ليْلَةُ عاشُورَاءْ

 
 

الصفحة 307

الشيخ علي الفرج

شاعرية علي الفرج من الشاعريات القليلة التي تُجبر متلقيها على الإقرار بضرورة الشعر في حياة الإنسان وتجعله متقرباً بأكثر من وسيلة الى التفاعل والإنصهار مع الظواهر الشعرية في كل تجلياتها وكشوفها... فهو حدّاء أصيل يراقب قافلة التلقي والقراءة بأكثر من حاسّة ويحنو على قارئه حنوّ المشفق ، فُيصاحبه صحبة إدهاش وإبهار بسحر الألفاظ المنتقاة وجمال صياغته للتراكيب الموحية وهو يفعل هذا برقّة وشفافية تنمّ عن طبع شعري متجذّر وخُلق فني راسخ ، بعيداً عن دنس تنفير الآخرين وازدرائهم ومقتهم.

فشاعريته بها نزوع نحو التلاحم مع الناس بطيبة صادقة ونيّة حسنة ليقرّر رسالة الشعر ووظيفته كنداء من ضمير ووجدان جماعي يعبّر عن كل الآمال وجميع الآلام ، ولذا فهو يمتلك من إمكانات الإختيار في خطابه الشعري الشيء الكثير ، وله قدرة متشعّبة في توليد التراكيب غير النمطيّة يعاضده إنتقاء واع لألفاظه ، فلا تستطيع أيّة لفظة كانت أن تعبر سياج حقوله الشعرية بلا إذن من رقابته الصارمه وتفحصه الدؤوب ، ولا شك أنّ البساطة التي تظهر بسيولة في شعره هي بساطة مصنوعة بتعب وإخلاص وتفانِ وهناك جهد آخر يقوم به الفرج في إخفائه لآثار الصنعة في بساطة شعره وعذوبته وسيولته ، ولعل السيولة أقرب إليه من غيرها فهو شاعر الماء بحق وهو (نهّام) يؤدي مواويله البحرية لكي يدفع عجلة الحياة ، وإذا تسنّى للفحص والإختبار النقدي أن يولي قصيدة ( حديث النجوم ) إهتمامه فسوف

الصفحة 308

يتأكد رسوخ الصور والألفاظ والتراكيب المائية في نسيج القصيدة ، وربما تجاوز الماء الى كل الظواهر والأشياء السائلة بحيث نرى أنه لايكاد أن يخلو بيت شعري لعلي الفرج من ذلك ، وسنحصي ذلك بالترتيب في قصيدته ( اغسلي ، دمعاً ، ذاب ، السحاب ، دمعة ، دماً ، الأقداح ، يُراق ، الأكواب ، دمه ، سكّاب ، الظمأ ، ضباب ، جرى ، الفرات ، وريداً ، دماها ، سلسل ، منساب ، ماء ، ملأى ، القراب ) في الأبيات العشرة الاولى فيحقق إنسيابية سيّالة لرؤاه وصوره لكي يشكل مدخلاً الى مشهد الفجيعة الذي يتعمد فيه الشاعر عدم إستخدام مفرداته المائية ليصوّر ليلة عاشوراء ويخاطبها واصفاً إياها بليلة إنخساف المرايا فلا إنعكاس أمام وجه الزمن لكن الشاعر يخرج من هذا المشهد وينهي القصيدة بهذا البيت :

وفؤاد الحسين ذاب حنانـاً * وعجيب يذوب فوق الحراب

فحتى الشهادة العظيمة لسيد الشهداء عليه السلام يصوّرها علي الفرج بصورة الذوبان فوق الحراب مبدياً عجبه لذلك ، لكننا لا نعجب فالشاعر يريد للشهادة المحببة الى نفسه أن تتزيىّ بحلّة الماء الذي يحقق حيوية شاعرية علي الفرج المنفتحة على مصاديق الآية الكريمة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) على مستويين : شعوريّ يصاحبه الإختيار الواعي ، ولا شعوري دفين في رغبات وأماني علي الفرج الذي يختار لقصائده أوزاناً منسابة برشاقة الإيقاع الشعري كبحريّ الخفيف والبسيط اللذين طالما كتب بهما أجمل قصائده.

