بحار الأنوار ج64

وليس يشهد له إلا شاهد واحد ، وهو ما أحسسنا من حركة يده ، فكيف لا يتصور
في الوجود شئ داخل نفوسنا وخارجها إلا وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله
إذ كل ذرة فانها تنادي بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها ، ولا حركتها بذاتها
وإنما يحتاج إلى موجد ومحرك لها ، يشهد بذلك أولا تركيب أعضائنا وائتلاف
عظامنا ، ولحومنا وأعصابنا ونبات شعورنا ، وتشكل أطرافنا ، وسائر أجزائنا
الظاهرة والباطنة ، فانا نعلم أنها لم تأتلف بنفسها ، كما نعلم أن يد الكاتب لم
يتحرك بنفسها .
ولكن لما لم يبق في الوجود مدرك ، ومحسوس ومعقول ، وحاضر وغائب
إلا وهو شاهد ومعرف عظم ظهوره ، فانبهرت العقول ، ودهشت عن إدراكه فاذن
ما يقصر عن فهمه عقولنا له سببان : أحدهما خفاؤه في نفسه وغموضه ، وذلك لا يخفى
مثاله ، والآخر ما يتناهى وضوحه .
وهذا كما أن الخفاش يبصر بالليل ، ولا يبصر بالنهار ، لا لخفاء النهار
واستتاره ، ولكن لشدة ظهوره ، فان بصر الخفاش ضعيف يبهره نور الشمس إذا
أشرق ، فيكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سببا لامتناع إبصاره فلا يرى شيئا إلا
إذا امتزج الظلام بالضوء ، وضعف ظهوره .
فكذلك عقولنا ضعيفة ، وجمال الحضرة الالهية في نهاية الاشراق والاستنارة
وفي غاية الاستغراق والشمول ، حتى لا يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات
والارض ، فصار ظهوره سبب خفائه ، فسبحان من احتجب باشراق نوره ، واختفى عن
البصائر والابصار بظهوره .
ولا تتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور ، فان الاشياء تستبان بأضدادها
وما عم وجوده حتى لا ضد له عسر إدراكه ، فلو اختلف الاشياء فدل بعضها دون
البعض أدركت التفرقة على قرب ، ولما اشتركت في الدلالة على نسق واحد
أشكل الامر .
ومثاله نور الشمس المشرق على الارض ، فانا نعمل أنه عرض من الاعراض

اللاحق   السابق   فهرست  الكتاب   الحديث وعلومه