فهرس الكتاب

مكتبة الإمام الكاظم (ع)

 

الفصل الاول: الاصل الكريم والمولد المبارك

يبدو أن قرية ( الأبواء ) الواقعة بين المدينة ومكة ، كانت تستقطب قوافل الحجاج من آل البيت أكثر من غيرها ، لأنها كانت مثوى أم الرسول آمنة بنت وهب .

وفي طريقهم إلى المدينة قافلين من حج بيت اللـه الحرام(1) حطت قافلة الإمام أبي عبد اللـه الصادق (ع) في هذه القرية ، وذلك في اليوم السابع عشر من شهر صفر الخير ، عام 128 هـ - على أشهر الروايات -، حيث قدم الإمام المائدة لضيوفه ، وجاءه الرسول من عند نسائه تبشره بالوليد المبارك .

تقول الرواية التاريخية - المأثورة عن منهال القصّاب قال : ( خرجت من مكة وأنا أريد المدينة ) فمررت بالأبواء وقد ولد لأبي عبد اللـه (ع) فسبقته إلى المدينة ، ودخل بعدي بيوم فأطعم الناس ثلاثاً ، فكنت آكل فيمن يأكل ، فما آكل شيئاً إلى الغد حتى أعود فآكل ، فمكثت بذلك ثلاثاً أطعم حتى أرتفق ثم لا أطعم شيئاً إلى الغد ) .

وجاء في حديـث مـروي عـن ابي بصير قال : ( كنت مع أبي عبد اللـه (ع) في السنة التي ولد فيها إبنه موسى (ع) ، نزلنا الأبواء وضع لنا أبو عبد اللـه (ع) الغذاء ولأصحابه وأكثره وأطابه ، فبينما نحن نتغدى إذ أتاه رسول حميدة أن الطلق قد ضربني ، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا .

فقام أبو عبد اللـه فرحاً مسروراً ، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه ضاحكاً سنّه ، فقلنا : أضحك اللـه سنّك ، وأقر عينك ، ما صنعت حميدة ؟

فقال : وهب اللـه لي غلاماً وهو خير من برأ اللـه ، ولقد خبرتني عنه بأمر كنت أعلم به منها ، قلت : جعلت فداك وما خبّرتك عنه حميدة ؟ قال : ذكرت أنه لما وقع من بطنها وقع واضعاً يديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء ، فأخبرتها أن تلك أمارة رسول اللـه (ص) وأمارة الإمام من بعده .

فقلت : جعلت فداك وما تلك من علامة الإمام ؟ فقال : إنه لما كان في الليلة التي علق بجدي فيها ، أتى آتٍ جدّ أبي وهو راقد ، فأتاه بكأس فيها شربة أرقّ من الماء ، وأبيض من اللّبن ، وألين من الزبد ، وأحلى من الشهد ، وأبرد من الثلج ، فسقاه إيّاه وأمره بالجماع ، فقام فرحاً ومسروراً فجامع فعلق فيها بجدّي ، ولما كان في الليلة التي علق فيها بأبي أتى آتٍ جدي فسقاه كما سقى جدّ أبي وأمره بالجماع ، فقام فرحاً مسروراً فجامع قعلق بأبي ، ولما كان في الليلة التي علق بي فيها ، أتى آتٍ أبي فسقاه وأمره كما أمرهم ، فقام فرحاً مسروراً فجامع فعلق بي ، ولما كان في الليلة التي علق فيها بابني هذا أتاني آتٍ كما أتى جدّ أبي وجدّي فسقاني كما سقاهم ، وأمرني كما أمرهم ، فقمت فرحاً مسروراً بعلم اللـه بما وهب لي ، فجامعت فعلق بابني هذا المولود ، فدونكم فهو واللـه صاحبكم من بعدي ) (2).

فلما أن عاد الإمام إلى المدينة أطعم الناس ثلاثاً وتباشر الناس بالوليد المبارك .

 

أبواه :

والده : إمام الهدى أبو عبد اللـه جعفر بن محمد الصادق (ع) .

والدتـــه : حميدة البربرية التي ربما كانت من الأندلس أو من المغرب ، وكانت تلقب بـ ( حميدة المصفـــاة ) .

