واعلم أن في الانسان قوى أربعا : قوة جاذبة تقبل الغذاء وتورده على المعدة
وقوة ممسكة تحبس الطعام حتى تفعل فيه الطبيعة فعلها ، وقوة هاضمة وهي التي تطبخه
وتستخرج صفوه وتبثه في البدن ، وقوة دافعة تدفعه وتحدر الثفل الفاضل بعد أخذ
الهاضمة حاجتها . ففكر في تقدير هذه القوى الاربع التي في البدن وأفعالها وتقديرها
للحاجة إليها والارب فيها وما في ذلك من التدبير والحكمة . ولولا الجاذبة كيف يتحرك
الانسان لطلب الغذاء التي بها قوام البدن ؟ ولولا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف
حتى تهضمه المعدة ؟ ولولا الهاضمة كيف كان ينطبخ منه حتى يخلص منه الصفو الذي
يغذو البدن ويسد خلله ؟ ولولا الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع
ويخرج أولا لا فأولا ؟ أفلا ترى كيف وكل الله سبحانه بلطيف صنعه وحسن تقديره
هذه القوى بالبدن والقيام بمافيه صلاحه ؟
وسامثل في ذلك مثالا : إن البدن بمنزلة دار الملك ، وله فيها حشم وصبية(1)
وقوام موكلون بالدار ، فواحد لافضاء(2)حوائج الحشم وإيرادها عليهم ، وآخر
لقبض ما يرد وخزنه إلى أن يعالج ويهيأ ، وآخر لعلاج ذلك وتهيئته وتفريقه ، وآخر
لتنظيف ما في الدار من الاقذار وإخراجه منها فالملك هو الخلاق الحكيم ملك العالمين
والدار هي البدن ، والحشم هي الاعضاء ، والقوام هي هذه القوة الاربع :
ولعلك ترى ذكرنا هذه القوى الاربع وأفعالها بعد الذي وصفت فضلا وتزدادا
وليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة التي ذكرت في كتب الاطباء ، ولا قولنا فيه
كقولهم ، لانهم ذكروها على ما يحتاج إليه في صناعة الطب وتصحيح الابدان ، وذكرناها
على ما يحتاج في صلاح الدين وشفاء النفوس من الغي ، كالذي أوضحته بالوصف الثاني
والمثل المضروب من التدبير والحكمة فيها .
تأمل يا مفضل هذه القوى التي في النفس وموقها من الانسان أعني الفكر والوهم
والعقل والحفظ وغير ذلك ، أفرأيت لو نقص الانسان من هذه الخلال الحفظ وحده
(1)الصبية - بالتثليث : جمع الصبى .
(2)في بعض النسخ " لا قضاء " وهو تصحيف .