وكان جالسا مع رؤساء مكة ، مثل عتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وعقبة بن أبي معيط ،
وجماعة من قريش ، فلما رأى عبدالمطلب عبدالله قام على قدميه واستقبله وعانقه وصافحه
وأقعده إلى جنبه ، وألزق ركبتيه بركبتيه ، ولم يتكلم حتى استراح ، ثم قال له عبدالمطلب :
يا أبا ذؤيب أتدري بما دعوتك ؟ قال : يا سيدى وسيد قريش ورئيس بني هاشم حتى
تقول فأسمع منك وأعمل بأحسنه ، قال اعلم : يا أبا ذؤيب أن نافلتي محمد بن عبدالله
مات أبوه ، ولم يبن عليه أثره ، ثم ماتت أمه وهو ابن أربعة أشهر ، وهو لا يسكن من
البكاء عيمة إلى اللبن ، وقد أحضرت عنده(1)أربعمائة وستين جارية من أشرف(2)
وأجل بني هاشم ، فلم يقبل من واحدة منهن لبنا ، والآن سمعنا أن لك بنتا ذات لبن ،
فإن رأيت أن تنفذها لترضع ولدي محمدا ، فإن قبل لبنها فقد جاءتك الدنيا بأسرها ، وعلي
غناك وغنى أهلك وعشيرتك ، وإن كان غير ذلك ترى مما رأيت من النسآء غيرها فافعل ،
ففرح عبدالله فرحا شديدا ، ثم قال : يا أبا الحارث إن لي بنتين ، فأيتهما تريد ؟ قال
عبدالمطلب : اريد أكملهما عقلا ، وأكثرهما لبنا ، وأصونهما عرضا ، فقال عبدالله : هاتيك
حليمة لم تكن كأخواتها ، بل خلقها الله تعالى أكمل عقلا ، وأتم فهما ، وأفصح لسانا ،
وأثج لبنا ، وأصدق لهجة ، وأرحم قلبا منهن جمع .
قال الواقدي : فقال عبدالمطلب إني ورب السمآء ما اريد ، إلا ذلك ، فقال
عبدالله : السمع والطاعة ، فقام من ساعته واستوى على متن جواده وأخذ نحو بني سعد(3)
بعد أن أضافه ، فلما أن وصل إلى منزل دخل على ابنته حليمة وقال لها : أبشري ى فقد
جاءتك الدنيا بأسرها ، فقالت حليمة : ما الخبر ؟ قال عبدالله : أعلمي أن عبدالمطلب رئيس
قريش وسيد بني هاشم سألني إنفاذك إليه لترضعي ولده ، وتبشري بالعطاء الجزيل ،
ففرحت حليمة بذلك ، وقامت من وقتها وساعتها واغتسلت وتطيبت وتبخرت وفرغت
من زينتها ، فلما ذهب من الليل نصفه قام عبدالله وزين ناقته فركبت عليها حليمة ، وركب
(1)في المصدر : وقد عرضت عليه .
(2)في المصدر : من أشرف قريش .
(3)في المصدر : نحوحى بنى سعد .