مكتبة الإمام الكاظم

فهرس الكتاب

 

بين يدي الكتاب

اقتضت حكمته جلّ جلاله اصطفاء وتشريف آل محمد (عليهم السلام)، ورفع منزلتهم، كما اقتضت حكمته جلّ جلاله اصطفاء آل إبراهيم وآل عمران (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران، 34).

لقد أنزل الله سبحانه وتعالى آيات كثيرة في فضل آل محمد (عليهم السلام)، يكفي منها قوله تعالى: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (الشورى، 33).

لهذا كان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) يشيد بأهل بيته (عليهم السلام) في كل ناد ومحفل، فمرّة يشبّههم بسفينة نوح (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا ومن تخلّف عنها غرق)(1).

وشبّههم بباب حطة (مثل أهل بيتي مثل باب حطّة في بني إسرائيل، من دخله غفر له)(2).

وقوله (صلّى الله عليه وآله): (إني مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا)(3).

وقوله (صلّى الله عليه وآله): (النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي)(4).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (حبّي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن، اهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وعند القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الصراط، وعند الميزان)(5).

وأخرج الطبراني في الأوسط عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (الزموا مودّتنا أهل البيت، فإنّه من لقي الله وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعــــتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبــداً عمله إلا بمعـــرفة حقــّــــنا)(6).

كما أنه (صلّى الله عليه وآله) حذّر من بغضهم، قال: من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يهوديّاً قيل: يا رسول الله وإن شهد الشهادتين؟

قال: نعم، إنّما احتجب بهاتين الكلمتين عن سفك دمه(7).

وقال (صلّى الله عليه وآله): (لو أنّ رجـــلاً صلّى وصفّ قـــدميه بين الركــن والمقام، ولقي الله ببغضكم أهل البيت دخل النار)(8).

وقال (صلّى الله عليه وآله): لو أنّ عبداً عبد الله بين الصفا والمروءة ألف عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام، حتّى يصير كالشن البالي، ثم لم يـــدرك محبّتــــنا، كبّه الله على منخــــريه في النار، ثم تلا: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(9).

إلى أحاديث كثيرة ذكرها علماء الحديث في كتبهم.

وأنت أعزّك الله يكفيك من هذا أن الله جلّ جلاله فرض على المصلّين ذكرهم في صلاتهم، فتقول في التشهّد: اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد.

وإلى هذا يشير الإمام الشافعي:

يــــــا آل بـــــيت رســــول الله حــــبّكم          فــــرض مـــــن الله فــي القرآن أنزله

يكــــفــيكم من عظــــيم الـــفخر أنــــكم          مـــن لم يصلّ عليكم لا صلاة له(10)

ومن هذا المنطلق الولائي جاءت المباراة الكتابية عن آل البيت (عليهم السلام)؛ بدأت بأمير المؤمنين (عليه السلام)، ووصلت إلى الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ـ الإمام السابع من أئمة آل البيت (عليهم السلام) ـ وفي كثير من هذه المباريات كان الدكتور حسين الحاج حسن مشاركاً فيها، وفي كتبه مسحة ولاء يحسّها القارئ، وهذا هو المتعيّن على من له المقدرة على الكتابة والتأليف.

ونسأله تعالى أن يأخذ بأيدينا إلى ما يحب ويرضى إنه سميع مجيب.

بيروت 9/9/1999

علي محمد علي دخيّل

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الإهداء

أيها الإمام العظيم الذي بعثت روح الجهاد في الأجيال.

أيها الإمام الكريم يا من تستحق كل الكلمات المخضبة بالخير والحق، والعابقة بأريج العطاء.

يا إمامي أبا عبد الله الصادق نفسي لك فداء، روحي لك فداء تقبل مني هذا المجهود المتواضع الذي تشرفت فيه بالبحث عن سيرة ولدك الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وصيك وخليفتك الذي قضى رهين السجون، وحليف الآلام تقياً ورعاً زاهداً عابداً، فتفضل عليّ بالقبول لعلّه يكون ذخراً لي يوم الوفادة على الله.

المؤلف

د. حسين إبراهيم الحاج حسن

شمسطار 21 كانون أول 1997

الموافق 21 شعبان 1418

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(11).

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(12).

وجاء في الحديث الشريف: (أيها الناس يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم، ألا إني مخلف فيكم كتاب ربي عز وجل وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي فقال: هذا علي مع القرآن، والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فأسألهما عما خلفت فيهما).

كما روي عنه قوله (صلّى الله عليه وآله): اللّهم إنك تعلم إن هؤلاء أهل بيتي وأكرم الناس عليّ، فأحبّ من يحبهم وأبغض من يبغضهم ووال من والاهم، وعاد من عاداهم، وأهن من أهانهم، واجعلهم مطهرين من كل رجس، معصومين من كل ذنب وأيدهم بروح القدس يا رب العالمين).

وردت هذه الأحاديث في صحيح مسلم ج7 ص22، وسنن الترمذي ج2 ص307 وسنن الدارمي ج2 ص432 ومسند أحمد بن حنبل ج3 ص14 و17 و26 و59 كما رواها جماعة من أكابر العلماء يقرب عددهم من المائتين.

 

كلمة شكر وتقدير

إنها المباراة العظيمة التي تقام كل عام في مهرجان عظيم لإمام عظيم من أئمة أل البيت (عليهم السلام)، أضاء الدنيا بنمير علومه وعطر المجتمع بأريج أخلاقه، وبعث في ضمير الأمة الإسلامية الجهاد، الأمثل في حلمه وصبره على ما صادف من خطوب جسام من حكام لئام.

تعد هذه المباراة من افضل الأعمال الفكرية والعلمية والأدبية التي تقام على صعيد العالم العربي من إحياء التراث الإسلامي الخالد، كما تدل دلالة واضحة على تعلّق الأمة الإسلامية بعظمائها العظام، ورجالاتها الكرام. إنّ إحياء ذكرى عظمائنا أمر ضروري من أعمالنا وخاصة في هذه الأيام الصعبة التي تحاك فيها المؤامرات علينا من الغزو الفكري والثقافي من قبل أعداء الأمة الإسلامية المستكبرين من أجل قطع الأواصر التي تشدنا إلى تراثنا الإسلامي العريق، وعقيدتنا الإسلامية السمحاء. تعد هذه المباراة الهامة لقاءً أخوياً كريماً تتآلف فيه قلوب أبناء هذه الأمة العربية الخالدة الذين يعشقون محبة أهل البيت على اختلاف مذاهبهم ومناطقهم، فتتعانق الأقلام الملتزمة لتبديد سحب الطمس والتزييف التي مورست وما زالت تمارس لإقصاء رسالة الإسلام عن واقع الحياة، لكن المتآمرين قد فشلوا في إطفاء نور الله الذي يبقى مشرقاً منوراً بهمة علمائنا الأبرار، فلهم منّي أفضل الشكر والتقدير.

كما تعد هذه المباراة الكريمة مناسبة خيّرة للحوار والمناقشة وتلاقح الأفكار وتبادل الآراء لاختيار خلاصة جهود المشاركين من أجل البحث الأمثل لتعرف الأمة بالمزيد من عظمائها، العلماء الأفذاذ الذين سطروا في التاريخ العربي الإسلامي أنصع الصفحات الدالة على سعة أفقهم العلمي، وجهادهم الحضاري، في صيانة الرسالة الإسلامية السامية. ذلك هو:

الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) الذي أكمل المسيرة العلوية بهمم أبيه، مدافعاً عن رسالة جده (صلّى الله عليه وآله) ومناضلاً عن المستضعفين من أبناء أمته بمواقفه التاريخية المشهودة، وتصديه لمناظرة الفرق الضالة عن الحق، مجاهداً صابراً لما لاقى من مؤامرات أموية وعباسية، وعالماً متألقاً بما خلف من تراث حضاري غزير في مختلف مجالات العلم والمعرفة.

فتحية شكر وتقدير لكل من ساهم بهذه الدراسات القيّمة والبحوث العلمية الفاضلة في سبيل الإفادة والتنوير وإحياء القضايا الكبرى في المجتمع الإنساني.

ولا أرى أية قيمة لرسالة أو أطروحة ما لم تكن في خدمة قضية إنسانية في مجتمع إنساني. ولا يطيب قلم باحث أو كاتب ما لم يعالج قضية كبرى يتبناها ويعيش أهدافها الشاهدة على صحتها؛ لأن القضايا الجليلة هي الشعاع الذي يستضيء به فكرنا، والدافع لأشواقنا والمحيي لوجداننا وعقيدتنا.

إن جهودكم المشكورة التي وجهت الدعوة العامة لتقديم مباراة جديدة عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) شبيهة هي بالدراسات الناجحة التي قدمت عن الأئمة المعصومين السابقين ـ والتي كان لي الشرف بالمشاركة فيها ـ أمانة صعبة حملوها على عاتقهم وأدّوها بأمانة جميعهم (عليهم السلام).

ومن أجل هذه الأمانة العظيمة شهر الإمام علي (عليه السلام) سيفه ذا الفقار في وجه المنحرفين عن الخط الإسلامي، وغمد الإمام الحسن (عليه السلام) حسامه، حقناً للدماء، وصوناً لوحدة المسلمين.

ومن أجل القضية نفسها سار الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة إلى كربلاء لابساً عباءة جده (صلّى الله عليه وآله) التي ما طاب له إلا أن يصبغها بدماء وريده الشريف من أجل مصلحة الأمة الإسلامية، سار وقلبه يطفح بعزيمة الإيمان، والعزيمة تشع كضوء يتماوج بألف لون ولون، ثم رفع بصره إلى فوق فإذا بسمة عريضة من الفم الملائكي وكأنها تقول له: سر في درب الشوق فأنت محاط بالعناية الإلهية(13).

ومن أجلها أيضاً ناضل الإمام الباقر (عليه السلام) واستشهد بعد أن ساهم ببناء المدرسة الكبرى التي نهض بها ولده الإمام الصادق (عليه السلام) الذي نعيش مع علمه وفكره ومنهجه في هذه الأيام المباركة ونستلهم من جهوده النضالية، وسيرته المثالية، وأخلاقه المحمدية.

ومن أجل القضية نفسها كافح الإمام الكاظم (عليه السلام) فقام بعد أبيه (عليه السلام) بإدارة شؤون المدرسة التي خرّجت ألمع كوكبة من كواكب العلماء الجهابذة. وصبر على الأحداث الجسام، والمحن الشاقة التي لاقاها من طغاة عصره لعنهم الله.

لقد كانت القضية واحدة، والمسؤولية واحدة، والهدف واحداً، ولكن التعبير جاء مع كل إمام من كواكب الإسلام المشرقة بلون ميّزه عن الآخر وذلك حسب الظروف السياسية والاجتماعية المحدقة به. فشكراً جزيلاً لجهودكم المباركة التي حرّكت في نفسي شوقاً سامياً ألمظ به طعماً لذيذاً من لقاح العنفوان والكرامة تحيى بهما كل النفوس التي تأبى الذل والهوان، وترغب في صون الكرامة الإنسانية، والرسالة الإسلامية على مدى الزمان.

آجركم الله وأمدكم بثوب العافية وطول العمر.

حسين إبراهيم الحاج حسن

 

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

مهما تحلّى الباحث باطلاع واسع في علم النفس، ومهما أوتي من براعة في علم الاجتماع يسمح له تحليل الواقع النفسي، وإعطاء صورة حيّة عن تركيب الشخصية الإنسانية وعناصر سلوكها وإمكاناتها، فإنّه مهما بلغ من التفوّق في هذا المجال فلا يستطيع أن يلم إلماماً شاملاً بواقع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويكشف عن جوهر حياتهم، وأبعاد نزعاتهم، بما لهم من ظواهر ذاتية وإبداعات فردية.

والواقع أن ما أثر عنهم من صفات مميّزة، ونزعات فذّة في سلوكهم الشخصي والاجتماعي يجعلهم في أعلى مراتب الإنسانية. وهذه الظاهرة تجدها متمثلّة في سلوكهم النبيل الذي بلغوا به أعلى درجات الإنسانية هذه الظاهرة من نزعات الإمام موسى (عليه السلام) وهي الصبر على المحن والخطوب المبرحة والمستمرة التي لاقاها من طغاة عصره، فقد أمعنوا في اضطهاده والتنكيل به، فاعتقله هارون الرشيد وزجه في ظلمات السجون زمناً طويلاً، ثم حجبه عن جميع الناس ولم يسمح لأحد بمقابلته، ومع هذا كله، لم يأثر عنه أنه أبدى أي تذمّر أو سأم أو شكوى، وإنما حسب ذلك من ضروب النعم التي تستحق الشكر لله لتفرغه لعبادته، وانقطاعه لطاعته، فكان وهو في السجن يقضي نهاره صائماً، وليله قائماً. وهو جذلان بهذه المناجاة، وبهذا الاتصال الروحي بالله العزيز الرحيم وهذا ما أجمع عليه المترجمون فقالوا انه كان من أعظم الناس عبادة، وأكثرهم طاعة لله، حتى أصبح له ثفنات كثفنات البعير من كثرة السجود، كما كانت لجده الإمام السجاد من قبل فلقب بذي الثفنات، وقد أدلى الفضل بن الربيع بحديث له عن عبادته (عليه السلام) حينما كان سجيناً في داره.

فماذا نستطيع تعليل هذا الصبر؟ لم يكن سوى الإيمان العميق بالله تعالى، والتجرد من هذه الدنيا الفانية، والإقبال على الدار الآخرة. حتى أن هارون الظالم بهر بما رآه من تقوى الإمام وكثرة عبادته، وتحمّله هذه الخطوب الثقيلة بصبر وهدوء. فقال متعجباً:

(إنه من رهبان بني هاشم)!!

ولما كان مسجوناً (عليه السلام) في بيت السندي بن شاهك وكل أوقاته عبادة وسجود، كانت عائلة السندي تطل عليه فترى هذه السيرة الزكيّة التي تحاكي سيرة الأنبياء، ممّا دفع شقيقة السندي إلى اعتناق فكرة الإمامة، وحفيد السندي من أعلام الشيعة في عصره إنها سيرة نبوية عريقة تملك القلوب والمشاعر، مترعة بجميع معاني النبل والزهد والسمو والإقبال على الله تعالى.

