إن مفهوم الإمام والإمامة لم يكن واضحاً عند الطائفة الشيعية بل إنها كانت تتصوّر أن الإمامة مجرد تسلسل نسبي ووراثي ولم تكن تعرف ما هو الإمام وما هي قيمة الإمام وما هي شروط الإمام . وهذا الافتراض يكذّبه واقع التراث المتواتر من أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الإمام الرضا (عليه السلام) عن شروط الإمامة وحقيقتها وعلامات الإمام عند هذه الطائفة بنحو يميّزها عما سواها من الطوائف والمذاهب التي تجعل الامامة منصباً بشرياً لا يصعب لكثير من الناس التسلق إليه وانتحالها وادعائها. بينما قام التشيّع على المفهوم الإلهي المعمّق للإمامة وهو من المفاهيم الاُولى والبديهية للتشيّع ، فإنّ الإمام في المفهوم الشيعي إنسان فذّ فريد في معارفه وأخلاقه وأقواله وأعماله . وهذا المفهوم قد بشّرت به مجموعة كبيرة من عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) الى عهد الإمام الرضا (عليه السلام) . [1] وقد أصبحت كل التفاصيل والخصوصيات بالتدريج واضحة ومرتكزة عند الطائفة الشيعية . يقول الراوي : دخلت المدينة بعد وفاة الإمام الرضا (عليه السلام) أسأل عن الخليفة بعد الإمام الرضا (عليه السلام) . فقيل : إن الخليفة في قرية قريبة من المدينة فخرجت الى تلك القرية ودخلت القرية وكان فيها بيت للامام موسى بن جعفر انتقل الى أولاده . فرأيت البيت غاصّاً بالناس ورأيت أحد إخوة الإمام الرضا (عليه السلام) كان جالساً يتصدّر المجلس إلاّ أن الناس يقولون إن هذا ليس هو الإمام بعد الرضا (عليه السلام) لأننا سمعنا من الأئمة أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين . نعم كل هذه التفاصيل والخصوصيات النسبية والمعنوية كانت واضحة ومحدّدة عند الطائفة . إذاً فهذا الافتراض الثالث أيضاً يكذّبه واقع التراث الثابت والمتواتر عن الأئمة السابقين على الإمام الجواد (عليه السلام) . أن يكون هناك بين أبناء الطائفة الشيعية نوع من التواطؤ على الزور والباطل . وهذا الافتراض أيضاً يكذّبه الواقع . لا لإيماننا الشخصي فقط بورع هذه الطائفة وقدسيّتها ، بل لأن الظرف الموضوعي لهذه الطائفة هو الذي يكذب هذا الافتراض . فإن التشيع لم يكن في يوم من الأيام في حياة هذه الطائفة طريقاً إلى الأمجاد والى المال والجاه والسلطان والمقامات العالية ، بل التشيع طيلة هذه المدّة كان طريقاً الى التعرض للتعذيب والسجون والحرمان والويل والدمار . لقد كان التشيع طريقاً شائكاً مزروعاً بالألغام، فالخوف والتقية والذل كانت هي مظاهر وثمار هذا الطريق فما الفائدة المادية في التواطؤ على هذا الزور والباطل في الإمامة ما دام التشيع ليس سبيلاً لتحقيق أي مطمع مادي أو مطمع دنيوي آنئذ . فلماذا يتواطأعقلاء الطائفة الشيعية ووجهاؤها وعلماؤها على إمامة باطلة مع أن ثباتهم عليها يكلفهم كثيراً من ألوان الحرمان والعذاب ، وأيّ عقل يستسيغ مثل هذه التبعات إذا كان مجرّد تباني على أمر باطل . انّ هذه الظروف الموضوعية ألا تكون شاهداً ودليلاً على أن هذا الاعتقاد إنما كان ناشئاً عن حقيقة ثابتة وملزمة لأبناء الطائفة قد وعوها وآمنوا بها واستسلموا للوازمها وآثارها بالرغم من أنها كانت تكلّفهم حياتهم المادية على طول الخط . اذن لا يبقى إلاّ القبول بالافتراض الأخير وهو أن الإمام الجواد (عليه السلام) بدعواه الإمامة المبكرة وتحدّيه لكل من وقف أمامه ، وصموده أمام