إلى أن خلق المعجزة على يد الكاذب مقدور لله تعالى ، لعموم قدرته ، لكنه ممتنع وقوعه
في حكمته ، لان فيه إيهام صدقه وهو قبيح من الله ، فيمتنع صدوره عنه كسائر القبائح ،
فعلى هذا يتوقف على العلم بوجود الصانع وعموم علمه وقدرته وامتناع صدور القبيح منه ،
وقالت الاشاعرة : جرت عادة الله تعالى بخلق العلم بالصدق عقيب ظهور المعجزة ، فإن إظهار
المعجز على يد الكاذب وإن كان ممكنا عقلا فمعلوم انتفاؤه عادة ، فلا تكون دلالته عقلية
لتخلف الصدق عنه في الكاذب ، بل عادية كسائر العاديات ، لان من قال : أنا نبي ثم
نتق الجبل(1)وأوقفه على رؤوسهم وقال : إن كذبتموني وقع عليكم ، وإن صدقتموني
انصرف عنكم ، فكلما هموا بتصديقه بعد عنهم ، وإذا هموا بتكذيبه قرب منهم علم
بالضرورة أنه صادق في دعواه والعادة قاضية بامتناع ذلك من الكاذب ، مع كونه ممكنا منه
إمكانا عقليا لشمول قدرته للممكنات بأسرها ، وقد ضربوا لذلك مثلا قالوا : إذا ادعى
الرجل بمشهد الجم الغفير أني رسول هذا الملك إليكم ، ثم قال للملك : إن كنت صادقا
فخالف عادتك وقم من الموضع المعتاد من السرير ، وانتقل بمكان لا تعتاده ، ففعل كان ذلك
نازلا منزلة التصديق بصريح مقاله ولم يشك أحد في صدقه بقرينة الحال وليس هذا من
باب قياس الغائب على الشاهد ، بل ندعي في إفادته العلم بالضرورة العادية ، ونذكر هذا
المثال للتفهيم .
الثالث : في بيان إعجاز القرآن ووجهه زائدا على ما تقدم ، وهو أنه صلى الله عليه وآله تحدى
بالقرآن ، ودعا إلى الاتيان بسورة مثله مصاقع(2)البلغاء والفصحاء من العرب العرباء(3)
مع كثرتهم كثرة رمال الدهناء(4)، وحصى البطحاء ، وشهرتهم بغاية العصبية ، وحمية
الجاهلية ، وتهالكهم على المباهات والمبارات ، والدفاع عن الاحساب ، وركوب الشطط في
هذا الباب ، فعجزوا حتى آثروا المقارعة على المعارضة ، وبذلوا المهج والارواح دون المدافعة ،
فلو قدروا على المعارضة لعارضوا ولو عارضوا لنقل إلينا . لتوفر الدواعي وعدم الصارف ، والعلم
(1)أى قلع الجبل إشارة ورفعه فوق رؤوسهم .
(2)المصاقع جمع المصقع : البليغ . العالى الصوت . من لا يرتج عليه في كلامه .
(3)العرب العرباء : الصرحاء الخلص .
(4)الدهناء : الفلاة .*