كل ما يكون لذيذا عندها نافرة عن كل ما يكون مولما عندها ، فوجب أن يتقرر عندها
أن كل لذيذ مطلوب ، وأن كل مولم مكروه . فاجيب عنه : بأن رغبتها إنما يكون
في هذا اللذيذ ، فكل لذيذ حضر عنده فإنه يرغب فيه من حيث إنه ذلك الشئ ، فأما
أن يعتقد أن كل لذيذ فهو مطلوب فهذا ليس عنده .
واعلم أن الحكم في هذه الاشياء بالنفي والاثبات حكم على الغيب ، والعلم بها
ليس إلا الله العلي العليم ، والله أعلم .
الفصل الثانى والعشرون في بيان أن اللذات العقلية أشرف وأكمل من اللذات
الحسية . اعلم أن الغالب على الطباع العامية أن أقوى اللذات وأكمل السعادات
لذة المطعم والمنكح ، ولذلك فإن جمهور الناس لا يعبدون الله إلا ليجدوا المطاعم اللذيذة
في الآخرة ، وإلا ليجدوا المناكح الشهية هناك . وهذا القول مردود عند المحققين من
أهل الحكمة وأرباب الرياضة ، ويدل عليه وجوه :
الحجة الاولى : لو كانت سعادة الانسان متعلقة بقضاء الشهوة وإمضاء الغضب لكان
الحيوان الذي يكون أقوى في هذا الباب من الانسان أشرف منه ، لكن الجمل أكثر
أكلا من الناس ، والذئب أقوى في الايداء من الانسان ، والعصفور أقوى على السفاد من
الانسان ، فوجب كون هذه الاشياء أشرف من الانسان ، لكن التالي معلوم البطلان
بالضرورة ، فوجب الجزم بأن سعادة الانسان غير متعلقة بهذه الامور .
الحجة الثانية : كل شئ يكون سببا لحصول السعادة والكمال فكلما كان
ذلك الشئ أكثر حصولا كانت السعادة والكمال أكثر حصولا ، فلو كان قضاء شهوة البطن
والفرج سببا لكمال حال الانسان ولسعادته لكان الانسان كلما أكثر اشتغالا بقضاء
شهوة البطن والفرج وأكثر استغراقا فيه كان أعلى درجة وأكمل فضيلة ، لكن التالي
باطل ، لان الانسان الذي جعل عمره وقفا على الاكل والشرب والبعال يعد من البهيمة
ويقضى عليه بالدناءة والخساسة ، وكل ذلك يدل على أن الاشتغال بقضاء هاتين
الشهوتين ليس من باب السعادات والكمالات ، بل من باب دفع الحاجات والآفات .
الحجة الثالثة أن الانسان يشاركه في لذة الاكل والشرب جميع الحيوانات