بحار الأنوار ج64

فكل العالم تصنيف الله تعالى فمن نظر إليها من حيث إنها فعل الله ، وغرفها
من حيث إنها فعل الله ، وأحبها من حيث إنها فعل الله ، لم يكن ناظرا إلا في الله
ولا عارفا إلا بالله ، ولا محبا إلا لله ، وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى
إلا الله ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث هو عبدالله ، فهذا هو
الذي يقال فيه إنه فني في التوحيد ، وإنه فنى في نفسه ، وإليه الاشارة بقول من قال :
كنا بنا ، ففنينا عنا ، فبقينا بلا نحن .
فهذه امور معلومة عند ذوي البصائر ، أشكلت لضعف الافهام عن دركها
وقصور قدرة العلماء عن إيضاحها وبيانها ، بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى
الافهام ، ولاشتغالهم بأنفسهم ، واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يغنيهم .
فهذا هو السبب في قصور الافهام عن معرفة الله تعالى ، وانضم إليه أن
المدركات كلها التي هي شاهدة على الله ، إنما يدركها الانسان في الصبى عند فقد
العقل قليلا قليلا ، وهو مستغرق الهم بشهواته ، وقد أنس بمدركاته ومحسوساته
إلفها ، فسقط وقعها عن قلبه بطول الانس ، ولذلك اذا رأى على سبيل الفجأة حيوانا
غريبا ، أو فعلا من أفعال الله خارقا للعادة عجيبا انطلق لسانه بالمعرفة طبعا فقال :
" سبحان الله " وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاء‌ه وساير الحيوانات المألوفة ، وكلها
شواهد قاطعة ، ولا يحس بشهادتها لطول الانس بها .
ولو فرض أكمه بلغ عاقلا ، ثم انقشعت الغشاوة عن عينه ، فامتد بصره إلى
السماء والارض ، والاشجار والنبات ، والحيوان ، دفعة واحدة على سبيل الفجأة .
يخاف على عقله أن ينبهر ، لعظم تعجبه من شهادة هذه العجائب على خالقها .
وهذا وأمثاله من الاسباب ، مع الانهماك في الشهوات ، وهي التي سدت
على الخلق سبيل الاستضاء‌ة بأنوار المعرفة ، والسباحة في بحارها الواسعة
والجليات إذا صارت مطلوبة ، صارت معتاصة(1)، فهذا سد الامر ، فليتحقق
ولذلك قيل :


(1)اعتاص عليه الامر : أى التوى ، منه رحمه الله .

اللاحق   السابق   فهرست  الكتاب   الحديث وعلومه