الصفحة 309

22 ـ للشاعر الأستاذ فرات الأسدي(1)

(1)

مشيئة الدم

عليه اُغمضُ روحي حلمَه العجبا ii!      فـكيف فـرَّ إلـى عـينيَّ iiمُنسربا
ومـن  أضـاءَ لـه حُزني iiفغادره      إلـى  فضاء قصيّ اللمح فاقتربا ii!
حـتى  تـسلّل من حُبٍّ ومن iiوجعٍ      دمـعاً  يُـطهّر نبعَ القلب لا iiالهدبا
رأيتُ  فيما رأيتُ الدهشة iiانكسرت      وخـضّبت جـسداً لـلمستحيل iiكبا
وكـان يَـلقى سيوفَ الليل iiمنصلتاً      ويـستفزُّ  مُـدىً مـجنونة iiوظبى
وكـان يـعبر فـي أشفارها iiفزعاً      مُـرّاً  ، وترتدُّ عن أوداجه رُعبا ii!
تـمتد  لـهفتها حـيرى iiفـيُسلمُها      إلـى ضـلوع تـشظّت تحتها نهبا
مَنْ ينحرِ الماء مَنْ يخنقْ شواطئه ؟      والـنهر مـدَّ يديه نحوه... وأبى ii!
فـنـاولني دمـه يـاليلة iiعـبرت      إلـى النزيف جريح الخطو iiمنسكبا

***

____________

(1) هو : الشاعر الأستاذ فرات الأسدي ، ولد سنة 1380 هـ ، من عائلة علمية معروفة ، أنهى شطراً من الدراسة الاكاديمية ودرس عدة مراحل في الحوزة العلمية ، ومن نتاجه الأدبي 1 ـ ذاكرة الصمت والعطش ( مطبوع ) 2 ـ صدقت الغربة يا ابراهيم 3 ـ النهر وجهك 4 ـ الخناجر الميتة ( رواية ) ، وله مساهمات فعالة في النوادي الأدبية والثقافية والدينية ، كما شارك في الصحافة والكتابة الأدبية ، ويدير الآن دار الأدب الأسلامي : مشروع النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته في الشعر العربي

الصفحة 310

يـا نـافراً مثل وجه الحلم رُدَّ iiدمي      إلى هواك...دمي الممهور ما اغتربا
يـطلُّ  ظـلُّك فـيه... بوحَ iiاُغنيةٍ      ظـمآنةٍ عـبَّ مـنها لـحنُها اللهبا
رأيـتُ فـيما رأيـتُ الليلَ iiمتّشحاً      عـباءةَ  الـشمس مختالاً بها iiطربا
وفـوق أكـتافه فجرُ النعوش هوت      نـجومُه...والمدى يـرتجُّ iiمـنتحبا
قـبل  الـحرائق كان الورد iiيُشبههُ      وبـعده  لـرماد الـريح صار iiسبا
قـبل الـفجيعة من لون الفرات iiله      شكلٌ ، ومن طينه وجهٌ يفيض iiصبا
وبـعدها  سقطت في النار iiخضرته      وحـال عن بهجة مسحورة ، iiحطبا
ومـا تـألّق مـن جـمرٍ iiفـبسمتهُ      غارت  ، وتحت رمادٍ باردٍ شحبا ii!

***

وأنت ، دون عزيف الموت ، صرختنا      وأنـت.. تـنفخ فـيها صوتها.. iiنسبا
وأنــت عـندك مـجدُ الله... iiآيـتهُ      بـيـارقاً  نـسلت... جـرارةً حـقبا
وأنـت  تـلوي عنان الأرض ثمّ iiإلى      أقـدارها  تـطلق الأقـدار iiوالـشُهبا
وعـند جرحك مات الموت iiوانبجست      مـن  الـصهيل خيولٌ تنهب iiالصخبا
فاحملْ  دمَ الكوكب الغضّ الذبيح iiوسر      إلـى الـخلود فـقد أرهـقتَه iiنـصَبا
وقـف...فحيث مدار الكون صرت iiله      مـشيئةً تـكتب الـتاريخ ، أو iiقـطبا

