[137]
بحضرتك فناظرهم فيه ثم أمض ما يجتمع عليه أقاويل الفقهاء بحضرتك من المسلمين، فإن كل أمر اختلف فيه الرعية مردود إلى حكم الامام وعلى الامام الاستعانة بالله والاجتهاد في إقامة الحدود وجبر الرعية على أمره ولا قوة إلا بالله.
ثم انظر إلى أمور عمالك واستعملهم اختبارا ولا تولهم امورك محاباة (1) و أثرة، فإن المحاباة والاثرة جماع الجور والخيانة وإدخال الضرورة على الناس وليست تصلح الامور بالادغال (2) فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعلم والسياسة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام. فإنهم أكرم أخلاقا وأصح أعراضا وأقل في المطامع إشرافا وأبلغ في عواقب الامور نظرا من غيرهم فليكونوا أعوانك على ما تقلدت. ثم أسبغ عليهم في العمالات ووسع عليهم في الارزاق فإن في ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك (3) ثم تفقد إعمالهم وابعث العيون عليهم من أهل الصدق والوفاء، فإن تعهدك في السر أمورهم حدوة لهم (4) على استعمال الامانة والرفق بالرعية. وتحفظ من الاعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة فوسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة. وتفقد ما يصلح أهل الخراج (5) فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، فليكن نظرك في عمارة الارض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج فإن الجلب لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم له أمره إلا قليلا، فاجمع إليك أهل الخراج من كل بلدانك ومرهم فليعلموك حال بلادهم وما
___________________________________
(1) " محاباة " أى اختصاصا وميلا.
والاثرة - بالتحريك -: اختصاص المرء نفسه بأحسن الشئ دون غيره ويعمل كيف يشاء، يعنى استعمل عمالك بالاختبار والامتحان لا اختصاصا واستبدادا.
(2) الادغال: الافساد وإدخال في الامر بما يخالفه ويفسده.
(3) نقصوا وخانوا في أدائها وأحدثوا فيها.
(4) الحدوة: السوق والحث.
(5) في النهج [ وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله ].
(*)
[138]
فيه صلاحهم ورخاء جبايتهم (1) ثم سل عما يرفع إليك أهل العلم به من غيرهم، فان كانوا شكوا ثقلا (2) أو علة من انقطاع شرب أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بهم العطش أو آفة خففت عنهم ما ترجو أن يصلح الله به أمرهم. وإن سألوا معونة على إصلاح ما يقدرون عليه بأموالهم فاكفهم مؤونته، فإن في عاقبة كفايتك إياهم صلاحا. فلا يثقلن عليك شئ خففت به عنهم المؤونات، فإنه ذخر يعودون به عليك لعمارة بلادك وتزيين ولايتك مع إقتنائك مودتهم وحسن نياتهم (3) واستفاضة الخير وما يسهل الله به من جلبهم (4)، فإن الخراج لا يستخرج بالكد والاتعاب مع أنها عقد تعتمد عليها إن حدث حدث كنت عليهم معتمدا لفضل قوتهم بما ذخرت عنهم من الجمام (5) و الثقة منهم بما عودتهم من عدلك ورفقك ومعرفتهم بعذرك فيما حدث من الامر الذي اتكلت به عليهم فاحتملوه بطيب أنفسهم، فإن العمران (6) محتمل ما حملته وإنما يؤتى خراب الارض لاعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لاسراف الولاة (7) وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر. فاعمل فيما وليت عمل من يحب أن يدخر حسن الثناء من الرعية والمثوبة من الله والرضا من الامام. ولا قوة إلا بالله. ثم انظر في حال كتابك فاعرف حال كل امرئ منهم فيما يحتاج إليه منهم، فاجعل لهم منازل ورتبا، فول على امورك خيرهم واخصص رسائلك التي تدخل فيها
___________________________________
(1) الجباية: الخراج.
