مكتبة الإمام الكاظم

فهرس الكتاب

 

الفصل الرابع

تراث الإمام الكاظم (عليه السلام)

 

لقد ورث الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) مدرسة أبيه الصادق(عليه السلام) وحظيت منه بالتوجيه والرعاية الشاملة لتلامذته وأصحابه بالرغم من قساوة الظروف وتغيّرها خلال ثلاثة عقود ونصف من العمل العلمي الدؤوب وتربية مستمرة للنابهين من صحابته وطلاّب المعرفة من أتباعه وشيعته.

وقد أثرت عن الإمام الكاظم(عليه السلام) عدة مجموعات روائية مثل : مسائل علي بن جعفر ، والاشعثيات وتصدّى المعنيون بتراث أهل البيت (عليهم السلام) بجمع التراث المأثور عن أهل البيت(عليهم السلام) وتنظيمه وتبويبه من مختلف المصادر وتسميته بالمسند. وهذا عمل يشكر عليه عامله لأنه يوفر للباحثين الفرصة الكافية للغور في هذا التراث ودراسته دراسة معمّقة بالأرقام.

وفيما يخصّ الإمام موسى(عليه السلام) نلاحظ آخر ما جمع من كلامه وما يرتبط به من نصوص قد بلغ ثلاث مجلّدات يناهز مجموعها الألف صفحة مبوّبة حسب تبويب الموسوعات الحديثية مع فارق أو أكثر. فالمقدمة تشتمل على مجموعة من النصوص التي تخص نشأة الإمام وحياته وسيرته. ثم يقسّم تراثه الحديثي الى أبواب العقائد والأخلاق والأحكام والسيرة والتاريخ والرجال.

وفيما يخصّ مسند الإمام الكاظم (عليه السلام) إذا مررنا عليه مروراً عابراً وسريعاً أيضاً كفى ذلك لنقف على عظمة الدور الفكري والعطاء العلمي الذي قدّمه هذا الإمام العظيم الى الاُمة الإسلامية بشكل عام والى الجماعة الصالحة وطلاّب المعرفة المؤمنين بخط أهل البيت (عليهم السلام) بشكل خاص، لا سيما إذا لاحظنا قساوة الظروف السياسية والاجتماعية التي مرّ بها الإمام موسى(عليه السلام) وأصحابه وشيعته خلال ثلاثة عقود ونصف تقريباً.

لقد ترجم هذا المسند ( 638 ) شخصاً من رواة الإمام الكاظم (عليه السلام) وهو رقم كبير جداً بالنسبة للمدة الزمنية التي عرفناها والظروف التى وقفنا عليها. وقد اشتمل الفهرس على عدد نصوص كل باب من أبواب المعرفة . وتتراوح هذه النصوص بين نصوص مأثورة بواسطة الإمام الكاظم (عليه السلام) عن آبائه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهي تكشف عن مدى اهتمامه بسيرة وحديث جدّه(صلى الله عليه وآله) وبين نصوص لا يسندها الى أحد مما يمكن أن نعتبرها من تراثه الخاص كمانلاحظ ذلك في الرسالة الكبيرة التي أثرت عنه حول العقل ولعلها الرسالة الوحيدة الجامعة لما يخصّ العقل من شؤون في الكتاب والسنة وهي لوحدها تراث جامع وأثر خالد يتضمّن المنهج المعرفي القرآني والحديثي لأهل البيت(عليهم السلام) كما سوف نراها بنصّها الكامل في ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والجزء الأول من هذا المسند قد اشتمل على الأبواب التالية:

العقل والعلم في (10 أبواب) ، التوحيد في (14باباً) ، تاريخ الأنبياء والأئمة في (14 باباً)، والنبوة والإمامة في (22 باباً) والتعريف بالصحابة في (41 باباً) والتعريف برواة الإمام الكاظم في (638 باباً) وأبواب الإيمان والكفر في (42 باباً) والأخلاق والعِشرة في (152 باباً ) .

كما تضمن الجزء الثاني : كتاب القرآن بأبوابه الـ ( 51 باباً) وكتاب الدعاء في (51 باباً) والاحتجاجات في (8 أبواب) ومعظم كتب الفقه ، فكتاب الطهارة في(73 باباً) وكتاب الصلاة في(41 باباً) وكتاب الصوم في ( 25 باباً ) وكتاب الزكاة في ( 28 باباً ) وكتاب المعيشة في ( 59 باباً ) وكتاب السفر في (8 أبواب) وكتاب الحج في ( 68 باباً ) وكتاب الزيارة في ( 7 أبواب ) وكتاب الجهاد في ( 5 أبواب ) وكتاب النكاح في ( 40 باباً ) وكتاب الطلاق في ( 30 باباً ).

