ثورة أبي السرايا : من أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) ثورة أبي السرايا التي استهدفت القضايا المصيرية لجميع الشعوب الإسلامية ، فقد رفعت شعار الدعوة إلى ( الرضا من آل محمّد (عليه السلام) ) الذين كانوا هم الأمل الكبير للمضطهدين والمحرومين ، وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة العبّاسية ، فقد استجاب لها معظم الأقطار الإسلامية ، فقد كان قائدها الملهم أبو السرايا ممّن هذّبته الأيام ، وحنّكته التجارب ، وقام على تكوينه عقل كبير ، فقد استطاع بمهارته أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ويجعلهم قادة في جيشه ، ممّا أوجب اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى تأييد ثورته والانضمام إليها إلاّ أنّ المأمون قد استطاع بمهارة سياسية فائقة أن يقضي على هذه الحركة ، ويقبرها في مهدها ، فقد جلب الإمام الرضا (عليه السلام) إلى خراسان ، وأرغمه على قبول ولاية العهد ، وأظهر للمجتمع الإسلامي أنّه علوي الرأي ، فقد رفق بالعلويّين ، وأوعز إلى جميع أجهزة حكومته بانتقاص معاوية والحطّ من شأنه ، وتفضيل الإمام أمير المؤمنين على جميع صحابة النبيّ (صلى الله عليه وآله) فاعتقد الجمهور أنّه من الشيعة واستطاع بهذا الاُسلوب الماكر أن يتغلّب على الأحداث ويخمد نار الثورة[1]. لقد عاش الإمام أبو جعفر محمّد الجواد (عليه السلام) معظم حياته في عهد المأمون، ولم يلبث بعده إلاّ قليلاً حتى وافاه الأجل المحتوم . . ويرى بعض المؤرّخين أنّ المأمون كان يكنّ له أعظم الودّ وخالص الحبّ ، فزوّجه من ابنته اُمّ الفضل ، ووفّر له العطاء الجزيل ، وكان يحوطه ، ويحميه ويخشى عليه عوادي الدهر ، ويضنّ به على المكروه ، وكان يصرّح أنّه يبغي بذلك الأجر من الله ، وصلة الرحم التي قطعها آباؤه ، وفيما أحسب أنّ ذلك التكريم لم يكن عن إيمان بالإمام أو إخلاص له ، وإنّما كان لدوافع سياسية نعرض لها في المباحث الآتية . وعلى أيّة حال فلابدّ لنا من وقفة قصيرة لدراسة حياة المأمون ، والوقوف على اتّجاهاته الفكرية والعقائدية ، والنظر فيما صدر منه من تكريم للإمام (عليه السلام) فإنّ ذلك ممّا يرتبط ارتباطاً موضوعيّاً بالبحث عن حياة الإمام أبي جعفر (عليه السلام).
عبدالله المأمون: نزعاته وسياسته عبدالله المأمون هو أبو العباس بن هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس ، ولد بالياسرية في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول سنة ( 170 هـ ) وبويع له بمرو فتوجه الى بغداد وقدمها وعمره اذ ذاك تسع وعشرون سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام . واُمّه ام ولد تسمّى مراجِل . من أبرز نزعات المأمون وصفاته: 1 ـ الدهاء : لم يعرف العصر العبّاسي من هو أذكى من المأمون ، ولا من هو أدرى منه في الشؤون السياسية العامّة فقد كان سياسياً من الطراز الأوّل ، حتّى استطاع بحدّة ذكائه ، وقدراته السياسية أن يتغلّب على كثير من الأحداث الرهيبة التي ألمّت به ، وكادت تطوي حياته ، وتقضي على سلطانه ، فقد استطاع أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتّع بتأييد مكثّف من قِبل الاُسرة العبّاسيّة ، والسلطات العسكرية ، كما استطاع أن يقضي على أعظم حركة عسكرية مضادّة له ، تلك ثورة أبي السرايا التي اتّسع نطاقها فشملت الأقاليم الإسلامية حتى سقط بعضها بأيدي الثوار ، وكان شعار تلك الثورة الدعوة إلى الرضى من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) فحمل الإمام الرضا(عليه السلام) إلى خراسان ، وكان(عليه السلام) زعيم الاُسرة العلويّة وعميدها ، فأرغمه على قبول ولاية العهد ، وعهد إلى جميع أجهزة حكومته بإذاعة فضائله ومآثره ، كما ضرب السكّة باسمه ، فأوهم بذلك على الثوار والقوى الشعبية المؤيّدة لهم أنّه جادّ فيما فعله، حتى أيقنوا أنّه لا حاجة إلى الثورة وإراقة الدماء بعد أن حصل الإمام(عليه السلام) على ولاية العهد، وقضى بذلك على الثورة ، وطوى معالمها ، وهذا التخطيط كان من أروع المخطّطات السياسية التي عرفها العالم في جميع مراحل التاريخ . 