(2) أى من الخراج أو علة اخرى كانقطاع الشرب (بالكسر أى النصيب من الماء) أو إحالة أرض يعنى تغييرها عما كانت عليه من الاستواء لاجل الاغتمار أى الانغماس في الماء بالغرق فلم ينجب زرعها ولا أثمر نخلها. وقوله: " أو أجحف بهم " أى ذهب بمادة الغذاء من الارض فلم تنبت.
(3) في بعض النسخ [ نيتهم ]. وفى النهج [ مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم ].
(4) في بعض النسخ [ حليهم ].
(5) في بعض النسخ [ الجمام ] وفى النهج [ من اجمامك ] والجمام: الراحة.
(6) فان العمران ما دام قائما فكل ما حملت أهله سهل عليهم أن يحملوه. والاعواز: الفقر والحاجة.
(7) في النهج [ لاشراف أنفس الولاة على الجمع ]. أى لتطلع أنفسهم إلى جمع المال.
(*)
[139]
مكيدتك وأسرارك بأجمعهم (1) لوجوه صالح الادب ممن يصلح للمناظرة في جلائل الامور من ذوي الرأي والنصيحة والذهن، أطواهم عنك لمكنون الاسرار كشحا ممن لا تبطره الكرامة ولا تمحق به الدالة فيجترئ بها عليك في خلاء أو يلتمس إظهارها في ملاء، ولا تقصر به الغفلة (2) عن إيراد كتب الاطراف عليك وإصدار جواباتك على الصواب عنك وفيما يأخذ ويعطي منك ولا يضعف عقدا اعتقده لك ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. وول ما دون ذلك من رسائلك وجماعات كتب خرجك ودواوين جنودك قوما تجتهد نفسك في إختيارهم، فإنها رؤوس أمرك أجمعها لنفعك وأعمها لنفع رعيتك. ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك (3) وحسن الظن بهم، فإن الرجال يعرفون فراسات الولاة بتصنعهم وخدمتهم (4) وليس وراء ذلك من النصيحة والامانة. ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لاحسنهم كان في العامة أثرا وأعرفهم فيها بالنبل والامانة (5)، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره. ثم مرهم بحسن الولاية ولين الكلمة واجعل لرأس كل أمر من امورك رأسا منهم، لا يقهره كبيرها (6) ولا يتشتت عليه كثيرها، ثم تفقد ما غاب عنك من حالاتهم وامور
___________________________________
(1) باجمعهم متعلق باخصص، أى ما يكون من رسائلك حاويا لشئ من المكائد والاسرار فاخصصه بمن كان ذا أخلاق وصلاح ورأى ونصيحة وذهن وغير ذلك من الاوصاف المذكورة.
وطوى الحديث: كتمه. وطوى كحشا عنه أى أعرض عنه وقاطعه.
وبطر الرجل يبطر بطرا - محركة - إذا دهش وتحير في الحق. وبالامر ثقل به.
وبطره النعمة: أدهشه. والدالة: الجرأة.
(2) أى ولا تكون غفلته موجبة لتقصيره في اطلاعك على ما يرد من أعمالك ولا في اصدار الاجوبة عنه على وجه الصواب.
(3) الفراسة - بالكسر -: حسن النظر في الامور والاستنامة: السكون والاستيناس، أى لا يكون انتخاب الكتاب تابعا لميلك الخاص.
(4) وفى النهج [ بتصنعهم وحسن خدمتهم ].
(5) النبل - بالضم -: الذكاء و: النجابة والفضل.
(6) أى لا يقهره عظيم تلك الاعمال ولا يخرج عن ضبطه كثيرها.
(*)
[140]
من يرد عليك رسله وذوي الحاجة وكيف ولايتهم وقبولهم وليهم وحجتهم (1) فإن التبرم والعز والنخوة من كثير من الكتاب إلا من عصم الله وليس للناس بد من طلب حاجاتهم ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه الزمته (2) أو فضل نسب إليك مع مالك عند الله في ذلك من حسن الثواب.
