فهرس الكتاب

مكتبة الإمام الجواد (ع)

 

حقيقة العلاقة بين الإمام (عليه السلام) والمأمون

بعد استعراضنا لقضية زواج الإمام (عليه السلام) من بنت المأمون وبيان ملابساتها وما دار خلالها من نقاش وسجال وحوار ، نسجل الملاحظات الآتية لبيان الثغرة في علاقة المأمون العباسي بالإمام الجواد (عليه السلام) .

1 ـ كان المأمون يدرك جيداً ان الجواد (عليه السلام) هو الوارث الحقيقي لخط الإمامة وهو القائد الشرعي لاُمة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لذلك تعامل في تخطيطه السياسي معه تعاملاً جادّاً بصفة ان الإمام (عليه السلام) كان قطباً مهماً من اقطاب الساحة السياسية الإسلامية وقائداً مطاعاً من قبل الطليعة الواعية في الاُمة مع ما يمتلكه من مكانة واحترام في نفوس قطّاعات واسعة من الاُمة .

وقد اعلن المأمون تصوره هذا أمام العباسيين عندما قالوا له :

يا امير المؤمنين أتزوج ابنتك وقرة عينك صبياً لم يتفقه في دين الله ؟ ولا يعرف حلاله من حرامه؟ ولا فرضاً من سنة ؟ ولابي جعفر (عليه السلام) اذ ذاك تسع سنين، فلو صبرت له حتى يتأدب ويقرأ القرآن ويعرف الحلال من الحرام .

فقال المأمون : «انه لأفقه منكم واعلم بالله ورسوله وسنته واحكامه ، وأقرأ لكتاب الله منكم وأعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وظاهره وباطنه وخاصه وعامه وتنزيله وتأويله ، منكم». لذلك لابدّ أن يكون المأمون مع الإمام الجواد(عليه السلام) مخططاً له بعناية وحنكة . وهذا يفسر البعد الضخم الذي اكتسبه زواج الجواد(عليه السلام) من بنت المأمون ومدى اهتمام المأمون به من قبل القوّاد والحجّاب والخاصّة.

2 ـ على أساس النقطة السابقة فقد تظاهر المأمون بحبه وتقديره للإمام الجواد (عليه السلام) طالباً بذلك  :

أ ـ كسب الجماهير المسلمة الموالية لأهل البيت (عليهم السلام) بصفته من الموالين والمكرمين لآل الرسول ، وهو نظير ما يقوم به السياسيون المعاصرون من رفعهم للشعارات التي تطمح الاُمة الى تحقيقها .

ب ـ التغطية على جريمة قتله للإمام الرضا (عليه السلام) ، وذلك باظهار الحب والشفقة والاحترام لولده الجواد (عليه السلام) وبهذا التصرف استطاع المأمون ان يخدع الرأي العام .

3 ـ كانت علاقة المأمون بالجواد (عليه السلام) كعلاقته السابقة مع أبيه الإمام الرضا (عليه السلام) ، تنطوي على  اغراض سياسية أي انه كان ظاهرها حسناً جميلاً وباطنها يتضمّن النيّة الشريرة والمكر السيئ !!

لقد كاد المأمون للإمام الجواد (عليه السلام) ، ولكنه لم يستطع تحقيق أغراضه في الانتقاص منه واسقاطه ، فكانت آخر محاولة له مع الجواد هي تزويجه لبنته ، فقد روي في الكافي :

عن محمد بن الريّان أنّه قال : «احتال المأمون على أبي جعفر (عليه السلام) بكل حيلة ، فلم يمكنه فيه شيء فلما اعتلّ وأراد ان يبني عليه ابنته دفع الى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون الى كل واحدة منهن جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر (عليه السلام) اذا قعد في موضع الأخيار فلم يلتفت اليهن وكان رجل يقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب ، طويل اللحية فدعاه المأمون ، فقال : يا امير المؤمنين ان كان في شيء من امر الدنيا فأنا اكفيك أمره ، فقعد بين يدي أبي جعفر (عليه السلام) فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه اهل الدار ، وجعل يضرب بعوده ويغنّي ، فلما فعل ساعة واذا أبو جعفر لا يلتفت اليه يميناً ولا شمالاً ، ثم رفع اليه رأسه وقال : اتق الله يا ذا العثنون . قال : فسقط المضراب من يده والعود ، فلم ينتفع بيديه الى ان مات ، قال : فسأله المأمون عن حاله فقال : لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا اُفيق منها أبداً»[1].

يتجلّى لنا من هذه الرواية انّ المأمون احتال بكل حيلة لاظهار عدم صلاحية الإمام الجواد(عليه السلام) للإمامة والقيادة أمام الناس وأنه أولى منه بالخلافة والقيادة ، لكنه فشل في ذلك مما اضطرّه لتجريب اسلوب آخر يحتوي به حركة الإمام، وذلك بتزويجه إبنته. على أنّ هذا الزواج كان تحديداً للإمام وليس إكراماً له، كما أنه قد كشف عن واقعه مآله وعاقبته التي تجلّت في اغتيال اُم الفضل للإمام الجواد(عليه السلام)، كما سيأتي تفصيله.

