إليه لشربهم وشرب أنعامهم ومواشيهم وسقي زروعهم وأشجارهم وأصناف غلاتهم ، و
شرب ما يرده من الوحوش والطير والسباع وتتقلب فيه الحيتان ودواب الماء ، وفيه
منافع اخر أنت بها عارف ، وعن عظم موقعها غافل ، فإنه سوى الامر الجليل المعروف
من غنائة في إحياء جميع ما على الارض من الحيوان والنبات يمزج بالاشربة فتلين
وتطيب لشاربها ، وبه تنظف الابدان والامتعة من الدرن الذي يغشاها ، وبه يبل
التراب فيصلح للاعتمال ، وبه نكف عادية النار إذا اضطرمت وأشرف الناس على
المكروه وبه يستحم المتعب الكال فيجد الراحة من أو صابه ، إلى أشباه هذا من المآرب
التي تعرف عظم موقعها في وقت الحاجة إليها .
فإن شككت في منفعة هذا الماء الكثير
المتراكم في البحار وقلت : ما الارب فيه ؟ فاعلم أنه مكتنف ومضطرب مالا يحصى من
أصناف السمك ودواب البحر ومعدن اللؤلؤ والياقوت والعنبر وأصناف شتى تستخرج
من البحر وفي سواحله منابت العود اليلنجوج وضروب من الطيب والعقاقير ، ثم هو
بعد مركب الناس ومحمل لهذه التجارات التي تجلب من البلدان البعيدة ، كمثل ما يجلب
من الصين إلى العراق ، ومن العراق إلى العراق ، فإن هذه التجارات لو لم يكن لها
محمل إلا على الظهر لبارت(1)وبقيت في بلدانها وأيدي أهلها ، لان أجر حملها كان
يجاوز أثمانها فلا يتعرض أحد لحملها ، وكان يجتمع في ذلك أمران : أحد هما فقد أشياء
كثيرة تعظم الحاجة إليها ، والاخر : انقطاع معاش من يحملها ويتعيش بفضلها . و
هكذا الهواء لولا كثرته وسعته لاختنق هذا الانام من الدخان والبخار التي يتحيرفيه
ويعجز عما يخول إلى السحاب والضبات أو لا أولا ، وقد تقدم من صفته ما فيه كفاية .
والنار أيضا كذلك ، فإنها لوكانت مبثوثة كالنسيم والماء كانت تحرق العالم
ومافيه ولم يكن يد من ظهورها في الاحايين لغنائها في كثير من المصالح ، فجعلت
كالمخزونة في الاخشاب تلتمس عند الحاجة إليها وتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى
بقائها لئلا تخبوا ، فلا هي تمسك بالمادة والحطب فتعظم المؤونة في ذلك ، ولا هي تظهر
مبثوثة فتحرق كلما هي فيه ، بل هى على تهيئة وتقدير اجتمع فيها الاستمتاع بمنافعها
(1)بار السوق أو السلعة : كسدت .