كل الإثارات والتساؤلات والاختبارات شكّل دليلاً تأريخياً علمياً قاطعاً على حقّانية دعواه ومذهبه وخطّه وهو خط أهل البيت (عليهم السلام) الذي كان يمثّله الإمام الجواد(عليه السلام) في مجال إمامة المسلمين وزعامة الاُمة الإسلامية التي بدأت بالقيادة النبوية تلك الاُمة التي خلّفها الرسول (صلى الله عليه وآله) لتتكامل وتؤسّس الحضارة الإسلامية على أسس الهية وقيم ربّانية . وإن التراث القيّم الذي تركه لنا هذا الإمام العظيم لدليل قاطع على عظمة الدور الذي قام به هذا الإمام في تبلور العقيدة الشيعية في مجال القيادة الاسلامية التي أكّدتها الآيات القرآنية والنصوص النبوية الشريفة . [2]
3 ـ الإمام الجواد(عليه السلام) والمفاهيم المنحرفة عند الاُمة لم يتخذ الغلو لوناً واحداً بل كانت ثمة الوان متعددة، منها الغلو بالصحابة ، وفي حوار مفتوح للامام الجواد (عليه السلام) مع يحيى بن الأكثم أمام جماعة كبيرة من الناس منهم المأمون العبّاسي فنّد الإمام الجواد(عليه السلام) التوجهات المغالية في شأن الصحابة ، وإليك نص الحديث : «روي ان المأمون بعد ما زوّج ابنته اُمّ الفضل أبا جعفر (عليه السلام) كان في مجلس وعنده أبو جعفر (عليه السلام) ويحيى بن الأكثم وجماعة كثيرة . فقال له يحيى بن الأكثم : ما تقول يابن رسول الله في ا لخبر الذي روي : أنه نزل جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال : يامحمد ! ان الله عزوجل يُقرئك السلام ويقول لك : سل أبا بكر هل هو عنّي راض فإني عنه راض. فقال أبو جعفر (عليه السلام) : «لست بمنكر فضل أبي بكر ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع: قد كثرت عليّ الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار فاذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله عزوجل وسنتي ، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله ، قال الله تعالى : ( ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن اقرب اليه من حبل الوريد )[3]. فالله عزوجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى يسأل عن مكنون سره ، هذا مستحيل في العقول» . ثم قال يحيى بن الأكثم : وقد روي : أن مثل أبي بكر وعمر في الارض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء . فقال (عليه السلام) : «وهذا أيضاً يجب أن ينظر فيه; لأن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقرّبان لم يعصيا الله قط ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، وهما قد أشركا بالله عزّوجلّ وإن أسلما بعد الشرك . فكان أكثر أيّامهما الشرك بالله فمحال أن يشبّههما بهما». قال يحيى : وقد روي أيضاً : أنهما سيدا كهول أهل الجنة. فما تقول فيه ؟ فقال (عليه السلام) : وهذا الخبر محال أيضاً ، لان أهل الجنة كلهم يكونون شبّاناً ولا يكون فيهم كهل وهذا الخبر وضعه بنو اُمية لمضادة الخبر الذي قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحسن والحسين (عليهما السلام) بأنهما « سيدا شباب اهل الجنة » . فقال يحيى بن الأكثم : وروي ان عمر بن الخطاب سراج اهل الجنة . فقال (عليه السلام) : وهذا أيضا محال ، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين ، وآدم ومحمد(صلى الله عليه وآله) ، وجميع الانبياء والمرسلين. لا تضيء بأنوارهم حتى تضيء بنور عمر ؟ ! فقال يحيى بن الأكثم : وقد روي : أن السكينة تنطق على لسان عمر . فقال (عليه السلام) : لست بمنكر فضل عمر ، ولكن أبا بكر أفضل من عمر . فقال ـ على رأس المنبر ـ : إن لي شيطاناً يعتريني ، فإذا ملت فسدّدوني . فقال يحيى : قد روي ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال : لو لم اُبعث لبُعث عمر . فقال (عليه السلام) : كتاب الله أصدق من هذا الحديث ، يقول الله في كتابه : ( واذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) [4] ، فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه ، وكان الانبياء (عليهم السلام) لم يشركوا بالله طرفة عين؟ فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان اكثر أيامه مع الشرك بالله؟! وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « نبّئت وآدم بين الروح والجسد . » فقال يحيى بن الأكثم : وقد روي أيضاً أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال : ما احتبس عنّي الوحي قط الا ظننته قد نزل على آل الخطاب . فقال (عليه السلام) : وهذا محال أيضاً ، لأنه لا يجوز ان يشك النبي(صلى الله عليه وآله) في نبوّته ، قال الله تعالى : ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ) [5] فكيف يمكن ان تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى الى من أشرك به؟! قال يحيى : روي ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال : لو نزل العذاب لما نجى منه إلاّ عمر. فقال (عليه السلام) : وهذا محال أيضاً ، لأن الله تعالى يقول : ( وما كان الله ليعذبهم وانت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) [6] ، فأخبر سبحانه انه لا يعذب أحداً ما دام فيهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) وما داموا يستغفرون الله»[7]. وفي هذا النص شواهد كافية لمدى التحريف الذي سيطر على مجال الحديث والبدع التي اُدخلت على السنّة النبوية الشريفة في عصر الخلافة الاُموية والعباسية، ومدى نفوذها الى واقع الاُمة بالرغم من كونها تخالف النصوص الصريحة للقرآن الكريم. وهذا كاشف عن مدى هبوط مستوى الوعي والثقافة العامة عند علماء البلاط فضلاً عن عامة أتباعهم. وهذا الحوار يكشف لنا عن مدى شجاعة الإمام(عليه السلام) وقوّة منطقه، ودوره الكبير في تصحيح هذه الانحرافات الخطيرة التي تشوّه حقائق الدين من أجل تصحيح أخطاء شخصيات استغلّت شرف الصحبة والصحابة، وقبع الحكام المنحرفون تحت هذه الأقنعة التي نسجت منهم شخصيات وهميّة على مدى التاريخ في أذهان عوامّ علماء المسلمين فضلاً عن أتباعهم.
4 ـ الإمام الجواد(عليه السلام) والتوجّه الى هموم أبناء الاُمة الإسلامية اهتمّ الإمام الجواد (عليه السلام) بخدمة الناس وبدعوتهم الى الاسلام المحمدي الاصيل وكسبهم الى اهل البيت (عليهم السلام) ، ومن امثلة ذلك : 1 ـ لمّا انصرف أبو جعفر (عليه السلام) من عند المأمون ببغداد ومعه اُم الفضل إلى المدينة ، صار إلى شارع باب الكوفة والناس يشيّعونه فانتهى الى دار المسيّب عند مغيب الشمس ، فنزل ودخل المسجد ، وكان في صحنه نبقة لم تحمل بعد ، فدعا بكوز فيه ماء فتوضأ في اصل النبقة وقام وصلّى بالناس صلاة المغرب ، فقرأ في الاُولى « الحمد » و « اذا جاء نصر الله » وفي الثانية « الحمد » و « قل هو الله أحد » وقنت قبل الركوع ، وجلس بعد التسليم هنيئة يذكر الله تعالى ، وقام