اقتناء الجواري : وبدل أن يتّجه ملوك بني العبّاس إلى إصلاح البلاد وتنميتها الاقتصادية فقد اتّجهوا بنهم وجشع إلى اقتناء الجواري ، والمغالاة في شرائها ، فقد جلبت إلى بغداد الجواري الملاح من جميع أطراف الدنيا ، فكان فيهنّ الحبشيات ، والروميّات ، والجرجيات ، والشركسيات ، والعربيات من مولدات المدينة والطائف واليمامة ومصر من ذوات الألسنة العذبة ، والجواب الحاضر ، وكان بينهنّ الغانيات اللاتي يعزفن مع ما عليهن من اللباس الفاخر وما يتّخذن من العصائب التي ينظمنها بالدرّ والجواهر ، ويكتبن عليهنّ بصفائح الذهب [1] وقد كان عند الرشيد زهاء ألفي جارية ، وعند المتوكّل أربعة آلاف جارية [2] وقد زار الرشيد في يوم فراغه البرامكة فلمّا أراد الانصراف خرجت جواريهم فاصطففن مثل العساكر صفّين صفّين ، وغنين وضربن بالعود ونقرن على الدفوف إلى أن طلع مقاصير القصر [3] وكان عند والدة جعفر البرمكي مائة وصيفة لباس كلّ واحدة منهنّ وحليّها غير لبوس الاُخرى وحليّها [4] لقد كان اقتناء الجواري بهذه الكثرة من نتائج وفرة المال وكثرته عند هذه الطبقة الرأسمالية التي حارت في كيفيّة صرف ما عندها من الأموال .
التفنّن في البناء : وتفنّن ملوك بني العبّاس
في بناء قصورهم ، فأشادوا أضخم القصور التي لم يشيّد مثلها في
البلاد وقد بنوا في بغداد قصر الخلد تشبيهاً له بجنّة الخلد التي
وعد الله بها المتّقين ، وكان من أعظم الأبنية الأيوان الذي بناه
الأمين ، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه جعله كالبيضة بياضاًثمّ ذهب
بالابريز المخالف بينه باللازورد ، وكان ذا أبواب عظام ومصاريع
غلاظ تتلألأ فيه مسامير الذهب التي قمعت رؤوسها بالجوهر النفيس
وقد فرش بفرش كأنّه صبغ بالدم وقد وبلغ البذخ والترف في ذلك العصر أنّ كثيراً من أبواب الدور في بغداد كانت من الذهب في حين أنّ الأكثرية الساحقة من أفراد الاُمة كانت تشكو الجوع والحرمان . أثاث البيوت : وحفلت قصور العبّاسيّين بأنواع الأثاث وأفخرها في العالم ، ويقول المؤرّخون : إنّ السيّدة زبيدة قد اصطفت بساطاً من الديباج جمع صورة كلّ حيوان من جميع الأجناس ، وصورة كلّ طائر من الذهب ، وأعينها اليواقيت والجواهر يقال إنّها أنفقت على صنعه مليون دينار [7] ، كما اتّخذت الآلة من الذهب المرصّع بالجوهر ، والآبنوس ، والصندل عليها الكلاليب من الذهب الملبّس بالوشي والديباج ، والسمور ، وأنواع الحرير ، كمثل اتّخاذها شمع العنبر ، واصطناعها الخفّ مرصّعاً بالجوهر واتّخاذها الشاكرية [8] . أمّا مجالس البرامكة فكانت مذهلة ، فكان الرشيد إذا حضر مجالس البرامكة وهو بين الآنية المرصّعة والخزائن المجزعة ، والمطارح من الوشي والديباج والجواري يرفلن في الحرير والجوهر ، ويستقبلنه بالروائح التي لا يدري لطيبها ما هي ، خيّل إليه أنّه في الجنّة بين الجمال والجوهر والطيب [9] . الثياب : وكان من نتائج بذخ العبّاسيّين وترفهم ما ذكره ابن خلدون أنّه كانت دور في قصورهم لنسج الثياب تسمّى دور الطراز ، وكان القائم عليها ينظر في اُمور الصنّاع وتسهيل آلاتهم وإجراء أرزاقهم [10] . ألوان الطعام : وتعدّدت ألوان الطعام بسبب تقدّم الحضارة فقد روى طيفور عن جعفر بن محمّد الأنماطي أنّه تغذّى عند المأمون فوضع على المائدة ثلاثمائة لون من الطعام [11] ونظراً لتعدّد ألوان الطعام فقد فسدت أسنانهم ممّا اضطرّهم إلى شدّها بالذهب للعلاج [12] . مخلّفات العبّاسيّين من الأموال : وخلّف ملوك بني العبّاس ووزراؤهم من الأموال ما لا يحصى ، وفيما يلي بعض ما تركوه : 1 ـ ترك الطاغية البخيل المنصور الدوانيقي من الأموال التي سرقها من المسلمين ما يقرب من ستمائة مليون درهم و أربعة عشر مليون دينار[13] وقد كدّس هذه الأموال الهائلة في خزائنه وترك الفقر والبؤس يهيمنان على جميع أنحاء البلاد الإسلامية . 