وتضمن الجزء الثالث من المسند : كتاب الأولاد في ( 12 باباً ) وكتاب التجمّل والزينة في ( 43 باباً ) وكتاب الرواتب في ( 12 باباً )

وكتاب الأطعمة في ( 68 باباً ) وكتاب الاشربة في ( 13 باباً ) وكتاب العتق في ( 12 باباً ) وكتاب الايمان والنذور في ( 9 أبواب ) وكتاب الحدود في

( 18 باباً ) وكتاب الدّيات في ( 16 باباً) وكتاب الوصية في (15 باباً) وكتاب الارث في (11 باباً) وكتاب الجنائز في (29 باباً) وكتاب الحشر والمعاد والآداب والسنن .

إنّ هذا التنوع في أبواب المعرفة التي اُثرت عنه لدليل آخر على الجانب الموسوعي في هذا التراث بالإضافة الى وضوح التكامل في المسيرة العلمية التي بدأها أهل البيت (عليهم السلام) وسهروا على إرساء قواعدها واشادة اُصولها ومعالمها والتخطيط لاثمارها والحرص على إنجاز دورها التغييري في المجتمع الإسلامي عامة وفي الجماعة الصالحة بشكل خاص.

وإليك بعض النصوص المختارة من هذا التراث العظيم في الأبواب التالية :

اُصول العلم ومراتب المعرفة :

1 ـ قال الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) : «وجدت علم الناس في أربع، أولها: أن تعرف ربك، والثانية : أن تعرف ما صنع بك، والثالثة : أن تعرف ما أراد منك، والرابعة : أن تعرف ما يخرجك من دينك»[1].

2 ـ وقال(عليه السلام): «أولى العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلاّ به وأوجب العمل عليك ما أنت مسؤول عن العمل به، وألزم العلم لك ما دلّك على صلاح قلبك; وأظهر لك فساده، وأحمد العلم عاقبة ما زاد في علمك العاجل، فلا تشتغلنّ بعلم مالا يضرّك جهله، ولا تغفلنّ عن علم ما يزيد في جهلك تركه»[2].

3 ـ وقال(عليه السلام): «فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنّا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد...[3].

مصادر المعرفة ومنهجها :

1 ـ عن سماعة، عن أبي الحسن موسى(عليه السلام)، قال: قلت له: أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) ؟ أو تقولون فيه؟ قال: «بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه(صلى الله عليه وآله)[4].

2 ـ عن سماعة، عن العبد الصالح قال: سألته فقلت: إنّ أناساً من أصحابنا قد لقوا أباك وجدّك وسمعوا منهما الحديث فربما كان شيء يبتلي به بعض أصحابنا وليس في ذلك عندهم شيء يفتيه وعندهم مايشبهه، يسعهم أن يأخذوا بالقياس ؟ فقال: «لا إنما هلك من كان قبلكم بالقياس»، فقلت له : لم لا يقبل ذلك ؟ فقال: «لأنه ليس من شيء إلاّ وجاء في الكتاب والسنة»[5].

3 ـ عن موسى بن بكر ، قال : قال أبو الحسن (عليه السلام) : «من افتى الناس بغير علم لعنته ملائكة الأرض وملائكة السماء»[6].

4 ـ عن عثمان بن عيسى، قال: سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن القياس فقال: «مالكم والقياس إنّ الله لا يسأل كيف أحلّ وكيف حرّم»[7].

5 ـ عن يونس بن عبدالرحمن، قال: قلت لابي الحسن الأوّل(عليه السلام) : بما اُوحّد الله ؟ فقال: «يا يونس لا تكوننّ مبتدعاً، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيّه(صلى الله عليه وآله) ضلّ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر»[8].

6 ـ إنّ من غرر أحاديث الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) في مجال العقل كمصدر معرفي أساس هو وصيّته الثمينة لهشام بن الحكم والتي سُمّيت برسالة العقل عند الإمام(عليه السلام)، وإليك نصّ الرسالة:

قال(عليه السلام): «إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: (... فبشّر عبادِ الذين يستمعونَ القولَ فيتّبعونَ أحسنهُ أولئكَ الذينَ هداهمُ الله وأولئكَ همُ اُولوا الألبابِ)[9].