أمّا توجّهات قاضي القضاة ابن اكثم في التصدي لإحراج الإمام بالأسئلة الصعبة فما كانت إلاّ بدافع من المأمون، والرواية الآتية تدل على ذلك :

قال المأمون ليحيى بن اكثم : اطرح على أبي جعفر محمد بن علي الرضا(عليهما السلام) مسألة تقطعه فيها . فقال : يا أبا جعفر ، ما تقول في رجل نكح امرأة على زنا ايحل ان يتزوجها ؟ فقال(عليه السلام): « يدعها حتى يستبرئها من نطفته ونطفة غيره ، اذ لا يؤمَن منها ان تكون قد احدثت مع غيره حدثاً كما احدثت معه . ثم يتزوج بها إن اراد ، فانما مثلها مثل نخلة اكل رجل منها حراماً ثم اشتراها فأكل منها حلالاً». فانقطع يحيى[2].

ولكن دهاء المأمون وحنكته السياسية جعلاه يظهر الفرح عندما يجيب الإمام الجواد (عليه السلام) على المشكلات من المسائل فتظهر توجهات ابن اكثم وكأنها توجهات فردية . وهذا لون من ألوان السياسة المتبعة حتى الآن وهي ان القائد يُظهر الودّ لجهة ما ، لكنه يأمر اتباعه وأذنابه بمحاربة تلك الجهة .

وإذا انطلت هذه الاحابيل على البسطاء فإنها لم تنطل على الموالين للامام (عليه السلام) ففي رواية نقلها الكليني تفيد ان بعض الاوساط السياسية آنذاك كانت غير منخدعة بتزويج المأمون ابنته للامام الجواد (عليه السلام) بل كانت تحتمل وجود مكيدة سياسية خلف العملية . فعن محمد بن علي الهاشمي قال :

«دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) صبيحة عرسه حيث بنى بابنة المأمون ـ  وكنت تناولت من الليل دواء ـ فأول من دخل عليه في صبيحته أنا وقد أصابني العطش وكرهت ان ادعو بالماء ، فنظر أبو جعفر (عليه السلام) في وجهي وقال : «اظنك عطشان ؟» فقلت : أجل .

فقال : ياغلام ـ او ياجارية ـ اسقنا ماءً . فقلت في نفسي : الساعة يأتونه بماء يسمّونه به ، فاغتممت لذلك ، فأقبل الغلام ومعه الماء ، فتبسم في وجهي ، ثم قال : ياغلام ناولني الماء ، فتناول الماء فشرب ، ثم ناولني فشربت ، ثم عطشت أيضاً وكرهت ان ادعو بالماء ، ففعل ما فعل في الاولى ، فلمّا جاء الغلام ومعه القدح قلت في نفسي مثل ما قلت في الاولى ، فتناول القدح ثم شرب ، فناولني وتبسم»[3].

فلقد كان هذا الهاشمي يتوقّع اغتيال الإمام (عليه السلام) في ظلّ العداء الذي يكنّه المأمون وجهازه الحاكم للامام (عليه السلام) ، لذلك اغتمّ عندما طلب الإمام(عليه السلام) الماء .

 

السبب في تزويج المأمون ابنته للإمام الجواد(عليه السلام)

انّ هذا الزواج اضافة لما سيحققه من دعاية للمأمون تُظهر حبّه وولاءه لأهل البيت (عليهم السلام) ، فإنّ ثمة سبباً آخر نرجّحه على غيره ونراه السبب الأساس وهو وضع الجاسوس والرقيب الخاص على الإمام (عليه السلام) يلازمه في بيته، يحصي عليه سكناته وحركاته ويرفعها الى الجهة التي زرعته وهكذا كانت اُمّ الفضل ابنة المأمون العبّاسي مع الإمام الجواد (عليه السلام) .

 

موقف العباسيين :

اتّسم موقف العباسيين بالحقد والتعصب والسذاجة . فقد استاؤوا مما تصوروه من تساهل المأمون مع الإمام (عليه السلام) فقد كانت المظاهر تؤثر عليهم كثيراً ، دون ادراكهم البعد العميق والحقيقي الذي كان يقصده المأمون وقد استفاد المأمون من وضعهم هذا عندما راح يفنّد مزاعمهم فيظهر وكأنه موال حقيقةً لأهل البيت (عليهم السلام) .

 

موقف الإمام الجواد (عليه السلام) من ابن الأكثم :

لقد تصدى الإمام (عليه السلام) للرد على ابن الأكثم واظهار عجزه أمام الناس للأسباب الآتية .