وقد كانت حميدة من فضليات النساء حيث اضطلعت بمهمة نشر الرسالة ، وقد روت بعض الأحاديث عن زوجها (ع) .

فعن ابن سنان ، عن سابق بن الوليد ، عن المعلّى بن خنيس أن أبا عبد اللـه (ع) قال : ( حميدة مصفّاة من الأدناس ، كسبيكة الذهب ، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أُدِّيت إليَّ كرامةً من اللـه لي والحجة من بعدي ) (3) .

 

صفاته :

كانت ملامحه الشخصية (ع) تعبر عن تلك النفس الكبيرة ، وتلك المسؤولية العظمى التي كان عليه أدائها . ذلك الهاشمي الكريم أزهر الملامح ، مربع القامة ، تمام خضر ، حالك ، كث اللحية ، يفيض مطابة وجلالاً .

وتكشف ألقابه عن الصفات الرسالية التي تجلّت فيه فهو : الكاظم والصابر والصالح ، والأمين . وفعلاً كانت حياته حافلة بتجليات هذه الصفات الفضيلة .

 

نشأته :

خلال عشرين عاماً من عمره الشريف كان والده الإمام أبو عبد اللـه الصادق (ع) يتعهده بالرعاية ، ويشير إلى فضائله ويبين لخاصة أوليائه أنه سيد ولده ، وأنه الإمام من بعده .

إن الإمامة لابد أن تكون بنص صريح ، وقد تواترت النصوص على الأئمة الإثني عشر من الرسول الأكرم (ص) ، وهكذا كان كل إمام يوصي بمن بعده ، فلهذا كان الموالون لآل البيت (ع) حريصين على التأكد من إمامهم يسألون السلف عن الخلف .

يــروي عبد الرحمن بن الحجاج يقول : دخلت على جعفر بن محمد في منزله وهو في بيت كذا من دار ،

في مسجدٍ له وهو يدعو ، وعلى يمينه موسى بن جعفر يؤمِّن على دعائه ، فقلت له : جعلني اللـه فداك قد عرفت انقطاعي إليك ، وخدمتي لك ، فمن وليّ الأمر بعدك ؟ قال : ( يا عبد الرحمن إن موسى قد لبس الدرع فاستوت عليه ، فقلت له : لا أحتاج بعدها إلى شيء ) (4) .

وكان الإمام الصادق (ع) يوصي سائر أبنائه بحق ابنه موسى (ع) ، فهذا عبد اللـه بن جعفر أكبر سناً من الإمام موسى يتحدث إليه والده ويقول له : ما يمنعك أن تكون مثل أخيك ، فواللـه إني لأعرف النور في وجهــــه ، فقال عبد اللـه : وكيف ؟ أليس أبي وأبوه واحداً ؟ وأصلي وأصله واحداً ؟ فقال له أبو عبد اللـــه : ( إنه من نفسي وأنت ابني ) (5) .

وكانت حياة الإمام موسى (ع) متميّزة منذ الصبا ، ولذلك فقد كانت في ذلك أمارة مقامه العظيم . جاء في حديث مأثور عن صفوان الجمّال وهو من خواصّ الشيعة ، سألت أبا عبد اللـه عن صاحب هذا الأمر ، قال : صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب ، وأقبل أبو الحسن وهو صغير ومعه بهمة عناق مكية (6) ويقول لها: ( اسجدي لربك ، فأخذه أبو عبد اللـه وضمه إليه وقال بأبي أنت وأمي من لا يلهو ولا يلعب ) (7) .

وهكذا شبّ موسى بن جعفر محبوباً بين إخوته بسبب وصفه المميز ، وعملا بوصايا والده بحقه ، فكان بين إخوته المتمسّكين بولاية علي بن جعفر ، جاء في الحديث المأثور عن محمد بن الوليد قال :

( سمعت علي بن جعفر بن محمد الصادق (ع) يقول : سمعت أبا جعفر بن محمد (ع) يقول لجماعة من خاصته وأصحابه : استوصوا بموسى ابني خيراً فإنه أفضل ولدي ، ومن أخلّف من بعدي وهو القائم مقامي والحجة للـه عزّ وجلّ على كافة خلقه من بعدي ، وكان علي بن جعفر شديد التمسك بأخيه موسى، والإنقطاع إليه ، والتوفر على أخذ معالم الدين منه ، وله مسائل مشهورة عنه ، وجوابات رواها سماعاً منه، والأخبار فيما ذكرناه أكثر من أن تحصى على ما بيًّناه ووصفناه ) (8) .

