* (إحتجاجه (ع) على الصوفية لما دخلوا عليه فيما ينهون عنه من طلب الرزق) *

دخل سفيان الثوري على أبي عبدالله عليه السلام فرأى عليه ثيابا بيضا كأنها غرقئ البياض (2) فقال له: إن هذا ليس من لباسك.

فقال عليه السلام له: اسمع مني وع ما أقول لك فإنه خير لك عاجلا وآجلا ان كنت أنت مت على السنة والحق ولم تمت على بدعة. اخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان في زمان مقفر جشب (3) فإذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها بها أبرارها لا فجارها. ومؤمنوها لا منافقوها. ومسلموها لا كفارها. فما أنكرت يا ثوري، فو الله - إني لمع ما ترى - ما أتى علي مذ عقلت صباح ولا مساء ولله في مالي حق أمرني أن أضعه موضعا إلا وضعته.

فقال: ثم أتاه قوم ممن يظهر التزهد (4) ويدعون الناس أن يكونوا معهم على

___________________________________

(1) الحجيج: الغالب باظهار الحجه.

(2) رواه الكلينى (ره) في الكافى ج 1 ص 345 من الفروع وفيه [ غرقئ البيض ] والغرقئ - كزبرج -: القشر الرقيقة الملتصقة ببياض البيض وفى بعض النسخ من الكتاب [ غرقى البياض ].

(3) القفر: خلو الارض من الماء والكلاء. والجشب - بفتح فسكون أو كسر - من الطعام: الغليظ الخشن. وفى الكافى [ مقفر جدب ] والجدب: انقطاع المطر ويبس الارض.

(4) في الكافى [ يظهرون الزهد ].

(*)

[349]

مثل الذي هم عليه من التقشف (1) فقالوا: إن صاحبنا حصر عن كلامك (2) ولم تحضره حجة.

فقال عليه السلام لهم: هاتوا حججكم فقالوا: إن حججنا من كتاب الله.

قال عليه السلام لهم: فأدلوا بها (3) فإنها أحق ما اتبع وعمل به.

فقالوا: يقول الله تبارك وتعالى مخبرا عن قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (4)، فمدح فعلهم.

وقال في موضع آخر: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " (5) فنحن نكتفي بهذا.

فقال رجل من الجلساء: إنا ما رأيناكم تزهدون في الاطعمة الطيبة ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتى تتمتعوا أنتم بها.

فقال أبوعبدالله عليه السلام: دعوا عنكم ما لا ينتفع به، أخبروني أيها النفر ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه. ومحكمه من متشابهه، الذي في مثله ضل من ضل وهلك من هلك من هذه الامة؟ فقالوا له: بعضه، فأما كله فلا.

فقال عليه السلام لهم: من ههنا اوتيتم (6).

وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وأما ما ذكرتم من إخبار الله إيانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم لحسن فعالهم فقد كان مباحا جائزا ولم يكونوا نهوا عنه وثوابهم منه على الله وذلك أن الله جل وتقدس أمر بخلاف ما عملوا به فصار أمره ناسخا لفعلهم.

وكان نهى تبارك وتعالى رحمة لمؤمنين (7) ونظرا لكيلا يضروا بأنفسهم وعيالاتهم، منهم الضعفة الصغار والولدان والشيخ الفان والعجوز الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع، فإن تصدقت برغيفي ولا رغيف لي

___________________________________

(1) التقشف: ترك النظافة. والترفه، ضد التنعم.

(2) أى ضاق صدره من كلامك واستحيا. والحصر: العى في المنطق والعجز عن الكلام.

(3) الادلاء بالشئ: احضاره.

(4) سورة الحشر آية 9.

(5) سورة الانسان آية 8.

(6) اشار إلى نفسه الشريف عليه السلام يعنى أن علمكم ببعض ما في القرآن من الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه إن صدقتهم اوتيتم أيضا من اهل بيت النبوة. وفى الكافى [ فمن هنا أتيتم ] وقال الفيض رحمه الله في بيان: " أتيتم " على البناء للمفعول أى دخل عليكم البلاء وأصابكم ما أصابكم.

(7) في الكافى [ رحمة منه للمؤمنين ].

(*)

[350]

غيره ضاعوا وهلكوا جوعا فمن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير، أو دراهم يملكها الانسان وهو يريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الانسان على والديه. ثم الثانية على نفسه وعياله، ثم الثالثة على القرابة وإخوانه المؤمنين (1) ثم الرابعة على جيرانه الفقراء، ثم الخامسة في سبيل الله وهو أخسها أجرا.