يا هشام بن الحكم إنّ الله عزّوجلّ أكمل للناس الحجج بالعقول وأفضى إليهم بالبيان ودلّهم على ربوبيته بالأدلاّء، فقال: (وإلهكم إله واحدُ لا إلهَ إلاّ هوَ الرحمنُ الرحيمُ انّ في خلقِ السمواتِ والارضِ واختلافِ الليلِ والنهارِ ـ الى قوله ـ لآيات لقوم يعقلونَ)[10].

يا هشام قد جعل الله عزّ وجلّ ذلك دليلا على معرفته بأنّ لهم مدبّراً فقال:(وسخّرَ لكمُ الليل والنهارَ والشمسَ والقمرَ والنجومُ مسخّراتٌ بأمره إنَّ في ذلك لآيات لقوم يعقلونَ)[11]. وقال : (حم والكتاب المبين إنّا جعلناهُ قرآناً عربياً لعلكم تعقلونَ)[12]وقال :(ومنْ آياتهِ يريكمُ البرقَ خوفاً وطمعاً وينزّل من السماءِ ماءً فيُحيي بهِ الارضَ بعدَ موتها إنَّ في ذلكَ لآيات لقوم يعقلونَ)[13].

يا هشام ثمّ وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة فقال:(وما الحياةُ الدنيا إلاّ لعبٌ لاولهوٌ وللدارُ الاخرةُ خيرٌ للذين َ يتّقونَ أفلا تعقلونَ)[14]. وقال :(وما أوتيتُم من شيء فمتاعُ الحياةِ الدنيا وزينتها وما عندَ الله خيرٌ وأبقى أفلا تعقلونَ)[15].

يا هشام ثمّ خوَّف الذين لا يعقلون عذابه فقال عزّ وجلّ: (ثمّ دمّرنا الآخرينَ وانكم لتمرونَ عليهم مصبحينَ وبالليلِ أفلا تعقلونَ)[16].

يا هشام ثمّ بيّن أن العقل مع العلم فقال :(وتلكَ الامثالُ نضربها للناسِ وما يعقلها إلاّ العالمونَ)[17].

يا هشام ثمّ ذمّ الذين لايعقلون فقال :(وإذا قيلَ لهمُ اتّبعوا ما أنزلَ الله قالوا بلْ نتّبعُ ما ألفينا عليهِ آباءنا أولو كانَ آباؤهم لا يعقلونَ شيئاً ولا يهتدونَ)[18]. وقال :(إنَّ شرّ الدوابِّ عندَ الله الصمُّ البكمُ الذينَ لا يعقلونَ)[19]. وقال :(ولئن سألتهم من خلقَ السمواتِ والأرضَ ليقولنَّ الله قلِ الحمدُ لله بلْ أكثرهمْ لا يعلمون)[20].

ثمّ ذم الكثرة فقال : (وإن تُطع أكثرَ من في الارض يُضلّوكَ عن سبيلِ الله)[21]وقال : (ولكنَّ أكثرهم لا يعلمونَ)[22] . «وأكثرهم لا يشعرون»[23].

يا هشام ثمّ مدح القلة فقال :(وقليلٌ منْ عباديَ الشّكور)[24] وقال :(وقليلٌ ماهُمْ)[25] وقال :(وما آمنَ معهُ إلاّ قليلٌ)[26].

يا هشام ثمّ ذكر أولي الالباب بأحسن الذكر وحلاّهم بأحسن الحلية، فقال :(يُوتي الحكمةَ من يشاءُ ومنْ يُؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيراًوما يذّكرُ إلاّ اُولوا الالبابِ)[27].

يا هشام إنّ الله يقول :(انّ في ذلكَ لذكرى لمن كانَ لهُ قلبٌ)[28] يعني العقل. وقال:(ولقد آتينا لُقمانَ الحكمةَ)[29] قال: الفهم والعقلَ .

يا هشام إنّ لقمان، قال لابنه : تواضع للحق تكن أعقلَ الناس ». يا بنيّ إنّ الدنيا بحرٌ عميقٌ قد غرق فيه عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان وشراعها التوكل وقيمتها العقل. ودليلها العلم وسكّانها الصبر.

يا هشام لكل شيء دليل ودليل العاقل التفكر ودليل التفكر الصمت . ولكل شيء مطيّة ومطيّة العاقل التواضع وكفى بك جهلا، أن تركب ما نُهيت عنهُ.

