الصفحة 21
كأنك لست من هذه الأمة، وليسوا منك؟ أو لست صاحب الحضرميين الذين كتب إليك فيهم ابن سمية أنهم: على دين علي ورأيه، فكتبت إليه اقتل كل من كان على دين علي عليه السلام ورأيه فقتلهم، ومثل بهم بأمرك، ودين علي والله وابن علي الذي كان يضرب عليه أباك، وهو أجلسك بمجلسك الذي أنت فيه ولو لا ذلك لكان أفضل شرفك وشرف أبيك تجشم الرحلتين اللتين بنا من الله عليكم فوضعهما عنكم؟ وقلت فيما تقول أنظر نفسك ولدينك ولأمة محمد صلى الله عليه وآله، واتق شق عصا هذه الأمة، وأن تردهم في فتنة، فلا أعرف فتنة أعظم من ولايتك عليها، ولا أعلم نظرا لنفسي وولدي وأمة جدي أفضل من جهادك، فإن فعلته فهو قربة إلى الله عز وجل، وإن تركته فأستغفر الله لذنبي وأسأله توفيقي لإرشاد أموري، وقلت فيما تقول إن أنكرك تنكرني، وإن أكدك تكدني، وهل رأيك الأكيد الصالحين منذ خلقت؟! فكدني ما بدا لك إن شئت فإني أرجو أن لا يضرني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضر منه على نفسك، على أنك تكيد فتوقظ عدوك، وتوبق نفسك، كفعلك بهؤلاء الذين قتلتهم ومثلث بهم بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا إلا لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقنا، بما به شرفت وعرفت، مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا، أبشر يا معاوية بقصاص، واستعد للحساب، واعلم أن لله عز وجل كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وليس الله تبارك وتعالى بناس أخذك بالظنة، وقتلك أولياءه بالتهمة، ونفيك إياهم من دار الهجرة إلى دار الغربة والوحشة وأخذك الناس ببيعة ابنك، غلام من الغلمان، يشرب الشراب، ويلعب بالكعاب لا أعلمك إلا قد خسرت نفسك، وشريت دينك، وغششت رعيتك، وأخزيت أمانتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت التقي الورع الحليم.

قال: فلما قرأ معاوية كتاب الحسين عليه السلام قال: لقد كان في نفسه ضب علي ما كنت أشعر به.

فقال ابنه يزيد، وعبد الله بن أبي عمير بن جعفر: أجبه جوابا شديدا

الصفحة 22
تصغر إليه نفسه، وتذكر أباه بأسوء فعله وآثاره.

فقال: كلا أرأيتما لو أني أردت أن أعيب عليا محقا ما عسيت أن أقول، إن مثلي لا يحسن به أن يعيب بالباطل، وما لا يعرف الناس، ومتى عبت رجلا بما لا يعرف لم يحفل به صاحبه ولم يره شيئا، وما عسيت أن أعيب حسينا، وما أرى للعيب فيه موضعا إلا أني قد أردت أن أكتب إليه وأتوعده وأهدده، وأجهله ثم رأيت لا أفعل.

قال: فما كتب إليه بشئ يسوءه، ولا قطع عنه شيئا كان يصله به، كان يبعث إليه في كل سنة ألف ألف درهم سوى عروض وهدايا من كل ضرب.

إحتجاجه صلوات الله عليه بإمامته على معاوية وغيره وذكر طرف من مفاخراته ومشاجراته التي جرت له مع معاوية وأصحابه.

عن موسى بن عقبة (1) أنه قال: لقد قيل لمعاوية: إن الناس قد رموا أبصارهم إلى الحسين عليه السلام، فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب فإن فيه حصرا أو في لسانه كلالة.

فقال لهم معاوية: قد ظننا ذلك بالحسن، فلم يزل حتى عظم في أعين الناس وفضحنا، فلم يزالوا به حتى قال للحسين: يا أبا عبد الله لو صعدت المنبر فخطبت.

فصعد الحسين عليه السلام على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله فسمع رجلا يقول:

من هذا الذي يخطب؟

فقال الحسين عليه السلام: نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله الأقربون، وأهل بيته الطيبون، واحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله صلى الله عليه وآله ثاني كتاب الله تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كل شئ، لا يأتيه الباطل من بين يديه

____________

(1) موسى بن عقبة بن أبي عياش المدني تابعي عده الشيخ (ره) في أصحاب الصادق عليه السلام ص 307.


