بحار الأنوار ج3

ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطير إلى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد
ساعة ويوما بعد يوم ، واعتبر ذلك بأن من سبي من بلد إلى بلد وهو عاقل يكون كالواله
الحيران فلا يسرع في تعلم الكلام وقبول الادب كما يسرع الذي يسبى صغيرا غير عاقل .
ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا ، معصبا بالخرق ، مسجى
في المهد لانه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته حين يولد ، ثم كان لا يوجد له
من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل فصار يخرج إلى الدنيا غبيا غافلا عما فيه
أهله فليقى الاشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ، ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا
وشيئا بعد شئ ، وحالا بعد حال حتى يألف الاشياء ويتمرن(1)ويستمر عليها ،
فيخرج من حد التأمل لها والحيرة فيها إلى التصرف والاضطراب إلى المعاش بعقله وحيلته
وإلى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية ، وفي هذا أيضا وجوه آخر فإنه لو
كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الاولاد ، وما قدر أن يكون
للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة ، وما يوجب التربية للآباء على الابناء من
المكلفات(2)بالبر والعطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم ، ثم كان الاولاد لا يألفون
آباء‌هم ولا يألف الآباء أبناء‌هم لان الاولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم(3)
فيتفرقون عنهم حين يولدون فلا يعرف الرجل أباه وامه ، ولا يمتنع من نكاح امه و اخته
وذوات المحارم منه إذا كان لا يعرفهن ، وأقل ما في ذلك من القباحة بل هو أشنع وأعظم
وأفظع وأقبح وأبشع لو خرج المولود من بطن امه وهو يعقل أن يرى منها مالا يحل
له ولا يحسن به أن يراه . أفلا ترى كيف اقيم كل شئ من الخلقة على غاية الصواب ،
وخلا من الخطأ دقيقه وجليله ؟
بيان : أفرأيت أي أخبرني ، قال الزمخشري : لما كانت مشاهدة الاشياء ورؤيتها
طريقا إلى الاحاطة بها علما وصحة الخبر عنها استعملوا أرأيت بمعنى أخبر . انتهى . و
يقال : ذوى العود أي يبس . والموؤود الذي دفن في الارض حيا كما كان المشركون


(1)أى يتعود ويتدرب .
(2)وفي نسخة : من المكافاة .
(3)أى حفظهم وتعهدهم .

اللاحق   السابق   فهرست الكتاب   الحديث وعلومه