بحار الأنوار ج11

العظام من يفسد ويفسك لا تفعله إلا لوجه دقيق وسر غامض ، فما أبلغ حكمتك ! .
ومنها : أن إبداء الاشكال طلبا للجواب غير محظور ، فكأنه قيل : إلهنا أنت الحكيم
الذي لا تفعل السفه البتة ، وتمكين السفيه من السفه قبيح من الحكيم ، فكيف يمكن
الجمع بين الامرين ؟ أو أن الخيرات في هذا العالم غالبة على شرورها ، وترك الخير الكثير
لاجل الشر القليل شر كثير ، فالملائكة نظروا إلى الشرور ، فأجابهم الله تعالى بقوله :
" إني أعلم مالا تعلمون " أي من الخيرات الكثيرة التي لا يتركها الحكيم لاجل الشرور
القليلة .
ومنها : أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى ، فإن العبد المخلص
لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه .
ومنها : أن قولهم : " أتجعل " مسألة منهم أن يجعل الارض أو بعضها لهم إن كان
ذلك صلاحا ، ونحو قول موسى : " اتهلكنا بما فعل السفهاء منا " أي لا تهلك ، فقال تعالى :
" إني أعلم مالا تعلمون " من صلاحكم وصلاح هؤلاء ، فبين أنه اختار لهم السماء ولهؤلاء
الارض ليرضى كل فريق بما اختار الله له .
ومنها : أن هذا الاستفهام خارج مخرج الايجاب كقول جرير :(ألستم خير من
ركب المطايا)أي أنتم كذلك وإلا لم يكن مدحا : فكأنهم قالوا : إنك تفعل ذلك و
نحن مع هذا نسبح بحمدك ، لانا نعلم في الجملة أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة ،
فقال تعالى : " إني أعلم مالا تعلمون " فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل ، وأنا أعلم
ظاهرهم ومافي باطنهم من الاسرار الخفية التي يقتضي اتخاذهم .
والجواب عن الغيبة أن من أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الاشكال ،
فلذلك ذكروا الفساد والسفك ، مع أن المراد أن مثل تلك الافعال يصدر عن بعضهم ،
ومثل هذا لا يعد غيبة ، ولو سلم فلا نسلم ذلك في حق من لم يوجد بعد ، ولو سلم فيكون
غيبة للفساق وهي مجوزة ، ولو سلم فلا نسلم أن ذكر مثل ذلك لعلام الغيوب يكون محرما ،
لا سيما من الملائكة الذين جماعة منهم مأمورون بتفتيش أحوال الخلائق وإثباتها في الصحف
وعرضها على الباري جل اسمه .

اللاحق   السابق   فهرست الكتاب   الحديث وعلومه