2 ـ القسوة : وانعدام الرحمة والرأفة من آفاق نفسه هي صفة اُخرى له ، والذي يدعم ذلك فهو قتله لأخيه حينما استولت عليه قوّاته العسكرية ، ولو كان يملك شيئاً من الرحمة لما قتل أخاه . كما أنّه قابل العلويّين بعد قتله للإمام الرضا (عليه السلام) بمنتهى الشدّة والقسوة ، فعهد إلى جلاّديه بقتلهم والتنكيل بهم أينما وجِدوا . 3 ـ الغدر : فقد بايع للإمام الرضا (عليه السلام) بولاية العهد ، وبعد ما تحققت مآربه السياسية دسّ إليه السمّ فقتله ليتخلّص منه . 4 ـ ميله إلى اللهو : أمّا الميل إلى اللهو فقد أقبل عليه بنهم وفيما يلي بعض ما أثر عنه : لعبه بالشطرنج : ولم يكن شيء من الملاهي أحبّ إلى المأمون من الشطرنج[2] فقد هام في هذه اللعبة وقد وصفها بهذه الأبيات : أرض مربّعة حمراء من أدم***ما بين الفين موصوفين بالكرم تذاكرا الحرب فاحتلالها شبهاً***من غير أن يسعيا فيها بسفك دم هذا يغير على هذا وذاك على***هذا يغير وعين الحرب لم تنم فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركة***في عسكرين بلا طبل ولا علم[3] وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج ، ولعلّه أسبق من نظم فيه الشعر الذي أحاط بأوصافه ، وكان أبوه الرشيد مولعاً بالشطرنج ، وقد أهدى إلى ملك فرنسا أدواته ، وتوجد حالياً في بعض متاحف فرنسا . ولعبه بالموسيقى : وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى ، وكان له هوى شديد في ذلك وكان معجباً كأشدّ ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي ، الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي ، وقد قال فيه : كان لا يغنّي أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان[4]. وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود ، ولم يمرّ اسم الله ولا ذكره في قصوره ولياليه . 5 ـ تظاهره بالتشيّع : لقد تظاهر المأمون بالتشيّع ، حتى اعتقد الكثيرون أنّه من الشيعة ; لأنّه قام بما يلي : أ ـ ردّ فدك للعلويّين : بعد أن صادرتها الحكومات السابقة عليه وكان قصدها إشاعة الفقر بين العلويّين ، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم حتى يشغلهم الفقر والبؤس عن مناهضة اُولئك الحكّام ، وقد أنعش المأمون العلويّين ، ورفع عنهم تلك الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم ، واعتبر البعض هذا الإجراء دليلاً على تشيّعه . ب ـ تفضيل الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) على الصحابة : وقام المأمون بإجراء خطير فقد أعلن رسمياً فضل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) على عموم الصحابة كما أعلن الحطّ من معاوية بن أبي سفيان . وكان هذا الإجراء من أهمّ المخطّطات التي تُلفت النظر إلى تشيّعه ، فقد جرى سلفه على انتقاص الإمام (عليه السلام)، والحطّ من شأنه ، وتقديم سائر الصحابة عليه . ج ـ ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) : حيث قيل إنّ معناها أنه قد أخرج بذلك الخلافة من العبّاسيّين إلى العلويّين . ويلاحظ على كل هذه الظواهر أنه إنّما صنع الاُمور المتقدّمة تدعيماً لسياسته وأغراضه ، ويدلّ على ذلك ما يلي : أوّلاً : إنّه كان مختلفاً كأشدّ ما يكون الاختلاف مع الأسرة العبّاسية الذين كانت ميولهم مع أخيه الأمين لأنّ اُمّه زبيدة كانت من أندى الناس كفّاً ، ومن صميم العبّاسيّين ، أمّا اُمّ المأمون فهي مراجل ، وكانت من إماء القصر العبّاسي ، وكان العبّاسيّيون ينظرون إليه نظرة احتقار باعتبار اُمّه ، فأراد المأمون بما أظهره من التشيّع ارغام اُسرته الذين كانوا من ألدّ الأعداء لآل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشيعتهم . ثانياً : إنّه أراد كشف الشيعة ، ومعرفة السلطة بهم بعدما كانوا في الخفاء، ولم تستطع الحكومات العبّاسية معرفتهم والوقوف على أسمائهم وخلاياهم ، فأراد المأمون بما صدر منه من إحسان لهم أن يكشفهم ، وقد دلّت على ذلك بعض الوثائق الرسمية التي صدرت منه . ثالثاً : إنّه أراد القضاء على الحركة الثورية التي فجّرتها الشيعة بقيادة الزعيم الكبير أبي السرايا ، فرأى المأمون أن خير وسيلة للقضاء عليها وشلّ فعّاليّاتها هو الإحسان إلى الشيعة[5].
