كيف كانت تكون حاله ؟ وكم من خلل كان يدخل عليه في اموره ومعاشه وتجاربه إذا
لم يحفظ ماله وعليه ، وما أخذه وما أعطى ، وما رأى وما سمع ، وما قال ، وما قيل له
ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساءه ، وما نفعه مما ضره . ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه
مالا يحصى ، ولا يحفظ علما ولو درسه عمره ، ولا يعتقد دينا ، ولا ينتفع بتجربة ، ولا يستطيع
أن يعتبر شيئا على ما مضى ، بل كان حقيقا أن ينسلخ من الانسانية أصلا !
فانظر إلى النعمة على الانسان في هذه الخلال أو كيف موقع الواحدة منها دون
الجميع . وأعظم من النعمة على الانسان في الحفظ ، النعمة في النسيان ! فإنه لو لا النسيان
لما سلا أحد عن مصيبة ، ولا انقضت له حسرة ، ولا مات له حقد ، ولا استمتع بشئ من متاع
الدنيا مع تذكر الآفات ، ولا رجاء غفلة من سلطان ، ولا فترة من حاسد ، أفلا ترى كيف جعل
في الانسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادان ، جعل له في كل منهما ضرب من
المصلحة ؟ ! وما عسى أن يقول الذين قسموا الاشياء بين خالقين متضادين في هذه الاشياء
المتضادة المتبائنة وقد تراها تجمع على ما فيه الصلاح والمنفعة ؟
انظر يا مفضل إلى ما خص به الانسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل
قدره ، العظيم غناؤه ، أعني الحياء ، فلولاه لم يقر ضيف ، ولم يوف بالعدات ، ولم تقض
الحوائج ، ولم يتحر الجميل ، ولم يتنكب القبيح في شئ من الاشياء ، حتى أن كثيرا
من الامور المفترضة أيضا إنما يفعل للحياء ، فإن من الناس لولا الحياء لم يرع حق
والديه ولم يصل ذارحم ، ولم يؤد أمانة ، م ولم يعف عن فاحشة . أفلا ترى كيف وفي
الانسان جميع الخلال التي فيها صلاحه وتمام أمره .
تأمل يا مفضل ما أنعم الله - تقدست أسماؤه به على الانسان من هذا النطق
الذي يعبربه عما في ضميره وما يخطر بقلبه وينتجه فكره ، وبه يفهم من غيره مافي
نفسه ، ولو لا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشئ ولا تفهم عن
مخبر شيئا . وكذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين
للآتين ، وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها ، وبها يحفظ الانسان ذكر
ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات والحساب ، ولولاه لانقطع أخبار بعض الازمنة