الصفحة 23
ولا من خلفه، والمعول علينا في تفسيره، لا يبطينا تأويله، بل نتبع حقايقه.

فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، أن كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عز وجل: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) وقال: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان إلا قليلا).

وأحذركم الاصغاء إلى هتوف الشيطان بكم فإنه لكم عدو مبين فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم لا غالب لكم اليوم من الناس وأني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم فتلقون للسيوف ضربا وللرماح وردا وللعمد حطما وللسهام غرضا ثم لا يقبل من نفس إيمانها لن تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قال معاوية: حسبك يا أبا عبد الله قد بلغت.

وعن محمد بن السايب (1) أنه قال: قال مروان بن الحكم يوما للحسين ابن علي عليه السلام.

لولا فخركم بفاطمة بم كنتم تفتخرون علينا؟ فوثب الحسين عليه السلام - وكان عليه السلام شديد القبضة - فقبض على حلقه فعصره، ولوى عمامته على عنقه حتى غشي عليه، ثم تركه، وأقبل الحسين عليه السلام على جماعة من قريش فقال:

أنشدكم بالله إلا صدقتموني إن صدقت أتعلمون أن في الأرض حبيبين كانا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مني ومن أخي؟ أو على ظهر الأرض ابن بنت نبي غيري وغير أخي؟

قالوا: اللهم لا.

قال: وأني لا أعلم أن في الأرض ملعون ابن ملعون غير هذا وأبيه، طريدي رسول الله، والله ما بين جابرس وجابلق أحدهما بباب المشرق والآخر بباب المغرب رجلان ممن ينتحل الإسلام أعدى لله ولرسوله ولأهل بيته منك ومن أبيك إذا كان وعلامة قولي فيك أنك: إذا غضبت سقط رداؤك عن منكبك.

____________

(1) محمد بن السايب: عده الشيخ في أصحاب الصادق (ع) ص 289.


الصفحة 24
قال: فوالله ما قام مروان من مجلسه حتى غضب فانتفض وسقط رداؤه عن عاتقه.

إحتجاجه عليه السلام على أهل الكوفة بكربلا.

عن مصعب بن عبد الله (1) لما استكف الناس بالحسين عليه السلام ركب فرسه واستنصت الناس، حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

تبا لكم أيتها الجماعة وترحا وبؤسا لكم! حين استصرختمونا ولهين، فأصرخناكم موجفين، فشحذتم علينا سيفا كان في أيدينا، وحمشتم علينا نارا أضرمناها على عدوكم وعدونا، فأصبحتم إلبا على أوليائكم، ويدا على أعدائكم من غير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، ولا ذنب كان منا إليكم، فهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لم يستحصف ولكنكم أسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا، وتهافتم إليها كتهافت الفراش، ثم نقضتموها سفها وضلة، فبعدا وسحقا لطواغيت هذه الأمة! وبقية الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومطفئي السنن، ومؤاخي المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين، وعصاة الإمام، وملحقي العهرة بالنسب، ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون.

أفهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون!! أجل والله، خذل فيكم معروف، نبتت عليه أصولكم، واتذرت عليه عروقكم، فكنتم أخبث ثمر شجر للناظر، وأكلة للغاصب، ألا لعنة الله على الظالمين الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلا، ألا وإن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة وهيهات له ذلك مني! هيهات منا الذلة! أبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون

____________

(1) مصعب بن عبد الله: من آل الزبير بن العوام مجهول الحال ذكره المامقاني في الجزء الثالث من رجاله ص 219.