وهناك صفة أخرى من صفات شخصيته الكريمة، وهي الصمود في وجه الظلم والطغيان، وانطلاقه في ميادين الجهاد المقدّس؛ فقد حمل لواء المعارضة على حكام عصره الطغاة الذين استباحوا جميع حرمات الله، واستبدوا بأرزاق الأمة وحقوقها الشرعية، واستهابوا بكرامة الإسلام، فنبوا حكمهم على الظلم والجور والاستبداد وإرغام الناس على ما يكرهون.. ومن ثم كانت محنة أهل البيت (عليهم السلام) الشاقة جداً فإنّهم بحكم موقعهم ودورهم القيادي الشرعي للأمة مسؤولون عن رعايتها وصيانتها وإنقاذها ممّا ألم بها من المحن الثقيلة، والخطوب الجسام، فأعلنوا معارضتهم الإيجابية تارة، والسلبية أخرى السياسية ملوك عصرهم، فذاقوا من جراء ذلك جميع ألوان الظلم والقهر والاضطهاد، حتى انتهت حياتهم الكريمة ما بين مسموم ومسجون ومقتول، كل ذلك من أجل مصلحة المسلمين وإصلاح أمة جدهم الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، والانطلاق بالحكام إلى سياسة العدل الخالص، وتطبيق أحكام القرآن الكريم على واقع الحياة.

وقد تجلّى ذلك الصمود الفذ عند الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بإصراره البالغ على شجب سياسة هارون الرشيد، وعدم الاعتراف بشرعية خلافته، فأصرّ على هذا الموقف الشريف حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في السجون، فلم يصانع، ولم يدار أحداً منهم، ولو سايرهم لأغدقوا عليه الأموال الطائلة ليسكتوا صوت الحق في صدره؛ لكنه آثر رضى الله وطاعته على كل شيء، وأبى إلا أن يساير موكب الحق، ولا يشذ عما جاء به الإسلام من مقارعة الظلم، ومقاومة أئمة الجور والطغيان مهما كلّف الثمن.

وقد حاول يحيى البرمكي (رئيس حكومة هارون) أن يتوسّط في أمر إطلاق سراح الإمام من السجن، شرط أن يعتذر لهارون ويطلب منه العفو حتّى يخلّي سبيله، فأصرّ الإمام (عليه السلام) على الامتناع وعدم الاستجابة له.

هذا ما تميز به موقف الإمام (عليه السلام) بالشدّة والصمود مع هارون وغيره من ملوك عصره، وهو موقف أبيه وجده من قبله الأئمة المعصومين الذين عبّر عن موقفهم سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) فقال:

(إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي).

وهناك ظاهرة أخرى من ظواهر شخصيته الكريمة، وهي السخاء فقد اتفق المؤرخون أنه كان أندى الناس كفّاً، يشعر مع المحتاجين، ويعطي المعوزين، ويصل المحرومين في غلس الليل البهيم، حتى لا يعرفه أحد، ويكون عطاؤه في سبيل الله، وكانت تضرب بصرره المثل.

فكان الناس يقولون: (عجباً لمن جاءته صرار موسى وهو يشتكي الفقر) أنفق جميع ما يملكه على الضعفاء والمنكوبين، وأنقذ الكثيرين منهم من مرارة الفقر والحرمان.

والإمام الكاظم (عليه السلام) دائرة معارف كاملة، فقد أجمع الرواة انه كان يملك طاقات هائلة من العلم، ومخزوناً فكرياً غنياً جداً بمختلف المعارف. يقصده العلماء والرواة من كل حدب وصوب لينهلوا من نمير علمه، وكان لا يفتي بحادثة إلا بادروا إلى تسجيلها وتدوينها، فرووا عنه مختلف العلوم والأبحاث، وبصورة خاصة فيما يتعلّق بالتشريع الإسلامي.

(فقد زوّدهم بطاقـــــات ندية منـــه، ويعــتبر في هذا المجال أوّل من فتــق باب الحلال والحرام من أئمة أهل البيت (عليهم السلام))(14).

وما يجدر ذكره ما قام به الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) من إدارة شؤون جامعته العلمية التي تعتبر أول مؤسسة ثقافية في الإسلام، وأوّل معهد تخرجت منه كوكبة من كبار العلماء، في طليعتهم أئمة المذاهب الإسلامية. فالإمام الشافعي يعتقد أن حبهم وسلوك منهجهم العدل.. وهم حبل الله المتين الذي ينير الطريق للمتمسك بهم إلى رضوان الله عز وجل وهو يرجو أن يظفره حبهم فقال:

آل الــــــنــــــــبــــــي ذريـــــعـــــتــــي          وهـــــــــم إلــــــيـــــــه وســــــيــــلتي

أرجـــــــو بـــــــهـــــم أعــــــطــى غداً          بــــــــيـــــــدي اليـــــــــمــين صحيفتي

والإمام احمد بن حنبل سأله عبد الله ابنه عن التفضيل بين الخلفاء الراشدين فقال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، ثم سكت. فسأله عبد الله: يا أبت!! أين علي بن أبي طالب؟ قال: (هو من أهل البيت لا يقاس به هؤلاء)(15).

أما عن فلسفة الحكم عند الأمويين وعند العباسيين فكانت تهدف إلى الأثرة والاستغلال وإشباع الرغبات في الجاه والسلطان، ولم يؤثر عنهم أنهم قاموا بعمل إيجابي في صالح المجتمع الإسلامي، أو ساهموا في بناء الحركة الفكرية والاجتماعية على ضوء ما يهدف إليه الإسلام في بعث التطور الثقافي والإداري والاقتصادي لجميع شعوب الأرض. ففي هذا الجو السياسي والاجتماعي الصعب تميز موقف الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بالشدة والصرامة في شجب الظلم، وقول كلمة الحق، فكان من الأئمة اللامعين في علمه وعمله على نشر الثقافة الإسلامية، وإبراز الواقع على حقيقته.

يضاف إلى قدراته الفذة التي لا تحصى: حلمه وعلمه وكظمه الغيظ وقد أجمع المؤرخون أنه كان يقابل الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، شأنه شأن جدّه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وقد قابل جميع ما لاقاه من أذى وظلم من الحاقدين عليه بالصبر والصفح الجميل حتى لقب بالكاظم، وكان ذلك من أشهر ألقابه.

وهكذا إذا استعرضنا مقوّمات الإمام (عليه السلام) الفذة وكل ما أثر عنه في ميادين السلوك والأخلاق، فإنا نجده حافلاً بكل معاني الإنسانية، ومقوّمات بناء الأمة الإسلامية، التي عسى أن ألم ببعض جوانبها المشرقة والخيرة والمعطاء.

 

الوليد المبارك

عاش الإمام الصادق (عليه السلام) مع زوجته حميدة(16) حياة بيتية هادئة حافلة بالمودّة والمسّرات. وفي فترات تلك المدة السعيدة عرض لها حمل وسافر الإمام أبو عبد الله إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، فحمل زوجته معه للاطمئنان على صحتها في تلك الفترة. وبعد الانتهاء من مراسم الحج قفلوا راجعين إلى المدينة المنورة، فلما انتهوا إلى الأبواء(17) أحست حميدة بالطلق، فأرسلت خلف الإمام (عليه السلام) تخبره بالأمر، وكان عند ذلك يتناول طعام الغذاء مع جماعة من أصحابه، فلما وافاه النبأ السعيد قام مبادراً إليها، فلم يلبث قليلاً حتى وضعت حميدة سيّداً من سادات المسلمين، وإماماً من أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

إنه يوم سعيد، يوم مشرق أشرقت به الدنيا بهذا المولود المبارك فكان باراً بالناس، عاطفاً على الفقراء منهم، لكنه كان أكثرهم عناءً وأكثرهم محنة في سبيل الله.

بادر الإمام الصادق (عليه السلام) فتناول وليده الذي يأمل به أملاً باسماً فأجرى عليه مراسم الولادة الشرعيّة، فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، وما زالت هذه الطريقة تُحتذى عند جميع المسلمين المؤمنين.

لقد كانت أول كلمة طيّبة قرعت سمعه كلمة التوحيد التي تتضمن الإيمان بكل ما له من معنى.

عاد الإمام الصادق إلى أصحابه والبسمة تعلو ثغره، فبادره أصحابه قائلين: (سرّك الله، وجعلنا فداك، يا سيدنا ما فعلت حميدة؟) فبشّرهم بمولوده المبارك قائلاً لهم: (لقد وهب الله لي غلاماً، وهو خير من برأ الله).

أجل انه من أئمة أهل البيت المعصومين، وخير من برأ الله علماً وتقوى وصلاحاً في الدين، وهذا ما أحاط به الإمام الصادق أصحابه علماً بأنه الإمام الذي فرض الله طاعته على عباده قائلاً لهم:

(فدونكم، فوالله هو صاحبكم)(18).

وكانت ولادته في الأبواء سنة 128هـ وقيل سنة 129هـ(19) وذلك في أيام حكم عبد الملك بن مروان.

وقال الطبرسي رحمه الله: ولد أبو الحسن موسى (عليه السلام) بالأبواء، منزل بين مكة والمدينة لسبع خلون من صفر سنة ثمان وعشرين ومائة(20).

 

تكريم الوليد

بعد فترة وجيزة ارتحل أبو عبد الله عن الأبواء متجهاً إلى يثرب وفور وصوله مدّ المائدة، وأطعم الناس ثلاثة أيام تكريماً لوليده المبارك (الكاظم)(21) وبدأت وفود من شيعته تتوافد عليه لتهنئته بمولوده، وتشاركه في فرحته الكبرى.

 

طفولته زاكية مميّزة

تدرّج الإمام موسى بن جعفر في طفولة زاكية مميزة، فتربّى في حجر الإسلام، ورضع من ثدي الإيمان، وتغذى من عطف أبيه الإمام الصادق، حيث أغدق عليه أشعة من روحه الطاهرة وأرشده إلى عادات الأئمة الشريفة وسلوكهم النيّر، فالتقت في سنّه المبكر جميع عناصر التربية الإسلامية السليمة، حتى أحرز في صغره جميع أنواع التهذيب والكمال والأخلاق الحميدة، ومن شبّ على شيء شاب عليه. هذه الطفولة المميزة استقبلها الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو ناعم البال بحفاوة وتكريم خاص؛ فأبوه أغدق عليه عطفاً مستفيضاً، وحمل له من الحب ما لا يحمله لغيره، حيث قدّمه على بقية ولده، فاندفع قائلاً: (الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء)(22) ونتيجة هذا الحب الأبوي المميز أخذت جماهير المسلمين تقابل الإمام موسى بالعناية والتكريم، وجماهير الشيعة بصورة خاصة، لأنّهم يعتقدون أن مقام الإمامة كمقام النبوة، بعيداً عن المحاباة، سوى ما يتصل بتأييد الفضيلة والإشادة بالإيمان، وعلى ضوء ذلك أعلن الإمام الصادق حبّه الكبير ومودته الوثيقة لولده الحبيب لأنه رأى فيه ملامح صادقة عنه، ومواهب مبكرة، وعبقرية خاصة، تؤهله لمنصب الإمامة على أمّة جدّه (صلّى الله عليه وآله).

 

أوصافه

وصف رواة الأثر ملامح صورة الإمام موسى بن جعفر فقالوا: كان أسمر اللون(23)، وقالوا: كان ربع القامة، كثّ اللحية، حسن الوجه، نحيف الجسم(24).

أما عن صفاته الخلقية: فهو ابن الأوصياء، حاكي في هيبته ووقاره هيبة الأنبياء، فما رآه أحد إلا هابه وأكبره لجلالة قدره، وسموّ مكانته، وحسن سيرته، وكريم أخلاقه.

ومرّة التقى به شاعر البلاط العباسي أبو نواس فانبهر بأنواره فانطلق يصوّر هيبته ووقاره بأبيات قال فيها:

إذا أبـــــــصرتـــك العين من غير ريبة          وعارض فيك الشـك أثبتك القلب(25)

ولــــــو أن ركــــــباً أمـــــمـوك لقادهم          نسيـــــمك حـــــتى يـــستدل بك الركب

جعــــــلتك حــــــسبي فـي أموري كلها          ومــا خاب من أضـحى وأنت له حسب

ولا يخفى أن هذه الأبيات كانت يقظة من يقظات الضمير، ونسمة علوية من نسيمات الروح، ذلك أن أبا نواس الذي كان يعيش على موائد بني العباس، والذي قضى معظم أيام حياته في اللهو المجون، قد انبرى إلى هذا المديح العاطر في الوقت الذي كان يمدح أهل البيت ينال عقوبة كبرى قد تؤدي به إلى الموت! لكن مثالية الإمام وواقعيته التي لا ندّ لها في عصره، قد سيطرت على روح الشاعر العباسي وأنسته النتائج.

 

كنيته وألقابه

كان يكنّى بعدة أسماء أشهرها: أبو الحسن، قال الشيخ المفيد: كان يكنّى أبا إبراهيم، وأبا الحسن، وأبا علي، ويعرف بالعبد الصالح(26).. وقال ابن الصباغ المالكي: أما كنيته فأبو الحسن، وألقابه كثيرة أشهرها: الكاظم، ثم الصابر، والصالح، والأمين(27)، وألقابه تدل على مظاهر شخصيته، ودلائل عظمته، وهي عديدة منها: الزاهر، لأنه زهر بأخلاقه الشريفة، وكرمه الموروث عن جدّه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله).

قال ابن شهر آشوب عند ذكره لألقابه: (... والزاهر وسمي بذلك لأنه زهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيء التام)(28).

والكاظم: لقب بذلك لما كظمه عما فعل به الظالمون من التنكيل والإرهاق... ويقول ابن الأثير (إنه عرف بهذا اللقب لصبره ودماثة خلقه، ومقابلته الشرّ بالإحسان)(29).

والصابر: لأنه صبر على الخطوب والآلام التي تلقـــاها من حكـــام الجـــور والطغـــاة، الذين قابلوه بجميع ألوان الإساءة والمكروه(30).

والسيّد: لأنه من سادات المسلمين، وإمام من أئمتهم.

والوفي: لأنه أوفى الإنسان في عصره، فقد كان وفيّاً بارّاً بإخوانه وشيعته، وبارّاً حتى بأعدائه والحاقدين عليه.

ذو النفس الزكية: لقّب بهذا اللقب اللطيف لصفاء ذاته، ونقاوة سريرته البعيدة كل البعد عن سفاسف المادة، ومآثم الحياة، نفس أبيّة زكيّة، طاهرة، كريمة، سمت وعلت حتى قلّ نظيرها.

باب الحوائج: هذا اللقب كان من أشهر ألقابه ذكراً، وأكثره شيوعاً، انتشر بين العام والخاص، حتى أنه ما أصاب أحدهم مكروه إلا فرّج الله عنه بذكره الإمام الكاظم، وما استجار بضريحه أحد إلا قضيت حوائجه، ورجع مثلوج القلب، مستريح الضمير ممّا ألّم به من طوارق الزمن التي لابدّ منها.