فرات الأسدي

8 / ذو القعدة / 1416 ه

الصفحة 311

الاستاذ فرات الاسدي

مشيئة الدم

قصيدة عمودية في ظاهرها فقط ، أما جّوها وبناؤها ولغتها وصورها وتراكيب جملها فهي برزخية الإنتماء تتقاطع مع التراث والمعاصرة في مفترقات وملتقيات عدة لتبرز هويتها غير المنحازة وغير المتعيّنة على وجه الدقة ، وهي قصيدة خروج على السائد في كل محاورها وخصوصاً على الثوابت النحوية ـ التي لفرات الأسدي رسوخ طويل بها ـ فهي تقفز منذ صدر البيت الاول فوق المعايير لتلجيء المتلقي الى التأويل والتمحّل لما هو بين شارحتين ـ حلمه العجبا ـ فلا يصل الى شيء ، ويتأكد هذا القفز فوق الثوابت النحوية في مشاكسات ومحاولات للخروج الواعي أو هي على الأقل إشعار بذلك ، مما يُنبيء أن الشاعر يضيق ذرعاً بالمعيارية التي تمتد ضاغطة على الرؤى غير المتشكّلة بعد ، وعلى القواعد التي تحاصر فضاءه وهو ( فضاء قصي اللمح ) فهو يفرض الحيرة على المتلقي مثلاً في

مَن ينحرِ الماء مَنْ يَخنُقْ شواطئه ؟   والنهر مدّ يديه نحــوه.. وأبـى

فهل ( من ) إستفهامية أم شرطية وكيف جزمت الفعلين ؟ إن التعمد والقصدية واضحان في التجاوز ونُضيف الى ذلك ما يمكن أن نسميه بـ ( إزدحام الأفعال ) كظاهرة بارزة في القصيدة حتى وصل عدد الأفعال المستخدمة في بيت واحد الى خمسة أفعال :

رأيت فيما رأيت الدهشة إنكسرت   وخضّبت جسداً للمستحيــل كبا

الصفحة 312

ولإن الفعل في العربية ـ غالباً ـ ما يشكل بدايات الجمل فهذا البيت يطالب ذهن المتلقي أن يقف خمس وقفات ليبتدأ من إنطلاقات الجمل فيحتاج الى تأمل أكثر ووقت أطول فتتعدد المفاتيح الباحثة عن أبواب النص وهناك لدى فرات الأسدي ظاهرة نحوية اخرى يتعمدها في نصّه وهي حشد الضمائر المتصلة فعلى إمتداد (22) بيتاً هناك (53) ضميراً متصلاً على الأقل بحيث تعسر الإحالة ويصعب الإرجاع وسنرى هذا المثال :

وكان يلقى سيوف الليل منصلتاً      ويـستفزّ  مُدىً مجنونة iiوظُبى
وكـان يعبر في أشفارها iiفزعاً      مـرّاً  وترتدّ عن أوداجه iiرعبا
تـمتدّ  لـهفتها حيرى iiفيسلمها      الى  ضلوع تشظت تحتها iiنهبا

فاذا أردنا معرفة عائدية الضمير ( ها ) المتصل بالفعل ( يسلم ) فلن نستطيع ذلك ، لإنه قابل للإحالة الى ( اللهفة ، الأشفار ، الظُبى ، المُدى ، سيوف الليل ) وإذا أضفنا الى ذلك العُسر صعوبة تمييز فاعل الفعل ( يسلم ) هل هو فاعل ( كان يعبر ) أي الفاعل الأساس أم هو الفزع المرّ أم الرعب ؟ تشابكت القراءات وتنافرت على المحور الدلالي العام مما يصوّب رأينا القائل أن قصيدة فرات مكتوبة لكي يقرأها المتلقي لا لكي يسمعها فهي نخبوية متوغّلة في موقف جمالي عميق لايشف وهي درامية البناء قائمة على النفور من العواطف والإنفعالات البسيطة لذا نراها تجاهلت المدخليات المألوفة الى ليلة عاشوراء ودارت محاورها على لغة حلمية عميقة تعتمد الإيحاء والإيماء والغموض البرّاق في التعامل مع الأحداث بصدق فني لا يتطابق مع الصدق الواقعي بل يتضمنه ويلازمه في تجربة غنية حافلة بالاجتراح وشاعرية جامحة متمرسة طالما أغنت ساحتها تجارب كثيرة مميزة.