وقال النبي صلى الله عليه وآله للانصاري - حيث أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق (2) ولم يكن يملك غيرهم وله أولاد صغار -: " لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنونه مع المسلمين. ترك صبية صغارا (3) يتكففون الناس.

ثم قال: حدثني أبي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إبدأ بمن تعول الادنى فالادنى. ثم هذا ما نطق به الكتاب ردا لقولكم ونهيا عنه مفروض من الله العزيز الحكيم قال: " الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (4) " أفلا ترون أن الله تبارك وتعالى عير ما أراكم تدعون إليه والمسرفين (5) وفي غير آية من كتاب الله يقول: " إنه لا يحب المسرفين (6) فنهاهم عن الاسراف ونهاهم عن التقتير لكن أمر بين أمرين لا يعطي جميع ما عنده ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له للحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله: " أن أصنافا من امتي لا يستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو على والديه. ورجل يدعو على غيرم (7) ذهب له بمال ولم يشهد عليه. ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله

___________________________________

(1) في الكافى [ على قرابته الفقراء ].

(2) الرقيق: المملوك للواحد والجمع وقد يجمع على أرقاء أيضا.

(3) الصبية - بالتثليث -: جمع صبى.

وتكفف الرجل: سأل كفا من الطعام أو ما يكف به الجوع: أو أخذ الشئ ببطن كفه.

(4) سورة الفرقان آية 67.

والقتر: القليل من العيش يقال: فلان قتر على عياله: ضيق عليهم في النفقة والمقتر: الفقير المقل.

(5) في الكافى [ أفلا ترون ان الله غير ما اراكم تدعون الناس اليه من الاثرة على أنفسهم وسمى من فعل ما تدعون الناس اليه مسرفا ].

(6) سورة الانعام آية 141 والاعراف 31.

(7) الغريم: المديون. وفى الكافى [ ذهب له بمال فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه ].

(*)

[351]

تخلية سبيلها بيده.

ورجل يقعد في البيت ويقول: يا رب ارزقني ولا يخرج يطلب الرزق فيقول الله عزوجل: عبدي ! أو لم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الارض بجوارح صحيحة فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمرى ولكي لا تكون كلا على أهلك فإن شئت رزقتك وإن شئت قترت عليك وأنت معذور عندي (1).

ورجل رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ثم أقبل يدعو يا رب ارزقني، فيقول الله: ألم أرزقك رزقا واسعا، أفلا اقتصدت (2) فيه كما أمرتك ولم تسرف وقد نهيتك.

ورجل يدعو في قطيعة رحم ".

ثم علم الله نبيه صلى الله عليه وآله كيف ينفق وذلك أنه كانت عنده صلى الله عليه وآله أوقية من ذهب (3) فكره أن تبيت عند شئ فتصدق وأصبح ليس عنده شئ. وجاء‌ه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل واغتم هو صلى الله عليه وآله حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيما رفيقا فأدب الله نبيه صلى الله عليه وآله بأمره إياه فقال: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محصورا (4) " يقول: إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك، فإذا أعطيت جميع ما عندك كنت قد خسرت من المال فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله يصدقها الكتاب والكتاب يصدقه أهله من المؤمنين.

وقال أبوبكر عند موته حيث قيل له: أوص فقال: اوصي بالخمس والخمس كثير فإن الله قد رضي بالخمس.

فأوصى بالخمس وقد جعل الله عزوجل له الثلث عند موته ولو علم أن الثلث خير له أوصى به. ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبوذر رضي الله عنهما فأما سلمان رضي الله عنه فكان إذا أخذ عطاء‌ه رفع منه قوته لسنته حتى يحضره عطاؤه من قابل.

فقيل له: يا أبا عبدالله أنت في زهدك تصنع هذا وإنك لا تدري لعلك تموت اليوم أو غدا.

فكان جوابه أن قال: ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم علي الفناء. أو ما علمتم

___________________________________

(1) في بعض نسخ الكافى [ وأنت غير معذور عندى ].

(2) في الكافى [ فهلا اقتصدت فيه ].

(3) الاوقية - بضم فسكون وفتح الياء المشددة -: جزء من أجزاء الرطل.

(4) سورة الاسرى آية 31.

(*)

[352]

يا جهلة أن النفس تلتاث على صاحبها (1) إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت.

فأما أبوذر رضي الله عنه فكانت له نويقات وشويهات يحلبها (2) ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم، أو نزل به ضيف أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة نحر لهم الجزور، أو من الشياه على قدر ما يذهب عنهم قرم اللحم (3) فيقسمه بينهم ويأخذ كنصيب أحدهم لا يفضل عليهم. ومن أزهد من هؤلاء؟ وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله ما قال ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئا ألبتة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم ويؤثرون به على أنفسهم وعيالاتهم.

