الالتزام بالاعداد المناسب للحديث
من المهم جدا أن يشعر الخطيب أن الناس قد ائتمنوه على أفضل ما عندهم ، وأعطوه عقولهم لينقش فيها على مدى ساعة من الزمان أو نصفها ، ما يريد .. فليتق الله في هذه الأمانة ، ولا يصب في تلك العقول إلا ما ينفعها في دنياها وأخراها . ولو أردنا أن نحسب الأمر من الناحية الكمية ، فإن معنى أن يجتمع لخطيب ألف شخص تحت منبره ، هو أن ألف ساعة من وقت المجتمع قد وضعت تحت تصرف هذا الخطيب ، فكيف سيتصرف فيها ؟ منها ساعة الطبيب ، وساعة المهندس وساعة المدرس .. الخ ، وكل واحدة من هذه لها قيمة مالية خاصة . إن ارتقاء المنبر ، والتشريق حينا والتغريب حينا آخر على غير هدى ولا هدف .. يعد جريمة بحق هذه الساعات التي يحتاجها المجتمع . ويعد كارثة بالنسبة لتلك العقول التي سلمت لهذا الشخص. ونحن نتحدث هنا مع القادر من المنبريين على العطاء من خلال الاعداد الجيد ، والتهيؤ المناسب للمناسبة ، وإلا فلو كان الخطيب في مستوى معين لا يستطيع تجاوزه ، فـ ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ، ويكون الحاضر إليه قد ( أقدم ) على إنفاق هذا المقدار من الوقت ، قاصدا بذلك الثواب. وبهذه المناسبة نشير إلى طريقتين يعتمد الكثير من الخطباء المعاصرين إحداهما أو كليهما في تهيئة الموضوع : الأولى : تعتمد على أن يختار الخطيب نصا من النصوص ( سواء كان آية قرآنية أو رواية ) ثم يبدأ في التأمل في كلماتها ويشرحها ، ويبين ما يتصل بها من أحكام فقهية ، أو قضايا تأريخية ، أو مسائل عقائدية ، وأحيانا لفتات أدبية ولغوية ، بمقدار ما يشير إليه النص الذي اختاره في البداية . الثانية : أن يشخص الخطيب حالة أو مشكلة ، أو موضوعا على أنه يهم المجتمع الذي سيلقي فيه وبعد تشخيصه لذلك الموضوع يبدأ بالبحث عن كيفية طرحه ، وتهيئة المواد اللازمة للحديث فيه ، فقد يرى مشكلة اجتماعية ( كالطلاق ) مثلا ، فيقوم باختيار النص القرآني أو الروائي المناسب للحديث ، ثم يفكر في أسبابه متخذا من الحالات القائمة ، أو الدراسات الاجتماعية مصدرا ، ويتأمل في طرق الاسلام التي تتحدث عنها الروايات ويستفيدها من الأحكام الشرعية ، والتي تقلل من الطلاق وأسبابه . أو أنه يتناول جانبا تأريخيا ويستفيد منه مواقع العبرة والدروس .. وهكذا . وقد تكون هناك طرق أخرى تختلف أو تتفق مع الطريقتين السابقتين ، لكن المهم في الأمر هو أن يقوم الخطيب بتقدير المهمة العظيمة التي تحملها ، ويراعي في ذلك أوقات الناس بالكمية والكيفية التي تقدمت ، فيهيء أحاديثه بمقدار ما وسعه التهيئة والاعداد . أختم هذا العنوان بكلمات جميلة لديل كارنيجي في كتابه ( فن الخطابة )(1) والذي ينصح بقراءته لفائدته ، قال ( حدد موضوعك مسبقاً حتى يتسنى لك الوقت للتفكير به مراراً. فكر به طيلة سبعة أيام ، واحلم به طيلة سبعة ليال ، فكر به أثناء خلودك إلى الراحة ، وفي الصباح وأنت تستحم ، وفي طريقك إلى المدينة ، أو ...وناقشه مع أصدقائك واجعله موضوع حديثك ، واسأل نفسك جميع الأسئلة الممكنة التي تتعلق به . لقد ذكر تجربة أحدهم ممن كان خطيبا مشهورا : عندما سئل عن كيفية تحضيره لخطاباته فقال : ليس لدي أي سر . حين أختار موضوعا أكتب اسمه على مغلف كبير ، ولدي الكثير من هذه المغلفات ، فإذا وجدت أثناء القراءة شيئا جيدا حول الموضوع الذي سأتحدث عنه أنقله إلى المغلف الصحيح ، وأضعه جانبا ، ودائما أحمل معي دفتر ملاحظات ، فإذا استمعت إلى عبارات أثناء أي احتفال تلقي ضوءا على الموضوع الذي يهمني أسجلها ثم أنقلها إلى المغلف وربما تركته جانبا لمدة سنة !! أو أكثر ، وحين أريد أن ألقي خطبة أتناول ما أكون قد جمعته فأجد مادة كافية مما جمعته هناك إضافة إلى اجتهادي الخاص ) . وفي موضع آخر يقول : حين تنهمك في جمع مادة خطبة لاحتفال معين ، اكتب جميع الأفكار المتعلقة بالمادة التي تخطر ببالك ، دون جميع أفكارك ببضع عبارات كافية لتثبيت الفكرة ودع عقلك يبحث عن المزيد منها ، تلك هي الطريقة التي من خلالها يتدرب العقل على الانتاج وبها تبقى عملياتك الذهنية نشيطة وبناءة ..(2)
|
1- بالطبع هناك شيء من الاختلاف بين ظروف من يتحدث عنهم وظروف خطبائنا ولو لجهة االعدد الكبير من المواضيع التي يراد منهم التحدث عنها ، ولكن استشهادنا هو في أصل الطريقة . 2- فن الخطابة - دايل كارنيجي |