23- اصطدام الطغاة
الظلام ما يزال يغمر البصرة.. عندما دخلها موسى على قَدَر، فُتحت أبواب السجن في الهزيع الأخير من الليل.. وسُمع صليل السلاسل، ووقْع خطى السجّانين.. وفي ضوء المشاعل تطلّع الحرّاس إلى وجهٍ أسمر تتألق في ملامحه نبوّات غابرة.. وجه يشّع فيه الطهر والنقاء.. ينعكس في قسماته ثبات الجبل وطهارة الندى وغضب البراكين. وقف عيسى بن جعفر حاكم البصرة يتطلع إلى السجين المدني.. كأنه يبحث عن الشيء الذي أخاف هارون.. وتساءل في أعماقه عن سرّ فزع هارون.. إنّ المرء ليشعر بالطمأنينة قربه.. رجل يتطلّع إلى السماء أكثر منه إلى الأرض.. أصدر حاكم البصرة أوامره بفظاظة واضحة: ـ لا يُفتح باب السجن إلاّ مرّتين.. خروجه للطَّهور.. وإدخال الطعام عليه. سكت هنيهة وأردف: ـ يعني أنه لا يغادر حبسه إلاّ مرّة واحدة.. هتف حارس ضخم الجثة: ـ سمعاً وطاعة للأمير. غادر الأمير السجن وأُغلقت الباب بعنف.. وقف الأمير يسترق السمع إلى موسى.. كان يريد أن يسمع شتائم السجين الجديد.. صوتٌ شجي يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر.. ينبعث من أعماق الزنزانة المظلمة: ـ اللهم طالما سألتُك أن تفرغني لعبادتك.. اللهم وقد فعلت، فلك الحمد.. طلع الفجر.. وفُتحت باب الزنزانة ليُزجّ فيها رجل عيناه تبرقان.. لا تستقران في محجريهما لحظة واحدة. ليس هناك من شك في أن الرجل كان جاسوساً.. يشبه ( عيناً ) زجاجية مفتوحة ببرود لالتقاط ما يهمّ ( السلطان ). مكث موسى في حبسه فصولاً أربعة.. اشتعلت فيها ثورات وثورات.. ثورة في سجستان، وثورة في الأندلس.. وحروب في الشام، وثورة في العراق، واشتعلت ثورة يحيى في ذرى جبال الدَّيْلم. آلاف الجنود يتدفقون صوب الجبال لإخماد النار في الجبل، و ( الكلاب ) تتشمم رائحة الثائر العلوي وتقتفي آثاره. رجل مربوع أسمر حلو السمرة حسَن الوجه.. تُعرف سلالة الأنبياء في وجهه.. يروي الحديث عن الصادق.. وقد تربّى في بيته ونشأ. ( الفضل ) قائد الجيش العباسي يعرف كيف يقهر يحيى.. معه آلاف الجنود وآلاف الدنانير والدراهم.. الذهب ذلك الجيش السرّيّ الذي لا يُقهَر. لقد قهر أبوه إدريسَ شقيق يحيى.. مات وهو يستنشق قارورة طيب.. ولكنّ الفضل حمل معه بدار الذهب ليُخمد ببريقه لهيب الثورة. ودارت المعركة.. معركة عجيبة ليس فيها سيف ولا رمح، ولم يصهل فيها حصان.. ولم يرمح فيها فارس.. الفضل(32) من جبال الطالقان.. يقاتل يحيى في ذرى جبال الديلم.. الفضل البرمكي يلعب هذه المرّة بالشطرنج.. لعبةً يجهلها يحيى تماماً. الفضل يحرّك بيادقه.. ويلوّح بسيف من ذهب يكاد سنا برقه يذهب بالألباب.. مليون درهم يصل إلى زعيم قبائل الديلم هديّةً من كنوز هارون، خبا بريق الثورة في عينيه.. وهو يسجد لعجلٍ من ذهب ولْيذهب يحيى إلى حتفه وحيداً، ليلْقَ مصيره الغامض حتّى لو كان يحيى بن زكريا. وتلفّت يحيى حواليه فلم يجد ممّن هبّ للثورة سوى سبعين نصيراً.. لقد فرّت الألوف، وتبخّرت السيوف.. ومن فوق ذرى جبال الديلم، وفيما كانت الغابات الكثيفة تستقبل غيث السماء.. كان الرجل الذي تربّى في ظلال الصادق يتجه نحو السماء لتنساب كلماته مخاطباً مَن خلقه حرّاً: ـ إلهي، أشكر لك إخافتي قلوبَ الظالمين.. الهي، إن تقضِ لنا النصرَ عليهم.. فإنما نريد إعزاز دِينك، وإن تقضِ لهم النصر.. فيما تختار لأوليائك وأبناء أوليائك من كريم المآب وحسن الثواب. سوف يبقى الجبل عنواناً للحرّية ورمزاً للتحدّي.. وربّما عاد الفارّون ذات يوم.. ربّما يكتشفون خدعة الذهب لعلّهم لم يذوقوا بعدُ مرارةَ الظلم.. وإذا ما جبن الآباء فقد يهبّ الأبناء للثورة.. ويغسلون عن نفوسهم ما اقترف آباؤهم من قبل.. آه يا إدريس! ليتك تدري ما يقاسي أخوك.. وسط الجبال وفي أعماق الغابات.. لقد وفت الصحراء للميثاق وظلّت كما خلقها الله.. مكشوفةً.. واسعةً طاهرة.. تلتقي دائماً بالسماء.. وتعلّم أبناءها الصفاء.. أمّا أخوك يا إدريس، فقد بِيع إلى هارون بثمن بخس دراهمَ معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. كان يحيى يحدّق في رسالة جاءته من الفضل.. دعوة للسلام والأمن.. ليغمد يحيى سيفه.. وليحيى ما شاء من الشروط.. وكتب يحيى: إنّا قد أغمدنا سيوفنا على أن نكون آمنين.. ولْيُمضِ ذلك هارون.. ولْيشهدْ عليه المؤمنون. ودّع يحيى أصحابه السبعين.. تفرّقوا في الغابات والوديان، وسلّم يحيى نفسه إلى الفضل.. وهكذا انطفأت الثورة.. الطريق إلى بغداد. طريق إلى الموت.. إلى القهر. شعر يحيى أنه يكاد يختنق.. إن الهواء في الجبل أنقى.. والحياة في عمق الغابات أصفى.. آه يا إدريس!! سوف يموت أخوك كمداً.. بدت بغداد ذلك اليوم حسناء قد خرجت في يوم الزينة.. الأهالي يرتدون أجمل الحلل.. ثياب ملوّنة ومزركشة.. والأسواق تغصّ بالناس.. لقد حلّ عيد النيروز! تضاعفت فرحة الفضل وهو يدخل بغداد ظافراً.. جاء يحمل معه أعظم الغنائم.. زعيم ثورةٍ هزّت جبال الديلم والطالقان وهزّت عرش هارون.. يحيى تُحدق به سيوف ورماح.. يقترب من الجسر.. وقد تألقت مياه دجلة.. الجسر ينوء بالعابرين.. وقد اصطفّوا يتطلعون إلى موكب الوزير.. وكان هناك قرّاد يرقّص قرّاد، ويُضحك مَن عنده.. وقف موسى عليه السّلام يرتدي ثياباً مزّقتها النوائب والأيام.. لا أحد يدري لماذا هتف بصوت مبحوح: ـ اعتبروا يا ذوي العقول بمن عاد يهرب من دائه بعد الاستنارة برأيه.. ويصفَّد في السلاسل بعدما كان يفوق كل باسل.. خفق قلب يحيى.. وأوجس في نفسه خِيفة.. وأدرك أنه يعبر جسراً يفصل بين عالمين.. وأنه لم يعد حرّاً بعد اليوم.. سوف يُحصون عليه حتّى أنفاسه.. كلّ شيء بدا غريباً في عينَي يحيى.. إنه وحيدٌ الآن.. امتلأت عيناه دموعاً وهو يسلّم سيفه إلى حرّاس القصر. هارون يفيض حيوية.. وجهه يطفح سروراً بهدايا النيروز.. كل الوجوه كانت تطفح بالفرح.. الاّ وجه يحيى.. لماذا هذا الحزن يا يحيى ؟! ألأنّك أصبحت وحيداً ؟.. هل اشتقت إلى الجبل ؟ أم تراك شعرت بموت أخيك.. وقد استنشق قارورة الموت ؟! هبّ هارون وهو يري يحيى.. وأخيراً استسلم يحيى.. هذا هو خصمه الذي سلبه حلاوة النوم عاماً كاملاً.. صعّد هارون نظره.. وهمس في نفسه: لولا أُلقي عليه أساورُ من ذهب.. أيمكن حقّاً أن تغلب جبّة الصوف هذه حلّته السوداء المخيفة.. تُرى بمَ يفوقه يحيى ؟! ألقى هارون نظرة تَشَفٍّ وهتف في أعماقه: أنا أكثر منه مالاً وأعزّ نَفَرا.
24- السجن.. المحراب
جلس عيسى بن جعفر حاكم البصرة يصغي إلى آخر الأخبار في خليج البصرة.. لصوص البحر ما يزالون يهاجمون السفن المبحرة باتّجاه الهند.. وربّما هاجموا السواحل أيضا(33).. لم يعد السكوت ممكناً أكثر من ذلك.. بدا عيسى ساهماً فقد كان يفكر في شيء أقلقه.. رسالة هارون وفيها: أن آقتُل موسى ولْيَدعُ ربَّه.. منذ الصباح وهو يفكر ماذا يفعل ؟ نهض الأمير آخذاً طريقه صوب السجن، مضى الثلُث الأول من الليل.. أصبح الهواء لطيفاً، خفّت رطوبته قليلاً، فارقه شعوره بالضيق. الصمت يهيمن داخل السجن ما خلا خطى الحارس الذي يرافقه.. توقّف أمام الزنزانة، ألقى نظرة من خلال كوّة صغيرة كانت هناك شمعة تلفظ أنفاسها الأخيرة وعلى ضوئها رأى ثوباً مطروحاً ورأى رجلاً ينظر إليه يحدّق فيه.. تساءل الأمير وقد افتقد موسى: ـ ولكن أين موسى ؟! ـ ذاك يا مولاي ؟ ـ هذا ثوب مطروح! ـ هو موسى يا مولاي.. وله سجدة طويلة.. وقد كنتُ أحسبه نائماً.. ولكنّي أراه يقوم للصلاة مِن غير أن يجدّد وضوءً! ـ أما إنه من رهبان بني هاشم!! سكت هنيهة وأردف آمراً: ـ أُدعُ ليَ الرجل.. فتح الحارس القفل وأشار إلى الرجل البصريّ بالخروج.. نهض الرجل بشيء من الفتور.. غادر الزنزانة وهو يتأمل ثوباً مطروحاً!! أُغلقتْ الباب وما يزال الثوب مطروحاً.. نظر الأمير إلى الرجل البصري، قال الحاكم مستفسراً: ـ ما لك لا تتكلّم ؟! ـ وما عساني أن أقول أيها الأمير ؟! إنّني لم أرَ له نظيراً في عبادته وتهجّده.. يصوم النهار كلّه ويُحيي الليل كلّه إلاّ قليلاً.. ولم أره مرّة واحدة يتضجّر فيها من السجن.. بل إنني سمعته يشكر الله على أن فرّغه للعبادة والصلاة!! قال الأمير وهو يحاول البحث عن مبرّر لتنفيذ أمر هارون: ـ أما سمعتَه يشتم ( الخليفة ) أو يشتمني ؟ ـ أبداً. ـ والدعاء.. أما سمعته يدعو على أحد ؟ ـ أبداً.. إنه يدعو لنفسه ولغيره بالمغفرة. قال الحاكم وهو يحدّق في وجه الرجل البصري وقد اختفت ملامح الجاسوس تماماً: ـ ما لك تختنق بصوتك ؟! ـ والله يا سيدي لقد بهرني بعبادته.. إنه ليبكي من خشية الله حتّى تخضلّ لحيته.. أمّا إذا قرأ القرآن قرأه بحزن.. لكأنه يخاطب إنساناً!!(34) سكت البصري قليلاً وأردف وهو يتذكر شيئاً: ـ هذا أوان تلاوته! خيّم صمت مهيب حتّى لم يعد أحد يسمع شيئاً سوى أنفاسٍ متقطعة.. مرّت اللحظات هادئة كنهر يجري بسلام.. لكأن المكان يستمدّ سكينته من أعماق رجل مدنيّ سجين.. تناهى إلى أسماع الثلاثة صوت شجي.. صوت فيه نشيج الميازيب في مواسم المطر: ـ (إنّ قارونَ كان من قومِ موسى فبغى عليهم، وآتيناهُ مِن الكنوزِ ما إنّ مفاتحَهَ لَتنوءُ بالعُصبةِ أُولي القوّةِ إذ قالَ له قومُه: لا تفرحْ إنّ اللهَ لا يحبُّ الفرِحِين * وابتغِ في ما آتاك اللهُ الدارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبَك من الدنيا.. وأحسِنْ كما أحسَنَ اللهُ إليك ولا تبغِ الفسادَ في الأرض إنّ اللهَ لا يُحبُّ المُفسدين * قال: إنّما أُوتيتُه على علمٍ عندي، أوَلم يعلمْ أنّ اللهَ قد أهلكَ مِن قَبلهِ مِن القرونِ مَن هُوَ أشدُّ منه قوّةً وأكثرُ جمعاً ولا يُسألُ عن ذُنوبِهمُ المجرمون * فخرج على قومه في زينته، قال الذين يُريدون الحياةَ الدنيا: ياليتَ لنا مثلَ ما أُوتيَ قارونُ إنّه لَذو حظٍّ عظيم!* وقال الذين أُوتوا العلمَ: وَيْلَكم! ثوابُ الله خيرٌ لمَن آمنَ وعمِلَ صالحاً ولا يُلقّاها إلاّ الصابرون * فخسَفْنا به وبدارِه الأرضَ فما كان له مِن فئةٍ ينصُرونَه مِن دونِ اللهِ وما كان من المُنتصِرين * وأصبح الذين تمنَّوا مكانَه بالأمس يقولون: وَيْ! كأنّ اللهَ يَبْسُطُ الرزقَ لمَن يشاءُ مِن عبادِه ويَقْدِرُ لولا أن مَنّ اللهُ علينا لَخسَفَ بنا.. وَيْ! كأنّه لا يُفلح الكافرون * تلك الدارُ الآخرةُ نَجعلُها للذين لا يُريدونَ عُلُوّاً في الأرضِ ولا فساداً والعاقبةُ للمتّقين) (35). تبادل الثلاثة في ضوء المشاعل نظراتٍ ذاتَ معنى.. وهمّ البصريُّ بالعودة إلى الزنزانة فاعترضه الحاكم: ـ إلى أين ؟ ـ إلى مكاني. ـ لقد انتهت مهمّتك. ـ اذن دعْني هذه الليلة فقط. ـ عجباً لك! لقد جئنا بك جاسوساً عليه.. أتراك نسيتَ ذلك ؟! تمتم البصريّ بلهجة لا عهد له بها: ـ إن الله يفعل ما يشاء. هزّ الأمير كتفَيه كمَنْ يَعجز عن حلّ لعزٍ، والتفت إلى الحارس: ـ ليبقَ هذه الليلة فقط. ـ سمعاً وطاعة للأمير. فُتحت باب الزنزانة ثم أُغلقت.. وولج البصريّ ليتّخذ مكانه.. وجلس كما يجلس العابد في محرابه.. فيما غادر الأمير السجن.. وكان وقع خطاه يتضاءل شيئاً فشيئاً حتّى اختفى.. شعر البصريّ بأن عاصفة من النور تهبّ على قلبه.. وأنّ هناك هيكلاً صخرياً يتهافت في أعماقه.. لكأنه يُصغي إلى دويّ الانهيار وتراكم الأنقاض.. إنه يُولَد من جديد.. يولد إنساناً آخراً.. إنساناً ينفتح قلبه على عالم يزخر بالنور.. والحبّ والسلام.. طلع الفجر وآن للبصريّ أن يودّع النور الذي ساقه القدر إليه.. ومدّ موسى يده ليصافحه.. شعر البصريّ أنّ يدَيه ترتعشان وهما تحتضنانِ كفّ موسى.. انعقد لسانه لحظات.. وقد غمره شعور بالسكينة.. إنّ عينَيه تتفتحان على الكون كلّه.. وإن روحه تحلّق في سماوات لا نهاية لها.. وإنه يستحمّ تحت رشّاش النور.. يستحمّ ليتطهّر من كلّ الأدران.. وإنّ الشيء السماويّ الذي أحسّ به ينتشر في كلّ كيانه. ومضى البصريّ إلى قصر الحاكم ليستأذن الأمير بعد أن انتهت مهمته.. كان الأمير واقفاً في شُرفة القصر، قال له: ـ أتحبّ أن تقوم بمهمّة أخرى ؟ نظر البصري متوسّلاً: ـ إعفني أيّها الأمير. اتجه الأمير إلى كرسيّه.. واختطف رسالة كان قد سطّرها قبل لحظات: ـ لا تخشَ شيئاً.. تحمل كتابي إلى ( الخليفة ).. وفيه: إني سأخلّي سبيلَ موسى. ومضت عينا البصري بالأمل.. سوف يطوي المسافات من أجل أن يحطّم السلاسل والقيود.. ليعود الرجل المدنيّ إلى أهله.. وتنتهي ليالي الغربة والسجن والعذاب..
