فلما سمع صاحبي ذلك نهض مسرعا مبادرا ففعل من القفز(1)والرقص والبكاء
واللطم مايزيد على مافعله من قبله ممن كان يخطئه ويستجهله ، وأخذ يستعيد
من الشعر مالايحسن استعادته ، ولا جرت عادتهم بالطرب على مثله ، وهو قوله :
فطافت بذاك القاع ولها فصادفت سباع الفلا ينهشنه أيما نهش
ويفعل بنفسه ما حكيت ولايستعيد غير هذا البيت حتى بلغ من نفسه
المجهود ، ووقع كالمغشي عليه من الموت ، فحيرني مارأيت من حاله ، وأخذت
افكر في أفعاله المضادة ، لما سمعت من أقواله ، فلما أفاق من غشيته لم أملك الصبر
دون سؤاله عن أمره ، وسبب ماصنعه بنفسه مع تجهيله من قبل لفاعله ، وعن وجه
استعادته من الشعر مالم تجر عادتهم باستعادة مثله ، فقال لي : لست أجهل ما
ذكرت ، ولي عذر واضح فيما صنعت ، اعلمك أن أبي كان كاتبا ، وكان بي برا
وعلي شفيقا ، فسخط السلطان عليه فقتله ، فخرجت إلى الصحراء لشدة ما لحقني
من الحزن عليه ، فوجدته ملقى والكلاب ينهشون لحمه ، فلما سمعت المغني يقول :
فطافت بذاك القاع ولها فصادفت سباع الفلا ينهشنه أيما نهش
ذكرت مالحق أبي ، وتصور شخصه بين عيني ، وتجدد حزنه علي ، ففعلت
الذي رأيت بنفسي . فندمت حينئذ على سوء ظني به ، وتغممت له غما لحقه
واتعظت بقصته .
11 وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة(2): روي أن قوما من
المتصوفة دخلوا بخراسان على علي بن موسى عليهما السلام فقالوا له : إن أمير المؤمنين
عليه السلام فكر فيما ولاه الله من الامور ، فرآكم أهل البيت أولى الناس أن تؤموا
الناس ، ونظر فيكم أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس ، فرآى أن يرد هذا
الامر إليك ، والامامة تحتاج إلى من يأكل الجشب ، ويلبس الخشن ، ويركب
الحمار ، ويعود المريض .
(1)القفز : الوثوب وأصله للظبى .
(2)شرح النهج ج 3 ص 12 . وفي ط 17 .