واعلموا أيها النفر أني سمعت أبي يروي عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوما: " ما عجبت من شئ كعجبي من المؤمن أنه إن قرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيرا له، وإن ملك ما بين مشارق الارض ومغاربها كان خيرا له، فكل ما يصنع الله عزوجل به فهو خير له " فليت شعري هل يحيق فيكم اليوم (4) ما قد شرحت لكم أم أزيدكم.

أو ما علمتم أن الله جل اسمه قد فرض على المؤمنين في أول الامر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ليس له أن يولي وجهه عنهم ومن ولاهم يومئذ دبره فقد تبوأ مقعده من النار ثم حولهم من حالهم رحمة منه فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من الله عزوجل عن المؤمنين (5)، فنسخ الرجلان العشرة.

وأخبروني أيضا عن القضاة أجور منهم حيث يفرضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال: أنا زاهد وإنه لا شئ لي؟ فإن قلتم: جور ظلمتم أهل الاسلام وإن

___________________________________

(1) " تلتاث " أى تبطئ وتحتبس عن الطاعات وتسترخى وتستضعف.

(2) النويقات: جمع نويقة تصغير الناقة والشويهة: جمع شويهة تصغير الشاة.

(3) أهل الماء هم الذين يسقون له الماء. والجزور - كرسول -: البعير وما ينحر من الابل و الغنم والشاة في بعض النسخ [ الشاة ] والقرم - محركة -: شدة شهوة اللحم.

(4) يحيق فيه: أثر فيه. - وبه: أحاط. - وبهم: نزل.

وفى بعض نسخ الكافى [ يحتفى ] وفى بعضها [ يحق ].

(5) في الكافى [ للمؤمنين ].

(*)

[353]

قلتم: بل عدل خصمتم أنفسكم. وحيث تريدون صدقة (1) من تصدق على المساكين عند الموت بأكثر من الثلث؟ أخبروني لو كان الناس كلهم كما تريدون زهادا لا حاجة لهم في متاع غيرهم، فعلى من كان يتصدق بكفارات الايمان والنذور والصدقات من فرض الزكاة من الابل والغنم والبقر وغير ذلك من الذهب والفضة والنخل والزبيب وسائر ما قد وجبت فيه الزكاة؟ إذا كان الامر على ما تقولون لا ينبغي لاحد أن يحبس شيئا من عرض الدنيا إلا قدمه وإن كان به خصاصة. فبئس ما ذهبتم إليه (2) وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله عزوجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل، أوردكم إياها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ والمحكم والمتشابه والامر والنهي.

وأخبروني أنتم عن سليمان بن داود عليه السلام حيث سأل الله ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فأعطاه الله جل اسمه ذلك، وكان عليه السلام يقول الحق ويعمل به ثم لم نجد الله عاب ذلك عليه ولا أحدا من المؤمنين.

وداود عليه السلام قبله في ملكه وشدة سلطانه.

ثم يوسف النبي عليه السلام حيث قال لملك مصر: " اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم (3) " فكان أمره الذي كان اختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن فكانوا يمتارون الطعام (4) من عنده لمجاعة أصابتهم، وكان عليه السلام يقول الحق ويعمل به فلم نجد أحدا عاب ذلك عليه.

ثم ذو القرنين عبد أحب الله فأحبه، طوى له الاسباب وملكه مشارق الارض و مغاربها وكان يقول بالحق ويعمل به ثم لم نجد أحدا عاب ذلك عليه فتأدبوا أيها النفر بآداب الله عزوجل للمؤمنين واقتصروا على أمر الله ونهيه ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به وردوا [ ال‍ ] - علم إلى أهله توجروا وتعذروا عند الله تبارك وتعالى و كونوا في طلب علم الناسخ من القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه وما أحل

___________________________________

(1) كذا وفى الكافى [ حيث يردون صدقة ].

(2) في الكافى [ ذهبتم فيه ].

(3) سورة يوسف آية 56.

(4) يمتارون: يحملون الطعام يقال: فلان يمتار أهله: إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلدهم.

والميرة: طعام يمتار الانسان أى يجبله من بلد إلى بلد.

(*)

[354]

الله فيه مما حرم، فإنه أقرب لكم من الله وأبعد لكم من الجهل. ودعوا الجهالة لاهلها، فإن أهل الجهل كثير وأهل العلم قليل وقد قال الله: " وفوق كل ذي علم عليم " (1)