بحار الأنوار ج79

فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات ، جيران لا يتأنسون وأحباء لا يتزاورون ،
بليت بينهم عرى التعارف ، وانقطعت منهم أسباب الاخاء ، فكلهم وحيد ، وهم جميع
وبجانب الهجروهم أخلاء ، لا يتعارفون لليل صباحا ، ولا لنهار مساء أي الجديدين
ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا . شاهدوا من أخطار دارهم أفظع مما خافوا ، ورأوا من آياتها أعظم مما قد روا
فكلا الغايتين مدت لهم إلى مباء‌ة فأتت مبالغ الخوف والرجاء ، فلو كانوا ينطقون
بها ، لعيوا بصفة ما شاهدوا وما عاينوا .
ولئن عميت آثارهم ، وانقطعت أخبارهم ، لقد رجعت فيهم أبصار العبر ، و
سمعت عنهم آذان العقول ، وتكلموا من غير جهات النطق ، فقالوا كلحت الوجوه

النواضر ، وخوت الاجساد النواعم ، ولبسنا أهدام البلاء ، وتكاء‌دنا ضيق المضجع
وتوارثنا الوحشة ، وتهكمت علينا الربوع الصموت ، فانمحت محاسن أجسادنا
وتنكرت معارف صورنا ، وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا ، ولم نجد من كرب فرحا
ولا من ضيق متسعا .
فلو مثلتهم بعقلك ، أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك ، وقد ارتسخت أسماعهم
بالهوام فاستكت ، واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت ، وتقطعت الالسنة في
أفواههم بعد ذلاقتها ، وهمدت القلوب في صدرهم بعد يقظتها ، وعاث في كل جارحة
منهم جديد بلى سمجها ، وسهل طرق الافة إليها مستسلمات ، فلا أيد تدفع ، ولا
قلوب تجزع ، لرأيت أشجان قلوب ، وأقذاء عيون ، لهم من كل فظاعة صفة حال
لا تنتقل وغمرة لا تنجلي .
وكم أكلت الارض من عزيز جسد ، وأنيق لون ، كان في الدنيا غذي ترف ،
وربيب شرف يتعلل بالسرور في ساعة حزنه ، ويفزع إلى السلوة إن مصيبة نزلت
به ، ضنا بغضارة عيشه ، وشحاحة بلهوه ولعبه .
فبينا هو يضحك إلى الدنيا وتضحك إليه ، في ظل عيش غفول ، إذ وطئ
الدهر به حسكه ، ونقضت الايام قواه ، ونظرت إليه الحتوف من كثب فخالطه بث

اللاحق   السابق   فهرست  الكتاب   الحديث وعلومه