ثم التجار وذوي الصناعات فاستوص وأوص بهم خيرا: المقيم منهم والمضطرب بماله (3) والمترفق بيده فانهم مواد للمنافع وجلابها في البلاد في برك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها (4) ولا يجترئون عليها من من بلاد أعدائك من أهل الصناعات التي أجرى الله الرفق منها على أيديهم فاحفظ حرمتهم وآمن سلبهم وخذلهم بحقوقهم فإنهم سلم لا تخاف بائقته (5) وصلح لا تحذر غائلته، أحب الامور إليهم أجمعها للامن وأجمعها للسلطان، فتفقد امورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا (6) وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع وتحكما في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع الاحتكار فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عنه. وليكن البيع والشراء بيعا سمحا (7) بموازين عدل وأسعار لا
___________________________________
(1) في بعض النسخ [ وقبولهم ولينهم وحجتهم ].
والتبرم: التضجر.
(2) تغابيت أى تغافلت عن عيب في كتابك يكون ذلك العيب لاصقا بك.
(3) المضطرب بماله: المتردد بأمواله في الاطرف والبلدان.
والمترفق بيده: المكتسب به وأصله ما به يتم الانتفاع كالادوات.
والجلاب: الذى يجلب الارزاق والمتاع إلى البلدان.
(4) يلتئم: يجتمع وينضم أى بحيث لا يمكن اجتماع الناس في مواضع تلك المرافق.
و لا يجترئون أى ولا يكون لهم الجرأة على الاقدام من تلك الامكنة من بلاد الاعداء.
والرفق - بالفتح النفع.
(5) البائقه: الداهية والشر.
والغائلة: الفتنة والفساد والشر.
أى فان التجار والصناع مسالمون ولا تخشى منهم فتنة ولا داهية.
(6) الضيق: عسر المعاملة.
البياعات: جمع بياعة: ما يباع.
(7) السمحة: السهلة التى لا ضيق فيها وبيع السماح: ما كان فيه تساهل في بخس الثمن وفى الخبر " السماح رباح " أى المساهلة في الاشياء تربح صاحبها.
(*)
[141]
تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع (1)، فمن قارف حكرة بعد نهيك فنكل وعاقب في غير إسراف.
فإن رسول الله صلى الله عليه وآله فعل ذلك.
ثم ألله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وذوي البؤس، والزمنى (2)، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا (3) فاحفظ الله ما استحفظك من حقه فيها واجعل لهم قسما من غلات صوافي الاسلام (4) في كل بلد، فإن للاقصى منهم مثل الذي للادنى. وكلا قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم نظر (5)، فإنك لا تعذر بتضييع الصغير لاحكامك الكثير المهم (6)، فلا تشخص همك عنهم. ولا تصعر خدك لهم وتواضع لله يرفعك الله واخفض جناحك للضعفاء واربهم (7) إلى ذلك منك حاجة وتفقد من امورهم ما لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون (8) وتحقره الرجال، ففرغ لاولئك ثقتك (9) من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك امورهم، ثم اعمل فيهم بالاعذار إلى الله يوم تلقاه، فإن هؤلاء أحوج إلى الانصاف من غيرهم وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم والزمانة والرقة في السن ممن لا
___________________________________
(1) المبتاع: المتشرى. وقارف: قارب وخالط. والحكرة - بالضم -: اسم من الاحتكار.
(2) البؤس - بضم الباء - وفى النهج [ البؤسى ] - كصغرى -: شدة الفقر. والزمنى - بالفتح جمع زمن - ككتف -: المصاب بالزمانة - بالفتح - وهى العاهة وتعطيل القوى وعدم بعض الاعضاء.
(3) القانع - من قنع بالكسر كعلم -: إذا رضى بما معه وما قسم له. ومن قنع بالفتح كمنع إذا سأل وخضع. المعتر - بتشديد الراء -: المتعرض للعطاء من غير أن يسأل.
(4) الصوافى: جمع صافية: الارض التى جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لهم.
وصوافى الاسلام هى ارض الغنيمة. وغلات: جمع غلة وهى الدخل الذى يحصل من الزرع.
والتمر واللبن والاجارة والبناء ونحو ذلك وغلات صوافى الاسلام: ثمراتها.
(5) في النهج [ بطر ].
