بحار الأنوار ج57

النفوس ، ويحرض الاصحاء ، ينهك المرضى ، ويفسد الثمار ، ويعفن البقول ، و
يعقب الوباء في الابدان والافة في الغلات ؟ ففي هذا بيان أن هبوب الريح من تدبير
الحكيم في صلاح الخلق ، وانبئك عن الهواء بخلة اخرى ، فإن الصوت أثر يؤثره
اصطكاك الاجسام في الهواء ، والهواء يؤديه إلى المسامع ، والناس يتكلمون في
حوائجهم ومعاملاتهم طول نهارهم وبعض ليلهم ، فلو كان أثر هذا الكلام يبقى في الهواء
كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلا العالم منه ، فكان يكربهم ويفدحهم ، وكانوا
يحتاجون في تجديده والاستبدال به أكثر مما يحتاج إليه في تجديد القراطيس ، لان
ما يلقى من الكلام أكثر مما يكتب ، فجعل الخلاق - الحكيم - جل قدسه - هذا الهواء
قرطاسا خفيفا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم(1)حاجتهم ، ثم يمحى فيعود جديدا
نقيا ويحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع ، وحسبك بهذا النسيم المسمى هواء عبرة ومافيه
من المصالح فإنه حياة هذه الابدان والممسك لها من داخل بما يستنشق منه ، ومن
خارج بما تبارشر من روحه ، وفيه تطرد هذه الاصوات فيؤدي بها من البعيد ، وهو
الحامل لهذه الا راييح ينقلها من موضع إلى موضع . ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من
حيث تهب الريح ؟ فكذلك الصوت ، وهو القابل لهذا الحر والبرد اللذين يعتقبان
على العالم لصلاحه ، ومنه هذه الريح الهابة ، فالريح تروح عن الاجسام ، وتزجي
السحاب من موضع إلى موضع ليعم نفعه حتى يستكثف فيمطر وتفضه حتى يستخف فيتفشى
وتلقح الشجر ، وتسير السفن ، وترخي الاطعمة ، وتبرد الماء وتشب النار ، و
تجفف الاشياء الندية ، وبالجملة إنها تحيي كل ما في الارض فلولا الريح لذرى
النبات ، ومات الحيوان ، وحمت الاشياء وفسدت .
بيان : ركود الريح سكونها ، والتحريض إفساد البدن ، ونهكته الحمى أي
أضنته وهزلته وقوله " والهواء يؤديه " يدل على ما هو المذهب المنصور من تكيف
الهواء بكيفية الصوت كما فصل في محله . ويقال : كربه الامر أي شق عليه ، وفدحه


(1)العام(خ)

اللاحق   السابق   فهرست  الكتاب   الحديث وعلومه