25- الغدر
هارون مع حاجبه ومسرور يتمشَّون خلال أشجار البرتقال التي تلتفّ حول بُحيرة صغيرة.. وقد تألقت مياهها الصافية تحت ضوء الصباح.. بدا هارون متوتّراً وقد بذل جهداً جبّاراً في إخفاء مشاعره.. قال الفضل بن الربيع(36) وهو يكيد لسَميّه الوزير الفارسي: ـ أجل يا أمير المؤمنين.. أنا متأكد من ذلك. توقّفوا في ظلال شجرة برتقال.. وقد بدت ثمارها الناضجة وسط الخضرة الطاغية شموساً صغيرة.. أردف الحاجب وهو يخفت صوته: ـ لقد ذهب إلى الحج.. وزوّده بالمال. من بعيد بدا الفضل بن يحيى يتهادى في مشيته. التفت هارون إلى حاجبه: ـ إنصرف.. برقت عينا ابن الربيع وهو يبتسم ابتسامة فيها مكر وخبث. أحنى الوزير رأسه ( للخليفة ).. ولم ينس أن يحيِّيه، مذكّراً أياه بأخوّة(37) صنعها اللبن: ـ السلام على أخي أمير المؤمنين. كان هارون ما يزال واجماً.. أوجس الفضل في نفسه خيفة وخُيّل إليه أنه رأى الحاجب يمرق بين الأشجار.. هتف في أعماقه بغيظ: ـ متى يكفّ هذا العربي عن دسائسه ؟! سار هارون ووزيره وخلفهما مسرور؛ سيفه في عاتقه يشبه ثعباناً غافياً.. رمق هارون وزيره وقال بلهجة تبدو عاديّة تماماً. ـ ما أخبار يحيى ؟ ـ مكبَّل في الأغلال. ـ وحياتي ؟ أدرك الفضل أنّ هارون يعرف كل شيء، فقال بلهجة فيها توسّل: ـ وحياتِك إنّي أطلقْتُه.. سألَني برَحِمه من رسول الله فرققت.. ولقد أخذت عليه الميثاق أن.. قال هارون مقاطعاً: ـ حسناً فعلت.. لقد كان في عزمي أن أُخلّي سبيله. وقعت عينا هارون على برتقالة ناضجة فهتف متضاحكاً: ـ لقد اشتيهتُ هذه الثمرة! نظر الفضل، كانت بعيدة عن متناول اليد، قال مبتسماً: ـ ليس إلى اقتطافها من سبيل. التفتَ هارون إلى سيّافه: ـ ما رأيك يا مسرور ؟ صوّب مسرور نظرات قاسية، رمق البرتقالة بنظرات مشتعلة. كانت الثمرة تتدلّى من غصن ممتلئ.. تقدّم نحو الجذع، استلّ سيفه، ووقف وقفة الجلاّد ثم أهوى بسيفه إلى أسفل الجذع.. نشب السيف إلى نصفها.. ثمّ ركل أعلاه، فهَوَت الشجرة عند قدمَي هارون.. كحوريّةٍ شهيدة. وأمسك هارون بالبرتقالة وانتزعها بعنف.. شقّها نصفين، رمى نصفها إلى مسرور.. والتهم النصف الآخر، فيما ظلّ الوزير ينظر مبهوتاً.. قال هارون: ـ وإذن، لقد كان هناك من سبيل لاقتطاف الثمار. قال هارون دون مقدّمة: ـ ولكنْ هناك مَن يقول أنّ يحيى ينوي الثورة! ـ مَن هو ؟! ـ عبدالله بن مصعب بن الزبير. ـ أتصدّق هذا يا أمير المؤمنين ؟! سوف يعود يحيى ونجمع بينهما. ـ وما أدراك أنه سيعود.. لقد فرّ يحيى أيها الوزير. ـ سيعود يا أمير المؤمنين، لقد عاهدني على ذلك.. سكت هنيهةً وأردف: ـ أنا أعرف يحيى.. سيعود ولا شكّ. كعادته في كل ما يحيط حوله.. انتابته الهواجس.. لعلّ هناك اتفاقاً بين يحيى والفضل.. إنّ بني برمك يطمحون للمزيد من النفوذ.. ليس هناك حدّ لطموحاتهم.. ويحيى أفضل جسر لذلك. كان هارون لا يصدّق في قرارة نفسه ادّعاءات حفيد الزبير، إنّه يعرف ما ينطوي عليه من أحقاد دفينة.. ولكن ليس هناك من مفرّ لتصديق كلّ شيء من أجل التخلّص من يحيى. إن في قرارة الطاغية رعباً.. رعباً يتحوّل إلى قسوة لا نهاية لها..
* * *
انطوى موسم الحج وعاد يحيى.. وقد تشرّبت روحه التوحيد.. عاد مترعاً بالإيمان.. وأضحت الدنيا في عينَيه ـ كما عهدها من قبلُ ـ لهواً ولعباً وزينة وتفاخراً.. وما من شيء يمكنه أن يساوي الحرّية.. عاد يحيى وقد حاكت العناكب شباكها، عاد ليجد الأبواب قد أُغلقت دونه إلاّ بابَ ( المطبق ). قال هارون وهو يحدّق في وجهٍ لوّحتْه شمس مكة: ـ أيُّنا أحسن وجهاً يا يحيى.. أنا أم أنت ؟ نظر يحيى إلى وجه هارون.. وجهه الأبيض تموج فيه العافية.. بياض يشف عن حمرة خفيفة، قال بصوت خافت: ـ بل أنت يا أمير المؤمنين.. إنك لأنصع لوناً وأحسن وجهاً. قال هارون مغترّاً: ـ فأيّنا أكرم وأسخى: أنا أم أنت ؟ ما لِهذا المغرور.. الأحمق.. الذي يملك خزائن الأرض، ويخاطب الغيوم: أين ما تمطرين فخَراجك إليّ! أجاب يحيى ممتعضاَ: ـ وما هذا يا أمير المؤمنين ؟! وما تسألني عنه ؟! أنت تُجبى إليك خزائن الأرض وكنوزها.. أمّا أنا فاتمحّل من سنة إلى سنة. أطرق هارون وقد شعر بالخزي، ثمّ قال وقد تخفّى الشيطان في أعماقه: ـ أيّنا أقرب إلى رسول الله.. أنا أم أنت ؟! ـ لقد أجبتك عن خطّتَين، فاعفني من هذه. ـ كلاّ.. لابدّ من ذلك. سأل يحيى: ـ لو عاش رسول الله وخطب إليك ابنتك، أكنتَ تزوّجه ؟ ـ إي والله. ـ فإن خطب منّي ابنتي: أكان يحلّ لي أن أُزوّجه ؟ ـ لا. وهنا هتف يحيى: ـ هذا جواب ما سألت. شعر هارون أنّ سكيناً تغوص في قلبه.. إنّ يحيى يتحدّث كما يتحدّث موسى.. وكيف لا وقد ترّبيا معاً في حضن واحد.. صرخ هارون: ـ إجلدوه! انهالت السياط بقسوة.. كان الجسد الآدميّ يتأوّه بألمٍ السياط تُلهب الجلد وتحرق اللحم.. هارون يراقب ـ متلذّذاً ـ يحيى وهو يتلوّى.. السياط ما تزال تنهال بقسوة .. صاح يحيى مستنجداً ببقايا الإنسان: ـ اللهَ والرَّحِم.. الله والقرابة. لقد مات الإنسان في أعماق هارون: ـ ليست بيني وبينك قرابة. ـ وعهد الأمان يا هارون ؟! هتف هارون جذلاً: ـ لقد مزّقه القاضي.. إنه عهدٌ باطل.. تذكّر يحيى كيف أقدم وهب القاضي على تمزيق العهد من أجل حفنة من الدراهم.. تذكّر كيف بصق فيه ومزّقه، وعندها أدرك يحيى أنّه سيُقتل.. التفت هارون إلى جلاوزته: ـ كم أجريتم عليه ؟ قال سجّان غليظ: ـ أربعة أرغفة وثمانية أرطال من الماء.. ـ اجعلوه على النصف.. غادر هارون ساحة السجن، وكانت النجوم تسطع في السماء. تمنّى يحيى وهو يحدّق في النجوم.. لو أنه كان في سفوح جبال الديلم يقاتل.. إنّه لم يسلّم نفسه حبّاً بالحياة.. كانت حربه خاسرة ولم يُرِدْ أن يجازف بحياة الآخرين.. من أجل هذا جاء إلى بغداد..
26- صورتان في الليل
بدأت ليلة العذاب الثانية.. وها هو يحيى يقاسي الجوع.. المَعدة الخاوية، والسياط القاسية فجّرت كلّ كوامن الألم في جسده الذاوي.. السياط تنهال برتابة، وهارون يراقب بصمت حفلة التعذيب.. إن مئة سوط تكفي لتحطيم الجسد البشري.. ولكن الروح ما تزال تتشبث من أجل استمرار الصراع. سأل هارون جلوازاً يقف قريباً منه: ـ كم أجريتم عليه ؟ ـ كما أمرتَ يا مولاي.. رغيفين وأربعة أرطال ماء. هتف هارون بقسوة: ـ اجعلوه على النصف. لم يعد يحيى يميّز ما حوله من المرئيّات.. ولم يعد يسمع من الأصوات.. سوى كلمات لا معنى لها.. وحدها خطى السجّانين كان يعيها.. إذا ما اقتربت منه أو ابتعدت.. بدأت ليلة العذاب الثالثة.. كان يحيى قد أضحى مجرّد شبح لإنسان.. إنّ روحه على وشك الرحيل.. قال جلواز لهارون: ـ إنه مريض يا مولاي.. ـ كم أجريتم عليه ؟ ـ رغيفاً ورطلين من الماء. ـ اجعلوه على النصف.. غدا يحيى مجرّد حطام بشريّ، غارت عيناه.. أصبح لسانه خشبة محترقة.. حلّت الليلة الرابعة.. جاء رجال غلاظ يتقدّمهم ( مسرور )؛ إن رؤية مسرور تعني النهاية.. أدرك السجّانون أن رأس السجين سيسقط. لفّ الرجال يحيى في ملاءة وحملوه إلى خارج ( المطبق )، مجموعة خيول وقفت تنتظر في ظلمة الليل.. لم يعد يحيى سوى أنسام تتردد بصعوبة.. أنفاس بعدد لحظات العمر الذي وصل نهايته.. انطلقت الخيول صوب ( الرافقة )(38).. هارون يبني عاصمة جديدة على ضفاف الفرات.. كما بنى جدّه من قبلُ عاصمةً على ضفاف دجلة.. الليل ظلمات يتراكم بعضها فوق بعض.. وقد بدت المدينة التي لم تكتمل بعدُ أشباحاً لكائنات خرافية.. مجموعة من عمّال البناء كانوا يتحلّقون حول أُسطوانة.. كغربان جاثمة حول ضحيّة لم تلفظ أنفاسها بعد.. حمل الرجال الغلاظ إنساناً محطَّماً.. أنفاسه هادئة منتظمة.. بدا يحيى مستسلِماً لنهايته.. أدرج الإنسان داخل الأسطوانة.. وبادر عمّال البناء إلى عملهم. كانت سافات الآجر ترتفع شيئاً فشيئاً وقد اختفت النجوم.. حجبها الآجر.. لم يعد هناك من ثقب يمكن للنسيم أن يزوره.. مرّت اللحظات ثقيلة.. الهواء ينفد شيئاً فشيئاً.. ضاق صدره.. شعر رغم تحطّم جسده أنه يختنق، مدّ يديه هنا وهناك.. كانتا تصطدمان بجدران قاسية.. إنه يريد أن يملأ صدره بالهواء، ولكنّه يختنق كما لو يغوص في أعماق سحيقة بلا قرار.. الذكريات تتدفّق في خياله كنهر صاخب.. مراتع الصبا.. الصحراء الواسعة.. الأحبّة والديار.. قمم الجبال المكلّلة بالثلوج.. نسائم الربيع في غابات الديلم.. كفّ عن تدفّقه.. لقد ارتطم بصخرة عملاقة.. صخرة لها شكل هارون.. بعينيه البرّاقتين كعينَي نسر.. إن الضحية لا تعرف شيئاً أكثر قسوة من الجلاّد.. إنه يعني انعدام الرحمة.. انتحار الإنسانية.. تُرى ماذا يفعل هارون في تلك اللحظات.. اللحظات التي يلفظ فيها يحيى أنفاسه الأخيرة في أُسطوانة مظلمة بمدينة الرافقة ؟! لعلّه الآن.. يعانق حسناء فارسية أو روميّة.. ربّما يكرع كؤوس الخمرة منتشياً.. وقد يصغي إلى أنغام الغناء تصدح بها أخته (عليّة) أو مغنّيه الموصليّ.. أو لعلّه الآن مسترخٍ في زورقه المذهّب ينساب في مياه دجلة.. توقف قلب يحيى وساد سكون رهيب فضاءَ الأسطوانة المخنوق.. عالم ليس فيه هواء ولا نجوم ولا قمر.. هكذا تنطفئ حياة الإنسان مثل شمعة تخبو فجأة لا يشعر بها أحد.. بغداد غارقة في منتصف الليل.. وزورق مزركش بالذهب ينساب فوق مياه دجلة آخذاً سمته صوب ( الشماسية ) حيث ينهض قصر جعفر البرمكيّ وزير هارون الجديد.. بدا القصر وقد غمرته أنوار المشاعل والقناديل صَدَفةً انتشلها الجنّ ليُبهروا بها الإنس(39).. ولج هارون القصر المغمور بالنور وروائح العطور.. جعفر يرتدي حُلّة المساء.. يرفل بالحرير والديباج.. وفتيات حسان يخطرن في أروقة القصر.. اتخذ ( الخليفة ) مكانه فوق سرير وثير.. جعفر يعرف كيف يُدخل السرور على سيّده.. الطعام أولاً ثمّ الشراب، وبعدها يأتي الغناء.. جاءت أربع فتيات يحملن مائدة ملوّنة فيها ما لذّ وطاب.. من الشواء.. سماني وقطا وحمام.. وفيها لوزينج وفالوذج.. صنعتها أيدٍ فارسية ماهرة.. تهلّل وجه هارون بهجةً وهو يرى اصطفاف الآنية.. آنية لم يرها حتّى في قصره.. وكانت نسائم العطر تملأ أنفه كلّما خطرت حسناء أمامه.. دارت أقداح الراح.. وحلّقت النفوس المسحورة بالفتنة في عوالم يصنعها الخيال.. وخُيّل لهارون أنّه في الجنّة.. التفت إلى وزيره قائلاً: ـ الشراب بلا سماع، يورث الصداع.. صفّق جعفر بيدَيه.. فجاء خادم يحمل كرسياً من عاج، مطعّم بذهب وهّاج.. وجاءت خلفه ( فوز ) بقدّها الجميل ووجهها المنير.. جلست ( فوز ) في مكانها وضعت عوداً هندياً في حجرها وانحنت عليه برقّة كما لو أنها تريد أن ترضع طفلاً وديعاً.. وانساب الصوت الإنساني ممتزجاً مع الموسيقى ليحلّق هارون في عوالم مترعة بلذائذ الجسد.. وفي تلك اللحظات ندّت عن يحيى آهةُ ألم أخيرة ليغفو بعدها جسداً بلا روح..