(6) في بعض النسخ [ الكبير المهم ]. " فلا تشخص " أى لا تصرف إهتمامك عن ملاحظه شؤونهم.
والصعر: الميل في الخد إعجابا وكبرا أى لا تعرض بوجهك عنهم. (7) كذا. وفى نسخة [ ارئهم ].
(8) تقتحمه العيون: تكره أن تنظر إليه احتقارا.
(9) " ففرغ " أى فاجعل للتفحص عنهم وعن حالهم اشخاصا ممن تثق بهم يتفرغون أنفسهم لمعرفة أحوالهم ويبذلون جهدهم فيهم.
(*)
[142]
حيلة له. ولا ينصب للمسألة نفسه فاجر لهم أرزاقا فإنهم عباد الله فتقرب إلى الله بتخلصهم ووضعهم مواضعهم في أقواتهم وحقوقهم، فإن الاعمال تخلص بصدق النيات. ثم إنه لا تسكن نفوس الناس أو بعضهم إلى أنك قد قضيت حقوقهم بظهر الغيب دون مشافهتك بالحاجات (1) وذلك على الولاة ثقيل.
والحق كله ثقيل. وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة (2) فصبروا نفوسهم ووثقوا بصدق موعود الله لمن صبر واحتسب فكن منهم واستعن بالله. واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك وذهنك من كل شغل، ثم تأذن لهم عليك وتجلس لهم مجلسا تتواضع فيه لله الذي رفعك. وتقعد عنهم جندك وأعوانك (3) من أحراسك وشرطك تخفض لهم في مجلسك ذلك جناحك وتلين لهم كنفك (4) في مراجعتك ووجهك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع (5)، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن: " لن تقدس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع". ثم احتمل الخرق منهم والعي (6) ونح عنك الضيق والانف (7) يبسط الله عليك أكناف رحمته (8) و
___________________________________
(1) المشافهة: المخاطبة بالشفه أى من فيه إلى فيه والمراد حضورهم.
(2) في بعض النسخ [ العافية ].
(3) تأمر بآن يقعد عنهم ولا يتعرض لهم. والاحراس: جمع حارس وهو من يحرس الحاكم من وصول المكروه إليه. أى أعوان الحاكم.
والشرط - بضم ففتح -: جمع شرطة - بضم فسكون - وهم طائفة من أعوان الولاة وسموا بذلك لانهم اعلموا أنفسهم بالعلامات يعرفون بها. وهم المعروفون الان بالضابطة.
(4) الكنف - بالتحريك - الجانب، الظل.
(5) التعتعة في الكلام: التردد فيه من عى أو عجز والمراد غير خائف منك ومن أعوانك وفى النهج [ غير متتعتع ] في الموضعين ولعله أصح.
(6) الخرق - بالضم -: العنف.
والعى - بالكسر -: العجز عن النطق أى اطق واصبر، لا تضجر من هذا ولا تغضب لذاك.
(7) المراد بالضيق: ضيق الصدر من هم أو سوء خلق.
والانف - بالتحريك -: الاستكبار والترفع.
أى بعد عن نفسك هذا وذاك.
(8) الاكناف: الاطراف.
(*)
[143]
يوجب لك ثواب أهل طاعته، فأعط ما أعطيت هنيئا (1) وامنع في إجمال وإعذار و تواضع هناك فإن الله يحب المتواضعين. وليكن أكرم أعوانك عليك الينهم جانبا و أحسنهم مراجعة وألطفهم بالضعفاء، إن شاء الله. ثم إن امورا من امورك لابد لك من مباشرتها، منها إجابة عمالك ما يعيى عنه (2) كتابك. ومنها إصدار حاجات الناس في قصصهم. ومنها معرفة ما يصل إلى الكتاب والخزان مما تحت أيديهم، فلا تتوان فيما هنالك ولا تغتنم تأخيره واجعل لكل أمر منها من يناظر فيه ولاته بتفريغ لقلبك وهمك، فكلما أمضيت أمرا فأمضه بعد التروية (3) ومراجعة نفسك ومشاورة ولي ذلك، بغير احتشام ولا رأي (4) يكسب به عليك نقيضه. ثم أمض لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه. واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الاقسام (5) وإن كانت كلها لله إذا صحت فيها النية (6) و سلمت منها الرعية. وليكن في خاص ما تخلص لله به دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك ما يجب، فإن الله جعل النافلة لنبيه خاصة دون خلقه فقال: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (7) "، فذلك أمر اختص الله به نبيه وأكرمه به ليس لاحد سواه وهو لمن سواه تطوع فإنه يقول: " ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (8) " فوفر ما تقربت به إلى الله وكرمه وأد فرائضه إلى الله كاملا غير مثلوب ولا منقوص (9) بالغا ذلك من
___________________________________
(1) هنيئا: سهلا لينا أى لا تخشنه وإذا منعت فامنع بلطف وعذر.