يا هشام لو كان في يدك جوزة وقال الناس (في يدك) لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة. ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس: انّها جوزة ما ضرّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة.

يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله الى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة لله. وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا. وأعقلهم أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام ما من عبد إلاّ وملك آخذ بناصيته، فلا يتواضع إلاّ رفعه الله ولا يتعاظم إلاّ وضعه الله.

يا هشام إنّ لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة . وأمّا الباطنة فالعقول.

ياهشام إنّ العاقل، الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام من سلّط ثلاثاً على ثلاث فكأ نّما أعانَ هواه على هدم عقله: من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه. وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله. ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

يا هشام كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك.

يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوّة العقل، فمن عقل عن الله تبارك وتعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها. ورغب فيما عند ربه ـ وكان الله ـ آنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة. وغناه في العيلة ومعزه في غير عشيرة[30].

يا هشام نصب الخلق لطاعة الله[31] . ولا نجاة إلاّ بالطاعة. والطاعة بالعلم والعلم بالتعلم. والتعلم بالعقل يعتقد[32] ولا علم إلاّ من عالم رباني ومعرفة العالم بالعقل.

يا هشام قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف. وكثير العمل من أهلِ الهوى والجهل مردود.

يا هشام إنّ العاقل رضي بالدّون من الدنيا مع الحكمة . ولم يرض بالدّون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارتهم.

يا هشام إن كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك. وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء من الدنيا يغنيك .

يا هشام إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب. وترك الدنيامن الفضل وترك الذنوب من الفرض.

يا هشام إنّ العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة لانّهم علموا أنّ الدنيا طالبة ومطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتّى يستوفي منها رزقه. ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين فليتضرّع الى الله في مسألته بأن يُكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه ومن قنع بما يكفيه استغنى ومن لم يقنع بما يكفيه لم يُدرك الغنى أبداً.

يا هشام إنّ الله جلّ وعزّ حكى عن قوم صالحين، أنهم قالوا:(ربّنا لا تُزغ قلوبنا بعدَ اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً انّك أنت الوهاب)[33] حين علموا أنّ القلوب تزيغ وتعود الى عماها ورداها انّه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يُبصرها ويجد حقيقتها في قلبه. ولا يكون أحدٌ كذلك إلاّ من كان قوله لفعله مصدِّقاً، وسرّه لعلانيته موافقاً، لانّ الله لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلاّ بظاهر منه وناطق عنه.

يا هشام كان أمير المؤمنين (عليه السلام)، يقول: ما من شيء عبد الله به أفضل من العقل وما تمّ عقل امرء حتى يكون فيه خصال شتّى، الكفر والشر منه مأمونان[34]. والرشد والخير منه مأمولان[35]. وفضل ماله مبذول. وفضل قوله مكفوف. نصيبه من الدنيا القوت. ولا يشبع من العلم دهره. الذلّ أحب إليه مع الله من العزّ مع غيره. والتّواضع أحبّ إليه من الشرف. يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثير المعروف من نفسه. ويرى الناس كلهم خيراً منه وأنه شرّهم في نفسه وهو تمام الأمر[36] .

يا هشام من صدق لسانه زكى عمله. ومن حسنت نيته زيد في رزقه. ومن حسن برّه باخوانه وأهله مدّ في عمره.

يا هشام لا تمنحوا الجهّال الحكمة فتظلموها[37]، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.

يا هشام كما تركوا لكم الحكمة فاتركوا لهم الدنيا.

يا هشام لا دين لمن لا مروّة له. ولا مُرُوّة لمن لا عقل له. وأنّ أعظم الناس قدراً الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطراً[38]، أما إنّ أبدانكم ليس لها ثمن إلاّ الجنة، فلا تبيعوها بغيرها...[39]

يا هشام انّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول : « لا يجلس في صدر المجلس إلاّ رجل فيه ثلاث خصال: يجيب اذا سئل وينطق اذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه شيء منهنّ فجلس فهو أحمق » .

وقال الحسن بن علي (عليهما السلام) : « اذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها » قيل: يا ابن رسول الله ومن أهلها؟ قال: « الذين قصّ الله في كتابه وذكرهم، فقال : (إنّما يتذكّرُ اولوا الألباب)[40] . قال : هم أولوا العقول ».

