فإن قال : فلم امروا بالصلاة ؟ قيل : لان في الصلاة الاقرار بالربوبية ، وهو
صلاح عام لان فيه خلع الانداد ، والقيام بين يدي الجبار بالذل والاستكانة والخضوع ،
والاعتراف وطلب الاقالة من سالف الذنوب ، ووضع الجبهة على الارض كل يوم وليلة ،
ليكون العبد ذاكرا لله تعالى غير ناس له ، ويكون خاشعا ، وجلا ، متذللا ، طالبا ،
راغبا في الزيادة للدين والدنيا ، مع ما فيه من الانزجار عن الفساد ، وصار ذلك عليه
في كل يوم وليلة لئلا ينسى العبد مدبره وخالقه فيبطر(1)ويطغى ، وليكون في ذكر
خالقه والقيام بين يدي ربه زاجرا له عن المعاصي ، وحاجزا ومانعا عن أنواع الفساد .
فإن قال : فلم امروا بالوضوء وبدئ به ؟ قيل : لان يكون العبد طاهر إذا
قام بين يدي الجبار عند مناجاته إياه ، مطيعا له فيما أمره ، نقيا من الادناس و
النجاسة ، مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس ، وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي
الجبار .
فإن قال : لم وجب ذلك على الوجه واليدين والرأس والرجلين ؟ قيل : لان العبد
إذا قام بين يدي الجبار فإنما(2)ينكشف من جوارحه ويظهر ما وجب فيه الوضوء ،
وذلك أنه بوجهه يسجد ويخضع ، وبيده يسأل ويرغب(ويرهب ويتبتل ع)وينسك ،(3)
وبرأسه يستقبل في ركوعه وسجوده ، وبرجليه يقوم ويقعد .
(1)بطر يبطر بطرا : أخذته دهشة وحيرة عند هجوم النعمة . طغى بالنعمة أو عندها فصرفها
إلى غير وجهها . بطر الحق : تكبر عنه ولم يقبله .
(2)في العلل : قائما . م
(3)أصل الراغبة : السعة في الشئ يقال : رغب الشئ : اتسع ، والرغبة والرغب والرغبى : السعة
في الارادة ، قال تعالى : ويدعوننا رغبا ورهبا ، قاله الراغب . وفى لسان العرب : الرغب(بفتح الراء
وضمها)والرغب(بفتح الراء والغين)والرغبة ، والرغبوت ، والرغبى(بفتح الراء وضمها)
والرغباء : الضراعة والمسألة ، وفى حديث الدعاء : رغبة ورهبة إليك . وفيه أن الرهبة الخوف والفزع .
وقال الراغب : الرهبة والرهب : مخافة مع تحرز واضطراب . والتبتل : الانقطاع إلى الله في العبادة
وإخلاص النية انقطاعا يختص به ، وأصله من بتل الشئ : قطعه وأبانه من غيره ، وسميت فاطمة عليها
سلام الله البتول لانقطاعها إلى الله ، وعن نساء زمانها ونساء الامة عملا وحسبا ودينا . والنسك :
العبادة والتطوع بقربة ، وفى الحديث الرغبة : تبسط يديك وتظهر باطنهما ، والرهبة : تبسط يديك
تظهر ظهرهما . والتبتل : تحرك السبابة اليسرى ترفعها في السماء رسلا وتضعها ، كل ذلك في حال
الدعاء والتضرع .*