(2) أى يعجز عنه.
(3) التروية: النظر في الامر والتفكر فيه.
(4) الاحتشام من الحشمة - بالكسر -: الاستحياء والانقباض والغضب.
(5) أجزل: أعظم.
(6) في النهج [ إذا صلحت ].
(7) سورة الاسراء آية 81.
(8) سورة البقرة آية 153.
وفى النهج [ ووف ما تقربت ].
(9) المثلوب: المعيوب.
وفى النهج [ المثلوم ] أى المخدوش.
وبالغا أى وإن بلغ من اتعاب بدنك أى مبلغ.
(*)
[144]
بدنك ما بلغ. فإذا قمت في صلاتك بالناس فلا تطولن ولا تكونن منفرا ولا مضيعا (1) فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله حين وجهني إلى اليمن: كيف نصلي بهم؟ فقال: " صل بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما. وبعد هذا (2) فلا تطولن احتجابك عن رعيتك. فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالامور. والاحتجاب يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل (3) وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الامور وليست على القول سمات (4) يعرف بها الصدق من الكذب، فتحصن من الادخال في الحقوق بلين الحجاب (5) فإنما أنت أحد رجلين: إما امرء سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك؟ من واجب حق تعطيه؟ أو خلق كريم تسديه؟، وإما مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع أن أكثر حاجات الناس إليك مالا مؤونة عليك فيه من شكاية مظلمة أو طلب إنصاف. فانتفع بما وصفت لك واقتصر فيه على حظك ورشدك إن شاء الله. ثم إن للملوك خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف (6) فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الاشياء، ولا تقطعن لاحد من حشمك ولا حامتك قطيعة (7) ولا تعتمدن في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك
___________________________________
(1) أى بالتطويل والتنقيص.
والمطلوب المتوسط.
(2) وفى النهج [ وأما بعد ].
(3) يشاب: يخلط.
(4) سمات: جمع سمة - بكسر السين -: العلامة.
وفى النهج [ وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب ].
(5) الادخال في الحقوق: الافساد فيها.
ومن المحتمل " الادغال في الحقوق ".
(6) الاستئثار: تقديم النفس على الغير.
والتطاول: الترفع والتكبر.
(7) الحسم: القطع.
والحشم - محركة -: الخدم.
وفى النهج [ حاشيتك ].
والحامة: الخاصة والقطيعة - من الاقطاع -: المنحة من الارض (*)
[145]
يحملون مؤونتهم على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة (1).
عليك بالعدل في حكمك إذا انتهت الامور إليك وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابرا محتسبا، وافعل ذلك بقرابتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليه منه (2). فإن مغبة ذلك محمودة. وإن ظنت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بعذرك (3) واعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإن في تلك رياضة منك لنفسك ورفقا منك برعيتك وإعذارا تبلغ فيه حاجتك من تقويمهم على الحق في خفض وإجمال (4). لا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك فيه رضى (5) فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادك. ولكن الحذر كل الحذر من مقاربة عدوك في طلب الصلح (6) فإن العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم وتحصن كل مخوف تؤتى منه. وبالله الثقة في جميع الامور. وإن لجت بينك (7) وبين عدوك قضية عقدت له بها صلحا أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالامانة واجعل نفسك جنة دونه (8). فإنه ليس شئ من فرائض الله عزوجل الناس أشد عليه
___________________________________
(1) العقدة: الولاية على البلد، وما يمسك الشئ ويوثقه، وموضع العقد وهو ما عقد عليه والضيعة، والعقار الذى اعتقده صاحبه ملكا، والبيعة المعقودة لهم، والمكان الكثير الشجر أو النخل والكلاء الكافى للابل. وفى النهج هكذا [ ولا تقطعن لاحد من حاشيتك وحامتك قطيعة ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس ]. والمهنأ: ما يأتيك بلا مشقة والمنفعة الهنيئة.