الصفحة 25
وحجور طهرت وجدود طابت، أن يؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، الأواني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد، وكثرة العدو، وخذلة الناصر، ثم تمثل فقال شعرا:

فإن نهزم فهزامون قدما وإن نهزم فغير مهزمينا وما أن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا فلو خلد الملوك إذا خلدنا ولو بقي الكرام إذا بقينا فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون بما لقينا وقيل: أنه لما قتل أصحاب الحسين عليه السلام وأقاربه وبقي فريدا ليس معه إلا ابنه علي زين العابدين عليه السلام، وابن آخر في الرضاع اسمه عبد الله، فتقدم الحسين عليه السلام إلى باب الخيمة فقال:

ناولوني ذلك الطفل حتى أودعه! فناولوه الصبي جعل يقبله وهو يقول:

يا بني ويل لهؤلاء القوم إذا كان خصمهم محمد صلى الله عليه وآله، قيل: فإذا بسهم قد أقبل حتى وقع في لبة الصبي فقتله، فنزل الحسين عن فرسه وحفر للصبي بجفن سيفه ورمله بدمه ودفنه، ثم وثب قائما وهو يقول:

كفر القوم وقدما رغبوا * عن ثواب الله رب الثقلين
قتلوا قدما عليا وابنه * حسن الخير كريم الطرفين
حنقا منهم وقالوا اجمعوا * نفتك الآن جميعا بالحسين
يالقوم من أناس رذل جمعوا * الجمع لأهل الحرمين
ثم صاروا وتواصوا كلهم * باحتياج لرضاء الملحدين
لم يخافوا الله في سفك دمي * لعبيد الله نسل الكافرين
وابن سعد قد رماني عنوة * بجنود كوكوف الهاطلين
لا لشئ كان مني قبل ذا * غير فخري بضياء الفرقدين
بعلي الخير من بعد النبي * والنبي القرشي الوالدين
خيرة الله من الخلق أبي * ثم أمي فأنا ابن الخيرتين


الصفحة 26

فضة قد خلقت من ذهب * فأنا الفضة وابن الذهبين
من له جد كجدي في الورى * أو كشيخي فإنا ابن القمرين
فاطم الزهراء أمي وأبي * قاصم الكفر ببدر وحنين
عروة الدين علي المرتضى * هادم الجيش مصلي القبلتين
وله في يوم أحد وقعة * شفت الغل بقبض العسكرين
ثم بالأحزاب والفتح معا * كان فيها حتف أهل القبلتين
في سبيل الله ماذا صنعت * أمة السوء معا بالعترتين
عترة البر التقي المصطفى * وعلى القرم يوم الجحفلين
عبد الله غلاما يافعا * وقريش يعبدون الوثنين
وقلى الأوثان لم يسجد لها * مع قريش لا ولا طرفة عين
طعن الأبطال لما برزوا * يوم بدر وتبوك وحنين

ثم تقدم الحسين عليه السلام حتى وقف قبالة القوم وسيفه مصلت في يده آيسا من نفسه، عازما على الموت، وهو يقول:

أنا ابن علي الطهر من آل هاشم * كفاني بهذا مفخرا حين أفخر
وجدي رسول الله أكرم من مشى * ونحن سراج الله في الخلق نزهر
وفاطم أمي من سلالة أحمد * وعمي يدعى ذو الجناحين جعفر
وفينا كتاب الله أنزل صادقا * وفينا الهدى والوحي بالخير تذكر
ونحن أمان الله للناس كلهم * نطول بهذا في الأنام ونجهر
ونحن حماة الحوض نسقي * ولاتنا بكأس رسول الله ما ليس ينكر
وشيعتنا في الحشر أكرم شيعة * ومبغضنا يوم القيامة يخسر


الصفحة 27

احتجاج فاطمة الصغرى على أهل الكوفة.

عن زيد بن موسى بن جعفر (1) عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال:

خطبت فاطمة الصغرى عليها السلام بعد أن ردت من كربلا فقالت:

الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد: أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن أولاده ذبحوا بشط الفرات من غير دخل ولا تراث، اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، وأن أقول خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالب عليه السلام، المسلوب حقه، المقتول من غير ذنب، كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله، وبها معشر مسلمة بألسنتهم، تعسا لرؤوسهم!

ما دفعت عنه ضيما في حياته ولا عند مماته، حتى قبضته إليك محمود النقيبة، طيب الضريبة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك لومة لائم، ولا عذل عاذل، هديته يا رب للإسلام صغيرا، وحمدت مناقبه كبيرا، ولم يزل ناصحا لك ولرسولك صلى الله عليه وآله صلواتك عليه وآله حتى قبضته إليك، زاهدا في الدنيا غير حريص عليها، راغبا في الآخرة مجاهدا لك في سبيلك، رضيته فاخترته، وهديته إلى طريق مستقيم.

