فلما سمع الملك ذلك من ابنه على أنه قد علم ما الذي يكرهه وأنه من
حبسه وحصره لا يزيده إلا إغراء وحرصا على ما يحال بينه وبينه ، فقال : يا بني
ما أردت بحصري إياك إلا أن انحي عنك الاذى ، فلا ترى إلا ما يوافقك ولا
تسمع إلا ما يسرك ، فأما إذا كان هواك في غير ذلك فإن آثر الاشياء عندي ما
رضيت وهويت .
ثم أمر الملك أصحابه أن يركبوه في أحسن زينة وأن ينحوا عن طريقه كل
منظر قبيح ، وأن يعدوا له المعازف والملاهي ففعلوا ذلك ، فجعل بعد ركبته تلك
يكثر الركوب ، فمر ذات يوم على طريق قد غفلوا عنه فأتى على رجلين من
السؤال(1)أحدهما قد تورم وذهب لحمه ، واصفر جلده ، وذهب ماء وجهه ،
وسمج منظره ، والاخر أعمى يقوده قائد ، فلما رأى ذلك اقشعر منهما وسألل عنهما
فقيل له : إن هذا المورم من سقم باطن ، وهذا الاعمى من زمانة ، فقال ابن
الملك : وإن هذا البلاء ليصيب غير واحد ؟ قالوا : نعم فقال : هل يأمن أحد من
نفسه أن يصيبه مثل هذا ؟ قالوا : لا ، وانصرف يومئذ مهموما ثقيلا محزونا باكيا
مستخفا بما هو فيه من ملكه وملك أبيه فلبث بذلك أياما .
ثم ركب ركبة فأتى في مسيره على شيخ كبير قد انحنى من الكبر ، وتبدل
خلقه ، وابيض شعره ، واسود لونه ، وتقلص جلده(2)، وقصر خطوه فعجب
منه وسأل عنه ، فقالوا : هذا الهرم ، فقال : وفي كم يبلغ الرجل ما أرى ؟ قالوا :
في مائة سنة أو نحو ذلك ، وقال : فما وراء ذلك ؟ قالوا : الموت ، قال : فما يخلى
بين الرجل وبين ما يريد من المدة ؟ قالوا : لا وليصيرن إلى هذا في قليل من الايام ،
فقال : الشهر ثلاثون يوما والسنة اثنا عشر شهرا وانقضاء العمر مائة سنة فما أسرع
اليوم في الشهر ، وما أسرع الشهر في السنة ، وما أسرع السنة في العمر فانصرف الغلام ،
وهذا كلامه يبديه ويعيده مكررا له .
(1)في بعض النسخ فأتى عليه رجلان من السؤال .
(2)تقلص أى انضم وانزوى .