من غير تعقيب فصلّى النوافل أربع ركعات ، وعقّب بعدها ، وسجد سجدتي الشكر ثم خرج ، فلمّا انتهى الى النبقة رآها الناس وقد حملت حملاً كثيراً حسناً ، فتعجبوا من ذلك ، فأكلوا منها فوجدوه نبقاً حلواً لا عجم له ، ومضى (عليه السلام) الى المدينة [8] . لقد قدّم الإمام الجواد (عليه السلام) للناس الدليل على إمامته (عليه السلام) بالاُمور المحسوسة . علاوة على ذلك فإنّ اهتمام الإمام (عليه السلام) بخدمة الناس يعكس أهميّة هذا الأمر وفضله في الإسلام كما يكشف عن توجّهه (عليه السلام) لكسبهم بطريقة عملية وهدايتهم لاختيار منهج أهل البيت (عليهم السلام) ، ونقتصر على بعض الأمثلة في هذا الصدد . 2 ـ روي عن الشيخ أبي بكر بن اسماعيل أنه قال : «قلت لابي جعفر ابن الرضا(عليه السلام) : ان لي جارية تشتكي من ريح بها ، فقال : ائتني بها فأتيت بها فقال : ما تشتكين ياجارية ؟ قالت : ريحاً في ركبتي ، فمسح يده على ركبتها من وراء الثياب فخرجت الجارية من عنده ولم تشتك وجعاً بعد ذلك »[9] . 3 ـ وروي عن محمد بن عمير بن واقد الرازي أنه قال : «دخلت على أبي جعفر ابن الرضا (عليه السلام) ومعي أخي به بهر شديد فشكى اليه ذلك البهر [10] ، فقال (عليه السلام) : عافاك الله ممّا تشكو ، فخرجنا من عنده وقد عوفي فما عاد إليه ذلك البهر إلى أن مات . 4 ـ قال محمد بن عمير : «وكان يصيبني وجع في خاصرتي في كل اسبوع فيشتد ذلك الوجع بي أيّاماً وسألته ان يدعو لي بزواله عنّي ، فقال : وأنت فعافاك الله فما عاد الى هذه الغاية » .[11] 5 ـ وروي عن علي بن جرير قال : «كنت عند أبي جعفر ابن الرضا (عليه السلام) جالساً وقد ذهبت شاة لمولاة له فأخذوا بعض الجيران يجرّونهم اليه ويقولون : انتم سرقتم الشاة . فقال أبو جعفر (عليه السلام) : ويلكم خلّوا عن جيراننا فلم يسرقوا شاتكم ، الشاة في دار فلان»، فاذهبوا فأخرجوها من داره ، فخرجوا فوجدوها في داره ، واخذوا الرجل وضربوه وخرقوا ثيابه ، وهو يحلف انه لم يسرق هذه الشاة ، الى ان صاروا الى أبي جعفر (عليه السلام) فقال : «ويحكم ظلمتم الرجل فانّ الشاة دخلت داره وهو لا يعلم بها، فدعاه فوهب له شيئاً بدل ما خرق من ثيابه وضربه»[12]. 6 ـ وروي عن القاسم بن الحسن ، أنّه قال : «كنت فيما بين مكة والمدينة فمرّ بي أعرابي ضعيف الحال فسألني شيئاً فرحمته ، فأخرجت له رغيفاً فناولته إيّاه فلمّا مضى عنّي هبّت ريح زوبعة ، فذهبت بعمامتي من رأسي فلم أرها كيف ذهبت ولا أين مرّت ، فلمّا دخلت المدينة صرت الى أبي جعفر ابن الرضا (عليه السلام) فقال لي : «ياأبا القاسم ذهبت عمامتك في الطريق ؟ قلت : نعم ، فقال : ياغلام أخرج اليه عمامته، فأخرج اليّ عمامتي بعينها ، قلت : يا ابن رسول الله كيف صارت اليك ؟ قال : تصدّقتَ على أعرابي فشكره الله لك ، فردّ إليك عمامتك ، وانّ الله لا يضيع أجر المحسنين»[13] . إنّ هذه الأعمال تدلّ على الأهمية الكبيرة التي كان يمنحها أهل البيت (عليهم السلام) لخدمة الناس . ولا يخفى على الناظر المتأمل ما تتركه مثل هذه الأعمال من أثر كبير على الناس باعتبار أنّ لغة العمل هي اللغة الاوضح عند الناس الإمام الجواد (عليه السلام) ومتطلّبات الجماعة الصالحة والأشد تأثيراً عليهم كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كلمته المعروفة عنه : « كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم » . |
|