27- الحقّ والباطل
إنّ في أعماق الطاغية رعباً، إنه يجمح نحو حياة بُوْهيمية مستغرقاً في لذائذ لا نهاية لها.. مآدب وفتيات جميلات، وكؤوس مترعة بالخمرة.. ولكن هناك من يقف بوجهه ليقول: لا. من أجل هذا كان هارون يعيش في دوّامة من مخاوف يصنعها بنفسه. إنه الخواء الذي جعل من النفس الفقيرة طاغية. تُرى أي رعب دفع هارون إلى حمل موسى من البصرة إلى بغداد مُثقَلاً بالأغلال ؟! إن شهوراً طويلة من العذاب والقهر قد غيّرت ولا شك من موسى.. سوف يبدو أقلّ تحدّياً.. ولعلّه سيكون ليّن الجانب في بغداد.. حيث يمكن لهارون أن يُبهره بمُلكه العريض، بقصوره المشيّدة. وصل موسى بغداد على حين غفلة من أهلها، وتعمّد هارون أن يستقبل غريمه خارج قصره المنيف.. اصطفّ الجُند على جانبَي الطريق المؤديّة إلى القصر، ووقف هارون فوق رخامة الباب، فبدا بطوله الفارع وحلّته السوداء فرعوناً يكاد أن يقول: ـ يا أيها الملأ ما علمتُ لكم من إله غيري.. هيمن صمت مهيب ما خلا كلبة هارون المدلّلة(40)؛ تتمسّح عند قدميه، وخشخشة الحُلِيّ الذهبية تُوقظ في النفوس عجلاً أحرقه موسى بن عمران وذرّ رماده في البحر. وجاء موسى بن جعفر عليه السّلام ينوء بثقل الحديد.. ما تزال عيناه تتألقان بنور عجيب، هناك في أعماق هذا الرجل الأسمر عالَم مفعم بالسلام المطلق.. فهذا الرجل المدني يحمل ميراث النبوّات الغابرة.. تعمّد هارون أن يقف موسى في ظلال القصر المنيف يريد أن يقول له: انظر يا موسى إلى ملكي العريض.. إلى مملكتي الواسعة.. إلى جنودي.. وقد وقفوا كما لو أنّ على رؤوسهم الطير.. وقفوا خاشعين أمامي.. إن كلمة واحدة مني تجعلهم كالذئاب، سوف يمزقونك إرْباً إربا.. انظر يا موسى إلى مياه دجلة كيف تتدفق تحت قدمَيّ.. انظر يا موسى إلى قصوري.. إلى هذه النقوش.. إلى هذه الزخارف.. أمّا أنت فلا تملك شيئاً. إنّ بناتك جميعاً يا موسى ولا ريب لا يملكن عُشر ما تملكه كلبتي من الذهب. قال هارون لموسى: ـ ما هذه الدار ؟ ان موسى يخترق جدران الزمن الصدئة، إنّه لا يرى سوى قصور غارقه في الماء والطين.. لا يرى سوى خرائب تنعق فيها البُوم.. قال موسى وهو يحطّم غرور قارون: ـ هذه دار الفاسقين.. ( سأصرِفُ عن آياتيَ الذين يتكبّرون في الأرضِ بغيرِ الحقّ، وإن يَرَوا كلَّ آيةٍ لا يؤمنوا بها، وإن يَرَوا سبيلَ الرُّشْدِ لا يتّخذوه سبيلاً، وإن يَرَوا سبيلَ الغَيِّ يتّخذوه سبيلاً ).. تساءل هارون ليتأكد من ( حدود فدك ): ـ دارُ مَن هي ؟ قال موسى وهو ينظر إلى سُنن التاريخ: ـ هي لشيعتنا فترة، ولغيرهم فتنة. ـ ما بال صاحب الدار لا يأخذها ؟ ـ أُخذت منه عامرة، ولا يأخذها إلاّ معمورة. حدّق هارون في موسى.. إنّه وحيد.. مثقل بالأغلال والسلاسل والقيود.. ـ أين شيعتك يا موسى ؟ ـ إنّهم في رَحِم الأيّام.. في زمن لم يُولد بعد. تمتم الرجل الذي يحمل ميراث النبوّات بصوت شجيّ: ـ ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مُنفكّين حتّى تأتيَهمُ البيّنة ). عربد الشيطان في أعماق من آتاه الله الكنوز: ـ أنحن كفّار ؟! أجاب موسى بوقار سماويّ: ـ لا، ولكن كما قال الله تعالى: ( الذين بدّلُوا نعمةَ الله كُفراً وأحلُّوا قومَهم دارَ البَوار ). استيقظ الرعب في أعماق الطاغية.. الرعب الذي يحيل كلَّ شيء أخضرَ إل هشيم تَذْروه الريح.. هتف الفرعون الكامن في الأعماق: أنا أعرف كيف أقهرك يا موسى.. بغداد تختلف عن كل المدن.. إنها ليست المدينة ولا البصرة ولا حتّى الكوفة.. إنها مدينة لا ترحم.. مدينة تنام في النهار وتستيقظ في الليل.. مدينة يموت فيها الفقراء.. ويصدح فيها الغناء، فيكون أصحابه أغنياء.. صرخ هارون: ـ أيها الحاجب. وامتثل الفضل بن الربيع.. إنه رهن الإشارة.. من أجل الوصول إلى الوزارة.. أشار الحاجب إلى قائد الشرطة باقتياد السجين إلى قصره.. إنه سجين خطير.. في وجوده خطر على النظام كلّه.. إنه يهدّد كل قصورهم المشيّدة بالزوال.. إنه صرخة حقّ في عالم الأباطيل.. إنّ ( المطبق ) لا يحتمل وجود رجل خطير مثله.. تجمّعت سحب رماديّة في السماء، وبدا الفضاء حزيناً.. فقد غابت الشمس خلف ركام الغيوم.. وضيّعت الأشياء ظلالها، فبدت باهتةً لا معنى لها. وفي ذلك العام أصدر هارون الرشيد مرسوماً قضى فيه بحلّ الجيش الخراسانيّ المؤلَّف من نصف مليون جندي.. وفي ذلك العام ضربت الزلازل شرق المتوسط فتهاوت منارة الإسكندرية(41) وثارت أمواج البحر.. وفي ذلك العام بدأ فصل مثير من صراع مرير.. بين دنيا عريضة، ودين عميق، صراع يشبه صراع أيّوب مع الشيطان، وصراع موسى مع قارون.
28- في الليل
منذ منتصف الليل، والسحب تتحشد في سماء بغداد.. الفضاء مشحون بصمت مهيب.. صمت ينتظر اصطكاك ركام الغيوم.. غرق القمر تماماً في لجّة السحب.. فجأة ظهر سوط سماويّ، أضاء الفضاء.. ودوّى رعد رهيب.. وتدفق المطر.. غزيراً.. رشّاش المياه الطاهرة ينبثق من سماء تنوء بالغيوم.. مخزونة بالبروق وبالرعود.. دجلة يجري كشأنه منذ آلاف السنين.. تتدافع أمواجه.. وتذوب فيه قطرات المطر. بدت بغداد قُبيل الفجر مدينة مهجورة، فيما كانت البروق تشتعل في السماء، والرعود تجلجل في فضاء لا نهائي. وهناك في قبو تحت الأرض في قصر على شطآن دجلة يقبع رجل أسمر قد برت جسدَه روح عظيمة.. لا شيء في القبو سوى قنديل صغير يتحشرج ضوؤه.. لا شيء سوى سلاسل وقيود.. هناك وفي ذلك الصمت المهيمن ينساب صوت شجي يرتّل كلمات لا تنتمي إلى حضارة الأرض، كنهر هادئ كانت الكلمات تنساب: ـ ( اللهُ يعلمُ ما تحملُ كلُّ أُنثى وما تَغيضُ الأرحامُ، وما تَزدادُ وكلُّ شيءٍ عندَه بمقدار* عالم الغيبِ والشهادةِ الكبيرُ المُتعال ). الله تلك الحقيقة المطلقة وسرّ الوجود، المطلق الذي لا تحدّه حدود.
( سواءٌ منكم مَن أسَرَّ القولَ ومَن جَهرَ به، ومَن هو مُستَخْفٍ بالليلِ وساربٌ بالنهار * له مُعقِّباتٌ مِن بين يدَيهِ ومِن خَلفِه يَحفَظُونه مِن أمرِ الله، إنّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بقومٍ حتّى يُغيِّروا ما بأنفسِهم؛ وإذا أرادَ اللهُ بقومٍ سُوءً فلا مَرَدَّ له، وما لَهم مِن دونهِ مِن وال ). الصوت الشجيّ ما يزال ينساب ممتزجاً مع نشيج الميازيب ورشاش المطر:
( هُوَ الذي يُريكمُ البرقَ خَوفاً وطَمعاً ويُنشئُ السَّحابَ الثِّقال ). الرعود ما تزال تُجلجل في الفضاء اللانهائي، والبروق ما تزال تشتعل، والمطر ما يزال ينهمر بغزارة:
( ويُسبّحُ الرَّعدُ بحَمدهِ والملائكةُ مِن خِيفتهِ، ويُرسلُ الصواعقَ فيُصيب بها مَن يشاء، وهم يُجادلون في الله، وهو شديدُ المِحال ). في ذلك الزمن المرّ.. وقد ذرّ الشيطان قرنيه يعربد ويدمّر، فتهتز القلوب، وترجف الأفئدة، وتستحيل الأشياء الراسخة إلى اهتزازات لا تعرف الثبات . في ذلك الزمن عاش موسى عليه السّلام.. رجل يحمل ميراث الأنبياء.. وكمَن يبحث عند ظله في يوم غائم، كان الإنسان يبحث عن ركن شديد، شيء يشدّ به قلبه.. في ذلك الزمن كان موسى عليه السّلام يقود سفينة نوح من أجل أن لا تغرق في الطوفان.. تساءل الإنسان الحائر: ـ الله.. ما معنى الله ؟ قال موسى: ـ الله الذي استولى على ما دقَّ وجلّ. تساءل الإنسان الحائر: ـ أكان يعلم الأشياء.. قبل خلق الاشياء.. أو بعد خلقها ؟ قال موسى: ـ لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء. ـ والارادة.. هل هي من الله أو من الخلق ؟ ـ الإرادة من الخلق: الضمير، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل. وأما من الله تعالى، فإرادته إحداثه لا غير، لأنّه لا يهمّ ولا يفكر، وهذه الصفات منفيّة عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون. ـ بلفظ!! يقول ؟ ـ بلا لفظ ولا نطق، ولا لسان ولا همّة ولا تفكّر. ـ إذن كيف ؟! ـ لا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له. ـ وجسمه وصورته ؟ قال موسى وهو يندك في أعظم الحقائق وأكبرها، بل الحقيقة الأحدية في عالم الأباطيل: ـ سبحان من ليس كمثله شيء.. لا جسم ولا صورة(42).. المطر ما يزال يتدفّق بغزارة، ودجلة تتدافع أمواجه.. وقد هجع الناس جميعاً.. الوزراء والفقراء، السجناء والسجّانون، وحده الله سبحانه لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم.. يسبّح الرعد بحمده والملائكة، وينشئ السحاب، ويرسل البروق.
29- إطلاق.. ولكنّه مشروط
هناك نور عجيب.. نور لا ينتمي إلى شمس أو قمر.. نور يتدفّق في أعماق الإنسان.. ومهما تكاثفت ظُلمة السجن في أعماق الأرض، فإنّها لا تستطيع أن تطفئ ذلك السراج الوهاج، أو توقف تدفق ذلك الشلاّل المضيء.. من أجل هذا قال يوسف قبل آلاف السنين: ربِّ، السجنُ أحبُّ إلي ممّا يَدعُونَني إليه. وعندما يقف الإنسان على لغز الكون، تتدفق ينابيع السلام في ذاته.. فتستحيل ظلمة السجن عند ذاك إلى نور.. والسلاسل والحديد إلى حرّية.. غير أن الروح وهي ما تزال في إهاب الجسد تتوجّع كلّما توجّع وتئنّ كلّما أنّ.. فالجسد مظهر الروح والمرآة التي تنعكس فيها أشعة الحياة.. وليس هناك ما هو آلم للنفس من السجن.. وليس هناك من تواصل مع الحقيقة المطلقة إلاّ أن يجثو الإنسان في حضرة الله.. ثمّة كفّانِ معروقتان تمتدان نحو السماء.. وعينان تفيضان الدمع شوقاً.. وقلب يغمره النور القادم من نبع النور.. وجه بشري فيه ضراعة وخشوع، ولسان يلهج إقراراً بمصدر كلّ الأشياء.. من أجل هذا وقف التاريخ ليسجّل تمتمات موسى في قلب الظلمات: ـ يا مخلِّص الشجرِ مِن بينِ رمل وطين! يا مخلِّص النار من بين الحديد والحجر! يا مخلِّص اللبن من بين فَرْث ودم! يا مخلِّص الولد من بين مَشيمة ورحِم! يا مخلِّص الروح من بين الأحشاء! خلّصْني من حبس هارون. وعندما يغفو الجسد الآدمي، تنطلق الروح بعيداً.. تتخلص من ثقل الأرض وتنفلت من أسار الطين.. وللروح مرابعها وعوالمها.. وكانت روح موسى مستعدّة للقاء الأنبياء.. قال محمّد صلّى الله عليه وآله وهو يرى ابنه مقهوراً: ـ حُبست مظلوماً.. يا موسى. ثمّ علّمه كيف يحطم جدران الظلام من حوله: ـ سأعلّمك كلمات تخلصك من الحبس.. قال موسى وروحه تعانق آخر الأنبياء: ـ فداك أبي وأمي، ما أقول ؟ شعر موسى أنّ روحه تتشرب كلمات جدّه وهو يقول: ـ يا سامعَ كلّ صوت! ويا سابقَ الفوت! ويا كاسيَ العظام لحماً وناشرَها بعد الموت. اسألك بأسمائك الحسنى. وباسمك العظيم الأعظم.. الأكبر.. المخزون.. المكنون. الذي لم يطّلع عليه أحد من المخلوقين. يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته أحد. يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا. ولا يُحصى عددا. فرّج عني. وتلقّى موسى من جدّه كلمات فأتمّهنّ. وفي تلك الليلة هبّ هارون من نومه مرعوباً.. استوى على فراشه الوثير، واستند إلى وسائد منسوجة من حرير.. وفي تلك الليلة استيقظ رئيس الشرطة على دقّات غليظة تصفع الباب.. أطلّ رئيس الشرطة بعينَين فزِعتَين متطلّعاً إلى خادم ( الخليفة ) الرهيب.. إنّ رؤية ( مسرور ) في منتصف الليل توقظ في المرء كلّ طبول الخوف. قال مسرور وقسمات وجهه ما تزال قاسية: ـ أجِبِ الخليفة. استكمل رئيس الشرطة ارتداء بدلته الرسمية، علّه يستمد من هيبتها عزماً يسعفه عند لقاء هارون. كان هارون في ذروة التحفّز، ولم تنفع وسائد الحرير ولا فراشه الوثير في تبديد التوتر العصبي الذي تجسّد في ملامح وجهه وفي عينيه المشتعلتين.. كان ساهماً يحدّق في نقطة ما على أرضية الحجرة المفروشة بالسّجاد الفارسي. ـ السلام على أمير المؤمنين! شعر رئيس الشرطة أن قلبه يدق في حنجرته، وأن هارون سيسمع ولا شك طبول الخوف وهي تقرع في صدره! مرّت ساعة حسبها الرجل حولاً كاملاً، وقد تضاءل حتّى أصبح كجرذ مذعور في حضور قط متوحش. قال هارون بعد لأْي: ـ أتدري لمَ طلبتُك في هذا الوقت ؟ بلع الرجل ريقه: ـ لا والله يا أمير المؤمنين! قال هارون وهو ينظر إلى حارس قرب الباب: ـ رأيت في منامي عبداً حبشياً في يده حربة.. كان يتوعّدني قائلاً: خلِّ عن موسى بن جعفر وإلاّ نحرتك بهذه الحربة.. انطلقْ يا عبدالله وأطلقه من السجن! شعر رئيس الشرطة بالثقة تعود إلى قلبه وتشيع في صدره، وقد هدأت تماماً طبول الخوف، نظر إلى هارون متفحصاً ربّما كان سكران؛ قال مستوثقاً: ـ أُطلق موسى بنَ جعفر ؟! ـ نعم. ـ أُطلق موسى بن جعفر يا أمير المؤمنين ؟! ـ نعم. وكرر رئيس الشرطة للمرّة الثالثة: ـ أُطلق موسى ؟! قال هارون: ـ أجل أطلقه.. شَرْطَ أن لا يغادرَ بغداد أبداً.. أردف هارون، وهو يشير إلى رئيس شرطته بالانصراف: ـ الآن.. وقل له يحضر مجالسي كلّ خميس. ـ سمعاً وطاعة. ومضى عبدالله يشق طريقه إلى حيث يقبع موسى بن جعفر، كان الليل في هزيعه الأخير، وشيئاً فشيئاً شعر رئيس الشرطة وهو يُصغي إلى وقع خطاه أنّ الجرذ الصغير في داخله يكبر شيئاً فشيئاً حتّى غدا وحشاً كبيراً له زئير!