أما بعد يا أهل الكوفة! يا أهل المكر والغدر والخيلاء، أنا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلائنا حسنا، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجته في الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضلنا بنبيه صلى الله عليه وآله على كثير من خلقه تفضيلا، فكذبتمونا، وكفرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالا، وأموالنا نهبا، كأنا أولاد الترك أو كابل،

____________

(1) زيد بن موسى بن جعفر (ع) - وهو لأم ولد - عقد له محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) أيام أبي السرايا على الأهواز، ولما دخل البصرة وغلب عليها أحرق دور بني العباس وأضرم النار في نخيلهم وجميع أسبابهم فقيل له: زيد النار. عمدة الطالب ص 221

الصفحة 28
كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم، قرت بذلك عيونكم، وفرحت به قلوبكم، اجتراءا منكم على الله، ومكرا مكرتم والله خير الماكرين، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا (1) ونالت أيديكم من أموالنا، فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة، والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور.

تبا لكم! فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حل بكم، وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم بما كسبتم (2) ويذيق بعضكم بأس بعض، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين، ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم، أو أية نفس نزعت إلى قتالنا، أم بأية رجل مشيتم إلينا، تبغون محاربتنا؟ قست قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع على أفئدتكم، وختم على سمعكم وبصركم، وسول لكم الشيطان وأملى لكم وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

تبا لكم يا أهل الكوفة! كم تراث لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم، وذحوله لديكم، ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام جدي، وبنيه عترة النبي الطيبين الأخيار، وافتخر بذلك مفتخر فقال:

(نحن قتلنا عليا وبني علي بسيوف هندية ورماح، وسبينا نساؤهم سبي ترك ونطحناهم فأي نطاح).

فقالت: بفيك أيها القائل الكثكث (3) ولك الأثلب (4) افتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم، وأذهب عنهم الرجس، فاكظم واقع كما أقعى أبوك، وإنما لكل امرء ما قدمت يداه، حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا الله.

____________

(1) الجذل: الفرح

(2) يسحتكم: يستأصلكم

(3) الكثكث: دقاق التراب

(4) الأثلب: دقاق الحجر

الصفحة 29

فما ذنبنا أن جاش دهر بحورنا * وبحرك ساج لا يواري الدعامصا (1)

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالوا: حسبك يا بنت الطيبين! فقد أحرقت قلوبنا، وأنضجت نحورنا، وأضرمت أجوافنا، فسكتت عليها وعلى أبيها وجدها السلام

خطبة زينب بنت علي بن أبي طالب بحضرة أهل الكوفة في ذلك اليوم تقريعا لهم وتأنيبا.

عن حذيم بن شريك الأسدي (2) قال لما أتى علي بن الحسين زين العابدين بالنسوة من كربلاء، وكان مريضا، وإذا نساء أهل الكوفة ينتدبن مشققات الجيوب، والرجال معهن يبكون.

فقال زين العابدين عليه السلام - بصوت ضئيل وقد نهكته العلة -: إن هؤلاء يبكون علينا فمن قتلنا غيرهم، فأومت زينب بنت علي بن أبي طالب عليهما السلام إلى الناس بالسكوت. قال حذيم الأسدي: لم أر والله خفرة قط أنطق منها، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي عليه السلام، وقد أشارت إلى الناس بأن انصتوا فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثم قالت - بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله -

أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل (3) والغدر، والخذل!! ألا فلا رقأت العبرة (4) ولا هدأت الزفرة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد

____________

(1) الدعامص - جمع دعموص - وهو: دويبة صغيرة تكون في مستنقع الماء، والبيت للأعشى.

(2) حذيم بن شريك الأسدي: عده الشيخ في رجاله ص 88 من أصحاب الإمام علي بن الحسين عليه السلام.

(3) الختل: الخداع.

(4) رقأت: جفت.

