ذلك لم يجد العقل دليلا يفرق ما بينهما ، ولم يكن لنا بد من إثبات ما لا نهاية
له معلوما معقولا أبديا سرمديا ليس بمعلوم أنه مقصور القوى ، ولا مقدور ولا
متجزئ ولا منقسم ، فوجب عند ذلك أن يكون ما لا يتناهى مثل ما يتناهى .
وإذا قد ثبت لنا ذلك ، فقد ثبت في عقولنا أن مالا يتناهى هو القديم الازلي
وإذا ثبت شئ قديم وشئ محدث ، فقد استغنى القديم الباري الاشياء عن المحدث
الذي أنشأه وبرأه وأحدثه ، وصح عندنا بالحجة العقلية أنه المحدث للاشياء
وأنه لا خالق إلا هو ، فتبارك الله المحدث لكل محدث ، الصانع لكل مصنوع
المبتدع للاشياء من غير شئ .
وإذا صح أني لا أقدر أن احدث مثلي استحال أن يحدثني مثلي ، فتعالى
المحدث للاشياء عما يقول الملحدون علوا كبيرا .
ولما لم يكن إلى إثبات صانع العالم طريق إلا بالعقل لانه لا يحس فيدركه
العيان أو شئ من الحواس ، فلو كان غيرواحد بل اثنين أو أكثر لاوجب العقل عدة
صناع كما أوجب إثبات الصانع الواحد ، ولو كان صانع العالم اثنين لم يجر تدبيرهما
على نظام ، ولم ينسق أحوالهما على إحكام ، ولا تمام ، لانه معقول من الاثنين
الاختلاف في دواعيهما وأفعالهما .
ولا يجوز أن يقال إنهما متفقان ولا يختلفان ، لان كل من جاز عليه
الاتفاق جاز عليه الاختلاف ، ألا ترى أن المتفقين لا يخلو أن يقدر كل منهما
على ذلك أولا يقدر كل منهما علىذلك فان قدرا كانا جميعا عاجزين ، وإن لم يقدرا
كانا جاهلين ، والعاجز والجاهل لا يكون إلها ولا قديما .
وأما الرد على من قال بالرأي والقياس والاستحسان والاجتهاد ، ومن يقول
إن الاختلاف رحمة ، فاعلم أنا لما رأينا من قال بالرأي والقياس قد استعمل شهات
الاحكام لما عجزوا عن عرفان إصابة الحكم ، وقالوا : ما من حادثة إلا ولله فيها حكم ولا
يخلو الحكم من وجهين إما أن يكون نصا أو دليلا وإذ رأينا الحادثة قد عدم نصها
فزعنا ، أي رجعنا إلى الاستدلال عليها بأشباهها ونظائرها ، لانامتى لم نفزع إلى