بحار الأنوار ج89

بلاغة بعضهم عن بعض ، ويتفاوتون في ذلك بقدر تفاوت بلاغتهم ، فاذا تجاوز بلاغة
القرآن ذلك المقدار الذي جرت به العادة في بلاغة العبد ، وبلغت حدا لا تبلغه
بلاغ أبلغهم ، ظهر كونه ناقضا للعادة ، وإنما يبين كونه كذلك ، إذا بينا أنه
تحداهم بمثل القرآن ، فعجزوا عنه ، وعما يقاربه .
فاذا قيل : فبما ذا علمتم أن القرآن ظهر معجزة له دون غيره ، وما أنكرتم
أن الله بعث نبيا غير محمد ، وآمن محمد بن ، فتلقته منه محمد ، ثم قتل ذلك النبي
وادعاه معجزة لنفسه .
الجواب أنا نعلم باضطرار أنه مختص به كما نعلم في كثير من الاشعار والتصانيف
أنها مختصة بمن تضاف إليه كشعر امرء القيس وكتاب العين للخليل ، ثم إن القرآن
ظهر منه وسمع ، ولم يجر ، في الناس ذكر أنه ظهر لغيره ، ولا جوزوه ، وكيف
يجوز في حكمه الحكيم أن يمكن أحدا من ذلك وقد علم حال محمد في عزف نفسه عن
ملاذ الدنيا من أول أمره إلى أواخره ، كيف يتهم بما قالوه .
فان قيل : لعل من تقدم محمدا كامرء القيس وأضرابه لو عاصره لامكنه
معارضته ، قلنا : إن التحدي لم يقع بالشعر فيصح ما قتله ، وكان في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم
وقريبا منه من قدم في البلاغة من تقدم ، ولانه ما كلفهم أن يأتوا بالمعارضة من عند
أنفسهم ، وإنما تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن من كلامهم أو كلام غيرهم
ممن تقدمهم ، فلو علموا أن في كلامهم ما يوازي بلاغة القرآن لاتوابه ، ولقالوا إن
هذا كلام من ليس بمنبئ وهو مساو للقرآن في بلاغته ومعلوم أن محمدا صلى الله عليه وآله ما قرأ
الكتب ولا تتلمذ لاحد من أهل الكتاب ، وكان ذلك معلوما لاعدائه ، ثم قص
عليهم قصص نوح ، وموسى ، ويوسف ، وهود ، وصالح ، وشعيب ولوط ، وعيسى
وقصة مريم على طولها ، فما رد عليه أحد من أهل الكتاب شيئا منها ، ولا خطاؤه
في شئ من ذلك ، ومثل هذه الاخبار لا يتمكن منها إلا بالتبخيت والاتفاق(1)وقد
نبه الله عليه بقوله(ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا


(1)أى الا بأن نقول بالبخت والاتفاق .

اللاحق   السابق   فهرست  الكتاب   الحديث وعلومه