الصفحة 30
قوة أنكاثا (1) تتخذون أيمانكم دخلا بينكم (2) هل فيكم إلا الصلف (3) والعجب، والشنف (4) والكذب، وملق الإماء وغمز الأعداء (5) أو كمرعى على دمنة (6) أو كفضة على ملحودة (7) ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون أخي؟! أجل والله فابكوا فإنكم أحرى بالبكاء فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا، فقد أبليتم بعارها، ومنيتم بشنارها (8) ولن ترحضوا أبدا (9) وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم، واسى كلمكم (10) ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقاتلتكم ومدرة حججكم (11) ومنار محجتكم، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم، وساء ما تزرون ليوم بعثكم، فتعسا تعسا! ونكسا نكسا! لقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة، أتدرون ويلكم أي كبد لمحمد صلى الله عليه وآله فرثتم؟! وأي عهد نكثتم؟! وأي كريمة له أبرزتم؟! وأي حرمة له هتكتم؟! وأي دم له سفكتم؟! لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا! لقد جئتم بها شوهاء صلعاء، عنقاء، سوداء، فقماء خرقاء (12) كطلاع الأرض، أو ملأ السماء (13)

____________

(1) أي: حلته وأفسدته بعد إبرام.

(2) أي: خيانة وخديعة.

(3) الصلف: الذي يمتدح بما ليس عنده.

(4) الشنف: البعض بغير حق.

(5) الغمز: الطعن والعيب.

(6) الدمنة: المزبلة.

(7) الفضة: الجص. والملحودة: القبر.

(8) الشنار: العار.

(9) أي لن تغسلوها.

(10) أي: دواء جرحكم.

(11) المدرة زعيم القوم ولسانهم المتكلم عنهم.

(12) الشوهاء: القبيحة. والفقهاء إذا كانت ثناياها العليا إلى الخارج فلا تقع على السفلى. والخرقاء: الحمقاء.

(13) طلاع الأرض: ملؤها.


الصفحة 31
أفعجبتم أن تمطر السماء دما، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنكم المهل، فإنه عز وجل لا يحفزه البدار (1) ولا يخشى عليه فوت الثار، كلا إن ربك لنا ولهم لبالمرصاد، ثم أنشأت تقول عليها السلام:

ماذا تقولون إذ قال النبي لكم * ماذا صنعتم وأنتم آخر الأمم
بأهل بيتي وأولادي وتكرمتي * منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم
ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوء في ذوي رحم
إني لأخشى عليكم أن يحل بكم * مثل العذاب الذي أودى على ارم

ثم ولت عنهم.

قال حذيم: فرأيت الناس حيارى قد ردوا أيديهم في أفواههم، فالتفت إلي شيخ في جانبي يبكي وقد اخضلت لحيته بالبكاء، ويده مرفوعة إلى السماء، وهو يقول: بأبي وأمي كهولهم خير كهول، ونساؤهم خير نساء، وشبابهم خير شباب ونسلهم نسل كريم، وفضلهم فضل عظيم، ثم أنشد:

كهولكم خير الكهول ونسلكم * إذا عد نسل لا يبور ولا يخزى

فقال علي بن الحسين عليه السلام يا عمة اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار، وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة، فهمة غير مفهمة، إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر، فسكتت. ثم نزل عليه السلام وضرب فسطاطه، وأنزل نسائه ودخل الفسطاط.

احتجاج علي بن الحسين عليهما السلام على أهل الكوفة حين خرج من الفسطاط وتوبيخه إياهم على غدرهم ونكثهم.

قال حذيم بن شريك الأسدي: خرج زين العابدين عليه السلام إلى الناس وأومئ إليهم أن اسكتوا فسكتوا، وهو قائم، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال:

____________

(1) يحفزه: يدفعه..


الصفحة 32
أيها الناس من عرفني فقد عرفني! ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين، المذبوح بشط الفرات من غير دخل ولا تراث، أنا ابن من انتهك حريمه، وسلب نعيمه، وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن من قتل صبرا، فكفى بذلك فخرا.

أيها الناس ناشدتكم بالله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة؟ قاتلتموه وخذلتموه فتبا لكم ما قدمتم لأنفسكم وسوء لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي.

قال: فارتفعت أصوات الناس بالبكاء، ويدعو بعضهم بعضا: هلكتم وما تعلمون.

