مكتبة الإمام الكاظم

فهرس الكتاب

 

منهج الاستنباط والتفقه في الدين :

ونلتقي في تراث الإمام الكاظم(عليه السلام) بنصوص ترتبط بحرمة القول بغير علم وحجية الظواهر وحجية خبر الواحد ونصوص ترتبط بعلاج حالات التعارض بين الأحاديث ونصوص ترتبط بالمنع من القياس ونصوص ترتبط بأصالة البراءة ووجوب الموافقة القطعية في أطراف العلم الاجمالي والاستصحاب وعدم جواز الرجوع الى الأصل قبل الفحص عن الدليل .. وهذه النصوص تشير الى أن الإمام(عليه السلام) كان بصدد ارساء قواعد ومنهج الاستنباط والتفقه في دين الله.

وإذا لاحظنا النصوص التي تقدّم لنا مجموعة مهمة من القواعد الفقهية الى جانب غيرها من النصوص التي تتضمّن الأحكام الفقهية التي اُثرت عنه(عليه السلام) فإننا نستيقن بأن الإمام(عليه السلام) كان يخطط لتكامل المدرسة الفقهية الاجتهادية ويربّي العلماء على منهجها بحيث يضمن للرسالة خلودها ولخط أهل البيت(عليهم السلام) الدوام والحضور الفاعل في ميادين الحياة رغم كل التحديات[1].

المناظرات في عصر الإمام الكاظم (عليه السلام)

من الأنشطة الفكرية الواسعة الصيت في عصر الإمام الكاظم(عليه السلام) والمؤثرة في تبلور فكر الاُمة هي المناظرة العلمية، وكان الإمام الصادق(عليه السلام) ثم الإمام الكاظم(عليه السلام) من بعده قد استثمرا هذه الظاهرة وأعدّا لها نخبة من العلماء المتخصصين في هذا الميدان تعاهدوا للدفاع عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام) وتعريفه للناس واستطاعوا رغم المنع السلطوي والحصار الفكري ضدهم أن يروّجوا للمذهب ويحققوا انتصارات مشهودة. كما قد نشطوا من جانب في دحض الشبهات والإتهامات التي كانت تثار ضد الفكر الإسلامي أو الشيعي واستطاعوا أن يقفوا بوجه الموجات الفكرية الانحرافية والحركات الالحادية.

ومن جملة أصحاب الإمامين الصادق والكاظم(عليهما السلام) البارزين في هذا الميدان هشام بن الحكم.

كان هشام بن الحكم من أفذاذ الاُمة الإسلامية ومن كبار علمائها وفي طليعة المدافعين عن خط أهل البيت(عليهم السلام).

جاهد طويلا لنصرة الحق خصوصاً في عصرالرشيد، الذي انعدمت فيه الحريات، وكان الذاكر لفضائل أهل البيت(عليهم السلام) عرضة للانتقام والتنكيل من قبل السلطة.

كان من أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) وبعد وفاته اتّصل بالامام الكاظم(عليه السلام).

و اختص في علم الكلام فكان من كبار المتكلمين في عصره، وشهد له بذلك ابن النديم.

ونظراً لاختصاصه في هذا الفن فقد زيّن يحيى بن خالد البرمكي مجلسه به وجعله قيماً لمجالس كلامه[2].

وخاض هشام مع علماء الأديان والمذاهب مستدلا على صحة مبدأه وبطلان أفكارهم.

ونظراً لخطورة استدلاله وقوة حجته كان الرشيد يحضر من وراء الستار فيصغي اليها ويعجب بها، ولقد خاض في عدة مناظرات مع زعيم المعتزلة الروحي عمرو بن عبيد[3].

ووجه يحيى بن خالد البرمكي سؤالا لهشام بحضرة الرشيد من أجل احراجه قائلا له: أخبرني عن علي والعباس لما اختصما الى أبي بكر في الميراث أيهما كان المحق من المبطل؟

فاستولت الحيرة على هشام لأنه قال في نفسه: ان قلت علياً كان مبطلا كفرت وان قلت العباس كان مبطلا ضرب الرشيد عنقي.

فقال هشام: لم يكن من أحدهما خطأوكانا جميعاً محقين، ولهذا نظير قد نطق به القرآن في قصة داود (عليه السلام)حيث يقول الله:(وهل أتاك نبأالخصم إذ تسوّروا المحراب)، الى قوله تعالى: (خصمان بغى بعضنا على بعض) فأي الملكين كان مخطئاً؟ وأيهما كان مصيباً؟ أم تقول: انهما كانا مخطئين فجوابك في ذلك جوابي بعينه.

فقال يحيى: لست أقول : الملكين أخطآ، بل أقول انهما أصابا وذلك انهما لم يختصما في الحقيقة ولا اختلفا في الحكم وانّما أظهرا ذلك لينبّها داود على الخطيئة ويعرّفاه الحكم ويوقفاه عليه.

فقال هشام: كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة وانما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبّها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على خطيئته ويدلاّه على ظلمه في الميراث ولم يكونا في ريب من أمرهما.

فتحيّر يحيى ولم يطق جواباً، واستحسن الرشيد هذا البيان الرائع الذي تخلص به هشام[4].

وله مناظرات من هذا القبيل مع العالم النظام[5] ومع ضرار الضبي[6]فراجع مناظراته في موسوعة بحار الأنوار في ما يختص بحياة صحابة الإمام الكاظم(عليه السلام).

وهكذا استطاع أهل البيت(عليهم السلام) من خلال خيرة أصحابهم أن يحفظوا للاُمة المسلمة هويّتها ويدافعوا عن شخصيّتها المعنوية واستقلال كيانها الفكري والديني.

[1] راجع : لمحات على القواعد الفقهية في الاحاديث الكاظمية في مجموعة الآثار للمؤتمر العالمي الثالث للإمام الرضا(عليه السلام) ومسند الإمام الكاظم(عليه السلام) .

[2] الفهرست لابن النديم : 263.

[3] الكشي : 225 ح 475، 280 ح 500، والأمالي : 1 / 55، ومروج الذهب : 3 / 194 و 4 / 21 ـ 23.

[4] الفصول المختارة : 42 ووردت المناظرة باختصار في عيون اخبار الرضا : 2 / 15.

[5] الكشي : 274 ح 493 في الخلود في الجنة وعدمها.

[6] كمال الدين: 2/362 ـ 370 وعنه في بحار الأنوار : 48 / 199 ح 7.