وقد آمن بذلك جمهور المسلمين على اختلاف مذاهبهم.

يقول أبو علي الخلال شيخ الحنابلة وعميدهم الروحي: (ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر إلا سهّل الله تعالى لي ما أحب)(31).

وقال الإمام الشافعي: (قبر موسى الكاظم الترياق المجرّب)(32).

كان الإمام موسى الكاظم في حياته ملجأ لعموم المسلمين، كما كان كذلك بعد موته حصناً منيعاً لمن استجار به من عموم المسلمين، لأن الله سبحانه وتعالى عزّ اسمه منحه حوائج المسلمين المستجيرين بضريحه الطاهر في بغداد.

وقد روى الخطيب البغدادي قضية كان فيها شاهد عيان(33)، عندما شاهد امرأة مذهولة، مذعورة، فقدت رشدها لكثرة ما نزل بها من الهموم، لأنها أخبرت أن ولدها قد ارتكب جريمة، وألقت عليه السلطة القبض وأودعته في السجن ينتظر الحكم القاسي والظالم. فأخذت تهرول نحو ضريح الإمام مستجيرة به، فرآها بعض الأوغاد، الذي لا يخلو الزمان منهم، فقال لها: إلى أين؟

ـ إلى موسى بن جعفر، فإنّه قد حُبِس ابني.

فقال لها بسخرية واستهزاء: (إنه قد مات في الحبس).

فاندفعت تقول بحرارة بعد أن لوّع قلبها بقوله:

(اللّهم بحق المقتول في الحبس أن تريني القدرة).

فاستجاب الله دعاءها، وأطلق سراح ابنها، وأودع ابن المستهزئ بها في ظلمات السجن بجرم ذلك الشخص.

فالله سبحانه وتعالى القادر العليم والقاهر العظيم قد أراها القدرة لها ولغيرها، كما أظهر كرامة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام، فما خاب من دعاهم، وما فشل من استجار بهم. ثم يروي الخطيب البغدادي عن محنة ألّمت به فاستجار بالإمام موسى وكشف عنه الهمّ والغمّ. فيقول: (وأنا شخصيّاً قد ألّمت بي محنة من محن الدنيا كادت أن تطوي حياتي، ففزعت إلى ضريح موسى بن جعفر بنيّة صادقة، ففرّج الله عنّي، وكشف ما ألّم بي.

ولا يَشِكّ في هذه الظاهرة التي اختصّ بها الإمام إلا من ارتاب في دينه وإسلامه.

لقد آمن جميع المسلمين الأبرار بالأئمة الأطهار منذ فجر التاريخ ولم يزالوا يعتقدون اعتقاداً راسخاً في أن أهل البيت (عليهم السلام) لهم المقام الكريم عند الله، وإنه يستدفع بهم البلاء، وتستمطر بهم السماء.

روى الكليني عن محمد بن جعفر الكوفي، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: تقول ببغداد: (السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا حجة الله، السلام عليكَ يا نور الله في ظلمات الأرض، السلام عليك يا من بدا لله في شأنه، أتيتك عارفاً بحقك معادياً لأعدائك فاشفع لي عند ربّك) وادع الله وسلْ حاجتك، قال: وتسلّم بهذا على أبي جعفر (عليه السلام)(34).

ولا ننسى قصيدة الفرزدق العصماء التي ندرّسها لطلاّبنا في المدارس والجامعات التي مدح بها الإمام زين العابدين وقال فيها:

مـــــن مـــــعشر حـــبهم دين وبغضهم          كفـــــر وقـــــــربهم منـــــجى ومعتصم

يســـــــتدفع الســـــوء والـبلوى بحبهم          ويــــــستزادُ بــــــه الإحــــسان والنعم

فالله عزّ وجلّ منح أهل البيت جميل ألطافه، وخصّهم بالمزيد من كراماته، أحياءً وأمواتاً.

ونذكر هنا كوكبة من الشعراء والأدباء قد أثقلت كواهلهم كوارث الدهر ففزعوا إلى ضريح الإمام متوسلين به إلى الله تعالى في رفع محنهم، وكشف ما ألّم بهم من المكروه، ففرّج الله عنهم ولو أردنا أن نذكر ما أثر عنهم في ذلك لبلغ مجلداً ضخماً.

لكنا نذكر بعضاً منهم الحاج محمد جواد البغدادي الذي سعى إلى ضريح الإمام في حاجة يطلب قضاءها فقال:

يــــــا ســـــميّ الكـــــليم جئــتك أسعى          نحـــــــو مــــــغناك قـــاصداً من بلادي

ليــــــس تُــــــقضى لنـــــا الحـوائج إلا          عـــند بـــــاب الرجاء جد الجواد(35)

فجاء عباس البغدادي وخمسها بقوله:

لــــم تــــــزل لـــــلأنام تحــــسن صنعا          وتجــــــــير الــــــــذي أتــــاك وترعى

وإذا ضــــــاق الفــــــضا بــــــي ذرعـاً          يا ســــــميّ الكــــــليم جئـــــتك أسعى

والهــــــــوى مــــــــركبي وحبّك زادي

أنـــــت غـــــيث للمجــــــدبين ولــــولا          فــــــيض جــــــدواكم الوجود اضمحلا

قــــــسمـــاً بـــــــالذي تـــــعالى وجــلا          ليـــــس تُـــــقضى لـــنا الــــحوائج إلا

عـــــــند بــــــاب الـــــرجاء جد الجواد

وممن نظم في ذلك الشاعر المرحوم السيد عبد الباقي العمري فقال:

لــــــذ واســــــتجر مــــــتــــوســــــــلاً          إن ضـــــــاق أمـــــــرك أو تـعـــــــسّر

بـــــأبي الــــــرضا جـــــــــد الجـــــــوا          د مــــــحمد مــــوسى بــن جعفر(36)

 

نقش خاتمه

يدل نقش خاتمه على مدى تعلّقه بالله عزّ وجلّ، ومدى انقطاعه إليه سبحانه وتعالى فكان: (الملك لله وحده).

ويا ليت مجتمع عصره ومجتمع عصرنا اليوم يعقلون هذا الشعار، ويعملون به، لزال الطمع والجشع وحب التملك لهذه الدنيا الفانية، ولضعف وهج الأنانية، ووهنت جاذبيتها في نفوسهم.

 

أبناؤه

شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، أنجب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ذرية طاهرة من نسل طيّب، فكانوا من خيرة أبناء المسلمين في عصره يتصفون بالتقوى والورع والخير والصلاح والابتعاد عن مآثم الحياة وأباطيلها.

لقد أنشأهم الإمام نشأة دينية خالصة، ووجّههم وجهة صحيحة سليمة، وسكب في نفوسهم الإيمان بالله، والتفاني في سبيل العقيدة، والعمل على قول كلمة الحق، والقيام بها مهما كلّف الثمن. قال ابن الصباغ: (إن لكل واحد من أولاد أبي الحسن موسى (عليه السلام) فضلاً مشهوداً)(37).

اختلف النسابون في عدد أولاد الإمام موسى الكاظم اختلافاً كثيراً منهم من قال: ثلاثة وثلاثون، الذكور منهم 16 والإناث 17.

ومنهم من قال: سبعة وثلاثون، الذكور 18 والإناث 19.

ومنهم من قال: ثمانية وثلاثون، الذكور 20 والإناث 18(38).

وقال الطبرسي: كان له سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى. علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وإبراهيم والعباس والقاسم من أمهات متعددة.

وأحمد، ومحمد، وحمزة من أم واحدة.

وإسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسن من أم واحدة.

وعبد الله، وإسحاق، وعبيد الله، وزيد، والحسن، والفضل، وسليمان من أمهات متعددة.

وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، ورقية، ومكية، وأم أبيها، ورقية الصغرى وكلثم، وأم جعفر، ولبانة، وزينب، وخديجة وعلية، وآمنة، وحسنة، وبريهة، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، وأم كلثوم من أمهات متعددة.

وكان أحمد بن موسى كريماً ورعاً وكان الإمام يحبّه فوهب له ضيعته المعروفة باليسيرية، ويقال أنه أعتق ألف مملوك.

وكان محمد بن موسى (عليه السلام) شجاعاً كريماً، وتقلّد الإمرة على اليمن في عهد المأمون من قبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) الذي بايعه أبو السرايا في الكوفة ومضى إليها ففتحها وأقام بها مدة إلى أن كان من أمر أبي السرايا ما كان، وأخذ الأمان من المأمون.

ولكل واحد من أبناء أبي الحسن موسى (عليه السلام) فضل ومنقبة وكان الرضا مشهوراً بالتقدم ونباهة القدر، وعظم الشأن، وجلالة المقام بين الخاص والعام(39).

 

إخوانه (عليهم السلام)

لقد ذكرت عن إخوانه (عليه السلام) في كتاب (الإمام الصادق عطرة النبوة ومنهج حياة) في باب أولاد الإمام الصادق، ولكن سوف نورد باختصار عنهم حتى لا يخلو هذا الكتاب من ذكرهم العطر.

1ـ إسماعيل بن جعفر (عليه السلام): كان أكبر أولاده، وكان الإمام الصادق يحبّه حباً جمّاً. قال الشيخ المفيد: إنه مات في حياة أبيه بالعريض، وحمل على رقاب الرجال إلى أبيه بالمدينة حتى دفن بالبقيع؛ روي أن أبا عبد الله حزن عليه حزناً شديداً، وأمر بوضع سريره على الأرض عدة مرات قبل دفنه، وكان يكشف عن وجهه وينظر إليه، ويريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده، وإزالة الشبهة عنهم في حياته(40).

2ـ عبد الله بن جعفر (عليه السلام): كان أكبر إخوانه بعد إسماعيل.

3ـ علي بن جعفر (عليه السلام): هو المحدث المشهور صاحب المسائل، عن أخيه موسى (عليه السلام)، عاش دهراً طويلاً حتى أدرك الإمام الجواد (عليه السلام).

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رضوان الله عليه: علي بن جعفر أخو موسى بن جعفر بن محمد (عليهم السلام)، جليل القدر، ثقة، له كتاب المناسك ومسائل لأخيه موسى الكاظم بن جعفر (عليهم السلام) سأله عنها(41).

4ـ إسحاق بن جعفر (عليه السلام): الملقب بالمؤتمن، زوج السيّدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن السبط (عليه السلام) صاحبة الروضة المشهورة بالقاهرة المعروفة بالست نفيسة؛ سافر مع زوجته إلى مصر وأقام بالفسطاط.

قال الشيخ المفيد: كان إسحاق بن جعفر من أهل الفضل والصلاح والورع والاجتهاد، قد روى عنه الناس الحديث والآثار وكان ابن كاسب يقول إذا حدث عنه: حدّثني الثقة الرضي إسحاق بن جعفر وكان إسحاق يقول بإمامة أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)(42).

5ـ عباس بن جعفر: قال الشيخ المفيد: كان العباس بن جعفر رحمه الله فاضلاً نبيلاً(43).

6ـ محمد بن جعفر (عليه السلام): من الزهّاد والعبّاد، كان يسكن مكة ويروي بها الأحاديث، وفي أيام ظهور الفتنة بين الأمين والمأمون خرج في مكة وادعى الخلافة، أرسل إليه المأمون جيشاً بإمارة الجلودي، فلما وصل جيش المأمون مكة خلع نفسه وبايع المأمون. ثم سافر إلى خراسان وأقام بمرو، ولما وصل المأمون جرجان قتله بالسم وكان قبره معروفاً بجرجان في القرن الرابع الهجري.

 

بوّابه

هو محمد بن الفضل، وفي المناقب: المفضل بن عمر.

 

شاعره

السيد الحميري.

 

ملوك عصره

1ـ المنصور 754م - 775م.

2ـ المهدي: 775م - 785م.

3ـ الهادي: 785م - 786م.

4ـ هارون الرشيد: 786م - 809م.

مدة إمامته

خمس وثلاثون سنة.

 

النص عليه بالإمامة

أجمعت الروايات بالنص عليه بالإمامة من الله تعالى، كخبر اللوح، وأن الإمام لا يكون إلا الأفضل في العلم والزهد والعمل، وأنه معصوم كعصمة الأنبياء (عليهم السلام).

والنصوص المروية على إمامته عن أبيه أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قد رواها شيوخ أصحاب أبي عبد الله وخاصته، وثقاته الفقهاء الصالحون رضوان الله عليهم.

قال محمد بن الوليد: سمعت علي بن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول لجماعة من خاصته، وأصحابه: استوصوا بابني موسى خيراً، فإنه أفضل ولدي، ومن أخلّفه من بعدي، وهو القائم مقامي، والحجّة لله تعالى على كافة خلقه من بعدي(44).

وروى منصور بن حازم، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بأبي أنت وأمي، إن الأنفس يغدى عليها ويراح، فإذا كان ذلك فمن؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان ذلك فهو صاحبكم وضرب على منكب أبي الحسن الأيمن، وهو فيما أعلم يومئذ خماسي، وعبد الله بن جعفر جالس معنا)(45).

وقال سليمان بن خالد: دعا أبو عبد الله أبا الحسن يوماً، ونحن عنده، فقال لنا: عليكم بهذا، فهو والله صاحبكم بعدي(46).

ومن الغريب ما يدعيه غير الشيعة من أن النبي (صلّى الله عليه وآله) مات ولم يوص إلى أحد من بعده يقوم مقامه ويسد فراغه، فترك الأمة من بعده بلا إمام يدير أمرها، ويجمع شملها، ويرشد ضالها، ويقيم لها الحدود، ويقوّم الاعوجاج، ويوضح السنن. وقد أجمعت الأمة على أنه (صلّى الله عليه وآله) كان يستخلف على المدينة إذا أراد سفراً، ولا يرسل جيشاً حتى يعيّن له قائداً، وربما عيّن لجيوشه أكثر من قائد(47).

ولو أنصف الناس الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لاكتفوا بنص الغدير وحده ـ دون غيره من النصوص الكثيرة ـ فقد شهد جل المسلمين بيعة يوم الغدير، وشاهدوا بأم أعينهم المراسم التي أجراها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في ذلك اليوم، وما نزل من القرآن الكريم.

ومن العجيب أيضاً أن تنسى الأمة بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ذلك اليوم والعهد قريب، والرسول (صلّى الله عليه وآله) بعد لما يقبر، والشهود حضور.

وكيفما كان فالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وحده المنصوص عليه بالخلافة من قبل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وكذلك أولاده عليهم أزكى الصلاة وأفضل السلام.