فقال علي بن الحسين، رحم الله امرءا قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله، وفي أهل بيته، فإن لنا في رسول الله أسوة حسنة.

فقالوا بأجمعهم؟ نحن كلنا يا بن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك رحمك الله فإنا حرب لحربك، سلم لسلمك، لنأخذن ترتك وترتنا، عمن ظلمك وظلمنا.

فقال علي بن الحسين عليه السلام: هيهات هيهات!! أيها الغدرة المكرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى آبائي من قبل كلا ورب الراقصات إلى منى، فإن الجرح لما يندمل!! قتل أبي بالأمس، وأهل بيته معه، فلم ينسني ثكل رسول الله صلى الله عليه وآله، وثكل أبي وبني أبي و جدي شق لهازمي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري.

و مسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا:

ثم قال عليه السلام:

لا غرو أن قتل الحسين وشيخه * قد كان خيرا من حسين وأكرما
فلا تفرحوا يا أهل كوفة بالذي * أصيب حسين كان ذلك أعظما
قتيل بشط النهر نفسي فداؤه * جزاء الذي أرداه نار جهنما


الصفحة 33

إحتجاجه عليه السلام بالشام على بعض أهلها حين قدم به وبمن معه على يزيد لعنه الله.

وعن ديلم بن عمر قال: كنت بالشام حين أتي بسبايا آل محمد صلى الله عليه وآله، فأقيموا على باب المسجد حيث تقام السبايا، وفيهم علي بن الحسين، فأتاهم شيخ من أشياخ أهل الشام فقال:

الحمد لله الذي قتلكم، وأهلككم، وقطع قرون الفتنة. فلم يأل عن سبهم وشتمهم، فلما انقضى كلامه.

قال له علي بن الحسين عليه السلام: إني قد أنصت لك حتى فرغت من منطقك، وأظهرت ما في نفسك من العداوة والبغضاء، فانصت لي كما أنصت لك.

فقال له: هات.

قال علي عليه السلام: أما قرأت كتاب الله عز وجل؟

قال: نعم.

فقال عليه السلام له: أما قرأت هذه الآية (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى).

قال: بلى.

فقال عليه السلام: نحن أولئك فهل تجد لنا في سورة بني إسرائيل حقا خاصة دون المسلمين؟

فقال: لا.

فقال: أما قرأت هذه الآية؟ وآت ذا القربى حقه؟

قال: نعم.

قال علي عليه السلام: فنحن أولئك الذين أمر الله نبيه أن يؤتيهم حقهم.

فقال الشامي: إنكم لأنتم هم؟

فقال علي عليه السلام: نعم. فهل قرأت هذه الآية واعلموا إنما غنمتم من شئ

الصفحة 34
فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى؟

فقال له الشامي: بلى.

فقال علي عليه السلام: فنحن ذو القربى، فهل تجد لنا في سورة الأحزاب حقا خاصة دون المسلمين؟

فقال: لا.

قال علي بن الحسين عليه السلام: أما قرأت هذه الآية: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)؟

قال: فرفع الشامي يده إلى السماء ثم قال:

اللهم إني أتوب إليك! ثلاث مرات، اللهم إني أتوب إليك من عداوة آل محمد، وأبرء إليك ممن قتل أهل بيت محمد، ولقد قرأت القرآن منذ دهر فما شعرت بها قبل اليوم.

احتجاج زينب بنت علي بن أبي طالب حين رأت يزيد (لعنه الله) يضرب ثنايا الحسين (ع) بالمخصرة.

روى شيخ صدوق من مشايخ بني هاشم وغيره من الناس: أنه لما دخل علي ابن الحسين عليه السلام وحرمه على يزيد، وجيئ برأس الحسين عليه السلام ووضع بين يديه في طست، فجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده، وهو يقول:

لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا * ولقالوا يا يزيد لا تشل
فجزيناه ببدر مثللا * وأقمنا مثل بدر فاعتدل
لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل

قالوا: فلما رأت زينب ذلك فأهوت إلى حبيبها فشقت، ثم نادت بصوت حزين تقرع القلوب، يا حسيناه! يا حبيب رسول الله! يا بن مكة ومنى! يا بن فاطمة الزهراء سيدة النساء! يا بن محمد المصطفى.


