الفصل الخامس: التضحية والجهاد ودعاء ليلى لولدها $$$
وينسب إلى الشهيد السعيد العلامة الشيخ مرتضى مطهري رحمه الله، وهو يعدد التحريفات التي لحقت بواقعة كربلاء، قوله : "… قضية حضور ليلى في كربلاء ، والإدعاء بأن الحسين قد أمرها أن ترجع إلى إحدى الخيم، وتنشر شعرها، بعد أن خرجت من المخيم…(1)". ويقول رحمه الله : إنه حضر مجلساً حسينياً سمع فيه : "أن علياً الأكبر نزل إلى ساحة الوغى، وإذ بالحسين يتوجه إلى أمه ليلى، ويطلب منها الدخول إلى إحدى الخيم، ونثر شعرها، والتوجه إلى ربها بالدعاء ، ليرجع إبنها سالماً إليها، فإني سمعت جدي رسول الله (ص) يقول : بأن دعاء الأم بحق ابنها مستجاب، فهل هناك تحريف، أكثر من هذا؟!. أولاً: ليس هناك ليلى في كربلاء، حتى يحدثها الإمام. ومن ثم ثانياً: هل هذا هو منطق الحسين في المعركة؟! أبداً، فمنطق الحسين يوم عاشوراء كان منطق التضحية والجهاد. ثم أن كل المؤرخين متفقون على أن الحسين كان يجد الأعذار لكل من يطلب التوجه إلى المبارزة، ما عدا ابنه علي الأكبر، فإنه لما استأذنه بالقتال أذن له كما تذكر كل الروايات "فاستأذن في القتال أباه فأذن له"(2). ولكن رغم ذلك: "ما أكثر الأشعار التي نظموها بحق ليلى وابنها في خيم كربلاء.(3)". ونقول : إن لنا على ما ينسب إلى هذا الشهيد السعيد عدة ملاحظات، نشير إليها فيما يلي :
أولاً: الزهراء، وكشف الرأس للدعاء: قد ورد أن الزهراء عليها السلام قد هددت الذين إعتدوا على مقام أمير المؤمنين عليه السلام، وحملوه إليهم رغماً عنه ليبايع - هددت - بأن تكشف رأسها وتدعو عليهم(4). ومن الواضح أن كشف رأسها لن يكون أمام الرجال الأجانب، بل في بيتها وفي داخل خدرها.
ثانياً: الحسين(ع) لم يطلب من ليلى شيئاً: ليس في الرواية : أن الإمام الحسين عليه السلام قد طلب من ليلى : أن تدخل إلى الفسطاط وتنشر شعرها وتدعو. بل فيها : أنه عليه السلام قد أمرها بالدعاء، وأخبرها بقول النبي (ص) حول أن دعاء الأم مستجاب في حق ولدها، فجردت رأسها – وهي في الفسطاط – ودعت له(5). ويستنكر الشهيد المطهري ذلك حسبما نسب إليه فيقول: "فهل هناك تحريف أكثر من هذا ؟". ونحن بعد أن ظهر أنه لم يلتفت إلى السياق السليم للرواية، ولم يوردها على سياقها الحقيقي، نقول له نفس هذا القول : "فهل هناك تحريف أكثر من هذا ؟!!". اللهم إلا أن يبرئ مؤلف هذا الكتاب نفسه من هذه المؤاخذة، على أساس أنه لا يتحدث عما ورد في الرواية، وإنما هو يتحدث عن تحريف ذلك الخطيب لها.