وقد التزم الأئمة (عليهم السلام) في نص بعضهم على بعض، السابق على اللاحق والوالد على ولده، إقامة للحجة، وإعذاراً للأمة(48).

 

هارون الرشيد يعترف بإمامة الكاظم (عليه السلام)

قال المأمون: كنت أجرأ ولد أبي عليه، وكان المأمون متعجباً من إكبار أبيه لموسى بن جعفر وتقديره له. قال: قلت: لأبي: يا أمير المؤمنين، من هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه؟ ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟

قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده فقلت: يا أمير المؤمنين، أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟

فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مني ومن الخلق جميعاً، والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم(49).

 

مناقبه وفضائله (عليه السلام)

مناقب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بحر زاخر لا يمكن حصره أو الخوض فيه إلى النهاية، لكننا سوف نذكر بعض هذه المناقب الكريمة على سبيل الذكر لا الحصر؛ من هنا كان قول محمد بن صلحة:

(أما مناقبه فكثيرة، ولو لم يكن منها إلا العناية الربانية لكفاه ذلك منقبة)(50).

1ـ العلم

فقد روى عنه العلماء أكثر فنون العلم من علم الدين وغيره ممّا ملأ بطون الكتب، وألّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنهم بالأسانيد المتصلة.

جاء في تحف العقول عن الحسن بن علي بن شعبة قال أبو حنيفة(51):

حججت في أيام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فلما أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز انتظر إذنه إذ خرج صبي فقلت: يا غلام ممن المعصية؟ فقال: أن السيئات لا تخلو من إحدى ثلاث:

أ. إما أن تكون من الله وليست منه فلا ينبغي للرب أن يعذب العبد على ما لا يرتكب.

ب. وإما أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف.

ج. وإما أن تكون من العبد وهي منه، فإن عفا فكرمه وجوده، وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته.

قال أبو حنيفة فانصرفت ولم ألق أبا عبد الله، واستغنيت بما سمعت.

قال الشيخ المفيد في الإرشاد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): أكثر الناس في الرواية عنه، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله، وأحسنهم صوتاً بتلاوة القرآن.

وقال علي بن شعبة الحراني في تحف العقول: سأل رجل موسى بن جعفر عن الجواد فقال: إن كنت تسأل عن المخلوقين فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض الله عليه والبخيل من بخل بما افترض الله، وإن كنت تعني الخالق، فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، أعطاك لأنه إن أعطاك ما ليس لك وإن منعك منعك ما ليس لك.

2ـ الحلم

جاء في مقاتل الطالبيين قال أبو الفرج بسنده عن يحيى بن الحسن: كان موسى بن جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلى المائتين إلى المائة دينار. وكانت صرار موسى مثلاً شائعاً بين الناس.

وجاء في الإرشاد للشيخ المفيد: أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد عن جده عن غير واحد من أصحابه ومشايخه أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً. فقال له بعض أصحابه: دعنا نقتله. فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشد الزجر. وسأل عن العمري فذكر له انه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب إليه في مزرعته فوجده فيها، فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا! فتوطأه بالحمار حتى وصل إليه فنزل فجلس عنده، وضاحكه وقال له: كم غرمت في زرعك؟ قال له: مائة دينار، قال الإمام: فكم ترجو أن تصيب؟ قال: أنا لا اعلم الغيب. قال: إنما قلت لك كم ترجو إن يجيئك فيه؟ قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار فأعطاه الإمام (عليه السلام) ثلاثمائة دينار. وقال: هذا زرعك على حاله فقام العمري وقبل رأسه وانصرف. فراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته. فوثب أصحابه فقالوا له: ما قصتك؟ قال كنت تقول خلاف هذا فخاصمهم وشاتمهم وجعل يدعو لأبي الحسن موسى كلما دخل وخرج، فقال أبو الحسن موسى لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري: أيما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار.

3ـ التواضع ومكارم الأخلاق

مر برجل من أهل السواد دميم المنظر، فسلّم عليه، ونزل عنده وحادثه طويلاً، ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له فقيل له: يا ابن رسول الله أتنزل إلى هذا ثم تسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج؟ فقال (عليه السلام): عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم، وأفضل الأديان الإسلام، ولعل الدهر يرد من حاجتنا إليه فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه، ثم قال:

نــــواصل مــــــن لا يســــتحق وصالنا          مخــــــافة أن نــبقى بغير صديق(52)

وروي عن الحسن بن علي بن حمزة عن أبيه قال: رأيت أبا الحسن يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه في العرق.

فقلت جعلت فداك، أين الرجال؟!

قال: يا علي قد عمل باليد من هو خير مني في أرضه ومن أبي.

فقلت: ومن هو؟

فقال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وآبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين(53).

4ـ عبادته (عليه السلام)

لقد شهدت له ألقابه على حسن عبادته، وشدة خوفه من الله تعالى، فمن زين المجتهدين، إلى العبد الصالح،والنفس الزكيّة، والصابر، إلى غير ذلك من الألقاب المشيرة إلى صفاته الموقرة، وعبادته المتواصلة؛ ولم يحدثنا التاريخ عن مسجون غير الإمام موسى بن جعفر كان يشكر الله تعالى على ما أتاح له من نعمة التفرغ للعبادة بين جدران السجن، ويحسب ذلك نعمة، وجب بها عليه الشكر.

قال ابن الصباغ المالكي: إن شخصاً من بعض العيون التي كانت عليه في السجن، رفع إلى عيسى بن جعفر أنه سمعه يقول في دعائه: (اللّهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك وقد فعلت، فلك الحمد)(54).

وعن أبي حنيفة انه دخل على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ادعوا لي موسى، فدعوه، فقال له في ذلك. فقال: نعم يا أبة، إن الذي كنت أصلّي إليه كان أقرب إليّ منهم، يقول الله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فضمه أبو عبد الله إلى نفسه ثم قال: بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار(55).

وجاء في كشف الغمة: كان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع وكان إذا قرأ القرآن يحزن ويبكي ويبكي السامعون لتلاوته(56). ولكثرة سجوده كان له غلام يقص اللحم من جبينه، وعرنين أنفه، فقد نظم بعض الشعراء ذلك بقوله:

طــــــالت لطــــــول سجـــود منه ثفنته          فـــــقرحت جــــــبهة مــــــنه وعـرنينا

رأى فــــــراغته فـــــي الســـجن منيته          ونـــــعمة شـكر الباري بها حينا(57)

5ـ كرمه وصدقاته

من أبرز خصائص أئمة أهل البيت (عليهم السلام) البر والإحسان إلى الناس كافة، وبصورة خاصة الطبقة الضعيفة، فكانوا يخصّونهم بجزيل فضلهم، ونبل عطاياهم، حتى كان من منهجهم في الليالي المظلمة هو التطواف على بيوت الفقراء والمساكين بالأغذية والمال وهم لا يعرفونهم.

قال ابن الصباغ المالكي: كان موسى الكاظم (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، وأعلمهم وأسخاهم كفاً وأكرمهم نفساً وكان يتفقد فقراء المدينة ويحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم والنفقات، ولا يعلمون من أي جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلك إلا بعد موته(58).

وقال محمد بن عبد الله البكري: قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني، فقلت لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى فشكوت إليه، فأتيته في ضيعته، فذكرت له قضيّتي، فدخل ولم يقم إلا يسيراً حتى خرج إليّ، فقال لغلامه: إذهب، ثم مدّ يده إليّ فرفع إليّ صرة فيها ثلاثمائة دينار، فركبت دابتي وانصرفت(59).

كما رووا عن عيسى بن محمد بن مغيث القرطبي قال: زرعت بطّيخاً وقثاءاً وقرعاً في موضع بالجوانية، على بئر يقال لها (أم عظام) فلما قرب الخير، واستوى الزرع بغتني الجراد فأتى على الزرع كله، وكنت غرمت على الزرع وفي ثمن جملين مائة وعشرين ديناراً، فبينما أنا جالس إذ طلع موسى بن جعفر بن محمد، فسلّم ثم قال: أي شيء حالك؟ فقلت: أصبحت كالصريم، بغتني الجراد فأكل زرعي.

قال (عليه السلام) وكم غرمت فيه؟ فقلت: مائة وعشرين ديناراً مع ثمن الجملين.

فقال (عليه السلام): يا عرفة زن لأبي المغيث مائة وخمسين ديناراً، فربحك ثلاثون ديناراً والجملان. فقلت يا مبارك ادخل وادع لي فيها بالبركة. فدخل ودعا وحدثني عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: تمسّكوا ببقايا المصائب، ثم علقت عليه الجملين وسقيت، فجعل الله فيها البركة وزكت، فبعث منها بعشرة آلاف(60).

وقال علي بن عيسى الأربلي(61):

(مناقب الكاظم وفضائله ومعجزاته الظاهرة، ودلائله وصفاته الباهرة تشهد أنه افترع قبة الشرف وعلاها، وسماها إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها، وذللت له كواهل السيادة فركبها وامتطاها، وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها.

طالت أصوله، فسمت إلى أعلى رتب الجلال، وسمت فروعه فعلت إلى حيث لا تنال، يأتيه المجد من كل أطرافه، ويكاد الشرف يقطر من أعطافه.

فكان كما قال الشاعر:

أتــــــاه المـــــجـــد مـــــن هـــنا وهـنا          وكـــــنا لــــــه كمــــــجتـــــمع السيول

السحاب الماطر قطرة من كرمه، والعباب الزاخر نغبة من نغبه، واللباب الفاخر من عد من عبيده وخدمه، كأن الشعرى علّقت في يمينه ولا كرامة للشعرى العبور، وكأن الرياض أشبهت خلائقه ولا نعمى لعين الروضة الممطور.

وهو (عليه السلام) غرّة في وجه الزمان وما الغرر والحجول، وهو أضوأ من الشمس والقمر، وهذا جهد من يقول: بل هو والله أعلى مكانة من الأوصاف وأسمى، وأشرف عرفاً من هذه النعوت وأنمى، فكيف تبلغ المدائح كنه مقداره، أو ترتقي همة البليغ إلى نعت فخاره، أو تجري جياد الأقلام في جلباب صفاته، أو يسري خيال الأوهام في ذكر حالاته؟

كاظم الغيظ، وصائم القيظ، عنصره كريم، ومجده حادث وقديم، وهو بكل ما يوصف به زعيم، الآباء عظام، والأبناء كرام، والدين متين، والحق ظاهر مبين، والكاظم في أمر الله قوي أمين، وجوهر فضله غالٍ ثمين وواصفه لا يكذب ولا يمين، قد تلقى راية الإمامة باليمين، فسما (عليه السلام) إلى الخيرات منقطع القرين، وأنا أحلف على ذلك فيه وفي آبائه وأبنائه (عليهم السلام) باليمين.

كم له من فضيلة جليلة، ومنقبة بعلو شأنه كفيلة، وهي وإن بلغت الغاية بالنسبة إليه قليلة، ومهما عد من المزايا والمفاخر فهي فيهم صادقة، وفي غيرهم مستحيلة. إليهم ينسب العظماء، وعنهم يأخذ العلماء، ومنهم يتعلم الكرماء، وهم الهداة إلى الله فبهداهم اقتده وهم الأدلاء على الله فلا تحل عنهم ولا تنشده، وهم الأمناء على أسرار الغيب، وهم المطهرون من الرجس والعيب، وهم النجوم الزواهر في الظلام، وهم الشموس المشرقة في الأيام، وهم الذين أوضحوا شعائر الإسلام وعرفوا الحلال من الحرام، من تلق منهم تقل لاقيت سيداً، ومتى عددت منهم واحداً كان بكل الكمالات منفرداً، ومن قصدت منهم حمدت قصدك مقصدا، ورأيت من لا يمنعه جوده اليوم أن يجود غداً، ومتى عدت إليه عاد كما بدا، المائدة والإنعام يشهدان بحالهم، والمائدة والإنعام يخبران بنوالهم، فلهم كرم الأبوة والنبوة، وهم معادن الفتوة والمروءة، والسماح في طبائعهم غريزة، والمكارم لهم شنشنة ونحيزة، والأقوال في مدحهم وإن طالت وجيزة، بحور علم لا تنزف، وأقمار عز لا تخسف وشموس مجد لا تكسف. مدح أحدهم يصدق على الجميع وهم متعادلون في الفخار فكلهم شريف رفيع. بذوا الأمثال طريفهم وتالدهم ولا مثيل، ونالوا النجوم بمفاخرهم ومحامدهم فانقطع دون شأوهم العديل ولا عديل. فمن الذي ينتهي في السير إلى أمدهم وقد سد دونه السبيل، أمن لهم يوم كيومهم أو غدٍ كغدهم، ولو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم صلى الله عليه وآله صلاة نامية الأمداد، باقية على الآباد مدخرة ليوم المعاد، إنه كريم جواد)(62).

كل ما صدر عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من وصايا ورسائل وخطب وشعر كان في سبيل الدعوة الإسلامية والحث على طاعة الله تعالى والدعوة إلى التحلّي بمكارم الأخلاق والتمسك بالفضائل. فكانوا (عليهم السلام) يعملون على تثقيف الأمة الإسلامية وتعليمها وتوعيتها، ويبذلون أقصى الجهود في تقويمها وهدايتها إلى الطريق السليم.

وموضع الشعر كان ينشد عند عامة الناس في التشبيب واللهو والمجون، أما أهل البيت فكانوا ينظمونه في الدعوة إلى الخير والعقيدة الإسلامية، والأخلاق والتحلّي بالفضائل النبيلة. وهذه هي الفوارق التي تميزهم عن غيرهم من الشعراء الآخرين.

جاء في البحار أنه دخل (عليه السلام) وهو طفل على أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) وبيده لوح فقال له أبوه يا بني اكتب ما سأمليه عليك:

تنح عن القبيح ولا ترده.

ثم قال: اجزه.

فقال (عليه السلام): ومن أوليته حسناً فزده.

فتابع الإمام الصادق القول:

ستلقى من عدوك كل كيد.

فقال الإمام الطفل (عليه السلام): إذا كان العدو فلا تكده.

فقال: (ذرية بعضها من بعض)(63).