(2) في النهج [ واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه ].
والمغبة: العاقبة.
(3) الحيف: الظلم. والاصحار: الابراز والاظهار. أى إذا فعلت فعلا وظنت الرعية أنه ظلم فأبرز لهم عذرك وبينه. وعدل عنه: نحاه عنه.
(4) الخفض: السكون والدعة.
(5) في النهج [ ولله فيه رضى ].
(6) في النهج [ ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه ].
(7) اللجاج: العناد والخصومة.
لج في الامر: لازمه وأبى أن ينصرف عنه.
(8) أى دون ما أعطيت، كما في النهج.
(*)
[146]
اجتماعا في تفريق أهوائهم وتشتيت أديانهم من تعظيم الوفاء بالعهود (1). وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا (2) من الغدر والختر فلا تغدرن بذمتك ولا تخفر بعهدك (3) ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل. وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته (4) وحريما يسكنون إلى منعته ويستفيضون به إلى جواره، فلا خداع ولا مدالسة ولا إدغال فيه (5). فلا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله على طلب انفساخه فإن صبرك على ضيق ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته (6) وأن تحيط بك من الله طلبة ولا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك. وإياك والدماء وسفكها بغير حلها فإنه ليس شئ أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى لزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير الحق. والله مبتدئ بالحكم بين العباد فيما يتسافكون من الدماء. فلا تصونن سلطانك (7) بسفك دم حرام، فإن ذلك يخلقه ويزيله، فإياك والتعرض لسخط الله فإن الله قد جعل لولي من قتل مظلوما سلطانا قال الله: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (8) "
___________________________________
(1) الناس مبتدأ وخبره أشد والجملة خبر ليس، يعنى إن الناس مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم لم يجتمعوا على فريضة أشد إهتماما من اجتماعهم على تعظيم الوفاء بالعهود حتى أن المشركين التزموا به مع أنهم ليسوا من المسلمين.
(2) استوبلوا: استوخموا من عواقب الغدر والخطر.
(3) فلا تخفر اى فلا تنقض بعهدك وفى النهج [ ولا تخيسن ] من خاس بعهده أى خانه ونقضه.
(4) الافضاء أصله الاتساع وهنا مجاز ويراد به الافشاء والانتشار.
والحريم: ما حرم أن يمس.
والمنعة: القوة التي تمنع من يريد باحد سوءا.
(5) المدالسة: الخيانة.
والادغال: الافساد.
(6) التبعة: ما يترتب على الفعل من الخير أو الشر واستعماله في الشر أكثر.
و " أن تحيط " عطف على تبعة والطلبة اسم من المطالبة أى وتخاف أن تتوجه عليك من الله مطالبة بحقه في الوفاء الذى غدرته ولا يمكن أن تسأل الله أن يقيلك من هذه المطالبة بعفوه عنك.
(7) في النهج [ ولا تقوين سلطانك ].
(8) سورة الاسرى آية 33.
(*)
[147]
ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن (1). فإن ابتليت بخطأ وأفرط عليه سوطك أو يدك لعقوبة فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أهل المقتول حقهم دية مسلمة يتقرب بها إلى الله زلفى (2). إياك والاعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء (3)، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسن. إياك والمن على رعيتك بإحسان أو التزيد فيما كان من فعلك (4) أو تعدهم فتتبع موعدك بخلفك أو التسرع إلى الرعية بلسانك(5)، فإن المن يبطل الاحسان (6). والخلف يوجب المقت. وقد قال الله جل ثناؤه: " كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون (7) ". إياك والعجلة بالامور قبل أوانها والتساقط فيها (8) عند زمانها واللجاجة فيها إذا تنكرت (9) والوهن فيها إذا أوضحت، فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه. وإياك والاستئثار بما للناس فيه الاسوة والاعتراض فيما يعنيك والتغابي
___________________________________
(1) القود - بالتحريك -: القصاص.