الصفحة 313

(2)

الليلة الآخِرة

عـكفتْ تـشحذُ للموتِ iiالنصالا      أو تـهزُّ الـليلَ ذكـراً iiوابتهالا
فـتـيـةٌ نــاداهـمُ iiربُّـهُـم      أقدِموا ، فاستسهلوا الاُخرى منالا
ومـضوا  عن هذه الدنيا عُجالى      وسـرَوا لـلخُلدِ يبغونَ iiالوِصالا
بـسَمَ  الـمجدُ لـهم iiفـابتسموا      وإلـى أسـيافهمْ مـالوُا iiفَـمالا
وارتـدَوا  من عدَّةِ الحربِ هُدىً      ووفــاءً ومُــروءاتٍ iiثِـقالا
جَـنَّهُمْ فـي الـطفِّ لـيلٌ وهُمُ      بـالحسينِ  الطُهرِ قد جَنُّوا خَبالا
فـاشهدي  يـاليلة الضوء iiهوىً      نـضراً  يـبتكر الـرؤيا iiجمالا

***

مـساءً لـم يـلُحْ في iiأفْقهِ      غيرُ وجهِ اللهِ ، والسبطِ تعالى !
تـرقـبُ الـفجرَ بـه iiأمـنيةٌ      حُـرَّةٌ لـم تُـلقِ لـلرَّهبةِ iiبالا
رغـبتْ  أن تـشهد الفتحَ iiغداً      بـدمٍ ما سالَ بل صالَ وجالا ii!
فـأعـدَّتْ  لـلِـقاهُ iiصَـبرَها      ونـفوساً  أنفت تهوى iiالضلالا
وتـمـدّ الـيدَ لـلطاغي وقـد      عـاثَ  بـالدين حراماً iiوحلالا
تـرِبَتْ  كـفُّ أبـيهِ.. iiلـيتَهُ      نَصبَ  القردَ أميراً.. واستقالا !

الصفحة 314

أيُّ  لـيلٍ ضـمَّ لـلحقّ iiرجالا      يرخِصون  الروحَ أصحاباً iiوآلا
ونـساءً  حُـجِبتْ فـي خدرِها      واطمأنَّتْ في حِمى الصِيد iiعيالا
وصـغـاراً  هَـوَّمَتْ iiأعـينُها      وعـن  الأقدار لم تُحفِ السؤالا
لـو  أطـلّتْ لرأتْ خيل العدى      تـرمَحُ الأرضَ جـنوباً وشمالا
عـاهدتْ شـيطانَها لـن تنثني      يـومَها  أو تـطأ الـقومَ iiمجالا
وبـناتُ الـوحي تُـسبى iiذُعَّراً      وخـيامُ الـوحيِ تـنهدُّ iiاشتعالا
وبـأطراف  الـقنا رأسُ الهدى      وعـلى الـعُجْف السبايا تتوالى
وعـليٌ يـقدِمُ الـركبَ iiوفـي      عُـنْقهَ  من رجلهِ القيدُ iiاستطالا
ولــه  زيـنبُ تـشكو iiذُلَّـها      وهُـموماً عـاينتْ منها iiالمَحالا
صـبرتْ واحـتسبتْ iiمـانالها      فـي سـبيل الله تـلقاه iiنـوالا
حـسبُها مـن أهل بيتٍ شمسُهُمْ      في مَدى التاريخ لم تغربْ زوالا
كـتـب لـلـه لـهم iiأجـرَهُمُ      ان يـكونوا لـلكراماتِ iiمـثالا
ويـشـيدوا بـالـتقى دولـتهمْ      آخـرَ الـدهر انتصافاً iiوسجالا
وإمـامُ  الـحق فـي iiأشـياعهِ      يـطلبُ  الثاراثِ زحفاً iiواقتتالا

 فرات الاسدي

6 / شعبان / 1416 ه

الصفحة 315

الليلة الآخرة

على الرغم من حرصه أن تكون قصيدته منبرية التوجه لكنها أفلتت من القالب والنمط المنبري في مواضع عدة ، ولو تسنى لخطباء المنبر الحسيني أن يضخّوا دماً جديداً في شرايين إختياراتهم الشعرية لما عَدَوا هذه القصيدة أو ما نُسج على منوالها من قصائد الولاء للشعراء المعاصرين.