وقال (عليه السلام) أيضاً في أفعال العباد:

لـــــم تــــــــخل أفـــــعالنا التي نذم بها          إحـــــــدى ثــــــلاث حــــــين نــــبديها

إمــــــا تــــــفرّد بــــــارينا بصـــــنعتها          فيــــــسقط الـــــلوم عــــنا حين نأتيها

أو كـــــــان يــــــشركنا فيـــــها فيلحقه          ما كـــان يلــــــحقنا مـــــن لائم فـــيها

أو لـــــم يـــــكن لآلـــــهي في جنايتها          ذنــــب فما الذنب إلا ذنب جانيها(64)

وقال (عليه السلام) في اللجوء إلى الله:

أنــــــت ربـــــــي إذ ظــمئت إلى الماء          وقــــــوتي إذا أردت الــــطـــعاما(65)

والإمام الكاظم لم يكن شاعراً محترفاً بل كان نظمه للشعر قليلاً جداً. ذكر الشيخ المفيد أبياتاً له تلاها الإمام الرضا (عليه السلام) على المأمون ونسبها (عليه السلام) إلى أبيه:

كـــــــن للــــــمكاره بــــــالعزاء مدافعاً          فــــــــلعل يـــــــوماً لا تـــرى ما تكره

فـــــــلربما اســـــتتر الفــــتى فتنافست          فـــــــيه العـــــــيون وانـــــه لمـــــموه

ولـــــــربما ابتــــسم الوقور من الأذى          وضمـــــيره مـــــن حــــره يتأوّه(66)

كان (عليه السلام) يعلم كل شيء يدور حوله ولكن عيون المراقبين تترصده دائماً فلم يكن له إلا أن يموه ما يقول حذراً فيبتسم من الأذى المحدق به وضميره من حره يتأوه في صدره. وذكر ذو النون المصري أنه اجتاز أثناء سياحته على قرية تسمى بتدصر فرأى جداراً قد كتبت عليه هذه الأبيات:

أنـــــا ابــــن مــنى والمشعرين وزمزم          ومـــكة والبـــــيت العتـــــيق المعــــظم

وجــــدّي النبي المصـــطفى وأبي الذي          ولايـــــــته فــــرض عـــلى كــل مسلم

وأمـــــي البــــتول المســتضاء بنورها          إذا ما عـــــددناهـــا عـــــديلة مـــــريم

وسبــــــطا رســــول الله عمي ووالدي          وأولاده الأطــــــهـــــار تســـــعة أنجم

متــــــى تــــــتعلق منـــــهم بحبل ولاية          تـــــفز يـوم يجزى الفـــــائزون وتنعم

أئــــــمة هـــــذا الخـــــلق بعـــد نبــيهم          فـــــإن كنــــت لم تــــعلم بــذلك فاعلم

أنـــــا الـــــعلوي الفاطمي الذي ارتمى          بــــه الخـــوف والأيام بالمــرء ترتمي

فــــــالمحت بــــــالدار الــــتي أنا كاتب          علـــيها بشـــعري فاقران شئت والمم

وســـــلم لأمــــــر الله فــــي كــل حالة          فلـــــيس أخـــو الإســـلام من لم يسلم

قال ذو النون فعلمت أنه علوي قد تخفى عن السلطة في خلافة هارون، واحتمل المجلسي أن تكون هذه الأبيات للإمام الكاظم (عليه السلام) ذهب إلى ذلك المكان وكتبها لإتمام الحجة على أعدائه(67).

وما نراه أن الإمام (عليه السلام) لم يتخف ولم يتهرّب من السلطة في يوم من الأيام بل كان في يثرب مقيماً ينكر على هارون وعلى غيره من ملوك عصره بكل جرأة وإقدام، وهذا الذي أوصل به إلى السجن.

 

ما قاله العلماء والعظماء في فضائله

أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على أفضلية أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، وأعلميتهم، ورفعة منزلتهم، وسموّ مقامهم وقرب مكانتهم من الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) كما تنافسوا في ذكر الكتابة عنهم وبيان سيرهم، وذكر أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيهم.

ولا غرو في ذلك بعد أن قرنهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالقرآن الكريم ـ كما في حديث الثقلين ـ ووصفهم بسفينة نوح التي من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى... إلى كثير من الأحاديث التي له (صلّى الله عليه وآله) في بيان فضلهم، والتنويه بسموّ مقامهم.

1ـ قال هارون الرشيد لابنه المأمون: (هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده)(68).

2ـ وقال احمد بن يوسف الدمشقي القرماني:

هو الإمام الكبير القدر، الأوحد، الحجة، الساهر ليله قائماً، القاطع نهاره صائماً، المسمى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين (كاظماً) وهو المعروف عند أهل العراق بـ(باب الحوائج) لأنه ما خاب المتوسل به في قضاء حاجة قط... له كرامات ظاهرة، ومناقب باهرة، انتزع قمة الشرف وعلاها، وسما إلى أوج المزايا فبلغ علاها...(69).

3ـ وقال عبد الله بن أسعد اليانعي:

الإمام موسى كان صالحاً عابداً، جواداً حليماً، كبير القدر، وهو أحد الأئمة الإثني عشر المعصومين في اعتقاد الإمامية، وكان يدعى بالعبد الصالح لعبادته واجتهاده، وكان سخياً كريماً، كان يبلغه عن الرجل ما يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار(70).

4ـ وقال خير الدين الزركلي:

موسى بن جعفر الصادق بن الباقر، أبو الحسن، سابع الأئمة الإثني عشر عند الإمامية، كان من سادات بني هاشم، ومن أعبد أهل زمانه وأحد كبار العلماء الأجواد...)(71).

5ـ وقال محمد بن علي بن شهر اشوب:

(وكان الإمام أجلّ الناس شأناً، وأعلاهم في الدين مكاناً، وأسخاهم بناناً، وأفصحهم لساناً، وأشجعهم جناناً، قد خصّ بشرف الولاية، وحاز إرث النبوة، وتبوأ محل الخلافة، سليل النبوة، وعقدي الخلافة)(72).

6ـ وقال احمد بن حجر الهيثمي:

وموسى الكاظم، هو وارث أبيه علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً سمّي الكاظم لكثرة تجاوز وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله، وكان أعبد أهل زمانه، وأعلمهم وأسخاهم(73).

7ـ وقال الدكتور محمد يوسف موسى:

(ونستطيع أن نذكر أن أوّل من كتب في الفقه هو الإمام موسى الكاظم الذي مات سجيناً عام 183هـ وكان ما كتبه إجابة عن مسائل وجّهت إليه تحت اسم (الحلال والحرام)(74).

8ـ وقال علي بن عيسى الأربلي:

مناقب الكاظم (عليه السلام) وفضائله ومعجزاته الظاهرة، ودلائله وصفاته الباهرة، ومخاتله تشهد أنه افترع قمة الشرف وعلاها وسما إلى أوج المزايا فبلغ أعلاها، وذللت له كواهل السيادة فركبها وامتطاها وحكم في غنائم المجد فاختار صفاياها واصطفاها:

تــــــــركـــت والحــــــسن تـــــــأخـــذه          تصـــــــطفي مـــــــــنه وتنـــــــتجــــب

فانتـــــــقــت منـــــه أحــــــاســــــنـــــه          واســـــتزادت فضـــــــل ما تهب(75)

9ـ وقال الشيخ سليمان المعروف بخواجه كلان:

(موسى الكاظم هو وارث أبيه جعفر بن محمد، علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً، سمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان عند أهل العراق معروفاً بباب قضاء الحوائج، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم)(76).

10ـ وقال النسابة احمد بن علي:

(كان موسى الكاظم عظيم الفضل، رابط الجأش، واسع العطاء، لقّب بالكاظم لكظمه الغيظ، وحلمه، وكان يخرج في الليل وفي كمه صرر من الدراهم فيعطي من لقيه ومن أراد برّه، وكان يضرب المثل بصرّة موسى وكان أهله يقولون: عجباً لمن جاءته صرّة موسى فشكا القلّة)(77).

هذه بعض الآراء الموجزة التي دوّنها كبار العلماء والتي تحمل طابع الإكبار والتقدير للإمام، وهذه الصفات التي اتّصف بها هي السرّ في عظمته، والسرّ في إجماع العلماء على إكباره، وإجماع المسلمين على محبّته. وسوف نوجزها بما يلي:

1ـ أحلم الناس وأكظمهم للغيظ، يقابل الجاني عليه بالإحسان إليه.

2ـ أعلم أهل زمانه، وأفقههم، يحل مشاكلهم ويساعدهم في قضاء حاجاتهم.

3ـ أعبد أهل زمانه اجتهد في العبادة إلى حد لا يجاريه أحد.

4ـ كان من أجود الناس وأسخاهم وأنداهم كفّاً، يعطي بيمينه ولا تعرف به شماله، حتى أصبح يضرب به المثل فقالوا: (مثل صرر موسى).

5ـ أنه من أفصح الناس وأبلغهم، ورث الفصاحة من آبائه وأجداده.

6ـ هو باب الحوائج عند الله، قد خصّه تعالى بهذه الكرامة ومنحه بهذا اللطف، فضمن لمن توسّل به أن يقضي حاجته ولا يرجع من عنده إلا وهو مثلوج الفؤاد ناعم البال.

7ـ أوصل الناس لأهله ورحمه.

8ـ حافل بالتواضع والورع والزهد ودماثة الخلق.

9ـ إمام معصوم من أئمة المسلمين ومن حجج الله على خلقه.

هكذا كان الإمام الكاظم الإمام السابع من الأئمة الإثني عشر المعصومين يعالج بروحه الفوّاحة بالإيمان والتقوى النفوس المريضة التي اترعت بالآفات الاجتماعية والأنانية.

 

أدعيته (عليه السلام)

تميّز أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بمحاسن كثيرة لم يشاركهم فيها غيرهم من الناس، وامتازوا بمكارم اختصوا بها وحدهم من بين الأمة.

والدعاء أحد هذه المميّزات الكثيرة، فقد ورد لكل إمام منهم (عليهم السلام) أدعية كثيرة جمعها علماؤنا الأبرار رضوان الله عليهم فبلغت مئات المصنفات. فهم أول من أرشدوا الناس على الطريقة المثلى التي يجب أن يسلكها العبد في خطابه مع الله سبحانه وتعالى، وما ينبغي أن يكون عليه من التوسل والانقطاع للمولى جلّ شأنه. والإمام الكاظم انقطع إلى الله فكان في جميع أوقاته يلهج بذكر الله تعالى ويدعوه دعاء المنيبين.

 

فائدة الدعاء

أما عن فائدة الدعاء فقد تحدث عنها بقوله: (عليكم بالدعاء، فإن الدعاء لله والطلب إلى الله يردّ البلاء وقد قدّر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه، فإذا دعي الله عز وجلّ وسئل صرف البلاء).

ثم قال في موضع آخر:

(ما من بلاء يقع على عبد مؤمن فيلهمه الله عز وجل الدعاء إلا كان كشف ذلك البلاء وشيكاً، وما من بلاء يقع على عبد مؤمن فيمسك عن الدعاء إلا كان ذلك البلاء طويلاً، فإذا نزل البلاء فعليكم بالدعاء والتضرّع إلى الله عزّ وجلّ)(78).

نعود لنذكر بعض أدعيته (عليه السلام):

 

من دعاء له (عليه السلام) في القنوت

(يا مفزع الفازع، ويا مأمن الهالع، ومطمع الطامع، وملجأ الضارع، يا غوث اللهفان، ومأوى الحيوان، ومروي الظمآن، ومشبع الجوعان، وكاسي العريان، وحاضر كل مكان، بلا درك ولا عيان، ولا صفة ولا بطان، عجزت الأفهام، وضلّت الأوهام عن موافقة صفة دابة من الهوام، فضلاً عن الأجرام العظام، ممّا أنشأت حجاباً لعظمتك، وأنّي يتغلغل إلى ما وراء ذلك بما لا يرام.

تقدّست يا قدّوس عن الظنون والحدوس، وأنت الملك القدوس بارئ الأجسام والنفوس، ومنخر العظام ومميت الأنام، ومعيدها بعد الفناء والتطميس، أسألك يا ذا القدرة والعلاء، والعز والثناء، أن تصلي على محمد وآله أولي النهى، والمحل الأوفى، والمقام الأعلى، وأن تعجل ما قد تأجل، وتقدم ما تأخر، وتأتي بما قد أوجبت إثباته، وتقرّب ما قد تأخر في النفوس الحصرة أوانه، وتكشف البأس وسوء البأس، وعوارض الوسواس الخناس في صدور الناس، وتكفينا ما قد رهقنا، وتصرف عنا ما قد ركبنا، وتبادر اصطلام الظالمين، ونصر المؤمنين والادالة من المعاندين، آمين رب العالمين)(79).

 

ومن دعاء له (عليه السلام)

(بسم الله الرحمن الرحيم. اللّهم اعطني الهدى وثبّتني عليه، واحشرني عليه آمناً أمن من لا خوف عليه ولا حزن ولا جزع إنك أهل التقوى وأهل المغفرة)(80).

ومن دعاء له (عليه السلام) لوفاء الدين

(اللّهم اردد على جميع خلقك مظالمهم التي قِبَلِي صغيرها وكبيرها في يسر منك وعافية، وما لم تبلغه قوتي، ولم تسعه ذات يدي، ولم يقوَ عليه بدني ويقيني ونفسي فأدّه عنّي من جزيل ما عندك من فضلك، ثم لا تخلف عليّ منه شيئاً تقضيه من حسناتي يا أرحم الراحمين، أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله)(81).

 

ومن دعاء له (عليه السلام)

(يا سابق كل فوت، يا سامعاً لكل صوت قوي أو خفي، يا محيي النفوس بعد الموت، لا تغشاك الظلمات الحندسية، ولا تشابه عليك اللغات المختلفة، ولا يشغلك شيء عن شيء، يا من لا يشغله دعوة داع دعاه من السماء، يا من له عند كل شيء من خلقه سمع سامع، وبصر نافذ، يا من لا تغلظه كثرة المسائل ولا يبره إلحاح الملحّين، يا حيّ حين لا حيّ في ديمومة ملكه وبقائه، يا من سكن العلى، واحتجب عن خلقه بنوره، يا من أشرقت لنوره دجا الظلم، أسألك باسمك الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي هو من جميع أركانك، صلّ على محمد وأهل بيته) ثم يسأل حاجته(82).

 

ومن دعاء له (عليه السلام)

(توكّلت على الحيّ الذي لا يموت، وتحصّنت بذي العزة والجبروت، واستعنت بذي الكبرياء والملكوت. مولاي استسلمت إليك فلا تسلمني، وتوكّلت عليك فلا تخذلني، ولجأت إلى ظلّك البسيط فلا تطرحني، أنت المطلب، واليك المهرب، تعلم ما أخفي وما أعلن وتعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فامسك عنّي اللَّهمَّ أيدي الظالمين من الجنّ والإنس أجمعين، واشفني يا ارحم الراحمين)(83).

