من كتاب (1) ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله (2)انتهى .
وأقول : ينبغي أن يعلم أن ماتهواه النفس ليس كله مذموما ومالاتهواه
النفس ليس كله ممدوحا ، بل المعيار مامر في باب ذم الدنيا(3)وهو أن
كل مايرتكبه الانسان لمحض الشهوة النفسانية واللذة الجسمانية والمقاصد
الفانية الدنيوية ، ولم يكن الله مقصودا له في ذلك ، فهو من الهوى المذموم ، ويتبع
فيه النفس الامارة بالسوء ، وإن كان مشتملا على زجر النفس عن بعض المشتهيات
أيضا كمن يترك لذيد المأكل والمطعم والملبس ، ويقاسي الجوع والصوم والسهر
للاشتهار بالعبادة ، وجلب قلوب الجهال ، ومايرتكبه الانسان لاطاعة أمره سبحانه
وتحصيل رضاه وإن كان مما تشتهيه نفسه وتهواه ، فليس هو من الهوى المذموم
كمن يأكل ويشرب لامره تعالى بهما أو لتحصيل القوة على العبادة وكمن
يجامع الحلال لكونه مأمورا به ، أو لتحصيل الاولاد الصالحين ، أو لعدم ابتلائه
بالحرام .
فهؤلاء وإن حصل لهم الالتذاذ بهذه الامور لكن ليس مقصودهم محض اللذة
بل لهم في ذلك أغراض صحيحة إن صدقتهم أنفسهم ولم تكن تلك من التسويلات
النفسانية ، والتخييلات الشيطانية ، ولو لم يكن غرضهم من ارتكاب تلك اللذات
هذه الامور ، فليسوا بمعاقبين في ذلك إذا كان حلالا لكن إطاعة النفس في أكثر ما
تشتهيه قد ينجر إلى ارتكاب الشبهات والمكروهات ، ثم إلى المحرمات ، ومن
حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه .
فظهر أن كل ماتهواه النفس ليس مما يلزم اجتنابه ، فان كثيرا من العلماء
قد يتلذون بعلمهم أكثر مما يلتذ الفساق بفسقهم ، وكثيرا من العباد يأنسون
بالعبادات بحيث يحصل لهم الهم العظيم بتركها ، وليس كل مالاتشتهيه النفس
(1)الشورى : 15 .
(2)القصص : 50 ، راجع مفردات غريب القرآن 548 .
(3)يعنى باب ذم الدنيا والزهد فيها من الكافي .