مكتبة الإمام الكاظم

فهرس الكتاب

 

الطائفة الثانية :

نختار في هذه الطائفة ما يصوّر لنا أساليب الرشيد مع الإمام والتي يبتغي من ورائها احراج الإمام مرّة والاستهانة به مرّة أُخرى لعله يعجزه أمام الناس ويثبت لهم فشله وعدم جدارته.

ولنرى موقف الإمام(عليه السلام) ازاء هذه الاحراجات والاستهانات وكيف تخلّص منها منتصراً.

1 ـ من أساليب الرشيد مع الإمام (عليه السلام) التي كان يهدف منها تخويف الإمام (عليه السلام) واستضعافه ، هو اتهامه بأعمال سياسية محظورة بنظر الخلافة، مثل جبابة الخراج.

وعن هذا الإتّهام يحدّثنا الإمام موسى(عليه السلام) نفسه حيث يقول : «لمّا اُدخلت على الرشيد سلّمت عليه فردّ عليّ السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر خليفتين يُجبى اليهما الخراج ؟ !»

فقلت: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تبوء بإثمي وإثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت أنه قد كُذب علينا منذ قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) بما عِلمُ ذلك عندك، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي، عن آبائه، عن جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟! فقال: قد أذنت لك فقلت: أخبرني أبي عن آبائه عن جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال: إنّ الرحم إذا مسّت الرحم تحرّكت واضطربت.

ثم سأله الرشيد عن أفضلية أهل البيت ( اولاد علي ) على بني العباس فأجابه الإمام(عليه السلام) عن الأدلة على هذا التفضيل بعد أن أخذ منه  الأمان. ثم أطلق سراحه»[1].

وإليك نصّ ما دار بين الإمام(عليه السلام) وبين الرشيد كما رواه الصدوق:

قال الرشيد للإمام(عليه السلام):

«أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين، لم أسأل عنها أحداً فإن أنت أجبتني عنها خلّيت عنك، ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني أنّك لم تكذب قطّ فاصدقني عمّا أسألك ممّا في قلبي.

فقلت: ما كان علمه عندي فإنّي مُخبرك به ان أنت آمنتني؟ قال: لك الأمان ان صدقتني وتركت التقيّة التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.

فقلت ليسأل أمير المؤمنين عمّا شاء؟ قال: أخبرني لم فضّلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد، أنّا بنو العبّاس وأنتم ولد أبي طالب، وهما عمّا رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقرابتهما منه سواء ؟

فقلت : نحن أقرب. قال : وكيف ذلك ؟

قلت: لأن عبدالله وأبا طالب لأب وأمّ وأبوكم العبّاس ليس هو من أم عبدالله، ولا من أمّ أبي طالب قال: فلم ادّعيتم أنّكم ورثتم النبي(صلى الله عليه وآله) ؟ والعمّ يحجب ابن العمّ ، وقبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد توفي أبو طالب قبله، والعبّاس عمه حيّ؟

فقلت له: ان رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من هذه المسألة ويسألني عن كلّ باب سواه يريده فقال: لا أو تجيب.

فقلت: فآمنّي؟ قال: قد آمنتك قبل الكلام.

فقلت: إنّ في قول علي بن أبي طالب(عليه السلام) اذن ليس مع ولد الصّلب ذكراً كان أو اُنثى لأحد سهم إلاّ للأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب، إلاّ أنّ تيماً وعدياً وبني أمية قالوا: العم والد رأياً منهم بلا حقيقة، ولا أثر عن النبي(صلى الله عليه وآله).

ومن قال بقول علي(عليه السلام) من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن درّاج يقول في هذه المسألة بقول علي(عليه السلام) وقد حكم به، وقد ولاّه أمير المؤمنين المصرين الكوفة والبصرة، وقد قضى به فأنهي الى أمير المؤمنين فأمر باحضاره واحضار من يقول بخلاف قوله منهم سفيان الثوري، وابراهيم المدني والفضيل بن عيّاض فشهدوا أنه قول علي(عليه السلام) في هذه المسألة فقال لهم ـ فيما أبلغني بعض العلماء من أهل الحجاز ـ : فلم لا تفتون به وقد قضى به نوح بن درّاج؟ فقالوا جسر نوح وجبنا وقد أمضى أمير المؤمنين قضّيته بقول قدماء العامة عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: علي أقضاكم، وكذلك قال عمر بن الخطاب علي أقضانا، وهو إسم جامع لأن جميع ما مدح به النبي(صلى الله عليه وآله) أصحابه من القراءة والفرائض والعلم داخل في القضاء. قال: زدني يا موسى.