فالخطاب المنبري الموجّه الى الأجيال الشابة المتطلعة الى المستقبل يجب أن يفحص أدواته ويوظّف الوسائل الفاعلة في الأوساط التي يخاطبها وعلى سبيل المثال ليته يُعيد إختياراته لقصائد العزاء والمصيبة منحازاً الى المنبريات الجديدة من القصائد والأشعار التي تمثّل هذه القصيدة مثالاً لها.

الصفحة 316

(3)

موت النهار

(1)

ليركضَ كالبحر مرّ المساء

ومرّتْ وراء خطاه النجوم التي أزهر الضوء في نسغها ،

والسماوات مبتلّةٌ بالبريقْ

لينهضَ كالبحر مدّ المساء مداه الغريقْ

والغى حرائقه السودَ في الطرقات

وفاجأ غلغلة الومض بالأسئلهْ

ومرَّ الى الدهشة المقبلهْ !

(2)

ليوغلَ كالليل دار الغبارْ !

وطوّق نبضَ التراب بأقدامه المثقَلهْ

وأقصى الغيومَ عن النوءِ والنهرَ عن مائهِ المستعارْ !

ودارَ الغبارْ.

الصفحة 317

(3)

ـ وكانت هوادجهمْ تذرعُ الريحَ ، كان الحداءُ

يُخامرُ عشبَ الكلامِ النديّ ويشعل فيه الحنينْ

وكانوا يلمّون أرواحهم حفنةً حفنةً في ضياع السنينْ

يموتونَ.. يحيونَ.. ينطفئونَ

وها هو طقس الحكايا

يُخامرهم بالفرات وبالأخضر القادم ـ الآن ـ من دمهِ ،

الذاهب ـ الآن ـ من دمه والظمأْ

الى كوكبٍ آخرٍ ما انطفأْ

وما حرثَتْهُ مرايا الصدأْ ! ـ.

(4)

ليركضَ كالبحر مرّ بسحنته العاريهْ

مساءً من اللهفة المشتهاة الى وهجٍ مترَفٍ ،

أو ينابيعَ مغسولةٍ برماد الفجيعهْ

ـ رمادِ المياه المضاجعِ جمرتَها الذاويهْ !

(5)

ليوغلَ كالليلِ دار على الأرضِ

واشتبكتْ بالنخيل ملامحُه وتوارى

الصفحة 318

بقايا من الحزنِ

سرباً من الأغنيات الحيارى

ومرَّ الى النهر في خلسةٍ واستدارْ

.. إستدارا

ليشهدَ موتَ النهارْ !!.

فرات الاسدي

3 / 11 / 1417 ه

موت النهار

أشعر أن فرات الأسدي قد وجد تعبيريته المناسبة في هذه القصيدة الرؤيوية المركّبة بإدهاش متقن فهو في معظم شعره لايقترب من البساطة المجردة ولا يتعامل معها أبداً ، فالأشياء في شعره أشياء ضمن علاقات بل هو يقارب بين الأشياء التي لا علاقة بينها في تراكيب لفظية لينشيء حداثته بتأمل شعري متفلسف ، فقصيدته لها منطق خاص بها ولو تجرأنا فاستخدمنا شيئاً من المنطق العام أو بعض معطياته لتوصّلنا الى كشف منطق قصيدته أو شيء مشابه لذلك ، فموت النهار قائم على تقابل الموت مع الحياة التي جاء النهار هنا معادلاً لها لكن وفقاً للمشيئة التركيبية التي يعمل بهار الشاعر.

