بحار الأنوار ج3

فإن قالوا : فأنتم الان تصفون من قصور العلم عنه وصفا حتى كأنه غير معلوم
قيل لهم : هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والاحاطة به وهو من جهة اخرى
أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية فهو من جهة كالواضح لا يخفى على
أحد ، وهو من جهة كالغامض لايدركه أحد ، وكذلك العقل أيضا ظاهر بشواهد ، ومستور
بذاته .
فأما أصحاب الطبائع فقالوا : إن الطبيعة لاتفعل شيئا لغير معنى ولا تتجاوز عما
فيه تمام الشئ في طبيعة ، وزعموا أن الحكمة تشهد بذلك . فقيل لهم : فمن أعطى
الطبيعة هذه الحكمة والوقوف على حدود الاشياء بلا مجاوزة لها ، وهذا قد تعجز عنه
العقول بعد طول التجارب ؟ فإن أو جبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الافعال
فقد أقروا بما أنكروا لان هذه هي صفات الخالق ، وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة
فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل لخالق الحيكم .
وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الاشياء وزعموا أن كونها
بالعرض والاتفاق ، وكان مما احتجوا به هذه الافات التي تلد غير مجرى العرف والعادة
كالانسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا ، أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق ، فجعلوا
هذا دليلا على أن كون الاشياء ليس بعمد وتقدير ، بل بالعرض كيف ما اتفق أن يكون .
وقد كان أرسطاطا ليس رد عليهم فقال : إن الذي يكون بالعرض والاتفاق إنما هو شئ يأتي
في الفرط مرة لاعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها ، وليس بمنزلة الامور الطبيعية
الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا .
وأنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال ومنهاج
واحد كالانسان يولد وله يدان ورجلان وخمس أصابع كما عليه الجمهور من الناس ،
فأما ما يولد على خلاف ذلك فإنه لعلة تكون في الرحم أو في المادة التي ينشأ منها
الجنين ، كما يعرض في الصناعات حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك(3)


(1)وفي نسخة : وزعموا أن النسخة تشهد بذلك .
(2)أي مقبحا .
(3)عاقه يعوقه عن كذا : صرفه وثبطه واخره عنه . والعائق كل ما عاقك وشغلك

اللاحق   السابق   فهرست الكتاب   الحديث وعلومه