30- نقاش
يمر دجلة وسط غابات النخيل، فيشطر بغداد قسمين، وقد انتشرت القصور على جانبَي دجلة، الذي يتلوّى في مساره كأفعى حائرة. ودجلة يمرّ أولاً ببيوت الفقراء، بيوت خاوية على عروشها حيث ترتفع أشجار النخيل السامقة مشرفةً على حقول واسعة ومزارع.. وقبل أن يعبر المرء خندق ( طاهر ) الذي تتدفق فيه مياه دجلة الغرينية، وقبل أن يصل قنطرة ( قطربل ) تتناثر بيوت الفقراء، ما بين مقابر قريش، وباب التبن، بيوت خاوية على عروشها، تحكي انشطار هذه المدينة. حطّ الرجل الأسمر الذي جاء من أقصى الجزيرة على قدر.. حطّ رحله في بيت طيني.. بعد أن مكث في السجن بضع سنين. ومن قنطرة ( قطربل ) يعبر الفلاحون إلى حيث تنتشر حقولهم ومزارعهم ما بين نهر ( بطاطيا ) ومقابر قريش المحاذية لدجلة. أمّا إذا أراد المرء أن يعبر إلى الجانب الآخر من دجلة حيث تنهض قصور الرشيد وجعفر المنيفة، فيتعيّن عليه أن يسير على شواطئ دجلة إلى أن يصل إلى جسر الرصافة، جاعلاً باب خراسان إلى ظهره، وعندها يعبر الجسر إلى باب الطاق، وعلى اليسار تنهض القصور الحديثة والبيوت الأنيقة وكبار التجار والملاّكين وأصحاب النفوذ. وفي شوارع وأزقة هذه المنطقة يسمع المرء أنغام الموسيقى الصادحة وأصوات المغنّين والمغنّيات تتسلل من النوافذ المفتوحة والأبواب المشرعة؛ فإذا انتصف النهار سمع العابر صوت أذان مخنوق، ينساب حزيناً في مدينة عابثة لَعوب. وفي كل يوم خميس كان الرجل الأسمر الذي يحمل في صدره ميراث النبوّات يقطع هذه المسافة، ليدخل على هارون الرشيد. لعلّ النصارى الذين رأوه ذلك اليوم وهو راكب حماره في طريقه إلى الجسر قد ومضت في أذهانهم صورة المسيح عيسى ابن مريم. الجسر يزدحم بالعابرين، وفي رقبة الجسر، تحلّق الناس حول قرّاد يُرقّص قرده، ويُضحك من عنده. كان صوت القرّاد واضحاً تماماً وهو يخاطب قرده الذي يرتدي ثياباً مزركشة، وتتدلى من عنقه قلادة فضية: ـ أتحبّ أن تصبح نجاراً ؟! هزّ القرد رأسه موافقاً. وانبعثت ضحكة مكتومة من المتفرّجين. قال القرّاد: ـ أتحبّ أن تكون تاجراً يا عزيزي ؟! هزّ القرد أيضاً رأسه موافقاً، وبدا أكثر حماساً لهذا الاقتراح. ـ ماذا لو أصبحت مغنّياً ؟! هزّ القرد رأسه بحماس واضح، فالغناء في هذه الأيّام يجلب الجاه والثراء.. وتحسّر بعضهم وقد ومضت في ذهنه صور الموصلي وهو يرفل بالثياب الحريرية، ثياب يحملها التجار من أصقاع بعيدة. هتف القرّاد بقرده: ـ أتحبّ أن تصبح وزيراً ؟! وهنا انفجر القرد مذعوراً، وراح يطلق صوت استغاثة طالباً النجدة من مصدر مجهول. وانفجر الجمهور مُطلِقاً ضحكات يشعر السامع أنها تتدفق من أعمق نقطة في القلب. قلوب الفقراء تموج بحزن، كما يموج البركان الخامد بحممه في الأعماق المستعرة. ليس هناك من متنفَّس للغضب سوى الضحك، وربّما العربدة في بساتين دجلة. خفتت الأصوات بعد اجتياز الجسر وبدت المنازل الأنيقة والقصور المنيفة ساكنة غارقة في الصمت، ليس هناك من صوتٍ سوى ما تبعثه النوافذ المفتوحة والشرفات من أنغام لموسيقى فاتنة. وربّما سمع المرء وقع أحذية الحرّاس ورجال الشرطة وهم يمضون لإنجاز مهمّة ما أو القيام بمأمورية أُنيطت بهم. قصر هارون يربض فوق مساحة واسعة، وقد بدا صَدَفة عملاقة تحدق بها مختلف الأشجار، وتحفّ بها أشكال وألوان من الورود. وفي بوّابة القصر انتصب حرّاس غلاظ في أيديهم رماح وعلى عواتقهم سيوف. رهبة المكان، وتلك الأبّهة، لابدّ وأن تقذف في قلب الزائر قدراً مخيفاً من سطوة أهله وأصحابه. كان ( أبو إبراهيم ) الرجل الأسمر الذي قدم بغداد على قدر يشق طريقه في خطىً هادئة. يستشف الذي يراه أنه في قبال شخص يختلف تماماً ممّا يراه المرء في هذه الأطراف، فالخطى واثقة ليس فيها كبرياء ولا خضوع.. فيها تواضع مفعم بشعور بالعزّة، وفيها رجولة تطفح إنسانية. العينان نافذتان، لا ترى في أبهة القصر سوى خرائب، ولا في الحرّاس سوى ضحايا بشرية.. ضحايا لوحش القدرة والسيطرة. بَهْو القصر يعجّ بالمنتظرين، رجال يرتدون مختلف الأزياء.. كان بعضهم ينتظر منذ عام وآخر مضت على انتظاره شهور، وبعضهم أسابيع، وقد وقف ( الحاجب ) كجدار صخري في يده مفاتيح اللقاء.. لقاء هارون الرشيد.. لقاء الدنيا العريضة والمجد والثراء. هبّ الحاجب للقاء ( موسى ). أبو إبراهيم يحضر في الساعة المحدّدة لم يتخلف عن مواعيده أبداً.. إنهار الجدار الصخري تماماً، ووجد موسى نفسه أمام هارون، ليس هناك من يتحدّث عن لحظات اللقاء، إنه ولا شك مشحون.. مشحون بكل القيم المتصارعة.. مشحون بكل رموز الصراع. إرادة بشرية تتجلى في عين هارون، وبريق مخيف يموج في المِحجرَين، كما لو أنهما تطلاّن على جحيم مستعرة. وفي مواجهة هارون، يقف موسى، بكل ملامحه التي تعكس تألقات السماء، في عينين صافيتين غسلتها الدموع.. دموع الإنسان العاشق.. دموع من يتوق إلى حبيبه في الآفاق البعيدة. في مجلس هارون بدا أبو يوسف قاضي القضاة متحفزاً قد هيأ أسلحته، هكذا طلب منه ( الخليفة ) أن يقهر موسى ولو بسؤال واحد يوقفه متحيّراً عاجزاً بعض العجز. التفت هارون، وقد ومضت في عينيه صورة الفرعون، وتنحنح القاضي قبل أن يُلقي بحباله وسؤاله.. قال أبو يوسف وهو يحدّق في وجهٍ أسمر يتألق فيه نور عجيب: ـ يا موسى، ما تقول في التظليل للمُحْرِم ؟ أجاب ابن النبيّ: ـ لا يصحّ. ومضت في عينَي أبي يوسف أفعى لها فحيح: ـ فيضرب الخباء في الأرض ويدخل البيت ؟ ـ نعم. خُيّل ( للخليفة ) وقاضيه أن الأفاعي ستلقف موسى وتبتلعه.. قال القاضي منقضّاً: ـ فما الفرق بين الموضعين ؟ وألقى موسى بسؤاله وعصاه: ـ ما تقول في الطامث، أتقضي الصلاة ؟ أجاب القاضي بلهجة خائفة: ـ لا. ـ أتقضي الصوم ؟ أجاب القاضي متخاذلاً: ـ نعم. قال له موسى وهو يسدّد الضربة القاضية: ـ ولمَ ؟ قال القاضي مستسلماً: ـ هكذا جاء. قال موسى وقد لقفت كلماته أسئلة القاضي وخليفته أنّ ما فعلوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى. ـ وهكذا جاء هذا. سكت القاضي.. راح ينظر إلى ( خليفته ) مخذولاً. نظر إليه هارون حانقاً، وقد غادر موسى المكان فيما بدت الأسئلة حبالاً ممزَّقة وعصيّاً مهشمة. قال هارون وهو يصرّ على أسنانه: ـ ما أراك فعلت شيئاً. أجاب قاضي القضاة، وهو يلملم ما بقي من حباله وسؤاله: ـ رماني بحجَر دامغ. --------------------------------------------------------------------------------
الصفحة السابقة الصفحة التالية
--------------------------------------------------------------------------------
الواجهة الاسلام النبي و أهل البيت عليهم السلام الإمام الكاظم عليه السلام على الجسر ببغداد
--------------------------------------------------------------------------------
31- ليلة بِشر الحافي
منازل بغداد في ذلك الغروب الحالم بدت وكأنها جوارٍ حِسانٌ جلسنَ على الشاطئ، ينظرن إلى تدافع المياه، وقد تكسرت فوقها بقايا أشعة الشمس قبل أن تغيب. النوافذ المفتوحة والكوى تبعث ضوءً واهناً لقناديل أُسرجت توّاً استعداداً لليلة طويلة فاتنة، الرجل الأسمر يجوس خلال القصور آخذاً سمته نحو بيت يقبع ما بين مقابر قريش ودير القباب على شاطئ دجلة، حيث تتناثر بيوت الفقراء هنا وهناك. الأزقّة النظيفة المرصوفة بالحجارة شهدت ذلك الغروب خطىً هادئة لرجل قَدِم من الجزيرة على قدر. ليس هناك من يسبر آلام موسى في ذلك الزمن النحاسي، زمن حُسبت ساعاته بكُرات من نحاس، حتّى الفارس الذي ما يزال متربعاً فوق القبّة الخضراء يحمل رمحاً نحاسياً، يدور به في كل الجهات، لكأنه يبحث عن أفق تلمع فيه بروق الثورات. كل شيء كان هادئاً، والنوافذ التي كانت ترسل أضواءً واهنة راحت تبعث بأنغام الموسيقى، وقد ظهر القمر متألّقاً فوق ذرى النخيل. بغداد تبدأ لَهْوها الليلي، تعدّ موائدها الساهرة، وقد ارتدت الجواري الحسان ثياباً منسوجة من حرير مضمّخة بأنواع الشذى والعطور. كان الرجل الذي يحمل في صدره هموم النبوّات ما يزال يجوس خلال الديار، خلال زمن نحاسي ضاعت فيه مواعظ الأنبياء. وفيما كان الرجل الأسمر ينعطف في زقاقٍ مرصوف بالحجارة المفخورة، فُتحت باب خشبية أنيقة، وظهرت جارية حسناء، وتدفقت عبر الباب أصوات الموسيقى والغناء. وضعت الجارية قمامة في مكان على مبعدة من الباب، ووقفت تتطلع إلى الرجل الغريب، الواثق الخُطى، ربما كانت تقارن بين طلعته وصور الدراويش المخزونة في ذاكرتها. توقفت الخطى عند الباب حيث تتدفق أصوات اللهو والمجون والعربدة. قال موسى وهو يسدّد نظرة تكاد تخترق الزمن: ـ يا جارية! صاحبُ هذه الدار حرٌّ أم عبد ؟ شعرت الجارية أن السؤال قد باغتها تماماً، كانت تتوقع كلمات أخرى طالما سمعتها، كلمة مستعطِفة، أو كلمات غزل عابرة، هتفت الجارية حتّى لا تبدو بَكْماء في نظر الغريب: ـ بل هو حرّ! همس أبو إبراهيم بصوت يشوبه حزن غامض: ـ صدقتِ، لو كان عبداً لخاف مولاه. ومضى الغريب، فيما وقفت الجارية تنظر مذهولة إلى خطىً هادئة تبتعد رويداً رويداً.. كانت تتطلع إلى رجل نحيف تموج في سُمرته تألقات نور غريب، نور يشبه ما يسطع في أعماق النفوس المطمئنة المفعمة بالسلام. انبعث صوت من أعماق المنزل: ـ أين أنتِ يا روحي! كؤوسي فارغة، وفي قلبي تستعر الجحيم. دخلت الفتاة، وقد علا وجهَها وجوم.. ربما كانت مشغولة بفكّ رموز كلمات لم تسمعها من قبل.. كلمات نفّاذة تسبر الأعماق.. قال الرجل السكران قليلاً: ـ ماذا دهاكِ ؟! لماذا تقفين هكذا كالمعتوهة ؟! ـ لا شيء يا سيدي.. لقد مرّ الساعةَ رجل.. رجل غريب سألني عن صاحب هذه الدار. ـ عنّي أنا ؟! ماذا قال ؟ ـ قال: صاحب هذه الدار حرّ أم عبد ؟ ـ حرّ أم عبد ؟! ـ قلتُ: بل هو حرّ. ـ هل قال شيئاً آخر ؟ ـ قال: صدقتِ، لو كان عبداً لخاف مولاه. مثلما يضرب الزلزال الأرض، فترتعش ذرّات التراب وترتجف الأشياء. كانت الكلمات النفّاذة تضرب الأعماق، تطيح بكل الصروح تمزّق خيوط العناكب، تحيل الأنفاق المظلمة إلى خرائب. سقط الكأس من يده.. وانتفض كمحموم، مهرولاً باتجاه الباب، لحقت به فتاته تدلّه على وجهة الرجل الأسمر الذي مرّ بها قبل لحظات.. وشهدت ظلمة المساء رجلاً حافياً ينهب الأرض بخطاه، يبحث عن رجل أسمر يحمل في صدره هموم الأنبياء. هتف الحافي بصوت مخنوق وقد لاح له موسى: ـ يا سيدي. توقفت الخطى، والتفت أبو إبراهيم إلى رجل حافٍ يَشرِق بدموعه.. والتقى الرجلان.. رجل أسمر، ورجل حافٍ يبحث عن جادّة الطريق.. وبكى الحافي ما شاء له أن يبكي.. شعر أن روحه تغتسل تحت رشاش من مطر طهور. جثا الحافي عند قدمَي موسى، ينشده الخلاص.. الأمل.. الطريق إلى ينابيع النور، وانحنى أبو إبراهيم يمسح على رأس العائد إلى الله. لقد اكتوى بنار الشيطان أمداً طويلاً، قال له موسى عليه السّلام وهو يعظه: ـ كفى بالتجارب تأديباً، وبممر الأيّام عِظة، وبأخلاق من عاشرتَ معرفة، وبذِكر الموت حاجزاً من الذنوب والمعاصي. والعَجبُ كلّ العجب للمحتمين من الطعام والشراب مخافة الداء إن نزل بهم! كيف لا يحتمون من الذنوب مخافة النار إذا اشتعلت في أبدانهم ؟! الرجل الحافي ما يزال مستغرقاً في بكاء صامت، كغيمة حزينة كانت عيناه تهملان الدموع.. الدموع.. دموع الندم والعودة والحنين، تطفئ الحرائق المشتعلة في الأعماق لتنفتح نافذة من نور على سماء صافية ذابت في فضائها الغيوم فبدت مرصّعة بالنجوم. تساءل الحافي وكان اسمه بُشراً(43): ـ مَن تكون يا سيّدي ؟ قال الذي قدم من المدينة على قدر: ـ أنا ابن محمّد حبيب الله، وابن إسماعيل ذبيح الله، وابن إبراهيم خليل الله.. أنا موسى بن جعفر. وفي تلك اللحظة عندما تحطمت آنية الخمر، ولج ( بُشر ) عالم الملكوت.