وقفة عند سلوك المأمون ونزعاته : كانت حياة المأمون ـ قبل توليه الخلافة ـ حياة جد ونشاط وتقشف ، على العكس من أخيه الأمين، الذي كان يميل الى اللعب والبطالة اكثر منه الى الجد والحزم . ولعل سرّ ذلك يعود الى أن المأمون لم يكن كأخيه ، يشعر بأصالة محتده، ولا كان مطمئناً إلى مستقبله، والى رضا العبّاسيين به ، بل كان يقطع بعدم رضاهم به خليفةً وحاكماً ، ولهذا فقد وجد انه ليس لديه أي رصيد يعتمد عليه غير نفسه، فشمر عن ساعد الجد وبدأ يخطط لمستقبله منذ أن ادرك واقعه ، والمميزات التي كان يتمتع بها أخوه الأمين عليه . ويُلاحظ انه كان يستفيد من أخطاء أخيه الأمين وان الفضل عندما رأى اشتغال الأمين باللهو واللعب ، أشار على المأمون بإظهار الورع والدين ، وحسن السيرة ، فأظهر المأمون ذلك ... وكان كلما اعتمد الأمين حركة ناقصة اعتمد المأمون حركة شديدة. ومن هنا يتبيّن السرّ فيما يبدو من رسالته للعبّاسيين، حيث نصب فيها نفسه واعظاً تقيّاً ، وأضفى عليها هالة من الورع والزهد في الدنيا والالتزام بأحكام الشريعة، ليروه ويراه الناس نوعية اخرى تفضل على نوعية أخيه الأمين . وقد برع المأمون في العلوم والفنون حتى فاق أقرانه ، بل فاق جميع خلفاء بني العباس ، فإنه لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون[6]. وهو أعلم الخلفاء بالفقه والكلام[7]. وكل مَن تعرّض من المؤرخين وغيرهم ، لشرح حال المأمون ، قد شهد له بالتقدم ، وبأنه رجل خلفاء بني العباس وواحدهم[8]. وما يهمنا هنا ، هو مجرد الاشارة الى حال المأمون ، وما كان عليه من الدهاء والسياسة وحسن التدبير . وبالرغم من جدارة المأمون فيما اذا قورن الى أخيه الأمين باعتراف أبيه الرشيد بذلك، لكن الرشيد قد اعتذر عن إسناده الأمر إلى الأمين بأن العبّاسيين لا يرضون بالمأمون خليفة[9]. ويرى بعض المؤرخين أنّ السرّ في عدم رضا العبّاسيين بالمأمون يرجع الى ان الأمين كان عبّاسيّاً ، بكل ما لهذه الكلمة من معنى فأبوه : هارون ، وأمه زبيدة حفيدة المنصور... وكان في كنف الفضل بن يحيى البرمكي أخي الرشيد من الرضاعة واعظم رجل نفوذاً في بلاط الرشيد ، وكان يشرف على مصالحه الفضل بن الربيع ، العربي الذي لم يكن ثمّة من شك في ولائه للعبّاسيين . أمّا المأمون فقد كان في كنف جعفر بن يحيى ، الذي كان اقل نفوذاً من أخيه الفضل . وكان مؤدبه والذي يشرف على مصالحه ذلك الرجل الذي لم يكن العباسيون يرتاحون اليه . . لأنه كان متهماً بالميل الى العلويين . . . أما اُم المأمون فخراسانية غير عربية...[10].
التحدّيات التي واجهت حكم المأمون وموقفه منها لقد جابه حكم المأمون تحديات خطيرة كانت تهدد كيانه وكادت تعصف به، وكان بقاؤه في السلطة يحتاج الى الكثير من الدهاء. وأهمّ ما كان يواجه المأمون ما يلي: 1 ـ تحرك الشيعة ضده وكان تحركاً عنيفاً، وكانت ثورة أبي السرايا التي عمّت الكثير من الحواضر الاسلامية آنذاك نموذجاً له . 2 ـ تكتل العائلة العباسية ضد المأمون ووقوفها الى جانب الأمين أولاً ، ثم عزلها له وتعيين عمه ابراهيم بن المهدي بعد ذلك . 3 ـ تحركات الخوارج والفئات المناوئة الاُخرى . 4 ـ وجود المخاطر الخارجية من جانب الدول المتربصة بالدولة الاسلامية ، خصوصاً الدولة البيزنطية . وأمام هذه التحديات قام المأمون بما يلي: أولاً ـ تصفيته لتحرك أخيه الأمين والقوى المتحركة القوية ضده . ثانياً ـ القيام بلعبة تولية الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية العهد بالإكراه ليصوّر للاُمة انه مع القيادة الشرعية وانه نقل الحكم اليها وهذا من شأنه أن يقلل من الروح الثورية للاُمة باتجاه اقامة الحكم بقيادة أهل البيت (عليهم السلام) . ثالثاً ـ محاربة وتصفية ثورات العلويين . رابعاً ـ التصفية الجسدية للإمام الرضا (عليه السلام) بعد انتهائه من تصفية الثورات الخطيرة . خامساً ـ التوجّه الى بغداد للقضاء على معارضة البيت العباسي . سادساً ـ تصفية مراكز القوى في الدولة باتجاه تعزيز قوته ووضعه . سابعاً ـ اشاعة فتنة خلق القرآن لإشغال الناس بها عمّا يهمّهم .
|
|