أ ـ اثبات إمامته وعلمه أمام الناس في وقت راحت الجهات المعادية تشن حملة إعلامية شديدة على الإمام بادعائها انه(عليه السلام) لا يفقه من الدين شيئاً وذلك لصغر سنه .

ب ـ ان تفنيده وإفحامه لابن الأكثم كان يعتبر تفنيداً وإفحاماً للنظام الحاكم باعتبار أنّ ابن الأكثم عالم المأمون وقاضي قضاته .

ج ـ تثقيف الناس وكشف العلم الصحيح لهم من خلال الاجابات على اسئلته .

 

مدة إمامة الجواد(عليه السلام) في عهد المأمون :

استلم الإمام الجواد (عليه السلام) منصب الامامة ونهض بأعباء قيادة الاُمة سنة (203 هـ ) بعد شهادة أبيه الإمام الرضا (عليه السلام) ، وكان المأمون قد تسنّم منبر الخلافة وقتذاك . وتوفي المأمون سنة ( 218 هـ ) بالبدندون من اقصى الروم ونقل إلى طوس فدفن فيها[4].

وبذلك يكون الإمام الجواد (عليه السلام) قد قضى خمس عشرة  سنة من إمامته التي استمرت سبع عشرة سنة في خلافة المأمون، وهذا يعني أنّ أغلب سنوات إمامته كانت في فترة حكم المأمون .

 

2 ـ المعتصم العباسي

المعتصم هو أبو اسحاق محمد بن هارون الرشيد ولد سنة ثمانين ومائة ، كذا قال الذهبي . وقال الصولي : في شعبان سنة ثمان وسبعين .

واُمه اُم ولد من مولدات الكوفة اسمها ماردة وكانت أحظى الناس عند الرشيد . وكان ذا شجاعة وقوة وهمّة وكان عرياً من العلم ، لقب بالمعتصم وهو ابعد ما يكون من الاعتصام بالله عزوجل .

وكان فاسد الاخلاق له غلام يقال له عجيب وكان مشغوفاً به .

وقد استمر على نهج أخيه في اثارة فتنة خلق القرآن . فسلك ما كان المأمون عليه وختم به عمره من امتحان الناس بخلق القرآن ، فكتب الى البلاد وأمر المعلمين ان يعلّموا الصبيان ذلك وقاسى الناس منه مشقة في ذلك وقتل عليه خلقاً من العلماء ، وضرب الإمام احمد بن حنبل وكان ضربه في سنة عشرين . قيل فجلده حتى غاب عقله وتقطع جلده وقيده وحبسه[5] .

لقد كان المعتصم محدود التفكير ميالاً للقسوة في تعامله مع خصومه السياسيين وغيرهم ، وكان يفتقد كثيراً من مقومات الحنكة السياسية في ادارة شؤون الدولة ، وقد تعرّض حكمه لكثير من صور الاضطرابات السياسية في اقاليم عديدة من الدولة العباسية . [6]

وقد هيمن الجيش على الحكم في عصره بعد ان مال المعتصم الى اخواله الاتراك وكوّن منهم جيشاً خاصاً ، واغدق عليهم الاموال الطائلة مما اثار حفيظة العسكريين العرب ، واثار النزعة القومية في المجتمع .

وتعتبر سياسة المعتصم هذه اخطر ما واجهته الدولة العباسية في مسيرتها . وقد ساءت الاحوال بعد المعتصم ، واستشرى خطر العسكريين في الدولة وقاموا بالانقلابات العسكرية على الخلفاء الذين حاولوا تقليص سلطاتهم .

 

المعتصم والطليعة الاسلامية الواعية :

على خلفية الخلاف العقائدي الشديد بين ائمة أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم المؤمنين من جهة والخلافة العباسية واتباعها من جهة اخرى ، استمر العداء بين الخطين وان اتخذ في كل فترة لوناً أو درجة من الشدة ، ولم يكن المعتصم بمنفصل عن سياسة أسلافه المعادين لأهل البيت(عليهم السلام) وحزبهم .

لقد كاد للاسلام وخطه الصحيح فواجه معارضة شديدة من أهل البيت (عليه السلام) وشيعتهم وسنتناول الانتفاضات التي انطلقت في عصره خلال فصل قادم .

[1] اُصول الكافي : 1 / 494 ـ 495، نقلاً عن حياة الإمام محمد الجواد : ص 228 ـ 229 .

[2] تحف العقول : 454 .

[3] مستدرك عوالم العلوم : 23 / 81 .

[4] تاريخ الخلفاء : 333 ـ 334 .

[5] مجلة دراسات وبحوث : ص 94 .

[6] راجع الكامل لابن الاثير : 5 / 232 ـ 265 : ثورة الطالقان بقيادة محمد بن القاسم العلوي ، وثورة الزط في البصرة ، وثورة بابك الخرمي ، وتحرك الروم الى زبطرة وغيرها من بلاد الاسلام ، وثورة المبرقع في فلسطين وغيرها.