سيكون الصراع بين الموت والحياة ظاهراً بعلاقاته التي لها أطرافها

الصفحة 319

المتشابكة ، فالنهار سيقابل المساء وهو غير المقابل المنطقي للنهار أي الليل ومن هنا تبدو خصوصية منطق القصيدة الذي يجعل هذا المساء يركض كالبحر وفق العلاقة التي ذكرناها ( العلاقة بين الأشياء التي لا علاقة بينها ) لتتولد معان جديدة ويحتدم الجدل المتفلسف فيعرو التأمل الفلسفي شيء من منطق الشعر بأسئلة لها ملامح الطفولة التي تُرجع الفلفسة الى بداياتها ، فتبدأ جدلية العناصر الأربعة ( الماء ، التراب ، النار ، الهواء ) فعندما يمرّ المساء تمرّ خلف خطاه النجوم التي يشكّلها الشاعر كشجرة لها نسغ يُزهر فيه الضوء فتبتلّ السماوات بالبريق في علاقة بين الماء و النار عبر البلل وهو من خصائص فعل الماء ، وبين البريق وهو من خصائص فعل النار ، وبعد ذلك أراد المساء أن ينهض لكن كالبحر أيضا فمدّ مداه الغريق ، والمدى من خصائص الأرض فعندما إبتلّت السماوات بالبريق كان نصيب الأرض الغرق في شكل مدى المساء ، هذا على مستوى المعاني ، أما المباني فسيكون هناك تقابل بين ( ليركض كالبحر مرّ المساء ) مع ( لينهض كالبحر مدّ المساء ) هناك نظام تقفية داخلي مغاير لنظام التقفية التقليدي مع النظر الى العلاقة في الجناس الناقص بين الفعلين ( مرّ ) و ( مدّ ) بنفس الفاعل ( المساء ) مع إستخدام نظام تقفية خارجي في ( البريق ـ الغريق ) في شكل من الزوميات التي لو تواصلت لأورد الشاعر مثلاً لفظتي ( الحريق ـ الطريق ) اللتين جاء بهما الشاعر في صيغة الجمع ليكسر نظام التقفية لكنهما عَلقا في أللاشعور فتداعتا تداعاً حرّاً في المقطع اللاحق ( وألغى حرائقه السود فى الطرقات ) طرائق جهنمية سوداء تجعل المساء يتساءل أسئلة مصيرية مندهشة اثر الإلغاء وما تبعه من غلغلة الومض ومفاجأته... وينتهي المقطع.

المقطع الثاني حركة دورانية للغبار وهو من جهة معادل للمساء ومن جهة

الصفحة 320

اخرى جدل عنصرين من العناصر الأربعة ( الهواء ـ التراب ) وهنا جرى تشبيهه بالليل في إيغاله ( ليوغل كالليل دار الغبار ) يطوّق نبض التراب ويقصي الغيوم من جهة والنهر عن مائه من جهة اخرى ، وهذه الحركة أو الدوران الغباري تمنع التراب من اللقاء بالماء لكيلا تنتهي العلاقة بولادة الطين الذي هو أصل الإنسان ، وتقصي النهر عن الماء حتى وأن كان ماءً مستعاراً لتمنع حركة الحياة ويتم للغبار ذلك.

في المقطع الثالث كانت الهوادج تقابل الريح والهوادج عادة تحمل النساء وهنّ حاضنات الإمتداد الإنساني بنوعه في ولادتهنّ ، ليعلن الشاعر جدلية الإنتصار ويكون الحداء مفعماً ونابضاً بالحياة فهو ينطق بكلام له نداوة العشب المشتعل بالحنين للنمو والولادة في تقابل آخر مع الريح ، وتكتمل صورة القافلة التي تواجه الريح في تشكّل الموقف أمام ضياع السنين في لملمة شتات الأرواح لمواجهة الأسئلة المصيرية ( يموتون يحيون ) والسؤال الأخير ( ينطفئون ) والإنطفاء يعني موت النور أو موت النهار أمام الريح في جدل آخر بين ( النار والهواء ) لكن الحكايا تؤكد طقوسها وإنكشاف وعودها بالنَمَاء المتشكّل من الفرات والإخضرار الحسيني المتحرك حركتين : حركة قدوم الى الحياة المنطلقة الى الشهادة ، وحركة ذهاب بالدم والظمأ الى الخلود الأبدي التي لا تستطيع المرايا الصدئة أن تعكسه ، وهي لو عكسته ـ جدلا ـ فذلك مساء لفعل الحرث السلبي المشوه لا الايجابي المساوق لفكرة النماء ، كل ذلك في تعبيريه حديثة مكثفة مثل ( حرثته مرايا الصدا ) ! .