32- بين السَّكينة والقلق
ريح خريفية، تهبّ من الشمال تبشّر بليالي البرد القادمة والليل الطويل. ما يزال يتقلب في فراشه، منذ منتصف الليل. عجزت كؤوس الخمر أن تطير به على أجنحة الخيال والوهم، حتّى الجواري الحسان عجزت أن يُبددن في أعماقه شعوراً قاتلاً بالحقارة. ووقف ( الأصمعي )(44) عاجزاً هو الآخر من إدخال شيء من التسلية إلى قلبه.. بدا ( الخليفة ) في تلك الليلة كائناً ممزَّقاً نهباً للقلق والمرارة، لقد استحال إلى عبد تافه.. عبد ذليل لرغبات مجنونة لا يستطيع الفكاك منها ولا التحرّر من قبضتها. نهض من فراشه الوثير، أزاح وسائد الحرير.. وترك رداءه ينساب من فوق كتفيه كحيّةٍ ملساء. في الرواق ألقى نظرة فارغة على أكياس متخمة بالذهب والفضة.. خراج خراسان الذي وصل صباحاً. التفت يميناً وشمالاً لكأنما يبحث عن شيء يبدد شعوره بالمرارة.. عن أحد يبدد وحشته، لا شيء.. لا أحد. إنه يقف وحيداً.. حتّى زوجته زبيدة باتت تفصلها عنه آلاف الأميال.. انتبه الحرّاس إلى شبح يمشي مرنّحاً في طريقه إلى بوابة القصر.. استعدّ الحرس لتقديم فروض الطاعة.. عجزت مشاعل القصر عن تبديد ظلمة الليل البهيم.. وبدا القصر في عينَي ( الخليفة ) المرهق الأعصاب كائناً خرافياً.. للمرّة الألف استعاد تفاصيل الرؤيا.. رؤيا أقضّت مضجعه، سلبت من عينه حلاوة النوم.. نشوة السلطان.. رأى موسى كبيراً.. كبيراً كعملاق، ورأى نفسه ضئيلاً.. ضئيلاً كجرذ.. ولفرط دهشته رأى موسى ينقضّ بعصا في يده على قصره، فيحيل صروحه إلى أنقاض، ورأى نفسه يفرّ في دروب مظلمة تطارده أشباح ضحاياه في منعطفات مخيفة موحشة. لا ( الخندريسية )(45) المعتّقة، ولا الشراب ( القطربلي )(46) ولا حتّى نبيذ العسل بقادرة على تهدئة أعصابه الهائجة كفرس مجنونة.. لقد بلغ ذروة اللذائذ وبات ينشد المزيد.. المزيد، ولكنه كان يعي بمرارة خواء الأعماق.. كصحراء مليئة أضحت روحه الضائعة. دجلة يجري صامتاً.. غير آبه بما يجري حوله.. دجلة يمضي في طريقه غير مكترث بالقصور المتناثرة على ضفافه كأصداف ولآلئ. هناك في الجانب الآخر من النهر رجل حجازي.. رجل يتدفق كنهر.. يجري كنهر.. تنثال فضائله كما تنثال مياه دجلة فتهب الخضرة والحياة للجميع. هناك في الجانب الآخر من دجلة في الأعالي، ما بين محلة باب التبن وقطيعة زبيدة، كوخ من جريد النخل، يعيش فيه رجل أسمر يوشك أن يسطع اسمه في الآفاق.. تنجذب إليه القلوب من كل مكان.. يهب السلام لمن يبحث عن السّلام. ـ الخطر يكمن هنا. دوّت صرخة رعب في أعماق هارون.. هناك من يهدد عرشه وملكه بالزوال.. هناك من يهدد دنياه بالبوار.. هناك من يبدد أحلامه وأمانيَّه.. ويجعل ليله طويلاً عاصفاً بالقلق. لقد قهر كل من يقف في طريق لذائذه التي تزداد شَرَهاً يوماً بعد آخر وليلة وراء أُخرى.. الضرائب تزداد، وتأوّهات المعذَّبين تصّاعد في السماء، وتزداد هبات ( الخليفة ) للمغنّين والمغنّيات، وتأخذ الجواري طريقها إلى قصور ( الخليفة ) في بغداد وخارجها.. جوارٍ من كل الألوان، ومن كل الأعراق. رجل واحد كان يقضّ مضجعه، يطارده في ليله ونهاره.. موسى.. من أجل هذا صرخ ( الخليفة ) وقد بزعت الشمس حمراء كعيني هارون: ـ جئني بذلك الحجازي. تساءل الحاجب: ـ أي الحجازيين يا سيدي ؟! ـ موسى بن جعفر. وأردف وهو يصرّ على أسنانه: ـ ابن محمد بن علي بن الحسين.. بن علي بن أبي طالب.. أعرفته أم ما تزال تجهله ؟ كان ( الخليفة ) يقلّب سيفاً كثعبان صحراوي. ـ ومن لا يعرف موسى ؟! وانحنى الحاجب قبل أن يتوجه لتنفيذ مهمته في الجانب الآخر من دجلة.. هتف الرشيد بحاجبه: ـ أحضر أولاً سوطين وجلاّدين. بذل الحاجب جهداً جبّاراً لإخفاء مشاعره ولينحني مرّة أخرى أمام ( الخليفة ).. إنه لا يملك غير الانحناء وتنفيذ الأوامر.. ومضى الحاجب مع مفرزة من الحرّاس.. عليه أن يكون حذراً في تنفيذ مهمته، فهناك من يترصّده في خفاء ربّما يكون حارساً أو غلاماً، وربما جارية أيضاً. الطريق إلى محلّة باب التبن ليس طويلاً، لطالما ذهب إلى هناك.. وفي كل مرّة يُخيَّل إليه أنه يذهب إلى عالم آخر.. فمن القصور إلى الأكواخ، ومن علية القوم بأزيائهم المزركشة التي يغلب عليها السواد، إلى الناس البسطاء، ومن الخيول الفارهة إلى حمير السقّائين. كانت كوكبة الفرسان تشق طريقها إلى أحياء الفقراء في الجانب الآخر من قنطرة ( قطربل ): اعترف الفضل في قراره نفسه وهو يتأمل كوخ الجريد أنّ لموسى سلطاناً عجيباً، وفي كلّ مرّة أراد أن يدرك مصادر قوّة هذا الرجل الحجازي كان يشعر بالعجز، وكم مرّة كان يحاول أن يحاوره كنِدّ.. كحاجب ( للخليفة ).. كشخصية مهمة في الدولة، ولكنه كان يخفق لأسباب لا يعرف طبيعتها. الفقراء والأثرياء.. البسطاء وأعيان البلد ينحنون له إجلالاً وتكريماً.. ربّما يرون في ملامحه هويّة الإنسان.. هويّة افتقدوها منذ أجيال.. ربما يرون فيه مصدراً للسلام في زمن يلفّه الضباب والدخان.. في زمن الشيطان.. ربما يرون فيه قلعة للمقاومة.. مقاومة للطغيان.. يقول كلمة: لا.. كلمة ثمنها باهض.. ربما يدفع صاحبها ما فوق رقبته ثمناً.. وربما يطوي بقية حياته في ( المطبق ).. سجن يشبه قبراً هائلاً. ترجّل الحاجب وخاطب غلاماً أفريقياً: ـ استئذن لي على مولاك. أجاب الغلام دونما اكتراث، وربّما معرّضاً: ـ لجْ.. فليس له حاجب، ولا بوّاب.. لم يكن في الكوخ سوى موسى وغلام أفريقي آخر في يده مقص يأخذ اللحم من جبين أشرق بالسجود إلى نور السماوات. ـ السلام على أبي إبراهيم. ـ وعليك السلام ورحمة الله. والتقت نظرات الرجلين.. وجد الحاجب نفسه يقول متخلصاً من عبء ثقيل: ـ أجب الرشيد. أجاب موسى بمرارة: ـ ما للرشيد ومالي.. أما تشغله نعمته عني ؟! وأردف وهو ينهض: ـ لولا أني سمعت في خبر عن جدّي رسول الله أنّ طاعة السلطان للتقية واجبة ما جئته. امتطى موسى بغلة تشبه بغال السقّائين الذين يحملون المياه الصافية من أعالي النهر. قال الحاجب وهو يلقي نظرة على البغلة: ـ أتلقى الخليفة بهذه الدابّة التي إن طلبت عليها لم تسبق، وان طُلبت عليها تلحق ؟! قال له موسى وهو يحاوره: ـ لست أحتاح أن أطلب، ولا أن أُطلب.. ولكنها دابّة تنحطّ عن خيلاء الخيل وترتفع عن ذلّة الحمير، وخير الأمور أوسطها. سكت الحاجب، لاذ بصمت لا يعرف كنهه. التفت إلى موسى وقال بعد أن عبرا قنطرة قطربل: ـ إستعدَّ للعقوبة يا أبا إبراهيم. قال له موسى وهو يرمق السماء: ـ أليس معي مَن يملك الدنيا والآخرة ؟! وفي القصر دار حوار مقتضب، قال هارون وهو يتفحص غريمه بنظرات تقطر حقداً: ـ ما الذي قطعك عن زيارتنا ؟ قال موسى وقلبه يخفق بسلام: ـ سعة ملكك، وحبّك للدنيا. لبرهة قصيرة ومضت أسئلة في ذهن الرشيد! لماذا يبدو موسى هادئاً مطمئناً ؟ هل هناك حقاً ما يستحق التضحية بالدنيا الدنيا.. الجميلة.. جمال القصور.. الفاتنة فتنة الجواري الروميات.. وهل هناك ما يفتن القلب ويستحوذ على النفس غير لذائذ الطعام والشراب ؟! لماذا أبدو ضئيلاً في حضرة موسى ؟! ثم ما هذه السكينة المطلقة التي تجعله راسخاً كجبل ؟.. ومن أين استمدّ كل هذا الحبّ الذي يهيمن على آلاف القلوب من محبّيه ؟! لبرهة ومضت كل هذه الافكار في ذهن هارون.. لم ينتبه إلى نفسه الاّ عندما نهض موسى وهو يهمس بهدوء تام: ـ الحمد لله. ولفترة وجيزة كانت الكلمة تضيء المكان وتهيمن على مشاعر ( الخليفة ) قبل أن يغرق مرّة أخرى في هاوية تتراكم داخلها ظلمات رهيبة.
33- الاستغراق في ذات الله
سافر الرشيد إلى ( الرقة ).. هناك القصور.. وكؤوس الخمور، وعالم من اللذة مسحور.. هناك، يمكنه أن يرى بغداد جيداً. سوف يلعب الشطرنج، يقضي على خصومه واحداً.. واحداً.. من أجل هذا أمر باعتقال موسى عليه السّلام.. أودعه عند الفضل البرمكي سجيناً ومضى إلى ( الرقة ). وبغداد تدور فيها كلاب سرّية تشمّ كلّ شيء من بعيد.. كلاب مسعورة لا تعرف غير النهش.. تلتذّ بتحطيم العظام الآدمية. بغداد خائفة.. أنهكتها الضرائب.. أوهنها الخوف وقد بلغت القلوب الحناجر.. والرجل الذي يتدفق سلاماً معتقَل لدى الفضل، السلام مغيَّب.. بغداد تبحث عن السلام.. من فوق سطح قصر الفضل بدت بغداد في ذلك الأصيل الخريفي ساكنة. منظر هادئ ولوحة ثابتة.. كل شيء بدا ساكناً ما خلا تألفات دجلة بمياهه الغرينيّة وهي تتدافع، لتمنح القرى في الجنوب الخصب للمواسم القادمة. سربٌ مهاجر من الطيور يعبر السماء يبحث عن مكان دافئ.. أما أشجار النخيل المُحدق بالنهر فقد بدت كرموشِ حوريةٍ شهيدة. كان الفضل يحدّق في لوحة رسمها الأصيل.. لوحة منسجمة تماماً.. لوحة يبدو فيها الوجود وكأنه يدور بهدوء حول محورٍ ما. محور يكمن في جوهر الأشياء ذاتها.. ربما وحده الإنسان هو الذي يعكّر صفو العالم المتناغم.. ولكنه عندما يُمعن النظر في هذا الرجل السجين.. الذي يرتدي مدرعة صوف.. يدرك أن الإنسان هو الآخر يمكنه ولوج ملكوت الوجود.. الإنسان جزء من الكون الفسيح اللامتناهي.. لشدّ ما أثار انتباهَه هذا الحِجازيُّ، هذا القادم من رمال الجزيرة.. لقد رأى كثيراً من الصوفيين.. ورأى كثيراً من حكماء فارس، ورأى رهبان النصارى.. كانوا حقاً يعيشون حالة من الصفاء، ولكنه كان يشعر بغربتهم عن العالم، لكأنهم في واد من الخيال والوهم.. أمّا موسى فيختلف كثيراً عن أولئك، إنه يبدو متجرداً تغمره سكينة مطلقة يحيط به بحر زاخر بالسلام.. ولكنّ المرء يمكنه أن يلحظ في أعماقه حركة طاهرة نقية.. شيءٌ ما يتشابك في حركة فاعلة.. قوّةٌ ما على استعدادٍ لخوض الحرب.. تضطرم ثورة ومقاومة.. ولعلّ هذا ما يُقلق هارون.. ما يجعله يشعر بالفزع.. الذعر.. الأرق. انتبه الفضل إلى نفسه.. كما يُخرج المرء نفسه من أعماق بُحيرة صافية انتشل البرمكي نفسه من تأملاتٍ كان غارقاً فيها. لقد جاء صديقه عبدالله.. إنه يثق به كما يثق بنفسه.. يعرف أن ( الشيعي ) يقدّس أسرار الإنسان.. يمجّ الخيانة كما يمج المرء الحنظل في أعماقه. قبس من إنسان.. نور من هذه الروح المسالمة.. التي ما تزال غارقة في سجدة طويلة حتّى الغروب. قاد الفضل صديقه إلى جدار في السطح يشرف على باحة القصر. قال الفضل لضيفه وهو يحاوره: ـ انظر، ماذا ترى ؟ ـ لا شيء. ـ تأملْ جيداً، أرجِع البصر مرّة أخرى. ـ تعني ذلك الثوبَ المطروح ؟! ـ أرجع البصرَ كرّتين.. وانظر! ـ أرى رجلاً ساجداً. ـ هل تعرفه يا عبدالله ؟ ـ لا. ـ هذا مولاك. ـ مولاي ؟!.. مَن يكون مولاي هذا ؟ ـ تتجاهل علَيّ يا عبدالله.. إنّني أعرفك جيداً. ـ أنا لا أتجاهل، ولكني لا أعرفه! ـ هذا موسى بن جعفر. شعر عبدالله بقلبه يخشع.. واجتاحت الفضلَ موجةٌ من الإجلال استحوذت على وجوده.. فلا شيء في ذهنه سوى موسى.. العبد الصالح.. راح يتحدث ذاهلاً: ـ منذ أسابيع وهو رهين عندي.. طالما تفقّدته بنفسي ليلاً ونهاراً فلم أره إلاّ ساجداً.. يصلي الفجر فيعقّب بعد صلاته حتّى مطلع الشمس.. ثم يهوي ساجداً لله حتّى الزوال، وقد وكّل غلاماً يترصّد له وقت الزوال، فاذا هتف الغلام: إن الشمس قد زالت، وثب يصلّي.. من غير أن يجدّد وضوءً، فأعرف أنه لم يَنم في سجوده ولا أغفى.. ويستمر في صلاته حتّى العصر.. فإذا صلّى العصر سجد سجدة.. فلا يزال غارقاً فيها إلى أن تغيب الشمس. فإذا غابت وثب من سجوده فصلّى المغرب من غير أن يجدّد وضوءً، ولا يزال في صلاته حتّى يصلّى العتمة. فإذا صلّى أفطر على شواء، عندها ينهض ليجدّد وضوءه ثمّ يسجد طويلاً، ثمّ يرفع رأسه فيغفو إغفاءة خفيفة، ثمّ ينهض فيجدّد الوضوء فيقيم الصلاة.. فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتّى مطلع الفجر. فلستُ أدري متى يقول الغلام: إنّ الفجر قد طلع ؟ إذا به يثب لصلاة الفجر.. فهذا دأبه منذ حُوِّل إليّ. قال عبدالله وعيناه تمتلئانِ دموعاً كسماء مثقلة بالمطر: ـ اتق الله يا فضل، ولا تستجب لداعي الهوى.. فتزول نعمتك.. إنك تعلم أنه لم يفعل أحدٌ بأحدٍ سوءً إلاّ زالت نعمته. أجاب الفضل وقلبه يستشعر هول الجريمة: ـ أرسلَ إليّ الرشيد غير مرّة يأمرني بقتله، فلم أُجبه، وأعلمته أني لن أفعل ذلك حتّى لو مزّقني مسرور بالسيف. غرقت الشمس بين سعفات النخيل، بدت الذرى متوقدة بحمرة تشبه جراح الأنبياء.. وشيئاً فشيئاً كان المساء ينثر رماده في حنايا الكون.. وفي تلك اللحظات وقد عادت الطيور إلى أوكارها، وظهرت في الأفق الغربي نجمتان، نهض الرجل الساجد ليصلّي، ليندمج مع أسرار العالم يطوف في عظمة الوجود، وهبط الفضل مع ضيفه درجات سُلّم مرمري، وقد امتلأت نفساهما إجلالاً للإنسان عندما يسجد لله وحده.
34- إلى طامورة أُخرى
نسمات باردة، لاذعة تدفع بالمرء إلى التماس الدفء، الليل يلفّ بغداد.. يغمرها بالغموض والأسرار، وفي الوقت الذي تنطفئ أو تخبو الفوانيس في أكواخ المدينة وبيوتها الطينية، تتوهج القناديل في القصور وتبدأ المدينة سهرتها، لَهْوها.. حتّى الصباح. وفي ليالي الشتاء الطويلة ينصرف الأثرياء وعلية القوم إلى إمضاء الليل في مجالس اللهو أو في أحضان الجواري، وهكذا فعل الفضل البرمكي كعادته. ولج غرفةً واسعة تطلّ على حديقة غنّاء.. حديقة لم يغيّر الشتاء من بهجتها الاّ قليلاً.. الصمت يهيمن في الغرفة، والفضل يكرع من كؤوس اللذة مُتعاً لا نهاية لها. كانت ريح الشتاء لا تكفّ عن الولولة وهي تجوس خلال النخيل. فجأة.. سمع الفضل صوتاً غريباً.. صوتاً يشبه انصفاق باب المقصورة. أرهف سمعه ونظر إلى فتاته.. إحساس بالخطر قفز في أعماقه.. شعرت الفتاة بما يموج في قلب رجلها من ذعر، قالت مطمئنة: ـ لعلّ هذا من فعل الرياح.. حاول أن يستريح لهذا التفسير.. ولكنّ باب الغرفة ينفتح بعنف ويظهر ( مسرور ) كقدر صارم.. وجه قاس جامد الملامح، وسيف عريض يشبه سكّينة عملاقة.. وعينان تشتعلان قسوة.. شعر الفضل أن قلبه يقفز إلى حنجرته.. كطبل مجنون.. كانت دقات القلب تدوّي في الأعماق المنهارة.. لقد دنت ساعته ولا شك. ـ أين موسى ؟ اجتاحته موجة عارمة من الارتباك والفوضى، لا يدري ماذا يفعل ؟ بلع ريقه ونزل من سريره الوثير، وبدا إلى جانب مسرور كائناً ضئيلاً جداً، كجرذ في براثن قطٍّ وحشي. ولأوّل مرّة وجد رجلَيه تخونانهِ فيسقط.. وجه مسرور جامد لا يتحرّك، تقدمت الفتاة وهمست في أذن سيّدها.. ـ ثق بالله!! تماسك الفضل.. نزل درجات سلّم مرمري، وكان العملاق يتْبعه كجنّي.. في آخر القصر توجد حجرة.. هناك يقبع موسى بن جعفر.. دخل العملاق.. كان موسى غارقاً في الصلاة.. غارقاً في عوالمَ مفعمةٍ بكلمات السماء.. شعر الفضل أنه يثأر من العملاق.. ليس في هذه الحجرة من يكترث له.. آه، ما أقواك يا موسى!! من أين لك كل هذا العزم ؟! من أين لك كل هذه القوّة..؟! حتّى مسرور بوجهه الجامد.. القاسي، تتغير ملامحه في حضرتك. أجال العملاق بصره النافذ في الحجرة.. وكانت ذاكرته تسجّل ملاحظاته، واسعة.. نظيفة. سجّادة أنيقة.. والسجين في حال جيدة.. ينعم ولا شك بخدمة طيبة.. ليست في قدميه ولا يديه قيود ولا حديد. غادر العملاق الحجرة بصمت، كما دخلها بصمت.. وأثار صمته الهلع في قلب الفضل.. ليس هناك ما هو أرعب من صمت مسرور.. قدر غامض، ومصير مجهول.. غادر العملاق المخيف القصر.. وسُمعت ـ رغم دويّ رياح الشتاء ـ سنابكُ حصان يبتعد.. مسرور يشق طريقه في ظلمة ليل طويل إلى قصر منيف لعباسيّ يمقت البرامكة.. يمقت فيهم نفوذهم.. استحواذهم على مقدّرات الخلافة.. وفي صمت رهيب سلّم مسرور الرجلَ العباسي رسالة من الرشيد.. وانطلق العملاق إلى مدير شرطة بغداد السندي بن شاهَك.. رسالة أخرى من الرشيد وفيها أن يمتثل لأوامر ( العباسي ).. وهكذا تمّ كلّ شيء في الظلام.. هبّت بغداد مذعورة على دويّ الدوريات. العشرات من رجال الشرطة يتدفقون صوب الأماكن الحساسة في المدينة.. ومفارز خاصّة تقتحم قصر الفضل.. تسوقه مخفوراً مذعوراً إلى قصر ( العباسي ).. لا أحد يعرف ما حصل في تلك الليلة الطويلة. جُرّد الفضل من ثيابه وانهالت عليه سياط الجلاّدين.. مئة سوط جعلت منه كياناً ممزَّقاً.. متهافتاً.. مسحوقاً.. لم تبق في أعماقه.. ولا حتّى أمام الناس ذرّة من هيبته السابقة كوزير ولا حاكم عامّ لخراسان، ولا كقائد لنصف مليون جندي فارسي.. لقد غدا صفراً.. ميتاً. وأُطلق سراحه فوراً.. ولكن بعد أن تحول إلى عبد ذليل.. عبد خسر حرّيته ونفسه.. خرج الفضل من قصر العباسي كياناً لا قيمة له.. خرج مترنّحاً.. راح يسلّم على الناس يميناً وشمالاً.. نظر بعضهم شامتاً، وآخرون نظروا إليه بشيء من الشفقة. يا لَبؤس الملوك إذا كانت نهايتهم هكذا! وفي مراسم خاصّة تسلّم ( السنديُّ ) السجينَ الصامد من قصر الفضل، ليُنقل سرّاً إلى سجن مجهول.. سجن تحت الأرض حيث يمتد الليل إلى ما لا نهاية.. كان السنديّ يشرف بشكل غليظ على مراسم إيداعه السجن الجديد.. طامورة تحت الأرض تشبه قبراً هائلاً.. قيّد سجّان قاسٍ سجينَه بأرطال الحديد.. وكان السندي في كل مرّة يأمر بزيادة القيود.. حتّى بلغت ثلاثين رطلاً.. كان موسى ينظر بشيء من الرحمة إلى سجّانيه.. كان وجهه الأزهر يتألق حزناً سماوياً في ضوء المشاعل. بدا السندي غليظاً.. منحطّاً في هاوية من الحقد.. وثنياً تعيساً.. من غير مناسبة.. شتم السنديُّ عليّاً.. علياً الذي أراد له الطاغوت أن يموت.. ولكن.. ولأول مرّة بدا وجه موسى تكسوه غمامة من حزن عميق.. بدت عيناه غيمتين مشحونتين بالمطر.. وعندما غادر مدير الشرطة الطامورة وغادرت المشاعل، وغمرت الظلمة الرهيبة المكان.. شهق السجين بعبرته وفاءً لذكرى شهيد المحراب والإنسان.
35- على عتبة الهدى
مضت الأيام في قطار الزمن المسافر.. مضت سريعة كأنها تسّاقط في هاوية مظلمة.. ليس هناك من يعرف أين يذهب الزمن.. أين تمضي الأيام.. حلاوتها ومرارتها تمضي، لتخلّف في الذاكرة مشاهد غائمة.. ضبابية سرعان ما تندثر تحت ركام السنين وغبار القرون.. البشر يحمل عبء الأيام ينوء بثقل الزمن، يشتعل الرأس شيباً وتنفتح براعم الأجنّة وتتجدّد الحياة كنهر دافق يمضي في طريقه لا يلوي على شيء. موسى قابع في سرداب مظلم.. طامورة تحت الأرض، وهارون يمرح بين القصور، يتقلب في لذائذه.. كؤوس مترعة بالخمرة وجوارٍ حسان.. لم يطمثهن إنس قبله ولا جانّ. موسى ينوء بثقل الحديد.. ويعاني القيود.. لم يبق أحد في بغداد لم يسمع بقصّة السجين.. رجل أسمر ذرّف على الخمسين، في جبينه الوضيء تطوف النبوّات. منذ أن انتقل السجين إلى دار السنديّ بن شاهَك والمؤمنون يؤمّون المسجد الملاصق للدار، حيث توجد الطامورة المظلمة.. هناك في تلك الأعماق تُعتقل الشمس!! جلس عليّ بن سُوَيد(47).. الرجل الذي ترك قريته بين مكّة والمدينة وجاء يبحث عن الشمس.. يبحث عن الدفء والنور. جلس في المسجد يحدّق في الجدار الصخري الذي يفصل الطامورة عن المحراب. كان الوقت أصيلاً.. عليٌّ ما يزال وحده عندما دخل ابن السكّيت(48) النحوي يرافقه رجل آخر.. جلسا إلى أُسطوانة قريبة من المحراب، كان يبدو عليهما أنهما يتحدّثان قبل ولوج المسجد.. قال ابن السكّيت بلهجة فيها أسف: ـ واللهِ لقد ذهب سيبويه مظلوماً. قال صاحبه مؤيداً: ـ الجميع يعرف ذلك. ـ راح ضحية دسيسة. ـ على النحو بعده العفا.. لقد غلب الكسائيّ ( سيبويه ) بقوّةٍ، السلطانُ ( الأمين ) يحبّ الكسائي.. لانه أستاذه.. والفضل بن الربيع يحبّ الأمين لغايةٍ في نفسه.. والأعرابي يحبّ المال.. والكسائي يحبّ الجاه والمجد.. ـ يا لَكَمَد سيبويه وحظه العاثر! لا يعرف من بغداد شيئاً.. خُيِّل إليه أنّ العلم وحده يرفع من شأن الإنسان.. غفل عن الدسائس والضمائر التي تُباع وتُشرى بدراهم معدودة.. ـ سمعت أن الأعرابي لم يطاوعه لسانه أن يقول، فإذا هو إيّاها.. رغم محاولته ذلك.. ـ ولكنّا ننطقها بسهولة. ـ الأعرابي نشأ في البوادي.. ـ إذا سارت الأمور على هذا المنوال.. فسيُلحن الأعراب أيضاً. كان عليّ بن سويد يُصغي بمرارة للحوار، قال لهما دون مقدّمة: ـ يا هؤلاء! أنتم إلى إقامة دينكم أحوج منكم إلى إقامة ألسنتكم.. أين تذهبون.. وأين يُذهَب بكم ؟ هل تعرفون طريقكم ؟ أم تسيرون على غير هدى ؟! ألَكُم إمام فيُرشدكم؟.. أم تراكم في مرعىً بلا راع. واللهِ ليس بينكم وبين إمام العصر غير هذا الجدار.. كان علي يشير إلى جدار صخري حيث يوجد المحراب، تساءل ابن السكّيت: ـ لعلّك تعني هذا المحبوس. وقال صاحبه: ـ موسى بن جعفر ؟! أجاب علي: ـ أجل.. لقد كنتُ عنده بالأمس.. لم أعرف طريقي إليه وظننت أنّ السندي قد دبّر لي حيلة فأخذ أموالي وألقلاني في البئر.. حتّى ناداني موسى أن اقترب.. فإذا هو مُثقل بأرطال الحديد.. يا ويل الأمّة تُسوّد فُجّارها وتسجن أعلامها! تلفّت الرجلان ذعراً، وقال الرجل الذي يرافق ابن السكّيت: ـ إذهب واستر على نفسك.. إذهب يا هذا لا نبتلي بسببك. ـ والله لا يفعلون ذلك ابداً، والله ما قلت لكم الذي قلت إلاّ بأمره وإنه ليرانا، ويسمع كلامنا، ولو شاء أن يكون ثالثَنا لَفعل.. نظر ابن السكّيت إلى علي نظرات فيها شكّ وريبة. فجأةً ظهر من باب المسجد رجل مهيب، شيخ وقور، أدرك ابن السكّيت للوهلة الأولى أنه موسى.. قال موسى: ـ ذلك الرجل الذي حَدّثكم عني صاحبي.. وفي لحظة دهمت الشرطة المسجد وظهر السندي بن شاهك عصبياً يكاد يتميّز من الغيظ، صاح السندي: ـ يا ويحك، كم تخرج بسِحرك من وراء الأبواب والأغلاق ؟ فلو كنتَ هربتَ كان أحبَّ إليّ من وقوفك هاهنا.. أتريد يا موسى أن يقتلني الخليفة ؟ أحتوشت الشرطة موسى.. ليعود إلى سجنه. وأقفر المسجد.. كمشهد بدأ وانتهى.. بدأ فجأة وانتهى فجأة.. تقدّم ابن السكّيت إلى عليّ، كان ما يزال مبهوراً بما رأى. قال: ـ أخبرْني يا هذا عن علمه في غير الحلال والحرام، من أين له ؟ قال عليّ: ـ من الباب الذي علّمه رسولُ الله عليَّ بن أبي طالب.. قال ابن السكّيت: ـ أتعني أنه يعلم الغيب. ـ مَن قال ذلك ؟! لقد سألته عن علمه فقال لي: هو على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث، فأمّا الماضي فمفسَّر، وأمّا الغابر فمزبور، وأمّا الحادث فقذفٌ في القلوب ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا.. ولا نبيَّ بعد نبينا(49). ـ أيُوحى إليه ؟! ـ ليس بوحيِ نبوّة.. ـ لا أفهم ماذا تقول.. وحيٌ وليس بوحي ؟! قال عليّ: ـ هل كانت مريم نبيّةً، وهل كانت أمُّ موسى نبية، وهل كان آصف بن برخيا نبيّاً ؟! سكت ابن السكّيت.. أدرك أن لأهل هذا البيت شاناً. قال وقد توهّجت في أعماقه رغبة للقاء موسى: ـ أدخلني عليه. ـ ومَن تظنّني أكون ؟! لقد دفعت مالاً كبيراً للسندي حتّى أدخلني. ـ وأنا أيضاً أدفع مالاً.