 

ومن دعاء له عند الحاجة

(يا الله، أسألك بحق من حقّه عليك عظيم أن تصلّي على محمد وآل محمد وأن ترزقني العمل بما علّمتني من معرفة حقك، وأن تبسط عليّ ما حظرت من رزقك)(84).

 

ومن أدعيته دعاء على ظالم له

وهذا دعاء طويل نقدم نصه الكامل ليتضح منه ما قاساه الإمام (عليه السلام) من طواغيت زمانه، وقد دعاه في قنوته على بعض ظالميه من ملوك بني العباس المعاصرين له الذين جرّعوه أنواع الغصص والآلام قال (عليه السلام):

اللّهمّ، إني وفلان ابن فلان، عبدان من عبيدك، نواصينا بيدك تعلم مستقرنا ومستودعنا ومنقلبنا، ومثوانا، وسرّنا، وعلانيتنا، تطلع على نياتنا، وتحيط بضمائرنا، علمك بما نبديه كعلمك بما نخفيه ومعرفتك بما نبطنه كمعرفتك بما نعلنه، ولا ينطوي عندك شيء من أمورنا، ولا ينسرّ دونك حال من أحوالنا، ولا لنا منك معقل يحصننا ولا حرز يحرزنا، ولا مهرب لنا نفوتك به، ولا تمنع الظالم منك حصونه، ولا يجاهدك عنه جنوده، ولا يغالبك مغالب يمنعه، أنت مدركه أينما سلك، وقادر عليه أينما لجأ، فمعاذ المظلوم منّا بك وتوكّل المقهور منّا عليك، ورجوعه إليك، يستغيث بك إذا خذله المغيث، ويستصرخك إذا قعد عنه النصير، ويلوذ بك إذا نفته الأقنية، ويطرق بابك إذا أغلقت عنه الأبواب المرتجة ويصل إليك إذا احتجبت عنه الملوك الغفلة، تعلم ما حلّ به من قبل أن يشكوه إليك، وتعرف ما يصلحه قبل أن يدعوك له، فلك الحمد بصيراً عليماً لطيفاً.

اللَّهُمَّ، وإنه قد كان في سابق علمك، ومحكم قضائك، وجاري قدرك، ونافذ أمرك، وماضي مشيئتك في خلقك أجمعين، شقيّهم وسعيدهم، وبرّهم وفاجرهم، إن جعلت (لفلان ابن فلان) عليّ قدرة فظلمني بها وبغى عليّ بمكانها، واستطال وتعزز بسلطانه الذي خوّلته إيّاه، وتجبّر وافتخر بعلوّ حاله الذي نولته، وغرّه املاؤك، وأطغاه حلمك عنه، فقصدني بمكروه عجزت عن الصبر عليه، وتعمّدني بشرّ ضعفت عن احتماله ولم أقدر على الاستنصاف منه لضعفي، ولا على الانتصار لقلّتي فوكلت أمره إليك، وتوكّلت في شأنه عليك، وتوعّدته بعقوبتك، وحذّرته ببطشك، وخوّفته بنقمتك، فظنّ أن حلمك عنه من ضعف، وحسب أن إملاءك له من عجز، ولم تنهه واحدة عن أخرى ولا انزجر عن ثانية بأولى، لكنّه تمادى في غيّه، وتتابع في ظلمه، ولجّ في عدوانه، واستشرى في طغيانه، جرأة عليك يا سيدي ومولاي، وتعرّضاً لسخطك الذي لا تحبسه عن الباغين، فها أنا يا سيدي مستضام تحت سلطانه مستذل بفنائه، مبغيّ عليّ، وجلّ خائف، مروع مقهور قد قلّ صبري، وضاقت حيلتي، وتغلّقت عليّ المذاهب إلا إليك، وانسدّت عنّي الجهات إلا جهتك، والتبست عليّ أموري في دفع مكروهه، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمه، وخذلني من استنصرته من خلقك، وأسلمني من تعلّقت به من عبادك فاستشرت نصحي فأشار عليّ بالرغبة إليك، واسترشدت دليلي فلم يدلّني إلا إليك، فرجعت إليك يا مولاي صاغراً راغماً مستكيناً عالماً أنه لا فرج لي إلا عندك، ولا خلاص لي إلا بك انتجز وعدك في نصرتي وإجابة دعائي، لأن قولك الحق الذي لا يردّ ولا يبدّل، وقد قلت تباركت وتعاليت، (ومن بغي عليه لينصرنّه الله) وقلت جل ثناؤك، وتقدّست أسماؤك: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فأنا فاعل ما أمرتني به لا منّا عليك، وكيف أمنّ به وأنت دللتني عليه، فاستجب لي كما وعدتني يا من لا يخلف الميعاد، وإني لأعلم يا سيدي إن لك يوماً تنتقم فيه من الظالم للمظلوم، وأتيقن أن لك وقتاً تأخذ فيه من الغاصب للمغصوب لأنه لا يسبقك معاند، ولا يخرج من قبضتك منابذ، ولا تخاف فوت فائت، ولكن جزعي وهلعي لا يبلغان الصبر على أناتك، وانتظار حلمك، فقدرتك يا سيدي فوق كل قدرة، وسلطانك غالب كل سلطان، ومعادِ كلّ أحد إليك وإن أمهلته، ورجوع كل ظالم إليك وأن انظرته، وقد أضرني ـ يا سيدي ـ حلمك عن (فلان) وطول أناتك له، وإمهالك إيّاه، ويكاد القنوط أن يستولي عليّ لو لا الثقة بك، واليقين بوعدك، فإن كان في قضائك النافذ، وقدرتك الماضية أنه ينيب، أو يتوب، أو يرجع عن ظلمي، ويكفّ عن مكروهي، وينتقل عن عظيم ما ركب منّي، فصلّ على محمد وآله، وأوقع ذلك فيقلبه قبل إزالة نعمتك التي أنعمت بها عليه، وتكدير معروفك الذي صنعته إليه، وإن كان علمك به غير ذلك من مقامه على ظلمي، فإنّي أسالك يا ناصر المظلومين المبغي عليهم اجابة دعوتي، فصلّ على محمد وآله وخذه من مأمنه أخذ عزيزٍ مقتدر، وأفجأه في غفلته مفاجأة مليك منتصر، واسلبه نعمته وسلطانه، وافضض عنه جموعه وأعوانه، ومزّق ملكه كل مزّق، وفرّق أنصاره كل مفرق، واعزله من نعمتك التي لم يقابلها بالشكر والإحسان، وانزع عنه سربال عزّك الذي لم يجازه بالإحسان، واقصمه يا قاصم الجبابرة، وأهلكه يا مهلك القرون الخالية، وابره يا مبير الأمم الظالمة، واخذله يا خاذل الفرق الباغية، وابتر عمره، وابتز ملكه، واعف أثره، واقطع خبره، واطف ناره، واظلم دياره، وكوّر شمسه، وازهق نفسه، واهشم سوقه، وجب سنامه، وارغم أنفه، وعجل حتفه، ولا تدع له جنة إلا هلكتها، ولا دعامة إلا قصمتها، ولا كلمة مجتمعة إلا فرّقتها، ولا قائمة علو إلا وضعتها ولا ركناً إلا وهنته، ولا سبباً إلا قطعته، وأرنا أنصاره وجنوده عبيداً بعد العزّة، واجعلهم متفرّقين بعد اجتماع الكلمة ومقنعي الرؤوس بعد الظهور على الأمة، واشف بزوال أمره القلوب الوجلة، والأفئدة اللهيفة، والأمّة المتحيّرة، والبريّة الضابعة، واظهر بزواله الحدود المعطّلة، والسنن الداثرة، والأحكام المهملة والمعالم المتغيّرة، والآيات المحرّفة، والمدارس المهجورة، والمحاريب المجفوّة، والمشاهد المهدومة، واشبع به الخماص السابغة، واروا به اللهوات اللاغبة، والأكباد الضامية، وأرح به الأقدام المتعبة واطرقه ببليّة لا أخت لها، وبساعة لا مثوى فيها، وبنكبة لا انتعاش معها، وبعثرة لا إقالة منها، وأبح حريمه، ونغّص نعيمه، وأره بطشتك الكبرى، ونقمتك المثلى، وقدرتك التي هي فوق قدرته، وسلطانك الذي هو أعز من سلطانه، وأغلبه لي بقوّتك القوية، ومحالك الشديد، وامنعني منه بمنعك، وابتله بفقر لا يجبره، وبسوء لا يستره، وكله إلى نفسه فيما تريد، انك فعال لما تريد، وابره من حولك وقوتك، وكله إلى حوله وقوّته، وأزل مكره بمكرك، وادفع مشيئته بمشيئتك، واسقم جسده، وايتم ولده، ونقّص أجله، وخيّب أمله، وأزل دولته، وأطل عولته، واجعل شغله في بدنه، ولا تفكّه من حزنه وصيّر كيده في ضلال، وأمره إلى زوال ونعمته إلى انتقال وجده في سفال، وسلطانه في اضمحلال، وعاقبته إلى شر مآل، وأمته بغيظه إن أمتّه، وابقه بحسرته أن ابقيته، وقني شره وهمزه ولمزه وسطوته وعداوته، والمحه لمحة تدمر بها عليه، فإنّك أشد بأساً وأشد تنكيلا..)(85).

 

استجابة دعاء الإمام الكاظم (عليه السلام)

عاش أهل البيت (عليهم السلام) مظلومين مضطهدين طيلة الحكم الأموي الغاشم ولما انتقل الحكم إلى العباسيين باسم العلويين حسب الناس أن الحكم العباسي سوف يخفف عنهم الوطأة، ويرفع عنهم الحيف.

ولما جاءت رايات أبي مسلم الخراساني بانتصار العلويين، وللأخذ بثأرهم وظلامتهم، أصبح الأمر معكوساً، فإذا بالعباسيين يظلمون وينكّلون بأئمة أهل البيت، ويتتبعونهم قتلاً وسجناً وتشريداً حتى كانت مدة ملكهم أشد قسوة من بني أمية. فقال أحد الشعراء:

تــــــالله مـــــا فـــــعلت عـــــلوج أمية          معــــــشار مـــــــا فـــعلت بنو العباس

وقال آخر:

يــــــا لـــــيت ظـــــلم بـني أمية دام لنا          وليــــــت عـــدل بني العباس في النار

ولم يلجأ أئمة أهل البيت إلى الدعاء على ظالميهم إلا عندما يبلغ الظلم منتهاه، والجور غايته، ويطفح الكيل...

وجاء في كتاب عيسى بن جعفر للرشيد: (لقد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طوال هذه المدة، فما وجدته يفتر عن العبادة، ووضعت من يسمع منه ما يقوله في دعائه، فما دعا عليك ولا عليّ، ولا ذكرنا بسوء وما يدعو لنفسه إلا بالمغفرة والرحمة..)(86).

إذا عرفنا هذا منه صلوات الله وسلامه عليه، نقدر شدة الظروف التي مرّت عليه فاضطرته للدعاء على ظالميه.

وسوف نذكر بعض ما ورد من استجابة دعائه (عليه السلام):

1ـ قال عبد الله بن صالح: حدثنا صاحب الفضل بن الربيع قال: كنت ذات ليلة في فراشي، مع بعض جواريي، فلما كان في نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة، فراعني ذلك، فقالت الجارية: لعلّ هذا من الهواء، فلم يمض إلا يسير حتى رأيت باب البيت الذي كنت فيه قد فتح وإذا مسرور الكبير قد دخل عليّ، فقال: أجب الرشيد، ولم يسلّم عليّ، فيئست من نفسي، وقلت: هذا مسرور، ويدخل بلا إذن ولم يسلّم، ما هو إلا القتل؛ فقالت الجارية لما رأت تحيّري: ثق بالله عزّ وجلّ وانهض، فنهضت ولبست ثيابي، وخرجت معه حتى أتيت الدار، فسلمت على أمير المؤمنين وهو في مرقده، فرد علي السلام فسقطت.

فقال: تداخلك رعب!

قلت: نعم يا أمير المؤمنين.

فتركني ساعة حتى سكنت ثم قال: صر إلى حبسنا فاخرج موسى بن جعفر بن محمد، وادفع إليه ثلاثين ألف درهم، واخلع عليه خمس خلع، واحمله على ثلاثة مراكب، وخيره بين المقام معنا أو الرحيل عنا إلى أي بلاد أحب.

فقلت له: يا أمير المؤمنين! تأمر بإطلاق موسى بن جعفر؟!

قال: نعم. فكررت ثلاث مرات.

فقال: نعم، ويلك! أتريد أن أنكث العهد؟!

فقلت: يا أمير المؤمنين! وما العهد؟!

قال: بينا أنا في مرقدي هذا إذ ساورني أسد، ما رأيت من الأسود أعظم منه، فقعد على صدري وقبض على حلقي، وقال لي: حبست موسى بن جعفر ظالماً له.

فقلت: وأنا أطلقه، وأهب له، وأخلع عليه، فأخذ عليّ عهد الله عزّ وجلّ وميثاقه وقام عن صدري وقد كادت نفسي أن تخرج فقال: فخرجت من عنده ووافيت موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو في حبسه، فرأيته قائماً يصلّي، فجلست حتى سلّم، ثم أبلغته سلام أمير المؤمنين وأعلمته بالذي أمرني به في أمره، وإني قد أحضرت ما وصله به.

فقال: إن كنت أمرت بشيء غير هذا فأفعله.

فقلت: لا وحق جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما أمرت إلا بهذا.

فقال: لا حاجة لي في الخلع والحملان والمال إذا كانت فيه حقوق الأمة.

فقلت: ناشدتك الله أن لا تردّه فيغتاظ.

فقال: اعمل به ما أحببت.

وأخذت بيده (عليه السلام) وأخرجته من السجن، ثم قلت له: يا ابن رسول الله أخبرني ما السبب الذي نلت به هذه الكرامة من هذا الرجل فقد وجب حقّي عليك لبشارتي إيّاك، ولما أجراه الله تعالى من هذا الأمر؟

فقال (عليه السلام): رأيت النبي (صلّى الله عليه وآله) ليلة الأربعاء في النوم فقال لي: يا موسى أنت محبوس مظلوم.

فقلت: نعم يا رسول الله محبوس مظلوم.

فكرّر علي ثلاثاً، ثم قال: (لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين).

