بحار الأنوار ج46

انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه ، ثم رمى فيه الثانية فشق فواق سهمه إلى نصله
ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في
مجلسه فلم يتمالك إلا أن قال : أجدت يا أبا جعفر وأنت أرمى العرب والعجم ، هلا
زعمت أنك كبرت عن الرمي ، ثم أدركته ندامة على ما قال .
وكان هشام لم يكن كنى أحدا قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهم به وأطرق
إلى الارض إطراقة يتروى فيها وأنا وأبي واقف حذاه مواجهين له ، فلما طال وقوفنا
غضب أبي فهم به ، وكان أبي عليه السلام إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يرى
الناظر الغضب في وجهه ، فلما نظر هشام إلى ذلك من أبي ، قال له : إلي يا محمد !
فصعد أبي إلى السرير ، وأنا أتبعه ، فلما دنا من هشام ، قام إليه واعتنقه وأقعده
عن يمينه ، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي ، ثم أقبل على أبي بوجهه ، فقال له :
يا محمد لاتزال العرب والعجم تسودها قريش مادام فيهم مثلك ، لله درك ، من علمك
هذا الرمي ؟ وفي كم تعلمته ؟ فقال أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته
أيام حداثني ثم تركته ، فلما أراد أميرالمؤمنين مني ذلك عدت فيه ، فقال له :
ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت وما ظننت ، أن في الارض أحدا يرمي مثل
هذا الرمي ، أيرمي جعفر مثل رميك ؟ فقال : إنا نحن نتوارث الكمال والتمام
اللذين أنزلهما الله على نبيه صلى الله عليه وآله في قوله :(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت
عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا)(1)والارض لاتخلو ممن يكمل هذه
الامور التي يقصر غيرنا عنها .
قال : فلما سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فاحولت واحمر
وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيئة ثم رفع رأسه ، فقال
لابي : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد ؟ فقال أبي : نحن كذلك ولكن الله
جل ثناؤه اختصنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يخص أحدا به غيرنا
فقال : أليس الله جل ثناؤه بعث محمد صلى الله عليه وآله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة


(1)سورة المائدة ، الاية : 3 .

اللاحق   السابق   فهرست  الكتاب   الحديث وعلومه