ولأن عهد الإمام الصادق (ع) مميَّز ببعض الانفراج ، وقد انتشرت معارف أهل البيت وأصبح مذهبهم من بين المذاهب الأكثر شيوعاً واتباعاً في العالم الإسلامي ، فلقد كان الخوف على مستقبل الطائفة شديداً ، حيث كان يخشى من طمع بعض القيادات في الرئاسة على الطائفة ، وربما انجرف معهم بعض أولاد الإمام الصادق أو أحفاده ، لذلك فقد كان تأكيد الإمام على أن الوصي بعده ابنه موسى شديداً ومستمراً .

وهكذا كان فلقد انحرف البعض وزعم أن الوليّ بعد الإمام الصادق ( عليه السلام ) ابنه الأكبر إسماعيل، وقالوا بأنه لم يمت على عهد أبيه إنما غاب عن الأنظار .

وكانت الفرقة الإسماعيلية ذات الشوكة التي أسست أكبر حركة ثورية بعد الحركة الرسالية ، وبَنت دولة عظيمة في شمال إفريقيا وكانت هذه الحركة وليدة هذا التصور الخاطىء .

من هنا أشهد الإمام الصادق (ع) كبار شيعته على وفاة ابنه وأكد لهم أن الوصي الحق بعده إنما هو موسى (ع) .

فلقد روي عن زرارة بن أعين أنه قال :

( دخلت على أبي عبد اللـه (ع) وعن يمينه سيد ولده موسى (ع) وقدّامه مرقد مغطى ، فقال لي : يا زرارة جئني بداود الرّقي ، وحمران ، وأبي بصير ، ودخل عليه المفضل بن عمر ، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره ، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد ، حتى صرنا في البيت ثلاثين رجلاً .

فلما حشد المجلس قال : يا داود اكشف لي عن وجه اسماعيل ، فكشف عن وجهه ، فقال ابو عبد اللـه (ع) : يا داود أحيّ هو أم ميت ؟ قال داود : يا مولاي هو ميت ، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل ، حتى أتى على آخر من في المجلس وكل يقول : هو ميت يا مولاي ، فقال : اللـهم اشهد ثم أمر بغسله وحنوطه ، وإدراجه في أثوابه .

فلما فرغ منه قال للمفضل : يا مفضل أحسر عن وجهه ، فحسر عن وجهه فقال : أحيّ هو أم ميت ؟ فقال ميت قال : اللـهم اشهد عليهم ، ثم حمل إلى قبره ، فلما وضع في لحده قال : يا مفضل أكشف عن وجهه ، وقال للجماعة : أحيّ هو أم ميت ؟ قلنا له : ميت فقال : اللـهم اشهد ، واشهدوا فإنه سيرتاب المبطلون ، يريدون إطفاء نور اللـه بأفواههم ثم أومأ إلى موسى ، واللـه متم نوره ولو كره المشركون ، ثم حثوا عليه التراب ، ثم أعاد علينا القول فقال : الميت المكفن المحنط المدفون في هذا اللحد من هو ؟ فقلنا : إسماعيل قال : اللـهم اشهد ، ثم أخذ بيد موسى (ع) وقال : هو حق والحق معه ومنه ، إلى أن يرث اللـه الأرض ومن عليها ) (9) .

 

(1) راجع موسوعة بحار الأنوار : ( ج 48 ، ص 4 ) وأيضاً كتاب المحاسن للبرقي : (ج 2 ، ص 418) .

(2) موسوعة البحار : ( ج 48 ، ص 2 ) .

(3) المصدر : ( ص 6 ) نقلاً عن الكافي : ( ج 1 ، ص 477 ) .

(4) المصدر : ( ص 181 ج 48 ) .

(5) المصدر .

(6) البهمة الواحدة من الضأن ، والعناق الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم لها سنة .

(7) المصدر .

(8) المصدر . ( ص 20) .

(9) المصدر : ( ص 21) .