(2) " أفرط عليه " عجل بما لم يكن يريده أى أردت تاديبا فاعقب قتلا.
والوكزة: الضربة بجمع الكف.
وهى تعليل: " لقوله وفرط عليه ".
قوله: " فلا تطمحن " جواب الشرط أى لا يرتفعن بك كبرياء السلطان عن تأدية الدية إلى أهل المقتول في القتل الخطاء.
(3) الطراء: المبالغة في المدح والثناء.
الفرص: جمع الفرصة - بالضم -: الوقت المناسب للوصول إلى المقصد.
(4) التزيد - كالتقيد -: إظهار الزيادة وتكلفها في الاعمال عن الواقع منها.
(5) التسرع: المبادرة والتعجيل.
(6) في النهج بعد هذه العبارة [ والتزيد يذهب بنور الحق ].
والمقت: السخط والبغض.
(7) سورة الصف آية 4.
(8) التساقط: تتابع السقوط والمراد به هنا التهاون وقيل: من ساقط الفرس إذا جاء مسترخيا وفى النهج [ التسقط فيها عند إمكانها والوهن عنها إذا استوضحت ].
(9) اى لم يعرف وجه الصواب فيها.
والوهن الضعف.
(*)
[148]
عما يعنى به (1) مما قد وضح لعيون الناظرين، فإنه مأخوذ منك لغيرك. وعما قليل تكشف عنك أغطية الامور ويبرز الجبار بعظمته فينتصف المظلومون من الظالمين، ثم املك حمية أنفك (2) وسورة حدتك وسطوة يدك وغرب لسانك. واحترس كل ذلك بكف البادرة (3) وتأخير السطوة وارفع بصرك إلى السماء عندما يحضرك منه حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد (4). ثم اعلم أنه قد جمع ما في هذا العهد من صنوف ما لم آلك فيه رشدا إن أحب الله إرشادك وتوفيقك أن تتذكر ما كان من كل ما شاهدت منا فتكون ولايتك هذه من حكومة عادلة أو سنة فاضلة أو أثر عن نبيك صلى الله عليه وآله أو فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به منها. وتجتهد نفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي واستوثقت من الحجة لنفسي لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها. فليس يعصم من السوء ولا يوفق للخير إلا الله جل ثناؤه. وقد كان مما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في وصايته تحضيضا على الصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم. فبذلك أختم لك ما عهدت ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأنا أسأل الله سعة رحمته وعظيم مواهبه وقدرته على إعطاء كل رغبة (5) أن يوفقني وإياك لما في رضاه من الاقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه (6)، مع حسن الثناء
___________________________________
(1) التغابى: التغافل عما يهتم به و " يعنى " بصيغة المفعول.
(2) الحمية: الانفة والنخونة وفلان حمى الانف: إذا كان أبيا بأنف الضيم.
والسورة - بفتح فسكون -: السطوة.
والحدة - بالكسر - من الانسان: بأسه وما يعتريه منالغضب.
والغرب: الحدة والنشاط وأيضا بمعنى الحد.
(3) البادرة: الحدة أو ما يبدر من اللسان عند الغضب من السب ونحوه.
(4) في النهج [ بذكر المعاد إلى ربك ].
(5) أى إعطاء كل سائل ما سأله.
كانه قال: القادر على إعطاء كل سؤال.
(6) المراد من العذر الحجة الواضحة العادلة، يعنى فانه حجة لك عند من قضيت عليه وعذر عند الله فيمن أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.
(*)
[149]
في العباد وحسن الاثر في البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة (1) وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة وإنا إليه راغبون والسلام على رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم كثيرا.