وقال علي بن الحسين (عليهما السلام) : « مجالسة الصالحين داعية الى الصلاح وأدب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز واستثمار المال[41] تمام المروة. وارشاد المستشير قضاء لحق النعمة. وكف الاذى من كمال العقل وفيه راحة البدن عاجلا وآجلا ».

يا هشام انّ العاقل لا يحدّث من يخاف تكذيبه ولا يسأل من يخاف منعه. ولا يعد مالا يقدر عليه. ولا يرجو ما يعنّف برجائه[42] ولا يتقدم على ما يخاف العجز عنه.

وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يوصي أصحابه يقول : « أوصيكم بالخشية من الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والاكتساب في الفقر والغنى، وأن تصلوا من قطعكم، وتعفوا عمّن ظلمكم، وتعطفوا على من حرمكم وليكن نظركم عبراً. وصمتكم فكراً. وقولكم ذكراً وطبيعتكم السخاء، فإنه لايدخل الجنة بخيل ولايدخل النار سخي ».

يا هشام رحم الله من استحيا من الله حق الحياء، فحفظ الرأس وما حوى[43] والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى، وعلم أنّ الجنة محفوفة بالمكاره[44]. والنار محفوفة بالشهوات.

يا هشام من كف نفسه عن أعراض الناس أقاله الله عثرته يوم القيامة. ومن كف غضبه عن الناس كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة.

يا هشام انّ العاقل لا يكذب وان كان فيه هواه.

يا هشام وجد في ذؤابة[45] سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) : انّ أعتى الناس على الله من ضرب غير ضاربه وقتل غير قاتله. ومن تولّى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على نبيّه محمد (صلى الله عليه وآله) ومن أحدث حدثا[46]، أو آوى محدثاً لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلا.

يا هشام أفضل ما يتقرب به العبد الى الله بعد المعرفة به الصلاة، وبرّ الوالدين، وترك الحسد والعجب والفخر.

يا هشام أصلح أيّامك الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو وأعدّ له الجواب، فانك موقوف ومسؤول. وخذ موعظتك من الدهر وأهله، فانّ الدهر طويلة قصيرة فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك. واعقل عن الله وانظر في تصرف الدّهر وأحواله، فانّ ما هو آت من الدنيا، كما ولّى منها، فاعتبر بها.

وقال علي بن الحسين (عليهما السلام) : « انّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الارض ومغاربها بحرها وبرّها وسهلها وجبلها عند وليّ من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال ـ ثم قال (عليه السلام): أَوَلا حرّ يدع ( هذه ) اللمّاظة لاهلها[47] ـ يعني الدنيا ـ فليس لانفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها بغيرها، فإنّه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس » .

يا هشام انّ كل الناس يبصر النجوم ولكن لا يهتدي بها إلاّ من يعرف مجاريها ومنازلها. وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلاّ من عمل بها.

يا هشام انّ المسيح (عليه السلام) قال للحواريين : « يا عبيد السوء يهولكم طول النّخلة »[48]وتذكرون شوكها ومؤونة مراقيها وتنسون طيب ثمرها ومرافقها[49]. كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة فيطول عليكم أمده[50] وتنسون ما تفضون اليه من نعيمها ونورها وثمرها. يا عبيد السوء نقّوا القمح وطيّبوه وأدقّوا طحنه تجدوا طعمه ويهنئكم أكله، كذلك فأخلصوا الايمان وأكملوه تجدوا حلاوته وينفعكم غبّه[51].

[1] كشف الغمة: 2/255.

[2] بحار الأنوار : 75 / 336.

[3] الاحتجاج : 1 / 8 .

[4] الكافي : 1 / 62.

[5] الاختصاص : 281.

[6] المحاسن : 1 / 205 ، وبحار الأنوار : 2 / 122 .

[7] المحاسن: 1/214 .

[8] اُصول الكافي: 1 / 56 .

[9] الزمر (39): 17 ـ 18.

[10] البقرة (2): 163 ـ 164 .

[11] النحل (16): 12 .

[12] الزخرف (43): 1 ـ 3 .

[13] الروم (30): 24.

[14] الأنعام (6): 32 .

[15] القصص (28): 60 .

[16] الصافات (37): 137 ـ 138 .

[17] العنكبوت (29): 43.

[18] البقرة (2): 170.

[19] الأنفال (8): 22 .

[20] لقمان (31): 25 .

[21] الأنعام (6): 116 .

[22] الأنعام (6): 37 .