ثالثاً: إستجابة دعاء ليلى والتضحية والجهاد: وغني عن القول: إن إستجابة الله سبحانه دعاء أم علي الأكبر، بعد أن أمرها الإمام الحسين عليه السلام بالدعاء لولدها، وإرجاع ولدها إليها لا يتنافى مع التضحية والجهاد – كما يريد الشهيد السعيد العلامة المطهري رحمه الله أن يقوله، وفقاً لما نسب إليه. وذلك لأن إستجابته سبحانه وتعالى لها بإرجاع ولدها إليها لفترة وجيزة - ثم عودته بعد ذلك لمواصلة كفاحه، ثم إستشهاده، لا يدل على أن الإمام الحسين عليه السلام قد رغب في بقاء ولده حياً من بعده، وأنه قد ضن به على الموت في ساحة الجهاد، فإن تأخير إستشهاده ساعة من نهار، إنما هو من أجل أن يثلج بذلك صدر والدته، بعودته إليها سالماً من إحدى جولاته ومعاركه – وليكون إستشهاده بعد ذلك أهون عليها ، لما تمثله إستجابة دعائها من دلالة يقينية على عناية الله سبحانه بهم، وما يعطيه ذلك لها من ثقة بالله، وطمأنينة ورضى بقضائه، وما يهيؤه للصبر الجميل على تحمل بلائه جل وعلا… وليكن توجيهها الحسيني نحو الدعاء لطلب عودة ولدها منسجماً مع مسارعته عليه السلام للإذن لولده باقتحام ساحة الجهاد. دون أدنى تعلل أو تردد في ذلك.
رابعاً: الإجماع التاريخي المزعوم: 1ـ لا ندري كيف إستطاع العلامة الشهيد أن يتبين وجود إجماع وإتفاق من كل المؤرخين على أنه عليه السلام لم يحاول أن يجد أي عذر لولده علي الأكبر، حينما إستأذنه بالبراز. إن صح نسبة ذلك إليه. فإن مجرد عدم ذكر المؤرخين لذلك – وإكتفاؤهم بعبارة-: "إستأذن فأذن له" ليست صريحة في إجماعهم على أن شيئاً من ذلك لم يحصل، فإن عدم ذكر الشيء لا يدل على عدم حصوله ، وها نحن نرى كيف أن المؤرخين يختلفون في إيراد الخصوصيات المختلفة للوقائع التي يسجلونها ، فيذكر أحدهم خصوصية يهملها الآخر وبالعكس. وما ذلك إلا لأجل ما ذكرناه. 2ـ هل إستطاع الشهيد مطهري المنسوب إليه هذا الكلام أن يسبر كل ما كتبه العلماء، والمحدثون والمؤرخون عن أحداث عاشوراء؟!. 3ـ لربما يكون الناقل لهذه الخصوصية، من المشاهدين للأحداث من بعيد، ولم يتسن له أن يسمع الكلمات التي دارت بين الوالد وولده بدقة فنقل ذلك على سبيل الإجمال.
خامساً: التفاوت والإختلاف في النقل: ونجد أن ما نقله رحمه الله عن قارئ العزاء في ذكره لتفاصيل هذه القضية يختلف عما سجله المؤلفون في كتبهم. ولعل العلامة الشهيد رحمه الله تعالى – لو صحت نسبة هذا الكلام إليه لم يراجع تلك المؤلفات ليطلع على النص الدقيق للقضية. أو لعله قد ذهل - وهو ينقل عن حفظه - عن بعض الخصوصيات فقد ذكروا: أن الحسين عليه السلام كان يراقب جهاد ولده. وكانت أمه ليلى تنظر في وجه الحسين، فبرز إليه رجل إسمه بكر بن غانم ، فتغير وجهه عليه السلام، فرأته ليلى فبادرت إلى سؤاله عن سبب ذلك، وهل أن ولدها أصابه شيء؟!. فأجابها : "لا ولكن قد برز إليه من يخاف عليه منه، فادعي لولدك علي، فإني قد سمعت من جدي رسول الله (ص) : أن دعاء الأم يستجاب في حق ولدها، فجردت رأسها، وهي في الفسطاط، ودعت له إلى الله عز وجل بالنصر عليه". وقال : وجرى بينهما حرب شديد، حتى إنخرق درع بكر بن غانم من تحت إبطه فعاجله علي بن الحسين بضربة قسمه نصفين(6).
|