أصبح غداً صائماً، واتبعه بصيام الخميس والجمعة، فإذا كان وقت الإفطار فصل اثنتي عشرة ركعة، تقرأ في كل ركعة: الحمد واثنتي عشرة قل هو الله أحد. فإذا صليت منها أربع ركعات فاسجد، ثم قال: (يا سابق الفوت، يا سامع كل صوت ويا محي العظام وهي رميم بعد الموت، أسألك باسمك العظيم الأعظم أن تصلي على محمد عبدك ورسولك، وعلى أهل بيته الطاهرين وأن تعجل لي الفرج ممّا أنا فيه). ففعلت فكان الذي رأيت(87).

2ـ ونقل صاحب كتاب نثر الدرر: أن موسى بن جعفر الكاظم ذكر له، أن الهادي قد هم بك، قال لأهل بيته ومن يليه: ما تشيرون به عليّ من الرأي؟

فقالوا: نرى أن تتباعد عنه، وأن تغيب شخصك عنه، فإنّه لا يؤمن عليك من شره. فتبسم ثم قال:

زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب.

ثم رفع يده إلى السماء فقال:

(الهي كم من عدو شحذ لي ظبة مديته، وأرهف لي شبا حدّه، وداف لي قواتل سمومه، ولم تنم عني عين حراسته، فلما رأيت ضعفي عن احتمال الفوادح، وعجزي عن ملمّات الحوائج، صرفت ذلك عني بحولك وقوتك لا بحلوي وقوتي، وألقيته في الحفيرة التي احتفرها لي خائباً ممّا أمله في دنياه، متباعداً عما يرجوه في أخراه فلك الحمد على قدر ما عممتني فيه نعمك، وما توليتني من جودك وكرمك. اللّهم فخذه بقوتك، وافلل حده عني بقدرتك، واجعل له شغلاً فيما يليه، وعجزاً به عما ينويه. اللَّهُمَّ واعدني عليه عدوة حاضرة تكون من غيظي شفاءً، ومن حنقي عليه وفاءً، وصل اللّهم دعائي بالإجابة، وانظم شايتي بالتغيير، وعرفه عما قليل ما وعدت به من الإجابة لعبيدك المضطرين إنك ذو الفضل العظيم، والمن الجسيم).

ثم إن أهل بيته انصرفوا عنه، فلما كان بعد مدة يسيرة اجتمعوا لقراءة الكتاب الوارد على موسى الكاظم بموت الهادي، وفي ذلك يقول بعضهم:

وســـــارية لـــم تسر في الأرض تبغي          محـــــلاً ولــم يقطع بـها الأرض قاطع

3ـ وروى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير قال: حدثني أبو جعفر الشامي قال: حدثني رجل بالشام يقال له هلقام. قال: أتيت أبا إبراهيم (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك علمني دعاء جامعاً للدنيا والآخرة وأوجز، فقال: قل في دبر الفجر إلى أن تطلع الشمس: (سبحان الله العظيم وبحمده استغفر الله وأسأله من فضله).

قال هلقام: لقد كنت من أسوء أهل بيتي حالاً فما علمت حتى أتاني ميراث من قبل رجل ما ظننت أن بيني وبينه قرابة وإني اليوم من أيسر أهل بيتي وما ذلك إلا بما علمني مولاي العبد الصالح (عليه السلام))(88).

4ـ ومن دعائه (عليه السلام) عندما كان محبوساً يقلب خديه على التراب:

(يا مذل كل جبار ومعزّ كل ذليل وحقك بلغ مجهودي، فصلّ على محمد وآل محمد وفرّج عني)(89).

5ـ وقال داود بن زربي:

سمعت أبا الحسن الأول (عليه السلام) يقول:اللّهم إني أسالك العافية، وأسألك جميل العافية، وأسألك شكر العافية، وأسألك شكر شكر العافية.

وكان النـــبي (صلّى الله عليه وآله) يدعـــو ويقول: أسألك تمام العافيـــة ثم قال: تمام العافـــية الفوز بالجنة، والنجاة من النار)(90).

ولا ريب أن الدعاء من قلب العبد الصالح المؤمن، التقي، الورع يستجاب من الله العزيز القدير. وجاء ذلك في القرآن الكريم:

(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(91).

 

أدعية الأسبوع

روى الشيخ الطوسي، قدس الله سره، بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام):

 

دعاء يوم الجمعة

مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين أكتبا:

بسم الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن الإسلام كما وصف، والدين كما شرع، وأن الكتاب كما أنزل، والقول كما حدث، وإن الله هو الحق المبين، وصلوات الله وبركاته وشرايف تحياته وسلامه على محمد وآله؛أصبحت في أمان الله الذي لا يستباح، وفي ذمة الله التي لا تخفر وفي جوار الله الذي لا يُضام، وكنفه الذي لا يرام، وجار الله آمن محفوظ، ما شاء الله، كل نعمة فمن الله الله، ما شاء الله، لا يأتي الخير إلا الله ما شاء الله، نعم القادر الله ما شاء الله، توكّلت على الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللّهم اغفر لي كل ذنب يحبس رزقي، ويحجب مسألتي، أو يقصر بي عن بلوغ مسألتي، أو يصد بوجهك الكريم عني.

اللّهم اغفر لي، وارزقني، وارحمني، واجبرني، وعافني، واعف عنّي وارفعني، واهدني، وانصرني، والق قلبي الصبر والنصر يا مالك الملك، فإنه لا يملك ذلك غيرك. اللّهم وما كتبت عليّ من خير فوفّقني واهدني له، ومُنَّ عليّ به، وأعني وثبّتني عليه، واجعله أحب إليّ من غيره، وأثر عندي ممّا سواه، وزدني من فضلك. اللّهم إني أسألك رضوانك والجنة، وأعوذ بك من سخطك والنار، وأسألك النصيب الأوفر في جنّات النعيم.

اللّهم طهّر لساني من الكذب، وقلبي من النفاق، وعملي من الرياء وبصري من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور اللّهم إن كنت عندك محروماً مقتراً عليّ رزقي فامح حرماني وتقتير رزقي، واكتبني عندك مرزوقاً موفّقاً للخيرات، فإنك قلت تباركت وتعاليت (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) صلى الله على محمد وآله إنك حميد مجيد.

 

دعاء يوم السبت

مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين؛ اكتبا بسم الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الإسلام كما وصف، وإن الدين كما شرع، وإن الكتاب كما أنزل، والقول كما حدث، وإن الله هو الحق المبين، وصلوات الله وسلامه على محمد وآله أصبحت.

اللّهم في أمانك اسلمت إليك نفسي، ووجهت إليك وجهي، وفوضت إليك أمري، وألجأت إليك ظهري، رهبة منك، ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ورسولك الذي أرسلت.

اللّهم إني فقير إليك فارزقني بغير حساب، إنّك ترزق من تشاء بغير حساب.

اللّهم إني أسألك الطيّبات من الرزق، وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تتوب عليّ.

اللّهم إني أسألك بكرامتك التي أنت أهلها أن تتجاوز عن سوء ما عندي بحسن ما عندك يا الله، وأن تعطيني من جزيل عطائك أفضل ما أعطيته أحداً من عبادك. اللّهم إني أعوذ بك من مال يكون عليّ فتنة، ومن ولد يكون لي عدواً.

اللّهم قد ترى مكاني، وتسمع ندائي وكلامي، وتعلم حاجتي، اسالك بجميع أسمائك أن تقضي لي كل حاجة من حوائج الدنيا والآخرة.

اللّهم إني أدعوك دعاء عبد ضعفت قوّته، واشتدت فاقته، وعظم جرمه وقلّ عدده، وضعف عمله، دعاء من لا يجد لفاقته ساداً غيرك، ولا لضعفه عوناً سواك، أسألك جوامع الخير وخواتمه وسوابقه وفوائده وجميع ذلك بدوام فضلك وإحسانك، ويمنك ورحمتك، فارحمني واعتقني من النار. يا من كبس الأرض على الماء، يا من سمك السماء في الهواء، ويا واحداً قبل كل أحد، ويا واحداً بعد كل شيء، ويا من لا يعلم ولا يدري كيف هو إلا هو، ويا من لا يقدّر قدرته إلا هو، ويا من كل يوم هو في شأن، يا من لا يشغله شأن عن شأن، ويا غوث المستغيثين، ويا صريخ المكروبين، يا مجيب دعوة المضطرين، ويا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما.

رب ارحمني رحمة لا تضلّني لا تشقني بعدها أبداً، أنت حميد مجيد وصلى الله على محمد وآله وسلم.

 

دعاء يوم الأحد

مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين، اكتبا: باسم الله، اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن الإسلام كما وصف، والدين كما شرع، وأن الكتاب كما أنزل، والقول كما حدث وأن الله هو الحق المبين حيّا الله محمداً بالسلام، وصلى عليه كما هو أهله وعلى آله، أصبحت وأصبح الملك والكبرياء والعظمة والخلق والأمر والليل والنهار وما يكون فيهما لله وحده لا شريك له.

اللهم اجعل أوّل هذا النهار صلاحاً، وأوسطه نجاحاً وآخره فلاحاً وأسألك خير الدنيا والآخرة.

اللّهم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولا همّاً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا غائباً إلا حفظته، وأديته، ولا مريضاً إلا شفيته، وعافيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضى ولي فيها صلاح إلا قضيتها.

اللّهم تمّ نورك فهديت، وعظم حلمك فعفوت، وبسطت يدك فأعطيت، فلك الحمد، وجهك خير الوجوه، وعطيّتك أنفع العطيّة، فلك الحمد تطاع ربنا فتشكر، وتعصى ربنا فتغفر، تجيب المضطر وتكشف الضر، وتشفي السقم، وتنجي من الكرب العظيم؛ لا تجزي بآلائك، ولا يحصي نعمائك أحدٌ، رحمتك وسعت كل شيء فارحمني، ومن الخيرات فارزقني.

تقبل صلاتي، واسمع دعائي، ولا تعرض عني يا مولاي حين أدعوك، ولا تحرمني الهي حين أسألك من أجل خطاياي؛ الهي لا تحرمني لقاءك، واجعل محبّتي وإرادتي محبتك وإرادتك، واكفني هول المطلع.

اللّهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفذ، ومرافقة محمد (صلّى الله عليه وآله) في أعلى جنة الخلد.

اللّهم وأسألك العفاف والتقى، والعمل بما تحب وترضى، والرضا بالقضاء والنظر إلى وجهك.

اللّهم لقّني حجّتي عند الممات، ولا ترني عملي حسرات.

اللّهم اكفني طلب ما لم تقدر لي من الرزق، وما قسمت لي فاتني به يا الله في يسر منك وعافية.

اللّهم إني أسألك توبة نصوحاً تقبلها مني، تبقي عليّ بركتها وتغفر بها ما مضى من ذنوبي وتعصمني بها فيما مضى من عمري يا أهل التقوى والمغفرة، وصلّى الله على محمد وآل محمد إنك حميد مجيد.

 

دعاء يوم الاثنين

مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين، اكتبا: بسم الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الإسلام كما وصف، وأن الدين كما شرع، وأن القول كما حدث، وأن الكتاب كما أنزل، وأن الله هو الحق المبين، حيّا الله محمداً بالسلام، وصلى عليه وعلى آله. اللّهم ما أصبحت فيه من عافية في ديني ودنياي فأنت الذي أعطيتني ورزقتني ووفقتني له وسترتني، ولا حمد لي يا الهي في ما كان مني من خير، ولا عذر لي منه.

اللهم إنّه لا حول ولا قوّة لي على جميع ذلك إلا بك، يا من بلغ أهل الخير وأعانهم عليه بلغني الخير وأعني عليه.

اللّهم أحسن عاقبتي في الأمور كلها، وأجرني من مواقف الخزي في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير.

اللّهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، وأسألك الغنيمة من كل برّ والسلامة من كل إثم، وأسألك الفوز بالجنّة، والنجاة من النار.

اللّهم رضّني بقضائك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجّلت عليّ.

اللّهم اعطني ما أحببت واجعله خيراً لي.

اللّهم ما انسيتني فلا تنسني ذكرك وما أحببت فلا أحب معصيتك.

اللّهم امكر لي ولا تمكر عليّ، واعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، واهدني ويسر لي الهدى، واعني على من ظلمني حتى أبلغ فيه ثأري.

اللّهم اجعلني لك شاكراً ذاكراً لك، محبّاً لك، راهباً، واختم لي منك بخير.

اللّهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أن تحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وإن تتوفاني إذا كانت الوفاة خيراً لي، وأسألك خشيتك في السر والعلانية، والعدل في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن تحبب إليّ لقاءك في غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنةٍ مضلّة، واختم لي بما ختمت به لعبادك الصالحين إنك حميد مجيد.

 

دعاء يوم الثلاثاء

مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين، اكتبا: بسم الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الإسلام كما وصف، وأن الدين كما شرع، وأن القول كما حدث، وأن الكتاب كما أنزل، وأن الله هو الحق المبين، حيّا الله محمداً بالسلام، وصلى عليه وعلى آله؛ وأصبحت أسألك يا الله والعافية في ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي وولدي.

اللّهم استر عوراتي وأجب دعواتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي. اللّهم إن رفعتني فمن ذا الذي يضعني، وإن تضعني فمن ذا الذي يرفعني.

اللّهم لا تجعلني للبلاء عرضاً، ولا للفتنة نصباً، ولا تتبعني ببلاء على اثر بلاء، فقد ترى ضعفي وقلّة حيلتي وتضرّعي، أعوذ بك من جميع غضبك فأعذني، واستجير بك فأعنّي، وأتوكّل عليك فاكفني، واستهديك فاهدني، واستعصمك فاعصمني، واستغفرك فاغفر لي، واسترحمك فارحمني، واسترزقك فارزقني؛ سبحانك من ذا يعلم ما أنت ولا يخافك، ومن يعرف قدرتك ولا يهابك، سبحانك ربّنا.

اللّهم إنّي أسألك إيماناً دائماً، وقلباً خاشعاً، وعلماً نافعاً ويقيناً صادقاً، وأسألك ديناً قيّماً، وأسألك رزقاً واسعاً.

اللّهم لا تقطع رجاءنا، ولا تخيّب دعاءنا، ولا تجهد بلاءنا، وأسألك العافية والشكر على العافية، وأسألك الغنى عن الناس أجمعين يا ارحم الراحمين، ويا منتهى همّة الراغبين والمفرّج عن المغمومين، ويا من إذا أراد شيئاً فحسبه أن يقول له كن فيكون.

اللّهم إنّ كل شيء لك، وكل شيء بيدك، وكل شيء إليك يصير، وأنت على كل شيء قدير؛ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ميسّر لما عسّرت، ولا معقّب لما حكمت، ولا ينفع ذا الجد منك الجدّ، ولا قوّة إلا بك، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن.