في المقطع الرابع ستكون هناك حركة مرورية للمساء الذي يتلهف الى مصرع الوهج والينابيع أي مصرع النور والماة فيرى الماء وهو أصل الخلق ( وجعلنا من

الصفحة 321

الماء كل شي حي ) يراه مغسولاً برماد الفجيعة ونلاحظ هنا تركيب ( رماد المياه ) حيث العلاقة بين عناصر ثلاث من العناصر الأربعة فالرماد هو جدل ( النار ـ التراب ) وهو هنا خاص بالمياه فتتواشج العناصر الثلاثة ( النار ـ التراب ـ الماء ) في علاقة غائبة مع العنصر الرابع ( الهواء ) الذي عادلته الريح أو الغبار الراجع في المقطع الخامس ليوغل كالليل ويدور على الأرض فتشتبك ملامحه مع النخيل الذي هو الرمز الواقعي للعطاء في الارض التي قُتل فيها النهار لبمر على النهر وهو رمز آخر عن واقع الأرض يحدد جغرافيتها ويستدير ليشهد موت النهار....

الإيحاء والإيماء والرمز كطرق للتعبير تواصلت في تصوير ليلة عاشوراء باسلوب فني فذّ لا يمتّ للتسجيل الواقعي والتوثيق التأريخي بأدنى صلة ، فالنهار كان رمزاً للإمام الحسين عليه السلام به تنفتح بوابات النص أمام المتلقي الذي يواجه أحد أفضل النصوص التي تناغمت مع ليلة عاشوراء.

الصفحة 322

23 ـ الشيخ قاسم آل قاسم (1)

بكائية كربلاء

يـومُ الـحسين تـناهى ذكـره ألما      لـو  أنصف الدمعُ فيه لاستحال iiدما
بـكت عـلى رزئه الدنيا وما iiفتِئتْ      حتى اليراعُ إذا خطّ ( الحسين ) هما
يـظل يـمتد في عُمق الزمان iiلظىً      يُـثير بـركانُها فـي قـلبه iiالحمما
يُـذكّي لـهيبَ رزايا الطفّ iiذاكرُها      كـأن قلب الهوى يسلو إذا iiاضطرما
تـغيّرت صـور الأشياء يومَ iiقضى      كـأنّـها قـتـلتهُ فـانطوت iiنـدما
تـبثّ  آهـاتِها خـلفَ الترابِ iiوقد      غـالته  غـائلةٌ واسـتهدفته iiدُمـى
وطـالـما بـثّها أحـزانَه iiسـحراً      فـي الطفّ يُبدي لها من دهره iiسأما
أنـا  الحسينُ الذي أوصى النبيُّ iiبه      فـأين  ضاعت وصاياه وما رَسما ؟
أنـا الـحسينُ واُمّـي فـاطمٌ iiوأبي      كـان  الإمـامَ الوصيَّ المُفردَ العلما
أنـا الـحسينُ ، فقالت زينبٌ iiوكفى      بـذكركَ الخير يا أعلى الورى iiقِدما
فـقال  يـا أخت ماذا جدّ من iiحدثٍ      حتى  أموت غريب الدار مهتضما ii؟
مـاذا جنيتُ ؟ فقالت يا أخي iiوبكت      لأنـك  ابـن عـليٍّ والمصابُ iiنما
فـقلّبَ  الـسيفَ في كفّيهِ iiوارتعدتْ      يـدُ  الـسماءِ وناداها : وهل أثِما ؟

____________

(1) هو : الشاعر الفاضل الشيخ قاسم بن عبدالشهيد بن علي آل قاسم ، ولد في القديح ـ القطيف سنة 1382 هـ ، حاز على الشهادة الثانوية العامة ( القسم العلمي ) وإبتدأ دراسته الحوزوية في القطيف عام 1407 هـ ثم غادرها إلى قم المقدسة عام 1412 هـ حيث يحضر الآن مرحلة البحث الخارج ، ومن نتاجه الأدبي : 1 ـ ديوان شعر ( مخطوط ) ، ومن نتاجه العلمي : 2 ـ بحث في نشأة اللغة وحقيقة الوضع ، وله مشاركة في النوادي الثقافية والدينية.
 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةأعلى