين، فأراد له أن يبقى مصوناً صافياً نقياً الى درجة ملفتة وظاهرة.

ويتجلى هذا اللطف الالهيّ، والعناية الربانية، حين تفاجؤنا الحقيقة المذهلة، وهي انه حتى تلك الموارد النادرة جداً التي يدعيها هذا البعض لم تدخل في تاريخ كربلاء؛ لانها قد جاءت مفضوحة الى درجة انها تضحك الثكلى، وتدعو الى الاشمئزاز والقرف..

وذلك من قبيل قولهم - كما سيأتي - : ان عدد جيش يزيد في عاشوراء كان مليوناً وست مئة الف مقاتل.. وان الامام الحسين عليه السلام قد قتل منهم بيده ثلاث مئة الف.. وان طول رمح سنان بن أنس، الذي يقال: انه احتز رأس الحسين عليه السلام كان ستين ذراعاً.. وان الله قد بعثه اليه من الجنة.. وكذلك الحال بالنسبة لعرس القاسم.

وظهر بذلك مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وآله في الحسين عليه السلام: انه مصباح هدى، وسفينة نجاة(2).

 فصدق الله، وصدق رسوله، وصدق اولياؤه الابرار، الطاهرون، والائمة المعصومون..

 

تمنيات:

ويا ليت هذا الجهد الذي يصرفه ذلك البعض في سياق تشكيك الناس بالمنبر الحسيني قد صرفه و يصرفه باتجاه توطيد ثقة الناس بهذا المنبر، ومضاعفة اقبالهم عليه، ويا ليته يهتم او يسهم ولو لمرة واحدة بعمل تحقيقي علمي، يستند الى الارقام والدلائل والبراهين، ويكف عن ممارسة النقد العشوائي، والتجريح، والقمع..

ويا ليته ايضاً ولو لمرة واحدة مارس عملياً تطوير اساليب المنبر الحسيني، وعمل على رفع مستوى العطاء فيه، وأسهم في تحاشيهم الوقوع في بعض السلبيات او الاخطاء، التي لم يزل يشنع بها على جميع اهل هذا المنبر، والتي ربما تصدر عن قلّةٍ من خطبائه، ممن لم تتوفر فيهم شروطه ولا بلغوا مستويات العطاء فيه.

 

لا يؤخذ البريء بالمسيء:

وان من ابده البديهيات ان المجرم هو الذي يعاقب ولا يؤخذ غيره بجرمه.

فلوا افترضنا ان أحداً من الخطباء قد اساء الى هذا المنبر ، وارتكب من الاخطاء ما يفرض موقفاً بعينه، فان المسؤولية الشرعية والانسانية تقضي بحصر الأمر بخصوص ذلك الذي ارتكب هذا الامر، ولا يجوز بأي حال من الاحوال اطلاق الكلام بنحو يثير أية علامة استفهام على من عداه..

فان كان ثمة من كَذَبَ وزوّر فليُذكَر لنا اسمه ، وان كان ثمة من اجترح الاساطير والخرافات فليُحدَّد للناس شخصه.

 

التهويل والإستنساب:

وفي سياق آخر فقد نجد لدى اولئك الذين لا يمتلكون قدرة وجلداً على البحث، والتحليل، والتتبع، والتمحيص توجهاً نحو اسلوب الاستنساب والمزاجية في اختيار النصوص، ثم في عرض الاحداث وترصيفها، وربط بعضها ببعض، فضلاً عن تحديد مناشئها، والتكهن بآثارها..

 يصاحب ذلك سعي للتحصن خلف الادعاءات العريضة والشعارات، والتعميمات غير المسؤولة، من خلال تنميق العبارات، واختيار المصطلحات الباهرة والرنانة..

وقد يستعملون الى جانب ذلك اسلوب التهويل، والتعظيم ، والتضخيم، والتفخيم لامور جزئية وصغيرة، وربما تكون خارجة عن الموضوع الأساس.

 ثم تكون النتيجة هي استبعاد كثير من النصوص الصريحة والصحيحة ، والتشكيك بأحداث او بخصوصيات لم يكن من الانصاف التشكيك فيها ، ثم استنساب نص بعينه هنا، وعدم استنساب نص آخر هناك، الأمر الذي ينتهي بجريمة ولا أعظم منها في حق دين الله ، وفي حق اصفيائه، وأوليائه، وبالتالي في حق عباده، أياً كانوا، وحيثما وجدوا..

وبالنسبة لقضية كربلاء بالذات، فان الجريمة ستكون اكثر فظاعة، وهولاً، حتى من جريمة يزيد، لان يزيد لعنه الله إنما قتل الامام الحسين عليه السلام، وهؤلاء إنما يحاولون قتل إمامة الحسين عليه السلام، والقضاء على كل نبضات الحياة في حركته الجهادية، ليكونوا بذلك قد احرقوا سفينة النجاة، واطفأوا مصباح الهدى، او هكذا زيّن لهم.

 

علينا ان نخطط للبكاء في عاشوراء:

اما بالنسبة للبكاء على الامام الحسين عليه الصلاة والسلام، فما هو إلا للتعبير عن توفر حالة من الاثارة العاطفية، التي تعني استجابة المشاعر والاحاسيس ليقظة وجدانية، وحياة ضميرية، اثارتها مأساة لا يجد أحد في فطرته، ولا في عقله، ولا في وجدانه أي مبرر لها.

اذن فحياة الوجدان، ويقظة الضمير، تجعل المنبر الحسيني قادراً على الاسهام الحقيقي في صنع المشاعر، وفي صقلها، وبلورتها، باعتبارها الرافد الاساس للايمان ، والحافظ له من ان يتأثر بالهزات، او ان ينهار امام الكوارث والازمات.

هذا الايمان الذي يفترض فيه ان يكون مرتكزاً الى الرؤية اليقينية، والى الوضوح والواقعية؛ لان الفكر الذي لا يحتضنه القلب، ولا ترفده المشاعر لن يتحول الى ايمان راسخ، ولن يكون قادراً على ان يفتح امام هذا الانسان آفاق التضحية والفداء، والإيثار، والجهاد، وسائر المعاني والقيم الكبرى، التي يريد الله للإنسان ان يقتحم آفاقها بقوة وعزيمة، وبوعي وثبات.

وذلك يحتم علينا - اذا كنا نشعر بالمسؤولية ان نخطط لهذا البكاء الذي يحيي الضمير ويطلق الوجدان من أسر الهوى، ومن عقال الغفلات، ويبعده عن دائرة الهروب، واللامبالاة. كما خطط الائمة عليهم السلام لذلك حين أقاموا مجالس العزاء هذه، بل لقد روي ان الامام الرضا عليه السلام قد شارك دعبلاً ببيتين من الشعر يكون بهما تمام قصيدته، بما لها من المضمون الحزين المثير للبكاء.

ولتكن قصة ذبح ابراهيم لإسماعيل، وقصة حجر بن عدي الذي عمل على ان يقتل ولده قبله ، وكذلك الامام الحسين واصحابه واهل بيته في كثير من مفردات كربلاء. ثم ما جرى على سيدة النساء ، وعلى أمير المؤمنين، وعلى الامام الحسن عليهم السلام وسائر مواقف الجهاد والتحدي - نعم ليكن ذلك كله وسواه هو تلك الوسائل والمفردات التي أراد الله لها ان تخدم ذلك الهدف السامي والنبيل.

 

الارتفاع الى مستوى الخطاب الحسيني:

وبعد.. فان علينا ان نرتفع بالناس الى مستوى الخطاب الحسيني، من خلال تبني مناهج تربوية وتثقيفية في مجالات العقيدة والايمان، تهتم بتعريف الناس على المعايير والضوابط المعرفية والايمانية. وتقدم لهم ثقافة تجعلهم يطلون من خلالها على مختلف حقائق هذا الدين، وعلى آفاقه الرحبة، وليميزوا من خلال هذه الثقافة بالذات بين الاصيل والدخيل وبين الخالص والزائف في كل ما يعرض عليهم، او يواجههم، في مختلف شؤون الدين والتاريخ والحياة.

وليخرجوا بذلك عن أسر هذا الذي ادخل في وعيهم عن طريق التلقين الذكي: ان الاسلام مجرد سياسة، واقتصاد، وعبادة، واخلاق، وعلاقات اجتماعية.. فهو اشبه بالقانون منه بالدين الالهي، لان هذا الفهم يهيء لعملية فصل خطيرة للشريعة عن واقع المعارف الشاملة والمتنوعة، التي ترفد ذلك كله وسواه، وتشكل –بمجموعها - قاعدة إيمانية صلبة، تفتح امام هذا الانسان آفاقاً يشتاق الى اقتحامها، وتعطيه مزيداً من الاحساس بالغيب، والمزيد من الاهلية والقدرة على التعامل معه، وادخاله الى الحياة، ما دام ان الانسان لن يسعد ولن يذوق طعم الحياة الحقيقية بدونه..

وان ابسط ما يفرضه علينا هذا الامر، هو ان لا نقدم الائمة (ع) للناس على انهم مجرد شخصيات تتميز بالذكاء الخارق ، والعبقرية النادرة. قد عاشت في التاريخ، وكانت لها سياساتها، وعباداتها، واخلاقها ، وعلاقاتها الاجتماعية.. ثم ما وراء عبادان قرية..

بل علينا ان نعرفهم لهم بأنهم فوق ذلك كله، إنهم أناس الهيون بكل ما لهذه الكلمة من معنى وأن نلخص لهم - وفق تلك البرامج التثقيفية والتربوية التي اشرنا اليها - كل المعارف التي وردت في كتاب الكافي الشريف، وفي كتاب البحار على سبيل المثال، ولو على سبيل الفهرسة الاجمالية للمضامين لتمر على مسامعهم اكثر من مرة -، ان امكن، لان المعصومين عليهم السلام ما قالوا شيئاً ليبقى مغيباً في بطون الكتب والموسوعات، بل ارادوا له ان يصل الينا وان يدخل في حياتنا ويصبح جزءاً من وجودنا كله.

فلابد إذن من اعداد ذهنية الانسان المسلم، وروحه وعقله لتقبل هذه المعارف، وللتعامل معها، من خلال معاييرها ومنطلقاتها الايمانية والعلمية الصحيحة.

كما ان ذلك يعطي الفرصة للإنسان المؤمن ليستمع أو يطلع على الكثير مما قاله قرآنه وانبياؤه وائمته المعصومون عن السماء والعالم، وعن الخلق والتكوين، وعن الآخرة والدنيا، وعن كل شيء.. نعم كل شيء.

ولسوف يجد في ذلك كله ما يحفزه للسؤال عن المزيد، ويفتح امام عينيه آفاقاً رحبة ، يجد نفسه ملزماً باستكناه كثير من جوانبها، واكتشاف ما أمكنه اكتشافه من حقائقها.

 

أسلوب الانتقاء إدانة مبطنة:

وغني عن القول: ان انتهاج اسلوب الانتقاء والاستنساب العشوائي، الذي قد يكون خاضعاً لظرف سياسي، او نفسي، او لقصور في الوعي الديني، أو لغير ذلك من أمور؛ ان انتهاج هذا الاسلوب من شأنه ان يعطي الانطباع السيء عن كثير من مفردات الثقافة الايمانية الصحيحة، من خلال ما يستبطنه من إدانة او اتهام لكل نص لم يقع في دائرة الاستنساب هذه، الامر الذي ينتهي بحرمان الآخرين من فرصة التفكير المنطقي في شأن التراث، بالاستناد الى المبررات العلمية، وإلتزام الضوابط والمعايير المقبولة والمعقولة، بعيداً عن أي ايحاء يهيء لحالة نفرة غير منطقية من كثير من النصوص التي تواجهنا ونواجهها في سيرتنا الثقافية والايمانية..

وكذلك بعيداً عن كل اساليب التهويل والتضخيم ، حتى ولو بالصوت الرنان، والنبرات الحادة، وعن تهويلات وايحاءات اليد في اشاراتها وحركاتها، والوجه في تقبضاته وتجهماته.. فضلاً عن اللسان ولذعاته، وما الى ذلك من أمور. فان ذلك لن يفيد شيئاً في تأكيد حقانية أمر، وفرض الالتزام به، ولا في استبعاد ما عداه، والتنكر له. بل تبقى الكلمة الفصل للفكر الأصيل ، وللبحث الموضوعي، وللدلائل والشواهد القوية والحاسمة..

 


- 1الملحمة الحسينية ج3 ص236 عن كتاب : تحليل تاريخ عاشوراء ص 151.

-2 فرائد السمطين ج2 ص155 واحقاق الحق، قسم الملحقات ج14 ص62 وكمال الدين وتمام النعمة ج1 ص265 وعيون اخبار الرضا ج1 ص60 والبحار ج36 ص 205.