2 ـ خَلّف الرشيد من المال ما يقدّر بنحو تسعمائة مليون درهم [14] . 3 ـ توفّيت الخيزران اُمّ الرشيد ، فكانت غلّتها ألف ألف وستّين ألف درهم [15] . 4 ـ ترك عمرو بن سعدة أحد وزراء المأمون ما يقرب من ثمانية ملايين دينار فأخبروا المأمون بذلك في رقعة فكتب عليها « هذا قليل لمن اتّصل بنا ، وطالت خدمته لنا فبارك الله لولده فيه » [16] . حياة اللهو والطرب: وعاش أكثر خلفاء بني العبّاس عيشة اللهو والطرب والمجون ، عيشة ليس فيها ذكر لله ولا لليوم الآخر ، وقضوا أيامهم في هذه الحياة التافهة التي تمثّل السقوط والانحطاط . وقد روى أحمد بن صدقة قال : دخلت على المأمون في يوم السعانين [17]وبين يديه عشرون وصيفة جلباً روميات مزنرات قد تزيّنّ بالديباج الرومي وعلّقن في أعناقهنّ صلبان الذهب ، وفي أيديهنّ الخوص والزيتون . وكان من مظاهر الحياة اللاهية لعبهم بالنرد والشطرنج ، والعناية بتربية الحمام والمغالاة في أثمانه [18] كما تهارشوا بالديوك والكلاب [19] ولعبوا بالميسر وقد انتشر ذلك حتى في حانات الفقراء [20] . ومن المؤسف أنّ الطرب والمجون قد سرى إلى بعض المحدّثين الذين يجب أن يتّصفوا بالإيمان والاستقامة فقد ذكر الخطيب البغدادي عن المحدّث محمّد بن الضوء إنّه ليس بمحلّ لأن يؤخذ عنه العلم ; لأنّه كان من المتهتّكين بشرب الخمر والمجاهرة بالفجور ، وكان أبو نؤاس يزوره في الكوفة في بيت خمّار يقال له جابر [21] . التقشّف والزهد: وبجانب حياة اللهو والطرب التي عاشها الناس في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فقد كانت هناك طائفة من الناس قد اتّجهت إلى الزهد والتقشّف ونظرت إلى مباهج الحياة نظرة زهد واحتقار ، فكان من بينهم إبراهيم بن الأدهم وهو ممّن ترك الحياة الناعمة وأقبل على طاعة الله وكان يردّد هذا البيت : اتّخذ الله صاحباً***ودع الناس جانبا وكان يلبس في الشتاء فرواً ليس تحته قميص [22] مبالغة منه في الزهد وكان ممّن عُرِف بالتقشّف معروف الكرخي فكان يبكي وينشد في السحر : أي شيء تريد منّي الذنوب***شغفت بي فليس عنّي تغيب ما يضرّ الذنوب لو اعتقتني***رحمةً بي فقد علاني المشيب [23] وكان من زهّاد ذلك العصر بشر بن الحارث وهو القائل : قطع الليالي مع الأيام في خلق***والقوم تحت رواق الـهمّ والقلـــق أحـــرى وأعــذر لـــي من أن يقال غداً***إنّي التمست الغنى من كفّ مختلق قالوا: قنعت بذا ؟ قلت: القنوع غنى***ليس الغنى كثرة الأمــــوال والـــورق رضيت بالله في عسري وفي يسري***فلست أسلك إلاّ أوضح الطرق [24] ومن الطبيعي أنّ هذه الدعوة إلى الزهد إنّما جاءت كرد فعل لإفراط ملوك العبّاسيّين والطبقة الرأسماليّة في الدعارة والمجون وعدم عفافهم عمّا حرّمه الله من الملاهي .وبهذا ينتهي بنا الحديث عن عصر الإمام الجواد(عليه السلام) .[25] الى هنا نكون قد وقفنا على ملامح هذا العصر وخصائصه الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسوف نردفها ببيان طبيعة علاقة حكّام عصر الإمام مع الإمام(عليه السلام) من جهة، ثم ندرس متطلبات هذا العصر على ضوء هذه الملامح وعلى ضوء رسالة الإمام الجواد(عليه السلام) في تلك الظروف التي أحاطت به آخذين بنظر الاعتبار مجمل أهداف الإمام(عليه السلام) باعتباره أحد عناصر أهل بيت الرسالة الذين اُوكلت اليهم مهمة الحفاظ على الرسالة والاُمة المسلمة لإيصالهما الى شاطئ الأمن والسلام الذي نادى به الإسلام ووعد به المؤمنين بل المسلمين فضلاً عن العالَمين. |
|