اللّهم فما قصر عنه عملي (رأيي)، ولم تبلغه مسألتي من خير وعدته أحداً من خلقك، وخير أنت معطيه أحداً من خلقك، فإنّي أسألك وأرغب إليك فيه يا أرحم الراحمين.

اللّهم صل على محمد وآله إنك حميد مجيد.

 

دعاء يوم الأربعاء

مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين، اكتبا: بسم الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الإسلام كما وصف، والدين كما شرع، وأن الكتاب كما أنزل، وأن القول كما حدث، وأن الله هو الحق المبين، حيّا الله محمداً بالسلام، وصلى عليه وعلى آله.

اللّهم اجعلني من أفضل عبادك نصيباً في كل خير تقسمه في هذا اليوم، من نور تهدي به، أو رزق تبسطه، أو ضرّ تكشفه، أو بلاء تصرفه، أو شرّ تدفعه، أو رحمة تنشرها، أو معصية تصرفها.

اللّهم اغفر لي ما قد سلف من ذنوبي، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني عملاً ترضى به عنّي.

اللّهم إني أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في شيء من كتبك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أو علّمته أحداً من خلقك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، وشفاء صدري، ونور بصري، وذهاب همي وحزني إنه لا حول ولا قوّة إلا بك.

اللّهم رب الأرواح الفانية، ورب الأجساد البالية، أسألك بطاعة الأرواح البالغة إلى عروجها، وبطاعة القبور المشتقة عن أهلها، وبدعوتك الصادقة فيهم، وأخذك الحق بينهم وبين الخلائق مثلاً ينطقون من مخافتك، يرجون رحمتك، ويخافون عذابك، أسألك النور في بصري، واليقين في قلبي، والإخلاص في عملي، وذكرك على لساني أبداً ما أبقيتني.

اللّهم ما فتحت لي من باب طاعة فلا تغلقه عنّي أبداً، وما أغلقت عنّي من باب معصية فلا تفتحه عليّ أبداً.

اللّهم ارزقني حلاوة الإيمان، وطعم المغفرة، ولذّة الإسلام، وبرد العيش بعد الموت، إنّه لا يملك ذلك غيرك.

اللّهم إنّي أعوذ بك أن أضل أو أذل أو أظلم أو آمر أو أجهل أو يجهل عليّ، أو أجور أو يجار عليّ، أخرجني من الدنيا مغفوراً لي ذنبي، ومقبولاً عملي، واعطني كتابي بيميني، واحشرني في زمرة النبي محمد وآله.

 

دعاء يوم الخميس

مرحباً بخلق الله الجديد وبكما من كاتبين وشاهدين، اكتبا: بسم الله أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الإسلام كما وصف، وأن الدين كما شرع، والقول كما حدث، والكتاب كما أنزل، وإنّ الله هو الحق المبين؛ حيا الله محمداً بالسلام، وصلى عليه وعلى آله.

أصبحت أعوذ بوجه الله الكريم، واسمه العظيم، وكلماته التامة، من شر السامة، والهامة، والعين اللامة، ومن شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر كل دابة ربّي أخذ بناصيتها، إنّ ربّي على صراط مستقيم.

اللّهم إني أعوذ بك من جميع خلقك، وأتوكّل عليك في جميع أموري، فاحفظني من بين يدي ومن خلفي ومن فوقي ومن تحتي ولا تكلني في حوائجي إلى عبد من عبادك فيخذلني، أنت مولاي وسيّدي فلا تخيّبني من رحمتك.

اللّهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحويل عافيتك، استعنت بحول الله وقوّته من حول خلقه وقوّتهم، وأعوذ برب الفلق من شر ما خلق، حسبي الله ونعم الوكيل.

اللّهم أعزّني بطاعتك، وأذلّ أعدائي بمعصيتك، واقصمهم يا قاصم كل جبار عنيد، يا من لا يخيب من دعاه ويا من إذا توكل العبد عليه كفاه، اكفني كل مهم من أمر الدنيا والآخرة.

اللّهم إنّي أسألك عمل الخائفين، وخوف العاملين وخشوع العابدين، وعبادة المتقين، وإخبات المؤمنين، وإنابة المخبين، وتوكل الموقنين، ويسر المتوكلين، وألحقنا بالأحياء المرزوقين، وأدخلنا الجنة، واعتقنا من النار، واصلح لنا شأننا كله.

اللّهم إني أسألك إيماناً صادقاً يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، إنك بكل خير عليم غير معلم أن تقضي لي حوائجي، وأن تغفر لي ولوالدي ولجميع المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله إنك حميد مجيد(92).

 

قيمة الدعاء

والدعاء باب كبير يستحق الدراسة بعناية خاصة من جميع جوانبه: الأدبية والاجتماعية والنفسية والدينية والأخلاقية..

والدعاء راحة للنفس فيه اعتزاز وكبرياء وإخلاص، لأن الداعي يدعو ربّ العالمين، وفاطر السماوات والأرض ورب العرش العظيم وهل أعظم وأرفع وأفضل وأنبل من الله عزّ وجلّ، الرحمان الرحيم، الذي يقول للشيء كن فيكون؟!

ألم يخلق الإنسان بأحسن تقويم، وخلق له جميع ما في الدنيا من الطيّبات إلا يحق أن يسبّحه في كل أوان، ويدعوه عند اشتداد البلايا والأحزان؟

فالدعاء يصبح ذوب أنفاس أفعمت بحب الخالق، وفيض أرواح تقطّعت في سبيل العشق الإلهي، وهو ابتهالات تأخذ بمجامع القلوب ونبضات الجوارح وإطلالة شوق إلى عالم القدسية والطهارة.

والدعاء هو الذي ينمي في روح الإنسان الصلة الروحية بالله حيث يشعر الداعي بأن الله عزّ وجلّ قريب منه وقريب من آلامه، وحلال لمشاكله، وملبّي حاجاته، فيدعو ربّه ليفتح عليه أبواب رحمته، وليخفف عنه ما ثقل عليه من ذلك، ويقضي له ما صعب حله، وبعدها يأتيه الفرج، ويدخل إلى قلبه الفرح.

يقول الإمام الكاظم: (... يا رحيماً بكل مسترحم، ويا رؤوفاً بكل مسكين، ويا أقرب من دعي وأسرعه إجابة، ويا مفرّجاً عن كل ملهوف، ويا خير من طلب منه الخير وأسرعه عطاءً ونجاحاً، وأحسنه عطفاً وتفضّلاً) والدعاء هو الفناء في الله جل وعلا حيث تعقبه حياة أبدية، والرحيل إليه بشوق يبعث حرارة الشعور وصدق العاطفة، ونبل الأحاسيس، وشفافية الروح إلى من إليه ترجع الأمور.

والدعاء أيضاً هو نموذج لنقاء السريرة، وإخلاص القلوب، وصفاء الرؤى.

يقول الإمام الكاظم:

(السر عندك علانية، والغيب عندك شهادة، تعلم وهم القلوب، ورجم الغيوب، ورجع الألسن، وخائنة الأعين وما تخفي الصدور وأنت رجاؤنا عند كل شدة، وغياثنا عند كل محل، وسيّدنا في كل كريهة، وناصرنا عند كل ظلم، وقوّتنا عند كل ضعف، وبلاغنا في كل عجز؛ كم من كريهة وشدة ضعفت فيها القوة، وقلّت فيها الحيلة، أسلمنا فيها الرفيق وخذلنا فيها الشفيق، أنزلتها بك يا رب ولم نرج غيرك، ففرّجتها وخففت ثقلها، وكشفت غمرتها، وكفيتنا إيّاها عمن سواك).

ولا يخفى على الأدباء أن أدعية الإمام الكاظم (عليه السلام) كأدعية جده الإمام زين العابدين (عليه السلام)(93) جاءت محببة إلى النفوس بما انطوت عليه من فنون البلاغة والفصاحة، وجمال الأسلوب، وسعة العرض، وحسب التعبير، وهي خير منهل يغرف منه طلاب الأدب والبلاغة والفصاحة والبيان وصناعة الكتابة.

وهذه الأدعية عند الأئمة المعصومين يمكن أن تعطى أطروحة دراسات عليا بعنوان: الفن الأدبي في الدعاء، أو أدب الدعاء عند أهل البيت (عليهم السلام) أو قيمة الدعاء وأثره في الأدب العربي.

 

1 - إحياء الميت بفضائل أهل البيت، الحديث الرابع والعشرون، ذكره عن طرق كثيرة.

2 - إحياء الميت بفضائل أهل البيت، الحديث السابع والعشرون.

3 - قال الشيخ المظفّر في كتابه الثقلان: إن طرق هذا الحديث بلغت مائتين وخمسين طريقاً؛ من هنا يُعلم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يكرس على مسامع المسلمين في كلّ مناسبة، طالباً من الأمّة التمسّك بهما.

4 - إحياء الميت بفضائل أهل البيت، الحديث الحادي والعشرون، وأيضاً في مستدرك الصحيحين: ج3 ص457. وكنز العمال: ج6 ص216. ومجمع الزوائد: ج9 ص174.

5 - روضة الواعظين، ج2 ص271.

6 - إحياء الميت بفضائل أهل البيت، الحديث الثامن عشر.

7 - عقاب الأعمال: 204.

8 - أمالي الشيخ الطوسي، 73.

9 - مجمع البيان، 9-10، 29.

10 - ديوان الإمام الشافعي، 72.

11 - سورة الأحزاب: الآية 33.

12 - سورة آل عمران: الآية 134.

13 - الرسالية في الثورة الحسينية، للمؤلف.

14 - الفقه الإسلامي في مدخل نظام المعاملات، ص160.

15 - ينابيع المودة، ج2، ص78.

16 - حُمَيْدَة: وقيل أن اسمها نباتة، النفحات العنبرية، ص15، مخطوط بمكتبة الإمام كاشف الغطاء العامة، طبع مؤخراً.

17 - الأبواء: قرية من أعمال الفرع بالمدينة، وبه قبر الزاكية آمنة بنت وهب أم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله). وقال ثابت اللغوي سميت الأبواء لتبوء السيول بها. راجع معجم البلدان، ج1، ص92.

18 - بحار الأنوار، ج11، ص230 دلائل الإمامة.

19 - الطبقات الكبرى، ج1، ص33 - وتهذيب التهذيب، ج10، ص34 - وكشف الغمة، ج3، ص2 - والمناقب، ج4، ص323.

20 - أعلام الورى، ص286.

21 - أعيان الشيعة، ج4، ص9.

22 - الفصول المهمة، ص112.

23 - الفصول المهمة، ص112.

24 - أعيان الشيعة، ج4، ص9.

25 - المناقب، ج4، ص318.

26 - الإرشاد، ص270.

27 - الفصول المهمة، ص214.

28 - المناقب، ج2، ص212.

29 - نفس المصدر، ص212، ومختصر تاريخ العرب، ص209.

30 - الفصول المهمة، ص214.

31 - تاريخ بغداد، ج1، ص120.

32 - تحفة العالم: 2 ص22.

33 - المصدر نفسه.

34 - الكافي، ج4، ص578.

35 - باقر شريف القرشي حياة الإمام موسى بن جعفر، ج1، ص52، عن ديوان السيد مهدي آل بحر العلوم مخطوط بمكتبة العلامة السيد صادق آل بحر العلوم.

36 - المصدر نفسه.

37 - الفصول المهمة، ص256.

38 - راجع الفصول المهمة، ص256، وكشف الغمة، ص243، وتذكرة الخواص، ص84.

39 - أعلام الورى، ص301.

40 - الإرشاد، ص267.

41 - الفهرست، ص113.

42 - الإرشاد، ص469.

43 - المصدر نفسه.

44 - الإرشاد، ص310.

45 - نفسه، ص270.

46 - أعيان الشيعة، ج3، ص13.

47 - أئمتنا لعلي محمد علي دخيل الذي يروي أن في حرب مؤتة أقر الرسول (صلّى الله عليه وآله) جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة وجعل القيادة لجعفر فإن أصيب فلزيد، فإن أصيب فلعبد الله.

48 - نفس المصدر، ج1، ص10.

49 - قادتنا كيف نعرفهم ج6، ص305، عن عيون أخبار الرضا، ج1، ص91.

50 - مطالب السؤول، ص225.

51 - راجع في رحاب أئمة أهل البيت، ج2، ص84.

52 - تحف العقول، ص305.

53 - بحار الأنوار، ج11، ص266.

54 - الفصول المهمة، ص 222.

55 - المناقب، ج2، ص372.

56 - كشف الغمة، ص247.

57 - حياة الإمام موسى بن جعفر.

58 - الفصول المهمة، ص219.

59 - أعيان الشيعة، ج3، ص42 وتاريخ بغداد، ج13، ص28.

60 - كشف الغمة، ص243 وتاريخ بغداد، ج13، ص29.

61 - كشف الغمة، ج2، ص253.

62 - كشف الغمة، ج2، ص246.

63 - البحار، ج11، ص264، والبحار، ج11، ص147.

64 - البحار، ج11، ص285.

65 - تذكرة الخواص، ص196.

66 - الأمالي، ص150.

67 - الأمالي، ص150.

68 - أعيان الشيعة، ج3، ص71.

69 - أئمتنا، ج1، ص66-67.

70 - مرآة الجنان، ج1، ص394.

71 - الأعلام، ج3، ص108.

72 - المناقب، ج2، 383.

73 - الصواعق المحرقة، ص121.

74 - حياة الإمام موسى بن جعفر، ج1، ص175.

75 - كشف الغمة، ص255.

76 - ينابيع المودة، ص362.

77 - حياة الإمام موسى بن جعفر، ج1، ص175.

78 - أصول الكافي ج2، ص553.

79 - مهج الدعوات، ص54.

80 - نفسه، ص33

81 - أصول الكافي، ص562.

82 - بحار الأنوار، ج11، ص239.

83 - أئمتنا، ج2، ص56.

84 - أصول الكافي، ج2، ص553.

85 - مهج الدعوات، ص67.

86 - أعيان الشيعة، ج3، ص61.

87 - أئمتنا، ج2، ص59-61.

88 - الكافي، ج2، ص550.

89 - بحار الأنوار، ج94، ص313.

90 - المصدر نفسه، ج95، ص362.

91 - سورة غافر: الآية 60.

92 - راجع مصباح المتهجد للشيخ الطوسي، ص350-357.

93 - الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (عليه السلام) وقد عالج هذا الموضوع عدد من الباحثين العلماء منهم السيد عباس الموسوي في كتابه (في رحاب الصحيفة السجادية).