الفصل الثاني الإمام الجواد (عليه السلام) ومتطلّبات الجماعة الصالحة
1 ـ الإمام الجواد (عليه السلام) يعالج ظاهرة التشكيك بإمامته نهض الإمام الجواد (عليه السلام) بأعباء الإمامة الشرعية للمسلمين وهو لما يبلغ الحلم على نحو ما حدث لعيسى بن مريم(عليه السلام) حيث اُوتي النبوّة في المهد، وقد أوجدت هذه الظاهرة حالة من التساؤل والتشكيك لدى البعض من الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) والمعتقدين بإمامتهم بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، لكن الإمام(عليه السلام) استطاع أن يدحض هذه التشكيكات ويجيب على التساؤلات المعلنة والخفيّة بما اوتي من فضل وعلم وحكمة وحنكة . إن حالة الصبا التي تزامنت مع اضطلاع الإمام (عليه السلام) بأعباء الخلافة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وتصديه لامامة المسلمين في ذلك الوقت المبكّر دفعت ببعض أتباع أهل البيت(عليهم السلام) الى التساؤل والتشكيك . وأما التساؤلات فقد تمّ حسمها بدرجة ما، من خلال الأحاديث والتوجيهات والإشارات التي صدرت عن والده الإمام عليّ الرضا(عليه السلام) وانتشرت بين مقرّبيه ورؤساء القوى الموالية لأهل البيت (عليهم السلام) في البلدان كمصر والحجاز والعراق وبلاد فارس. على أنّ الإمام الجواد(عليه السلام) نفسه قد قام بنشاط واسع لتبديد تلك الشكوك التي اُثيرت بشكل أو بآخر بعد وفاة الإمام الرضا (عليه السلام) وهو ما نفهمه من خلال بعض الروايات الواردة بهذا الشأن، ومنها ما يلي: أ ـ أورد السيد المرتضى (رضي الله عنه) في عيون المعجزات أنّه : لما قبض الرضا (عليه السلام) كان سن أبي جعفر (عليه السلام) نحو سبع سنين ، فاختلفت الكلمة بين الناس ببغداد وفي الأمصار ، واجتمع الريّان بن الصلت ، وصفوان بن يحيى ، ومحمد بن حكيم ، وعبد الرحمن بن الحجّاج ، ويونس بن عبد الرحمن ، وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجاج في بركة زلول ، يبكون ويتوجّعون من المصيبة ، فقال لهم يونس بن عبد الرحمن : دعوا البكاء ! مَن لهذا الأمر والى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا ؟ يعني أبا جعفر (عليه السلام) . فقام اليه الريّان بن الصلت ، ووضع يده في حلقه ، ولم يزل يلطمه ، ويقول له : أنت تظهر الايمان لنا وتبطن الشك والشرك . إن كان أمره من الله جل وعلا فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه ، وان لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحد من الناس ، هذا ممّا ينبغي أن يفكّر فيه .فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبّخه . وكان وقت الموسم ، فاجتمع فقهاء بغداد والأمصار وعلماؤهم ثمانون رجلاً ، فخرجوا إلى الحج ، وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر (عليه السلام) ، فلمّا وافوا أتوا دار جعفر الصادق (عليه السلام) لأنها كانت فارغة ، ودخلوها وجلسوا على بساط كبير، وخرج إليهم عبد الله بن موسى ، فجلس في صدر المجلس وقام مناد وقال : هذا ابن رسول الله فمن أراد السؤال فليسأله . فسئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم . واضطرب الفقهاء ، وقاموا وهمّوا بالانصراف ، وقالوا في أنفسهم : لو كان أبو جعفر (عليه السلام) يكمل لجواب المسائل لما كان من عبدا لله ما كان ، من الجواب بغير الواجب . ففُتح عليهم باب من صدر المجلس ودخل موفّق وقال : هذا أبو جعفر ، فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه فدخل صلوات الله عليه ، وعليه قميصان وعمامة بذؤابتين وفي رجليه نعلان وجلس وأمسك الناس كلهم ، فقام صاحب المسألة ، فسأله عن مسائله ، فأجاب عنها بالحق ، ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له : إن عمّك عبد الله أفتى بكيت وكيت ، فقال : « لا اله الاّ الله ياعمّ إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك : لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم، وفي الاُمة من هو أعلم منك ؟ ! » [1] . ب ـ وروي أنّه جيئ بأبي جعفر (عليه السلام) إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موت أبيه ، وهو طفل ، وجاء إلى المنبر ورقا منه درجة ثم نطق ، فقال : « أنا محمد ابن علي الرضا ، أنا الجواد ، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب ، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون إليه ، علم منحنا به قبل خلق الخلق أجمعين ، وبعد فناء السماوات والأرضين ، ولولا تظاهر أهل الباطل ، ودولة اهل الضلال ووثوب أهل الشك ، لقلت قولاً تعجّب منه الأوّلون والآخرون . . »[2] . ج ـ وقال اسماعيل بن بزيع: سألته ـ يعني أبا جعفر الثاني (عليه السلام) ـ عن شيء من أمر الإمام ، فقلت : يكون الإمام ابن أقلّ من سبع سنين ؟ فقال : «نعم وأقل من خمس سنين »[3] . د ـ قال علي بن أسباط : « رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وقد خرج عليّ فأخذت أنظر إليه وجعلت انظر الى رأسه ورجليه ، لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتى قعد ، فقال(عليه السلام) : ياعليّ ! ان الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة ، فقال : ( وآتيناه الحكم صبياً ) [4] ( ولمّا بلغ اشده ) [5]( وبلغ اربعين سنة ) [6] ، فقد يجوز ان يؤتى الحكمة وهو صبي ويجوز ان يؤتاها وهو ابن اربعين سنة»[7] . إنّ تصدي الإمام الجواد (عليه السلام) لإمامة المسلمين وهو صبي كان معجزة بذاته . وسنتطرق فيما بعد الى ما أظهره من المعارف الإلهية ، وقد ذكرنا نماذج من تحدّيه لكبار الفقهاء ومنهم قاضي قضاة الدولة العباسيّة مع ما كان عليه من كبر السن، ولاشك أنّ ذلك من مصاديق الصفة الإعجازية في الإمام(عليه السلام) ومن الأدلة التي تجسّد مدى علاقته وتؤكد عمق ارتباطه بالله تعالى وقربه منه وحجم الدعم الغيبي الذي كان يحظى به الإمام(عليه السلام) من عند الله عزوجل .
2 ـ الإمام الجواد(عليه السلام) والبناء الثقافي للجماعة الصالحة لقد توخى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تحقيق عزة الاسلام والمسلمين من خلال المواقف والتحركات الحكيمة التي تضمن الوصول الى الهدف المطلوب على احسن وجه . وكان تحرك الإمام الجواد (عليه السلام) ينطلق من هذه الرؤية فكان ذلك التحرك واسعاً ومؤثراً رغم كل الظروف المعرقلة التي أحاطت تحركه وفي هذا المجال نشير الى نماذج من تحرك الإمام (عليه السلام) في الميادين التي كان يتوخى منها إعداد الاُمة وطلائعها إعداداً رسالياً . ومن هذه الميادين :
كان اهتمام الإمام الجواد (عليه السلام) في بناء الجانب العقائدي في شخصية الانسان المسلم واضحاً للناظر في تراثه الذي ورثناه والذي يحتوي على مفردات اساسية تتقوم بها العقيدة ومن ذلك : الإمام والدعوة الى التوحيد الخالص : التوحيد اساس العقيدة الاسلامية ، وسلامة تصورات المسلم عن الله تعالى هي الركيزة الجوهرية التي تستند عليها باقي المفردات العقيدية ، من هنا كان الإمام(عليه السلام) يُعنى عناية شديدة بإيضاح هذا الاساس وتجليته ، وفي المحاضرة التي ألقاها على داود بن القاسم الجعفري دليل على ما قلناه . فقد قال الجعفري : «قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام) : ( قل هو الله أحد ) ، ما معنى: الأحد ؟ قال: المجمع عليه بالوحدانية، أما سمعته يقول : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) [8] ، ثم يقولون بعد ذلك : له شريك وصاحبة . فقلت : قوله : ( لا تدركه الأبصار ) [9] . قال : ياأبا هاشم ! اوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند ، والبلدان التي لم تدخلها ، ولم تدرك ببصرك ذلك ، فأوهام القلوب لا تدركه ، فكيف تدركه الأبصار ؟ ! وسئل (عليه السلام) : أيجوز ان يقال لله : انه شيء ؟ فقال : نعم ، تخرجه من الحدّين : حدّ التعطيل وحدّ التشبيه [10]»[11] . وعن أبي هاشم الجعفري ، قال: «كنت عند أبي جعفر الثاني(عليه السلام) فسأله رجل ، فقال : أخبرني عن الرب تبارك وتعالى له اسماء وصفات في كتابه ؟ وأسماؤه وصفاته هي هو ؟ فقال أبو جعفر(عليه السلام) : «ان لهذا الكلام وجهين : إن كنت تقول : هي هو، اي انه ذو عدد وكثرة ، فتعالى الله عن ذلك . وان كنت تقول : هذه الصفات والأسماء لم تزل ، فإنّ « لم تزل » محتمل معنيين : فان قلت : لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها ، فنعم، وان كنت تقول : لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ الله ان يكون معه شيء غيره . بل كان الله ولا خلق ، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها اليه ويعبدونه وهي ذكره ، وكان الله ولا ذكر ، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل . والاسماء والصفات مخلوقات ، والمعاني والمعني بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف ، وانما يختلف ويأتلف المتجزئ فلا يقال : الله مؤتلف ، ولا الله قليل ولاكثير ، ولكنه القديم في ذاته ، لأن ما سوى الواحد متجزئ ، والله واحد لا متجزئ ، ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزئ او متوهم بالقلة والكثرة ، فهو مخلوق دالّ على خالق له . فقولك : ان الله قدير خبّرت انه لا يعجزه شيء ، فنفيت بالكلمة العجز وجعلتالعجز سواه . وكذلك قولك : عالم انما نفيت بالكلمة الجهل ، وجعلت الجهل سواه ، واذا أفنى الله الاشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع ، ولا يزال من لم يزل عالماً . فقال الرجل : فكيف سمّينا ربنا سميعاً ؟ فقال : لانه لا يخفى عليه ما يدرك بالاسماع ، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس . وكذلك سمّيناه بصيراً لانه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار ، من لون او شخص او غير ذلك ، ولم نصفه ببصر لحظة العين . وكذلك سمّيناه لطيفاً لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك ، وموضع النشوء منها ، والعقل والشهوة للفساد والحدب على نسلها وإقام بعضها على بعض ، ونقلها الطعام والشراب الى اولادها في الجبال والمفاوز والاودية والقفار ، فعلمنا ان خالقها لطيف بلا كيف ، وانما الكيفية للمخلوق المكيّف . وكذلك قويّاً لا بقوة البطش المعروف من المخلوق ، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه ولاحتمل الزيادة ، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان ، وما كان ناقصاً كان غير قديم ، وما كان غير قديم كان عاجزاً . فربّنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضدّ ولا ندّ ولاكيف ولانهايةولا تبصار بصر ، ومحرّم على القلوب أن تمثّله ، وعلى الأوهام ان تحدّه ، وعلى الضمائر ان تكوّنه ، جلّ وعز عن أداة خلقه وسمات بريّته ، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ».[12] . |
|