الباب الثالث النقطة الثالثة :من الحقائق التأريخية التي تكشف سياسة المنصور القائمة على الخنق والإبادة والقتل للعلويين هو حديث الخزانة . حيث يكشف لنا هذا الحديث التاريخي عن سياسة المنصور الخشنة مع العلويين، والتي أراد بها الايحاء لابنه المهدي بأن الخلافة لا تستقيم الاّ بهذه الطريقة، ثم تكشف لنا هذه الرواية عن معاناة الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) لانه كان بالتأكيد على علم بهذه الاعداد المؤمنة الخيّرة من أبناء الشيعة وهي تساق الى السجون لتقتل بعد ذلك صبراً، وهذا الحديث مليء بالشجون والأسى فقد ملأ خزانة برؤوس العلويين شيوخاً وشباباً وأطفالا وأوصى ريطة زوج المهدي أن لا تفتحها للمهدي ولا يطلع عليها إلاّ بعد هلاكه، وقد دوّنها الطبري في تاريخه وهذا نصها : «لمّا عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر فأوصاها بما أراد»، وعهد اليها ودفع اليها مفاتيح الخزائن، وتقدّم اليها وأحلفها ووكّد الايمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحداً إلاّ المهدي، ولا هي إلاّ أن يصح عندها موته، فاذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة، فلمّا قدم المهدي من الري الى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح وأخبرته أنه تقدم إليها أن لا تفتحه ولا تُطلع عليه أحداً حتى يصح عندها موته فلما انتهى الى المهدي موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة، فاذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيهم أطفال، ورجال شباب، ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكاناً» [1] . النقطة الرابعة :ومن المشاكل التي اثيرت في مطلع تسلّم الإمام موسى(عليه السلام) لمسؤولية الإمامة ، والتي كانت تهدف لتمزيق الطائفة الشيعية وإثارة البلبلة والتخريب في صفوفها، هي التشكيك في مسألة القيادة فانها لمن تكون بعد الإمام الصادق(عليه السلام) بسبب ما ادّعاه (عبدالله الافطح) أخوالإمام موسى الاكبر بعد اسماعيل، وهذا بطبيعة الحال يُضيف معاناة أُخرى للامام، لان أجهزة المنصور العدوانيّة كانت تعدّ عليه الانفاس وتشك في أيّ حركة تصدر منه [2] . النقطة الخامسة :ومن الاساليب التي استخدمتها السلطات العبّاسية عامة والمنصور بشكل خاص، سياسة اتّخاذ (وعّاظ السلاطين) بعد أن غيّب الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) عن المسرح السياسي والفكري ، وظاهرة وعّاظ السلاطين هى بديل يرعاه الخليفة ويدعمه بما أوتي من قوة ليغطّي له الفراغ من جانب وتؤيد له سياسته من جانب آخر اذ يوحي للاُمة بأنه مع الخط الإسلامي السائر على نهج السنة النبويّة، ووجد من (مالك بن أنس ) وأمثاله ممن تناغم معه في الاختيار العقائدي الذي لا يصطدم مع سياسته، ووجد من تجاوب مع رغبته وكال له ولاسرته المديح والثناء، الأمر الذي دفع بالمنصور أن يفرض (الموطأ) على الناس بالسيف ثم جعل لمالك السلطة في الحجاز على الولاة وجميع موظّفي الدولة فازدحم الناس على بابه وهابته الولاة والحكّام وحينما وفد الشافعي عليه فشفّع بالوالي لكي يسهّل له أمر الدخول عليه فقال له الوالي: اني أمشي من المدينة الى مكة حافياً راجلا أهون عليّ من أن أمشي الى باب مالك. ولست أرى الذل حتى أقف على باب داره [3] . النقطة السادسة :انتشرت في هذه المرحلة عقائد خاطئة وتأسّست فرق منحرفة من الالحاد والزندقة والغلوّ، والجبرية، والارجاء عقائد خاطئة ذات اصحاب تدافع عنها ولم تكن كل هذه الإعتقادات وليدة هذاالظرف بالذات، وانما نشطت في هذا الجوّ المساعد لنموها، حيث كان بعض الخلفاء يتبنى بعضاً منها ويسمح لانتشار البعض الآخر . فالغلاة يعتقدون بنبوّة الأئمة، وبعده بالهية جعفر بن محمد الصادق والهية آبائه، وهؤلاء قد تبرّأ منهم الإمام الصادق ولعنهم لعناً مشدداً. لكن السلطات شجعت من جانب ، والصقت التهمة بهم من جانب آخر بهدف التشويه لحقيقة الشيعة، كما استخدموا هذه التهمة فيما بعد ذريعة ومادّة حكم تبرر لهم اضطهاد الشيعة تحت هذا الاسم فأطلقوا على الشيعة اسم زنادقة ويحق للدولة أن تطاردهم. لقد عاصر الإمام الكاظم (عليه السلام) تيّاراً آخر كان خطيراً على الاُمة حاضراً ومستقبلا وكان قد وقف بوجهه الإمام الصادق(عليه السلام) وحذّر منه الشباب خاصة ألا وهم المرجئة الذين يقولون بتأخير وارجاء صاحب المعصية الكبيرة الى يوم القيامة فلا يحكمون عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار. ويحاول أصحاب هذا الإعتقاد أن يخلطوا الأوراق ويدمجوا بين سلوك الخير وسلوك الشر فلا يفرّق بين سلوك الإمام علي(عليه السلام) وسلوك معاوية ولا بين موقف الحسين(عليه السلام) وموقف يزيد; لان الحكم عليهم في الدنيا ليس من شؤوننا وانما يترك الأمر ليوم القيامة. ثم تبنّت هذه الفرقة اعتقاداً آخر لا يقلّ خطورة عن سابقه اذ تكمن خطورته على الشباب خاصة لان هذا الإعتقاد يفسّر معنى الايمان المراد عند الله بأنه الايمان القلبي لا السلوك الخارجي، لان السلوك الخارجي قد يخادع به الانسان فالايمان الذي ينظر إليه الله تعالى هو الايمان القلبي أمّا الممارسات الخارجية فلا اعتبار لها، فإذا زنا الانسان أو شرب الخمر أو قتل نفساً فهذه تصرفات خارجية والمهم أن الانسان يعتقد قلبياً بالله تعالى. كما روّج في هذه الفترة لفكرة الجبر والتي نشأت في زمن معاوية واستفاد منها بنو العبّاس حيث تقول بأنا لسنا مخيّرين في أفعالنا فإذا شاء الله أن نصلّي صلّينا وإذا شاء أن نشرب الخمر شربنا وهكذا. الملاحظ في كل هذه العقائد والافكار وأصحابها أنّها تخدم السلطة كل واحدة بطريقتها حيث تبرّر للحكّام تصرفاتهم البعيدة عن الاسلام بأفكار وأحكام اعتقادية وتهدّئ الجمهور الإسلامي حين توجّهه بهذه الافكار. من هنا ندرك السبب الذي جعل من الحكام أن يسمحوا بالانتشار لهذه التيّارات الناشئة من أفكار منحرفة جاء بها اليهود وغيرهم الى العالم الإسلامي. هذا هو عرض مختصر للظواهر والاحداث السياسية والثقافية والفكرية، التي برزت في عصر المنصور وكان الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) معاصراً لها. أمّا ما هو منهج الإمام وأساليبه ومواقفه في خضم هذه الاجواء المملؤة بالشبهات والتهم والتضييق ؟ ! هذا ما سوف نتناوله في الفصل الثاني ان شاء الله تعالى. |
|