عين ، شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب ، عظم الخالق في أنفسهم وصغر مادونه في
أعينهم ، فهم كأنهم قد رأوا الجنة ونعيمها والنار وعذابها ، فقلوبهم محزونة
وشرورهم مأمونة ، وحوائجهم خفيفة ، وأنفسهم ضعيفة ، ومعونتهم لاخوانهم عظيمة
اتخذوا الارض بساطا ، وماءها طيبا ، ورفضوا الدنيا رفضا ، وصبروا أياما قليلة
فصارت عاقبتهم راحة طويلة ، تجارتهم مربحة ، يبشرهم بها رب كريم ، أرادتهم
الدنيا فلم يريدوها ، وطلبتهم فهربوا منها .
أما الليل فأقدامهم مصطفة(1)يتلون القرآن يرتلونه ترتيلا ، فإذا مروا
بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلعت أنفسهم تشوقأ(2)فيصيرونها نصيب أعينهم
وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها بقلوبهم وأبصارهم ، فاقشعرت منها جلودهم
ووجلت قلوبهم خوفا وفرقا(3)نحلت لها أبدانهم ، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها
وصلصلة حديدها في آذانهم ، مكبين على وجوههم وأكفهم ، تجري دموعهم على
خدودهم . يجأرون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم .
وأما النهار فعلماء أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف فهم أمثال القداح(4)إذا
نظر إليهم الناظر يقول بهم مرض ، وما بهم مرض ، ويقول قد خولطوا وماخولطوا(5)
إذا ذكروا عظمة الله وشدة سلطانه وذكروا الموت وأهوال القيامة وجفت قلوبهم
(1)اصطف القوم : قاموا صفوفا .
(2)التطلع إلى الشئ : الاستشراف له والانتظار لوروده .
(3)الفرق - بالتحريك - : الخوف . ونحلت أى هزلت وضعفت .
(4)برى السهم نحته . والقداح جمع قدح بالكسر فيهما وهو السهم قبل أن يراش
وينصل وهو كناية عن نحاقة البدن وضعف الجسد .
(5)خولط فلان في عقله اذا اختل عقله وصار مجنونا . وخالطه اذا مازجه والمعنى
كما قاله بعض شراح النهج يظن الناظر بهم الجنون وما بهم من جنة بل مازج قلوبهم أمر عظيم
وهو الخوف فتولهوا لاحله .