* (كلامه عليه السلام في خلق الانسان وتركيبه) *
قال عليه السلام: عرفان المرء نفسه أن يعرفها بأربع طبائع وأربع دعائم وأربعة أركان فطبايعه: الدم والمرة والريح والبلغم (2) ودعائمه: العقل ومن العقل الفهم والحفظ. وأركانه النور والنار والروح والماء. وصورته طينته. فأبصر بالنور وأكل وشرب بالنار وجامع وتحرك بالروح. ووجد طعم الذوق والطعام بالماء فهذا تأسيس صورته.
فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالما حافظا ذكيا فطنا فهما وعرف فيما هو ومن أين يأتيه ولاي شئ هو ههنا وإلى ما هو صائر، باخلاص الوحدانية والاقرار بالطاعة وقد تجري فيه النفس وهي حارة وتجري فيه وهي باردة، فإذا حلت به الحرارة أشر وبطر وارتاح (3) وقتل وسرق وبهج واستبشر وفجر وزنا وبذخ.
وإذا كانت باردة اهتم وحزن واستكان وذبل (4) ونسي، فهي العوارض التي تكون منها الاسقام ولا يكون أول ذلك إلا بخطيئة عملها فيوافق ذلك من مأكل أو مشرب في حد ساعات لا تكون تلك الساعة موافقة لذلك المأكل والمشرب بحال الخطيئة فيستوجب الالم من ألوان الاسقام.
ثم قال عليه السلام بعد ذلك بكلام آخر: إنما صار الانسان يأكل ويشرب ويعمل بالنار ويسمع ويشم بالريح ويجد لذة الطعام والشراب بالماء ويتحرك بالروح فلولا أن النار في معدته لما هضمت الطاعم والشراب في جوفه. ولولا الريح ما التهبت نار المعدة ولا
___________________________________
(1) سورة يوسف آية 76.
(2) المرة - بكسر ففتح مشددة -: خلط من خلط البدن كالصفراء أو السوداء والجمع مرار.
(3) أشر - كعلم -: مرح. وبطر - كعلم - طغى بالنعمة فصرفها في غير وجهها، واخذته دهشة عند هجوم النعمة. والبطر - بالتحريك كمنع - شدة النشاط. وارتاح إلى الشئ: أحبه ومال إليه. والارتياح السرور والنشاط. والبذخ - بالتحريك -: الفخر والتطاول.
(4) ذبل النبات كضرب ونصر -: قل ماؤها وذهبت نضارتها. وذبلت بشرته: قل ماء جلدته و ذهبت نضارته. وذبل الفرص: ضمر.
(*)
[355]
خرج الثفل من بطنه (1) ولو لا الروح لا جاء ولا ذهب.
ولو لا برد الماء لاحرقته نار المعدة.
ولو لا النور ما أبصر ولا عقل. والطين صورته.
والعظم في جسده بمنزلة الشجر في الارض.
والشعر في جسده بمنزلة الحشيش في الارض.
والعصب في جسده بمنزلة اللحاء على الشجر (2).
والدم في جسده بمنزلة الماء في الارض.
ولا قوام للارض إلا بالماء ولا قوام لجسد الانسان إلا بالدم.
والمخ دسم الدم وزبده.
فهكذا الانسان خلق من شأن الدنيا وشأن الآخرة فإذا جمع الله بينهما صارت حياته في الارض، لانه نزل من شأن السماء إلى الدنيا، فإذا فرق الله بينهما صارت تلك الفرقة الموت يرد شأن الآخرة إلى السماء.
فالحياة في الارض والموت في السماء وذلك أنه يفرق بين الروح والجسد، فردت الروح والنور إلى القدرة الاولى وترك الجسد لانه من شأن الدنيا.
وإنما فسد الجسد في الدنيا لان الريح تنشف الماء (3) فيبس الطين فيصير رفاتا ويبلى ويرد كل إلى جوهره الاول وتحركت الروح بالنفس والنفس حركتها من الريح، فما كان من نفس المؤمن فهو نور مؤيد بالعقل. وما كان من نفس الكافر فهو نار مؤيد بالنكراء (4)، فهذا من صورة ناره وهذا من صورة نوره والموت رحمة من الله لعبده المؤمن ونقمة على الكافر.
ولله عقوبتان إحداهما من الروح والاخرى تسليط الناس بعض على بعض، فما كان من قبل الروح فهو السقم والفقر. وما كان من تسليط فهو النقمة وذلك قول الله عزوجل: " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون (5) " من الذنوب.
فما كان من ذنب الروح فعقوبته بذلك السقم والفقر. وما كان من تسليط فهو النقمة. وكل ذلك
___________________________________
(1) الثفل - بالضم -: حثالة الشئ وهى ما يستقر في أسفل الشئ من كدرة والمراد هنا: النجاسة والعذرة.
(2) اللحاء - بالكسر -: قشر العود أو الشجر.
(3) نشف الماء: أخذه من مكانه وتنشف الثوب العرق: شربه.
(4) النكراء: الدهاء والفطنة بالمنكر والشيطنة.
(5) سورة الانعام آية 129.
(*)
[356]
عقوبة للمؤمن في الدنيا وعذاب له فيها.
وأما الكافر فنقمة عليه في الدنيا وسوء العذاب في الآخرة ولا يكون ذلك إلا بذنب والذنب من الشهوة هي من المؤمن خطاء ونسيان وأن يكون مستكرها ومالا يطيق. وما كان من الكافر فعمد وجحود واعتداء وحسد وذلك قول الله عزوجل: " كفارا حسدا من عند أنفسهم (1) ".