الصفحة 35
قال: فأبكت والله كل من كان، ويزيد ساكت، ثم قامت على قدميها، وأشرفت على المجلس، وشرعت في الخطبة، إظهارا لكمالات محمد صلى الله عليه وآله، وإعلانا بأنا نصبر لرضاء الله، لا لخوف ولا دهشة، فقامت إليه زينب بنت علي وأمها فاطمة بنت رسول الله وقالت:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة على جدي سيد المرسلين، صدق الله سبحانه كذلك يقول: (ثم كان عاقبة الذين أساؤا السؤى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن) أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض، وضيقت علينا آفاق السماء، فأصبحنا لك في أسار، نساق إليك سوقا في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار أن بنا من الله هوانا وعليك منه كرامة وامتنانا، وأن ذلك لعظم خطرك، وجلالة قدرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك (1) تضرب أصدريك فرحا (2) وتنقض مذرويك مرحا (3) حين رأيت الدنيا لك مستوسقة (4) والأمور لديك متسقة (5) وحين صفا لك ملكنا، وخلص لك سلطاننا، فمهلا مهلا لا تطش جهلا أنسيت قول الله عز وجل: (ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيرا لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين).

أمن العدل يا بن الطلقاء؟! تخديرك حرائرك وإمائك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد، وتستشرفهن المناقل (6) ويتبرزن لأهل المناهل (7) ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والغائب والشهيد، والشريف والوضيع، والدني والرفيع ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي، عتوا منك على الله (8) وجحودا لرسول الله، ودفعا لما جاء به من عند الله، ولا غرو منك ولا عجب من

____________

(1) نظر في عطفه: أخذه العجب.

(2) الأصدران: عرقان تحت الصدغين

(3) المذروان: أطراف الإليتين.

(4) مستوسقة: مجتمعة.

(5) متسقة: مستوية.

(6) تستشرف: تنظر.

(7) المناهل: مواضع شرب الماء في الطريق.

(8) عتوا: عنادا.


الصفحة 36
فعلك، وأنى يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الشهداء ونبت لحمه بدماء السعداء ونصب الحرب لسيد الأنبياء، وجمع الأحزاب، وشهر الحراب، وهز السيوف في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، أشد العرب جحودا، وأنكرهم له رسولا، وأظهرهم له عدوانا، وأعتاهم على الرب كفرا وطغيانا، ألا إنها نتيجة خلال الكفر، وصب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر، فلا يستبطئ في بغضنا أهل البيت من كان نظره إلينا شنفا وإحنا وأظغانا، يظهر كفره برسول الله، ويفصح ذلك بلسانه، وهو يقول: - فرحا بقتل ولده وسبي ذريته، غير متحوب ولا مستعظم -.

لأهلوا واستهلوا فرحا ولقالوا يا يزيد لا تسل منحنيا على ثنايا أبي عبد الله - وكان مقبل رسول الله صلى الله عليه وآله - ينكتها بمخصرته، قد التمع السرور بوجهه، لعمري لقد نكأت القرحة (1) واستأصلت الشأفة، بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنة، وابن يعسوب الدين العرب، وشمس آل عبد المطلب، وهتفت بأشياخك، وتقربت بدمه إلى الكفرة من أسلافك، ثم صرخت بندائك ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك! ووشيكا تشهدهم، ولن يشهدوك ولتود يمينك كما زعمت شلت بك عن مرفقها وجدت، وأحببت أمك لم تحملك وإياك لم يلد، أو حين تصير إلى سخط الله ومخاصمك رسول الله صلى الله عليه وآله.

اللهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، واحلل غضبك على من سفك دمائنا ونقض ذمارنا، وقتل حماتنا، وهتك عنا سدولنا، وفعلت فعلتك التي فعلت، وما فريت إلا جلدك، وما جززت إلا لحمك، وسترد على رسول الله بما تحملت من دم ذريته، وانتهكت من حرمته، وسفكت من دماء عترته ولحمته، حيث يجمع به شملهم، ويلم به شعثهم، وينتقم من ظالمهم، ويأخذ لهم بحقهم من أعدائهم فلا يستفزنك الفرح بقتلهم، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، وحسبك بالله وليا وحاكما، وبرسول الله خصما، وبجبرئيل ظهيرا، وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المسلمين

____________

(1) نكأت: قشرت قبل أن تبرأ

الصفحة 37
أن بئس للظالمين بدلا، وأيكم شر مكانا وأضل سبيلا، وما استصغاري قدرك، ولا استعظامي تقريعك (1) توهما لانتجاع الخطاب فيك (2) بعد أن تركت عيون المسلمين به عبرى، وصدورهم عند ذكره حرا، فتلك قلوب قاسية، ونفوس طاغية، وأجسام محشوة بسخط الله ولعنة الرسول، قد عشش فيه الشيطان، وفرخ، ومن هناك مثلك ما درج، فالعجب كل العجب لقتل الأتقياء، وأسباط الأنبياء، وسليل الأوصياء، بأيدي الطلقاء الخبيثة، ونسل العهرة الفجرة، تنطف أكفهم من دمائنا (3) وتنحلب أفواههم من لحومنا (4) تلك الجثث الزاكية على الجيوب الضاحية، تنتابها العواسل (5) وتعفرها أمهات الفواعل (6) فلئن اتخذتنا مغنما لتجد بنا وشيكا مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد فإلى الله المشتكى والمعول، وإليه الملجأ والمؤمل، ثم كد كيدك، واجهد جهدك فوالله الذي شرفنا بالوحي والكتاب، والنبوة والانتخاب، لا تدرك أمدنا، ولا تبلغ غايتنا، ولا تمحو ذكرنا، ولا يرحض عنك عارنا، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم يناد المنادي ألا لعن الله الظالم العادي.

والحمد لله الذي حكم لأوليائه بالسعادة، وختم لأصفيائه بالشهادة، ببلوغ الإرادة، نقلهم إلى الرحمة والرأفة، والرضوان والمغفرة، ولم يشق بهم غيرك، ولا ابتلى بهم سواك، ونسأله أن يكمل لهم الأجر، ويجز لهم الثواب والذخر، ونسأله حسن الخلافة، وجميل الإنابة، إنه رحيم ودود.

فقال يزيد مجيبا لها:

يا صيحة تحمد من صوايح * ما أهون الموت على النوائح

ثم أمر بردهم. وقيل: أن فاطمة بنت الحسين كانت وضيئة الوجه، وكانت

____________

(1) التقريع: التعنيف.

(2) الانتجاع: الانتفاع.

(3) تنطف: أي تقطر.

(4) تتحلب: تسيل.

(5) تنتابها العواسل: تأتي مرة بعد أخرى والعواسل: الذئاب.

(6) تعفرها: تمرغها في التراب. والفواعل: أولاد الضباع.

الصفحة 38
جالسة بين النساء، فقام إلى يزيد رجل من أهل الشام أحمر فقال:

يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية! يعني: فاطمة بنت الحسين، فأخذت بثياب عمتها زينب بنت علي بن أبي طالب عليه السلام فقالت:

أوتم وأستخدم؟!

فقالت زينب للشامي: كذبت ولؤمت، والله ما ذاك لك ولا له، فغضب يزيد ثم قال:

إن ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت.

قالت زينب: كلا، والله ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا.

فقال يزيد: إنما خرج من الدين أبوك، وأخوك.

قالت زينب: بدين الله، ودين أبي، ودين أخي، اهتديت أنت إن كنت مسلما قال يزيد: كذبت يا عدوة الله.

فقالت زينب: أنت أمير تشتم ظلما، وتقهر بسلطانك.

فكأنه استحيى فسكت فعاد الشامي فقال:

يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية.

فقال يزيد: أغرب وهب الله لك حتفا قاضيا

احتجاج علي بن الحسين زين العابدين على يزيد بن معاوية لما أدخل عليه.

روت ثقات الرواة وعدولهم أنه لما أدخل علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في جملة من حمل إلى الشام سبايا من أولاد الحسين بن علي عليه السلام وأهاليه على يزيد قال له:

يا علي الحمد لله الذي قتل أباك!

قال علي عليه السلام: قتل أبي الناس.

قال يزيد: الحمد لله الذي قتله فكفانيه!