قلت: المجالس بالأمانات وخاصّة مجلسك؟ فقال: لابأس عليك.

فقلت: إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) لم يورّث من لم يُهاجر، ولا أثبت له ولاية حتّى يهاجر فقال: ماحجّتك فيه؟

قلت: قول الله تبارك وتعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يُهاجروا)[2] وإنّ عمّي العبّاس لم يُهاجر، فقال لي: أسألك ياموسى هل أفتيت بذلك أحداً من أعدائنا؟ أم أخبرت أحداً من الفقهاء في هذه المسألة بشيء ؟

فقلت: اللهم لا، وما سألني عنها إلاّ أمير المؤمنين. ثم قال: لم جوّزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم الى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويقولون لكم: يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي وانّما يُنسب المرء الى أبيه وفاطمة انّما هي وعاء، والنبي(صلى الله عليه وآله) جدّكم من قبل أمكم؟

فقلت: يا أمير المؤمنين لو أن النبي(صلى الله عليه وآله) نُشر فخطب اليك كريمتك هل كنت تجيبه؟

فقال: سبحان الله ولم لا أجيبه ؟ ! بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.

فقلت: لكنّه (صلى الله عليه وآله) لايخطب اليّ ولا أزوجه، فقال: ولم ؟

فقلت: لأنه ولدني ولم يلدك، فقال: أحسنت يا موسى. ثم قال: كيف قلتم انّا ذريّة النبي، والنبي(صلى الله عليه وآله) لم يعقب؟ وانّما العقب للذكر لا للانثى، وأنتم ولد الابنة، ولا يكون لها عقب؟

فقلت: اسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلاّ ما أعفيتني عن هذه المسألة.

فقال: لا أوتخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم ، وإمام زمانهم، كذا اُنهي الي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه، حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، فأنتم تدّعون معشر ولد علي أنّه لا يسقط عنكم منه شيء ( ألف ولا واو ) إلاّ وتأويله عندكم،واحتججتم بقوله عزّ وجلّ (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)[3] وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.

فقلت: تأذن لي في الجواب؟ قال: هات.

فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (ومن ذريته داود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى)[4] من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ فقال: ليس لعيسى أب.

فقلت: انّما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم السلام) من طريق مريم (عليها السلام) ، وكذلك الحقنا بذراري النبي(صلى الله عليه وآله) من قبل أمّنا فاطمة (عليها السلام). أزيدك يا أمير المؤمنين ؟ قال: هات.

قلت: قول الله عزّ وجلّ (فمن حاجّك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءناونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)[5] ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبي (صلى الله عليه وآله) تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلاّ علي بن أبي طالب وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام) فكان تأويل قوله عزّ وجلّ أبناءنا: الحسن والحسين، ونساءنا: فاطمة، وأنفسنا: علي بن أبي طالب.

إنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ جبرئيل قال يوم اُحد: يا محمد إنّ هذه لهي المواساة من علي قال: لأنّه منّي وأنا منه فقال جبرئيل: وأنا منكما يا رسول الله ثمّ قال: «لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي»، فكان كما مدح الله عزّ وجلّ به خليله(عليه السلام) إذ يقول: (فتىً يذكرهم يقال له ابراهيم)[6] انّا معشر بني عمك نفتخر بقول جبرئيل انّه منّا. فقال: أحسنت يا موسى ارفع الينا حوائجك.

فقلت له: أوّل حاجة أن تأذن لابن عمك أن يرجع الى حرم جدّه(عليه السلام) والى عياله فقال: ننظر ان شاء الله»[7].

2 ـ اتّهام الإمام بانحرافات فكرية لكسر هيبة الإمام(عليه السلام) وتبرير اضطهاده.

قال هارون للإمام الكاظم(عليه السلام): «بقي مسألة تخبرني بها ولا تضجر.

فقال له الإمام(عليه السلام) سل. فقال : خبّروني أنكم تقولون أن جميع المسلمين عبيدنا، وجوارينا، وأنّكم تقولون: من يكون لنا عليه حق ولا يوصله الينا فليس بمسلم.