[23] مضمون مأخوذ من آى القرآن.

[24] سبأ (34): 13.

[25] ص (38): 24 .

[26] هود (11) : 40 .

[27] البقرة (2): 269 .

[28] ق (50): 37 .

[29] لقمان (31): 11 .

[30] العَيلة : الفاقة.

[31] نصب ـ من باب ضرب على صيغة المجهول ـ بمعنى وضع أو من باب التفعيل من نصب الامير فلاناً ولاّه منصباً.

[32] اعتقد الشيء : نقيض حله.

[33] آل عمران (3): 7 .

[34] الكفر في الاعتقاد والشر في القول والعمل والكل ينشأ من الجهل .

[35] الرشد في الاعتقاد والخير في القول والكل ناشئ من العقل.

[36] أي ملاك الامر وتمامه في أن يكون الانسان كاملا تام العقل هو كونه متصفاً بمجموعة هذه الخصال.

[37] لا تمنحوا الجهال أي لا تعطوهم ولا تعلموهم . والمنحة : العطاء.

[38] معادلاً وموازياً في الخطر أي القدر والرفعة.

[39] ههنا كلام نقله صاحب الوافي عن استاذه ـ رحمهما الله ـ قال: وذلك لأن الابدان في التناقص يوماً فيوماً لتوجه النفس منها الى عالم آخر فان كانت النفس سعيدة كانت غاية سعيه في هذه الدنيا وانقطاع حياته البدنيّة الى الله سبحانه والى نعيم الجنة لكونه على منهج الهداية والاستقامة فكأنه باع بدنه بثمن الجنة معاملة مع الله تعالى ولهذا خلقه الله عزّ وجلّ وان كانت شقيّة كانت غاية سعيه وانقطاع أجله وعمره الى مقارنة الشيطان وعذاب النيران لكونه على طريق الضلالة فكأنه باع بدنه بثمن الشهوات الفانية واللذات الحيوانية التي ستصير نيراناً محرقة مؤلمة وهي اليوم كامنة مستورة عن حواسّ أهل الدنيا وستبرز يوم القيامة (وبرّزت الجحيم لمن يرى) معاملة مع الشيطان وخسر هنالك المبطلون.

[40] الزمر (39): 12.

[41] اى استنماؤه بالكسب والتجارة.

[42] التعنيف : اللؤم والتوبيخ والتقريع. والمراد انّ العاقل لا يرجو فوق مايستحقه وما لم يستعدّه.

[43] (وما حوى) أى ما حواه الرأس من الاوهام والافكار بأن يحفظها ولا يبديها ويمكن أن يكون المراد ما حواه الرأس من العين والاذن وسائر المشاعر بأن يحفظها عمّا يحرم عليه. وما وعى أى ما جمعه من الطعام والشراب بأن لا يكون من حرام. والبلى ـ بالكسر ـ : الاندراس والاضمحلال.

[44] هذا الكلام مشهور معروف بين الفريقين متواتر منقول عن النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم. والمحفوفة: المحيطة. والمكاره: جمع مكرهة -بفتح الراء وضمّها-: مايكرهه الانسان ويشق عليه. والمراد أن الجنة محفوفة بما يكره النفس من الاقوال والافعال فتعمل بها، فمن عمل بها دخل الجنة، والنار محفوفة بلذات النفس وشهواتها، فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار.

[45] الذؤابة من كل شيء: أعلاه. ومن السيف: علاقته. ومن السوط: طرفه. ومن الشعر: ناصيته. وعتا يعتو عتوا، وعتى يعتى عتياً بمعنى واحد اي استكبر وتجاوز الحدّ، والعتو: الطغيان والتجاوز عن الحدود والتجبّر.

[46] الحدث : الأمر الحادث الذى ليس بمعتاد ولا معروف في السنّة.

[47] اللمّاظة ـ بالضم ـ : بقية الطعام في الفم. وأيضاً بقية الشيء القليل. والمراد بها هنا الدنيا.

[48] يهولكم أي يفزعكم وعظم عليكم.

[49] مؤونة المراقي : شدة الارتقاء، والمرافق: المنافع وهي جمع مرفق ـ بالفتح ـ : ما انتفع به.

[50] الامد : الغاية ومنتهى الشيء، يقال: طال عليهم الامد أي الأجل. والنور ـ بالفتح ـ : الزهرة.

[51] الغبّ ـ بالكسر ـ : العاقبة، وأيضا بمعنى البعد.