36- إرادات ونوايا حائرة
إنّها بداية النهاية.. نهاية مجد البرامكة.. إنّهم الآن في ذروة المجد والنفوذ، ولكن هناك ما يجري في الخفاء.. هناك في قلب الظلمات دسائسُ ومؤامرات.. تمتم يحيى بن خالد: ـ كم أخشى الفضلَ بن الربيع.. إنّه يطمح إلى الوزارة! رد جعفر بضيق: ـ كلّ هذا من تقصير الفضل.. لا أدري ماذا دهاه ؟! أظنّه قد مال إلى موسى بن جعفر.. قال يحيى وعيناه تبرقان: ـ كلّ ما يهمّني أن أتدارك الأمر. لقد جُلد الفضل أمام الملأ، وهذه إهانة كبرى لنا جميعاً. لقد بِتّ أخشى الرشيد كثيراً، لم يعد كما مضى.. يخلو مع حاجبه كثيراً.. وزبيدة فيما يبدو تشجّع زوجها أكثر فأكثر. ابن الربيع قاب قوسين أو أدنى من الوزارة.. أُنظر يا جعفر، لقد عُدت وزيراً بلا وزارة.. هتف بمرارة: ـ كلاّ.. كلاّ لن أسمح.. قال جعفر: ـ كان بمقدورنا أن نفعل شيئاً بالأمس، لقد كنّا أقوياء وكان هناك من يتعاون معنا من أبناء عليّ. قال الأب بحسرة: ـ لقد فات الأوان يا جعفر.. لم يبق لنا إلاّ طريق واحد. ـ ماذا تعني يا أبي ؟ ـ أن نعبر على جثة موسى أو نهزمه.. الرشيد يتوجّس خِيفة منه.. لا ينام ليله.. موسى يهدّد عرشه وسلطانه.. ـ ماذا تنوي أن تفعل ؟ ـ سأذهب إلى الرقّة فوراً وأتحدّث مع الرشيد في الأمر.. لا مفرّ من ذلك. البرامكة في خطر.. يحيى بن خالد يطوي المسافات من بغداد إلى الرقة.. يسابق الزمن.. وفي الرقة جلس الرشيد أمام الجماهير.. أُمّة تشبه القطيع في كل شيء.. مسَخَها الخوف.. لا تعرف شيئاً غير ترديد كلمات السلطان.. ببغاوات خائفة مذعورة، ساذجة فقيرة جاهلة.. الناس صفوف.. تنظر إلى ( الخليفة ) كما تنظر إلى وثن.. تعتقد أن ( الخليفة ) إذا قُتل اختلّ نظام الكون، ربّما تنطفئ الشمس أو تحتجب.. ربّما ينقطع المطر وتجفّ الأرض.. اصطفّت الجماهير كمُومياءات.. أصحاب الحناجر القوّية والطوال احتلّوا الصفوف الأولى. نثر الجلاوزة دنانير ذهبية فوق الرؤوس، أصبحت ( الأمّة ) جاهزة للإصغاء.. ( الخليفة ) يرمق القطيع باستعلاء، هتف بهم: ـ أيّها الناس، إن الفضل بن يحيى قد عصاني، وخالف طاعتي، ورأيت أن ألعنه، فالعنوه. هدرت الأصوات باللعن وارتجّت الأرض.. اللعنات تلاحق البرامكة؛ لأن ( الخليفة ) غاضب. وصل يحيى، وكانت أمطار اللعنة تملأ الفضاء.. أسرع إلى حيث جلس الرشيد.. دخل من الباب الخلفي المؤدي إلى المنصّة وهمس: ـ يا أمير المؤمنين. ارتاع الرشيد للوهلة الأولى.. ربما كانت مؤامرة.. منذ مدّة وهو يتوجس خيفة من البرامكة.. إشتعلت في ذهنه ذكرى أخيه ليلة قُتل.. ربّما جاء دوره.. ربّما كانوا يتهامسون لقتله.. استأنف خالد: ـ إن الفضل شابّ لا يعرف ما تريد.. أنا أكفيك. اجتاحت وجهَ الرشيد البهجة.. سوف ينتهي كلّ شيء.. سيتخلّص من موسى.. يحيى يعرف كيف يتصرّف.. قال يحيى: ـ يا أمير المؤمنين، قد غضضتَ من الفضل بعلنك إيّاه، فشرّفه بإزالة ذلك.. التفت الرشيد صوب الجماهير.. كانت ما تزال تصبّ لعناتها. هتف الرشيد وقد انطلقت أسارير وجهه: ـ أيها الناس، إنّ الفضل قد عصاني في شيء فلعنته، وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولَّوه(50). البغاوات تضجّ بالهتاف: ـ يا أمير المؤمنين! نحن أولياء مَن واليت، وأعداء مَن عاديت، وقد تولَّيناه! انتهت الحفلة، ومضت الجماهير بعد أن أدّت ما عليها، وأقفر المكان إلاّ من الرشيد ويحيى وبعض الحرّاس الذين وقفوا كالتماثيل.. همس ( الخليفة ) مستكشفاً خطط البرمكي: ـ أما ترى ما نحن فيه من المصائب، ألا تُدبّر في أمر موسى تدبيراً تريحنا منه ؟ قال يحيى وعيناه تبرقان: ـ رأيي أن تمنّ عليه وتطلق سراحه.. بعد أن يعتذر إليك، فإن أقرّ بالإساءة أصبح في قبضتك، فتستطيع أن تحبسه إن شئت أو تقتله. تمتم الرشيد بإعجاب: ـ اين كنت عن هذا الرأي!! وأردف وقد وجد نفسه متحمّساً: ـ إنطلقْ إليه، وأطلق عنه الحديد وأبلغه عني السلام وقل له: يقول لك ابن عمك: انّه قد أقسم ألاّ يطلقك حتّى تعترف لي بالإساءة وتسألني العفو عمّا سلف، وليس عليك في إقرارك عار.. استدرك الرشيد كمن يفيق من أحلامه وأوهامه: ـ فإن لم يفعل ذلك ؟! قال يحيى: ـ عندها أرى فيه أمري.. لن نُمهله أكثر من هذا.. سيموت ميتة طبيعية.. سكت يحيى قليلاً ووجد نفسه يقول: ـ ألم يمت أخوك حتف أنفه ؟! ظل الرشيد حائراً، ماذا يعني يحيى في كلامه، هل هو يهدّده أم يُطَمْئنُه باغتيال موسى ؟! تبادل الرجلان نظرات مستكشِفة: قال يحيى: ـ إننا لم نجرّب معه جميع الأسلحة.. انتبه الرشيد لكأنه يستيقظ من غفلة، قال في نفسه: أجل، إنني لم أجرّب معه سوى السجن والجوع. قال الرشيد وهو ينهض فينهض وراءه يحيى: ـ اذهب إلى بغداد.. فان استجاب لك موسى فهو ما نبغي، وإلاّ فانتظرْني ريثما أعود ونرى فيه رأينا.
37- آخر المكائد.. السِّحر!
ولج يحيى الطامورة.. إرتدى وجهه ثوب الثعلب.. وبدا وجهه في ضوء المشاعل جمرة متوهجة.. عينان تحدّقان في الفراغ.. أشار إلى الحرس بالانصراف فتركوه وحيداً مع موسى.. قال متصنّعاً النصحية: ـ يا أبا إبراهيم، أتقضي عمرك في هذا المكان.. ألا ترحم نفسك وأهلك ؟! اكتفى الإمام بأن رمقه بإشفاق، فأردف يحيى قائلاً: ـ لقد أرسلني الخليفة.. لا تنسَ أنّه ابن عمك.. وقد أقسم ألاّ يخلِّيَ سبيلك حتّى تُقرّ له بالإساءة.. أفي هذا عار؟! لا يا أبا إبراهيم لا.. إفعل ما يخرجه عن يمينه لتخرج من السجن! ـ قل لهارون: إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء.. حتّى ينقضي عنك يوم من الرخاء.. ثمّ نفنى جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، وهنالك يخسر المبطلون. وستعلم غداً إذا جاثيتُك بين يدَيِ الله مَن الظالم والمعتدي. سرت رجفة في جسد الرجل البرمكيّ.. خُيّل إليه أنّها بسبب رطوبة المكان.. نهض.. وهتف بالحرس.. ـ فكّوا قيوده.. سمع صليل أجراس الحديد.. ثلاثون رطلاً أو تزيد تلتفّ حول قدمَي الإمام ويدَيه.. أنهكت جسده، أمّا روحه فكانت تتوهج، تزداد سطوعاً.. فالرجل على وشك الرحيل. غادر يحيى المكان وفي نفسه أمل أن يقهر موسى بأُسلوب آخر، خُيِّل إليه أنه سمع كلمات موسى وهو يقول: ـ مساكين آل برمك! لا يعلمون ما يجري عليهم(51). أخذته الرجفة فأسرع إلى خارج الطامورة.. شعر بدوار شديد في رأسه لكأنّ آلاف الأفكار تتراكض في داخله كأفراس مجنونة. رعب يتفجّر في أعماقه يحيله إلى إنسان خائر لا حول له ولا قوّة.. هناك أشياء لا يفهمها.. لقد أُقيل الفضل من الوزارة.. ثمّ حُلّ الجيش الخراسانيّ.. جعفر يرتقي الوزارة ولكنّه يبقى في معزل عن الحلّ والعقد. الفضل يُجرّد من ثيابه فتنهال عليه السياط بأمر من محمد بن العبّاس.. ثمّ يموت العبّاس فجأة مسموماً.. تُرى ماذا يحدث في الظلام ؟! يحيى ذاهل يقف مشدوهاً أمام هارون! لم يكن يتصوّر أنّ هذا الشاب الذي صنعه على يديه يتحول إلى لغز.. يتحول إلى مصّاص للدماء لا يرتوي.. يأكل من لحوم أبناء عمه وحتّى من إخوته وعمومته.. حتّى ابنه أحمد(52) لم يَسلم من طاحونة الموت، ترك دنيا أبيه ومضى يتكسّب ويعمل فلا يأكل إلاّ من كدّ يده، لا أحد يدري ماذا يجري في هذه المدينة اللعوب.. الناس جميعاً نيام.. وحده هارون يُحيي الليل.. يلعب الشطرنج فتتساقط الرؤوس الآدمية.. أصبح يخاف من الرطب لكثرة ما لقي منه الضحايا من المصير الغامض المجهول. انتبه يحيى بن خالد إلى نفسه بعد أن سقط ظِلّ الرشيد بحُلّته السوداء المخيفة.. امتلأت نفسه رعباً، لقد بات يخشى هذا الرجل.. هتف الرشيد وهو يتصنّع الابتسام: ـ ماذا فعلت يا أبا عليّ ؟! ـ ماذا بمقدوري أن أفعل ؟! موسى يقاوم الغربة والجوع والظلام.. يقاوم الحديد والقيود.. ـ يبدو أنّك أخفقت.. ـ موسى رجل عجيب.. فيه شيء لا أكاد أفهمه.. يتحدّث عن أشياء لا نراها.. بل لا نتوقّعها.. لقد سمعت من السجّانين أشياء لا تُصدَّق.. حتّى أخت السندي أصبحت عابدة.. تعمّد الرشيد أن يطلق ضحكة عالية: ـ لقد سحرك موسى.. موسى يقول أشياء كثيرة.. وربّما سيدّعي النبوّة بعد أيام(53). اكتسى وجه هارون الجدّ وبدا مخيفاً.. كانت عيناه تبرقان بشيء مخيف.. أحنى يحيى رأسه مستأذناً وأدار وجهه منصرفاً.. فيما ظلّ هارون يحرق قفاه بنظرات مشتعلة. قال وهو يصرّ على أسنانه بغيظ: ـ سيأتي دوركم أيها البرامكة.. سأجعل منكم أُحدوثة لأهل بغداد.. أنا حفيد المنصور(54). لا أحد يدري ماذا يجري في الظلام.. ربّما تعرف الجواري الحسان اللائي أهداهنّ الحاكم إلى عِلْية القوم، ماذا يحصل.. من يتوهج اسمه ومن ينطفئ نجمه! هتف الرشيد باسم حاجبه، وذهبا معاً إلى شرفة في القصر.. ربما كانا يحوكان مؤامرة جديدة.. لا أحد يدري.. من زاوية في القصر ظهر مسرور.. كان ينظر إلى ( الخليفة ) كما ينظر الوثني إلى صنم بشري، قال الرشيد: ـ هل أحضرتَ الجارية ؟ ـ نعم يا مولاي.. خلف الستر تنتظر. سار الرشيد باتجاه ستائر حريرية مذهبة.. في الرواق كانت أكداس من الأكياس المليئة بالذهب والفضة تتّكئ إلى الجدار المرمريّ الصقيل.. أحنت الجارية جذعها الممشوق ( للخليفة ).. اشتعلت في عينيه شهوة حمراء.. حمراء بلون الدماء.. ربّما كان يفكر أنها آخر الأسلحة لقهر موسى.. ليس هناك من لا يركع لهذا الجمال.. لهذه الفتنة.. ليس هناك من لا ينحني لهذا السحر.. قال لها ( الخليفة ). ـ أنظري يا ( سَحَر ).. انظري إلى هذا الذهب، سأمنحك ما تشائين إذا جئتني بقلبه.. إذا حطّمتِ إرادتَه.. ابتسمت سحر لكأنها تريد أن تقول: ـ بعزّة هارون سأغلبه! سأفتنه عن دينه.. ومضت ( سحر ) يتقدمها ( مسرور ).. مضت تتضوّع شذىً وسحراً.. تملأ القلوب فتنة.. وازدادت فتنةً عندما أصبحت تحارب من أجل مجد السلطان المهدّد بالخطر.. ستصبح سيّدة القصر الأثير بعد الانتصار.