فقال له موسى(عليه السلام): كذب الذين زعموا اننّا نقول ذلك، واذا كان الأمر كذلك فكيف يصح البيع والشراء عليهم ونحن نشتري عبيداً وجواري ونقعد معهم ونأكل معهم ونشتري المملوك ونقول له: يا بنيّ، وللجارية :يا بنتي ونقعدهم يأكلون معنا تقرّباً الى الله سبحانه فلو انهم عبيدنا وجوارينا ما صح البيع والشراء...»[8].

3 ـ هناك محاولة اُخرى لإحراج الإمام(عليه السلام) والاستهانة به وكانت في مجلس هارون الرشيد حينما حضره حكيم هندي، ويبدو أن الرشيد قد قصد حضور هذا الحكيم الهندي مع الإمام وخطط لادانة الإمام عمليّاً. كما يبدو ذلك من خلال تعليقة الرشيد بعد استسلام الحكيم الهندي لعلم الإمام(عليه السلام).

«حضر مجلس الرشيد هنديّ حكيم، فدخل الإمام الكاظم(عليه السلام) فرفع الرشيد مقامه، فحسده الهندي وقال: اغتنيت بعلمك عن غيرك، فكنت كما قال تعالى: (كلاّ إنَّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)[9].

فقال(عليه السلام) أخبرني، الصور الصدفية إذا تكاملت فيها الحرارة الكلية، وتواترت عليها الحركات الطبيعية، واستحكمت فيها القوى العنصرية، صارت اخصاصاً عقلية، أم أشباحاً وهميّة ؟

فبهت الهندي وقبّل رأس الإمام(عليه السلام) وقال: كلّمتني بكلام لاهوت، من جسم ناسوت.

فقال الرشيد: كلما أردنا ان نضع أهل هذا البيت أبى الله إلاّ أن يرفعه.

فقال(عليه السلام): (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون)»[10][11].

4 ـ يُبرز لنا هذاالمشهد احدى محاولات الاغتيال التي كان قد أعدّها الرشيد للإمام موسى(عليه السلام) وفشلها بالتسديد الإلهي.

لمّا همّ هارون الرشيد بقتل الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) دعا الفضل بن الربيع وقال له: قد وقعت لي اليك حاجة أسألك أن تقضيها ولك مائة ألف درهم.

قال: فخرّ الفضل عند ذلك ساجداً وقال، أمرٌ أم مسألة؟ قال: بل مسألة.

ثم قال: أمرت بأن تحمل الى دارك في هذه الساعة مائة ألف درهم، وأسألك أن تصير الى دار موسى بن جعفر وتأتيني برأسه.

قال الفضل: فذهبت الى ذلك البيت فرأيت فيه موسى بن جعفر وهو قائم يصلي، فجلست حتى قضى صلاته، وأقبل(عليه السلام) اليّ وتبسّم وقال: «عرفت لماذا حضرت، أمهلني حتى اُصلي ركعتين».

قال: فأمهلته فقام وتوضأ فأسبغ الوضوء، وصلّى ركعتين وأتمّ الصلاة بحسن ركوعها وسجودها، وقرأ خلف صلاته بهذا الحرز فاندرس وساخ في مكانه، فلا أدري أأرض ابتلعته؟ أم السماء اختطفته؟

فذهبت الى هارون وقصصت عليه القصة. قال: فبكى هارون، ثم قال: قد أجاره الله مني[12].

[1] عيون أخبار الرضا : 1 / 81، ح9 وعنه في بحار الأنوار : 48 / 125 .

[2] الانفال (8): 72.

[3] الانعام (6): 38 .

[4] الأنعام (6): 84 ـ 85 .

[5] آل عمران (3): 61 .

[6] الأنبياء (21): 60 .

[7] عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : 1 / 81 .

[8] بحار الأنوار : 48 / 146 .

[9] العلق (96): 6 ـ 7 .

[10] الصف : (61) : 8 .

[11] عوالم العلوم: الإمام موسى بن جعفر : 1/314 ، عن الصراط المستقيم : 2/194.

[12] بحار الأنوار : 94 / 332 عن مهج الدعوات: 30 ـ 33، وعوالم العلوم (الإمام موسى بن جعفر) : 284.