بحار الأنوار ج61

وكيف يجوز أن يكون ذلك في الهدهد وهو غير مكلف ولا يستحق مثله العذاب ؟
فالجواب عنه : أن العذاب اسم للضرر الواقع ، وان لم يكن مستحقا فليس يجري
مجري العقاب الذي لا يكون إلا جزاء على أمر تقدم ، فليس يمتنع أن يكون معنى
" لاعذبنه " أي لاؤلمنه ، ويكون الله تعالى قد أباحه الايلام له كما أباحه الذبح
له لضرب من المصلحة ، كما سخر له الطير يصرفها في منافعه وأغراضه ، وكل هذا
لاينكر في نبي مرسل تخرق له والعادات وتظهر على يده المعجزات ، وإنما يشتبه
على قوم يظنون أن هذه الحكايات تقتضي كون النملة والهدهد مكلفين ، وقد بينا
أن الامر بخلاف ذلك(1).
وقال قدس الله روحه أيضا في جواب المسائل الطرابلسيات : فأما الاستبعاد في
النملة أن تنذر باقي النمل بالانصراف عن الموضع ، والتعجب من فهم النملة عن
الاخرى ، ومن أن يخبر عنها بما نطق القرآن به من قوله : " يا ايها النمل ادخلوا "
الآية ، فهو في غير موضعه لان البهيمة قد تفهم عن الاخرى بصوت يقع منها أوفعل
كثيرا من أغراضها ، ولهذا نجد الطيور وكثيرا من البهائم يدعو الذكر منها الانثى
بضرب من الصوت يفرق بينه وبين غيره من الاصوات التي لا تقتضي الدعاء ، والامر
في ضروب الحيوانات وفهم بعضها من بعض مرادها وأغراضها بفعل يظهر أو صوت يقع
أظهر من أن يخفي والتغابي عن ذلك مكابرة ، فما المنكر على هذا أن يفهم باقي النمل
من تلك النملة التي حكي عنها ما حكي الانذار والتخويف ؟ فقد نرى مرارا نملة
تستقبل اخرى وهي متوجهة إلى جهة فاذا حاذتها وباشرها عادت من جهتها ورجعت
معها ، وتلك الحكاية البليغة الطويلة لايجب أن تكون النملة قائلة لها ولاذاهبة
إليها ، وإنها لما خوفت من الضرر الذي أشرف النمل عليه جاز أن يقول الحاكي
لهذه الحال : تلك الحكاية البليغة المرتبة ، لانها لوكانت قائلة ناطقة ومخوفة بلسان
وبيان لما قالت إلا مثل ذلك ، وقد يحكى العربي عن الفارسي كلاما مرتبا مهذبا


(1)غرر الفوائد : 395 - 397 .

اللاحق   السابق   فهرست  الكتاب   الحديث وعلومه