38- السلاح الأخير
انهمك الحرّاس في إدخال قَدْر من الرفاه في الطامورة، فالسيدة الحسناء في طريقها إلى السجن.. تبادلَ بعضهم نظرات لها معنى.. ( الخليفة ) يقاتل خصمه بكل الأسلحة.. وصلت الفتاة دار السندي بن شاهك.. وعندما ترجّلت عن بغلتها.. وتألقت في شمس الضحى حسبها البعض حورية هبطت من جنّتها إلى الأرض.. ليس هناك من يصمد أمام هذه الفتنة الطاغية.. القوام الممشوق.. والوجه الباسم المضيء.. والعينان المكحولتان.. والفم اللوزي. وقف الحرس مشدوهين.. ألقَوا أسلحتهم واستسلموا للنظرات القاتلة.. بين بوابة قصر السندي والسجن رواق ملأته الحسناء شذىً وعبيراً وسِحراً.. مسرور يتقدم كل هذا الجمال الطاغي.. وبدا في تلك اللحظات جنّيّاً قد أوقع بعروس البحر وجاء بها إلى السجن.. وجدت الفتاة طريقها إلى سرداب بددت وحشتَه القناديلُ المضيئة.. تمتم مسرور بكلمات جافّة: ـ هذه جارية بعثها الخليفة لتخدمك. رفع موسى عينَين تتألّق فيهما الأنوار كسماء تزخر بالنجوم. قال يخاطب العملاق: ـ قل لهارون: بل أنتم بهديّتكم تفرحون، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها. ظلّت الحسناء واقفة، ربّما لأول مرّة في حياتها تشهد رجلاً استثنائياً.. وقفت تتأمل موسى تحاول اكتشافه، تُرى مَن يكون هذا الرجل الذي حار في أمره هارون ؟! استدار الجنّي خارجاً، ووجدت الفتاة نفسها تتبعه بصمت.. مَرّ وقت طويل.. ربّما ساعات ثلاث أو أكثر عندما عاد الجنّي ومعه الحسناء الفاتنة.. دلف إلى السرداب وخاطب موسى بفظاظة: ـ يقول الخليفة: ليس برضاك حبسناك، ولا برضاك أخدمناك. لم يصبر ليسمع جواباً.. ترك الفتاة في السرداب وصفق خلفه الباب.. هيمن صمت متوتر.. شعرت الفتاة أنها في حضرة إنسان يشعّ طمأنينة وسلاماً.. سَكينة مطلقة كنبع يتدفق بهدوء، ووقار مهيب يجعل للزمن حديثاً تحسّه النفس بوضوح. وتمرّ أيام وليالي.. موسى غارق في صلاة لا نهاية لها.. فالرحيل وشيك، حاولت الحسناء أن تسبر غوره، أن تستكشف عوالمه، فقالت متودّدة وفي كلماتها مكر أُنثوي: ـ هل لك حاجة أُعطيكها ؟ رفع الإمام عينيه ورمقها بعطف.. إنها ضحية هارون وكنوزه. قال لها موسى وهو يفتح أمام عقلها المحجوب عوالمَ مترعة بالسلام: ـ وما حاجتي إليك ؟ ـ لا أدري، ولكني أُدخلت عليك لحوائجك. هناك أشياء محجوبة عن بصر الإنسان.. مرئيات تحتاج إلى بصيرة نفّاذة.. بصيرة يمكنها أن ترى في الجماد حركته الهائلة، ترى الأشجار وهي تمدّ عروقها في التراب والطين، وترى الجذور وهي تشرب المياه.. وترى البراعم وهي تتفتح.. وترى العالم الذي تسبح فيه الأرواح بسلام.. وفي لحظة رهيبة من اللحظات التي تتحطّم فيها جدران الزمن وتتمزّق فيها الحجب المظلمة.. فتسطع الحقائق.. في مثل تلك اللحظات قال موسى كلمات وهو يشير إلى جدار صخريّ.. تحطم جدار الزمن لتسطع الحقائق لحظات في قلب الوقائع.. وإذا بالفتاة أمام مشهد لم يكن ليخطر على بالها.. تلال خضراء مغمورة بالنور.. خضرة لا نهاية لها.. مجالس مفروشة بالوشي والديباج.. وفتيات حسان يرفلن بالحرير الأخضر، وعلى رؤوسهن أكاليلُ من اللؤلؤ والياقوت، في أيديهنّ أباريق ومناديل وأطباق الفاكهة. كان المشهد مثيراً. تيّارٌ من الحقائق الساطعة.. تيّار يصعق العقل البشري، يدمّر كل ما تراكم عليه من خطايا الإنسان.. وسمعت ابنة حوّاء نداءً قادماً من عوالم مغمورة بالنور: ـ ابتعدي! عن العبد الصالح. سقطت الفتاة لوجهها.. سقطت ساجدة، وقد سطعت الحقائق في روحها.. أضاءت كل عالمها المظلم.. لم يعد لهارون مكان في روحها.. لقد تحرّرت تماماً.. تدفقت الدموع من عينيها النجلاوين.. إنّها تغتسل.. قلبها.. روحها، وكل وجودها، إنها تُولَد من جديد وقد تطهّرت من كل أدران الأرض.. غير أنها لم تعد قادرة على الاحتفاظ بتوازنها.. غرقت في سجود طويل.. عميق.. لكأنها تغتسل في نبع يتدفق بالنور.. كان هناك من يتلصّص.. من كوّة ضيقة.. بقَدْر ما تسَع للسجّان أن يراقب سجناءه.. كان مسرور يترقّب اللحظة التي تنتصر فيها الفتنة الأُنثوية.. يشهد هزيمة الروح أمام ضجيج الغرائز الآدمية. ما أكثر مصارع الرجال في هذا المعترك.. ما أكثر الذين هزمهم هارون بجواريه! ولكن يا للدهشة!! ما بال هذه الحمقاء ساجدة.. ما بالها تهتف من أعماق روحها: قُدّوس.. قدّوس.. قدّوس(55).. هزّ ( مسرور ) رأسه وراح يقلّب عينيه من خلال الكوّة في الجدران الصخرية لعلّه يعثر على شيء يفسّر له ما يرى. لقد حلّت الكارثة.. هُزمت آخر الأسلحة.. السجين ما يزال هو.. هو.. هو.. كقلعة حصينة تقاوم.. أسرع ( مسرور ) إلى سيّده.. كلّ شيء يوحي بهزيمة ساحقة. صرخ هارون وهو يتفجّر غيظاً.. ـ عليّ بها.. سَحَرها واللهِ موسى. انتُزِعت الحسناء بقسوة، جرّها الخادم إلى خارج السرداب كانت تنظر إلى السماء تبحث عن شيء اكتشفته.. لا تفتأ تهتف: قدّوس.. قدّوس.. ربُّ الملائكة والروح.. الجسد الغضّ يرتعد.. ينتفض بشدّة.. إنّها حمّى الحقيقة التي يكتشفها المرء فجأة.. انتفاضة الروح.. اشتعال الفطرة الإنسانية تحت ركام الغرائز.. توهّج الإرادة.. وهزيمة الشيطان. كانت الفتاة ما تزال تنظر في السماء.. تحدّق في الأغوار اللانهائيّة.. وكان هارون يتميّز غيظاً.. صرخ بقسوة: ـ ما شأنُكِ ؟! أجابت الفتاة وعيناها النجلاوان تمتلئانِ دموعاً: ـ شأني الشأن البديع.. كنت واقفة عنده وهو قائم يصلّي.. فلما انصرف من صلاته قلت له: هل لك حاجة ؟ إني أُدخلت عليك لحوائجك.. فأشار بيده وقال: فما بال هؤلاء ؟! وأحسست أن الأرض تدورُ بي، فرأيت ما لا عين رأت.. وسمعت ما لا أذُنٌ سمعت، ولم يخطر على قلب بشر.. رأيت رياضاً خضراء تمتد في الأفق البعيد.. تغمرها أنوار بهيجة.. ورأيت صبايا كأنهنّ اللؤلؤ المنثور.. يخطرن في التلال الخضر.. وعلى رؤوسهنّ أكاليلُ من لؤلؤ ومن ياقوت.. وفي أيديهنّ أباريق من فضة ومناديل من إستبرق وحرير.. صرّ هارون على أسنانه بغيظ: ـ يا خبيثة! إنكِ سجدتِ ونمت، ورأيتِ ذلك في النوم.. أضغاث أحلام! أجابت الحسناء وقد سطعت الحقيقة في أعماقها: ـ لا واللهِ يا سيدي.. رأيت هذا قبل سجودي.. فسجدتُ من أجل ذلك.. التفت الرشيد إلى خادمه.. غمز بعينه.. أمسك الجنّي بالحسناء وقادها إلى حجرة في القصر.. تحوّلت الحجرة إلى معبد صغير.. إلى محراب للصلاة والتبتّل. سجود حتّى الاستغراق.. وعبادة حدّ التبتل.. وتأمّلٌ حتّى الذهول.. وتحديق في السماء حدّ السهوم، وتفكّر حتّى السُّكْر.. وسكر حتّى الانتشاء، وسطوعٌ للروح حتّى الفناء.. وتمرّ الأيام.. أيام قليلة في حسابات الساعة ذات الأجراس النحاسية.. ولكنها رحلة اكتشاف سبرت كل معاني الحياة. لَشدّ ما يغيظ هارون.. أنّ سحره انقلب عليه.. وأن الخنجر الذي أراد أن يطعن به موسى يرتدّ إلى نحره.. واشتعل مشهد يكاد يضيء التاريخ يوم وقف موسى بن عمران يَعِظ قومه، فنهضت امرأة أغراها قارون بكنوزه.. نهضت لتطعن المواعظ، لتقتل موسى.. قالت: أنت راودتَني عن نفسي. وغضب موسى.. غضبت السماء.. وأقرّت البغيُّ أنّها فعلت ذلك بأمر قارون.. اهتزّت الأرض لغضب السماء.. ابتلعت قارونَ وكنوزَه، أصبحت أثراً بعد عين.. تُرى هل يعيد التاريخ نفسه ؟ إختفت الفتاة بعد أيام.. تهامس سكان القصر، تحدّثوا عن قصّتها وهي لا تفتأ تَذكر موسى.. تذكر العبد الصالح الذي أزاح عن عينيها غشاوة الحياة الدنيا.. فتح لها نوافذ تُطلّ على عالم الروح.. عالم مترع باللذائذ.. مفعم بالمحبّة والسلام.. نامت الفتاة ذات يوم ولم تستيقظ.. وتهامس سكان القصر في قصّتها.. هل أكلت رطباً ؟ أم عنباً..؟ هل ذهبت إلى الحمّام؟ لا أحد يدري، ولكن من المؤكّد أنّها ذهبت شهيدةَ الحبّ الالهي.
39- لآلئ.. من المعرفة
كل شيء يُنذِر بوقوع كارثة.. كارثة من نوع غير مفهوم. بغداد يلفّها الضباب والشتاء يحمل غيوماً وسحباً.. ورجال الشرطة يجوبون الأزقة في الليل.. وكتابات على الجدران.. كلمات تتأوّه من الليل والبرد والفراق.. بغداد أضحت مدينة أشباح مخيفة غادرتها حمائم السلام.. وتكاثرت فيها أسراب الغربان ولم يعد الكروان يغنّي في لياليها.. وحدها الأبوام تنعب في الظلام تبشّر بالخرائب والأطلال.. موسى ما يزال في السرداب.. تغمره السكينة ويتدفق من حوله تيار السلام.. وفي زاوية من السجن بدت رسائل ملفوفة، بعضها مفضوض وآخر ما يزال مختوماً.. رسائل من مختلف الأصقاع.. تسأل تبحث، تُنشد الحقيقة وتبحث عن الحق في زمن الأباطيل.. وجلس أبو إبراهيم يسطّر رسالته الأخيرة.. رسالة إلى عليّ بن سويد.. موسى يسطّر آخر الكلمات.. لقد اشتدّت ظلمة الليل وأزفت ساعة الرحيل.. الإمام يسطّر كلماته للأجيال.. كلمات مخزونة بالرعود وبالبروق.. مشحونة بالغضب.. والمقاومة حتّى الموت: ـ بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله العلي العظيم.. الذي بعظمته ونوره أبصرت قلوب المؤمنين.. وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون.. وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض إليه الوسيلةَ بالأعمال المختلفة.. والأديان المتضادة.. فمصيب ومخطئ.. وضالّ ومهتدي.. وسميع وأصمّ وبصير، وحيران.. فالحمد لله الذي عرّف، ووصف دينه محمّدٌ صلّى الله عليه وآله. أما بعد. فإنك امرؤ أنزلك الله من آل محمّد بمنزلة خاصّة، وحفظ مودّة ما استرعاك من دينه، وما ألهمك من رشدك، وبصّرك من دينك بتفضيلك إيّاهم وبردّك الأمور إليهم.. كتبتَ إليّ تسألني عن أمور كنتُ منها في تقيّة ومن كتمانها في سعة.. فلما انقضى سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان العظيم.. بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها العتاة على حالتهم.. رأيت أن أفسّر لك ما سألتني عنه.. مخافة أن تدخل الحيرة على ضعاف شيعتنا من قِبَل جهّالهم. فاتّقِ الله عزّ ذكره، وخُصَّ بذلك الأمرِ أهلَه، واحذر أن تكون سبب بليّة على الأوصياء أو حارشاً عليهم بإفشاء ما استودعتك، وإظهار ما استكتمتك، وأن تفعل إن شاء الله.. إن أول ما أُنهي إليك أنّي أنعى نفسي في لياليّ هذه.. غير جازع.. ولا نادم.. ولا شاكّ فيما هو كائن ممّا قد قضى الله عزّوجلّ وختم. فاستمسك بعروة الدين آلِ محمّد.. والعروة الوثقى الوصيّ بعد الوصيّ.. والمسالمة لهم والرضا بما قالوا.. ولا تلتمس دين مَن ليس من شيعتك، ولا تُحبّنّ دينهم، فإنّهم الخائنون.. الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أمانتهم. أوَ تَدري ما خانوا أمانتهم ؟ ائتُمِنوا على كتاب الله فحرّفوه، وبدّلوه، ودُلّوا على ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وسألتَ عن رجلين اغتصبا رجلاً مالاً، كان ينفقه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وفي سبيل الله، فلمّا اغتصباه ذلك لم يَرضيا حيث غصباه حتّى حملاه إيّاه كرهاً فوق رقبته إلى منازلهما، فلما أحرزاه تولّيا إنفاقه.. أيبلغان بذلك كفراً ؟ فلَعمري، لقد نافقا قبل ذلك وردّا على الله عزّوجلّ كلامه وهزِئا برسوله، وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. واللهِ ما دخل قلبَ أحدهما منهما شيء من الإيمان منذ خروجهما من حالتيهما، وما زادا إلاّ شكاً.. كانا خدّاعَين مرتابَين منافقَين، حتّى تَوفّتْهما ملائكة العذاب إلى محلّ الخزي في دار المُقام. وسألتَ عمن حضر ذلك الرجل وهو يُغصَب ماله، ويوضع على رقبته.. منهم عارف ومنهم منكر.. فأولئك أهل الردّة الأولى من هذه الأمّة، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وسألت عن مبلغ علمنا.. هو على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث، فأمّا الماضي فمفسَّر، وأمّا الغابر فمزبور، وأمّا الحادث فقذفٌ في القلوب ونقر في الأسماع، وهو أفضل علمنا.. ولا نبيَّ بعد محمّد. وسألت عن نكاحهم وطلاقهم.. فأمّا أمّهات أولادهم فهنّ عواهر إلى يوم القيامة.. نكاح بغير وليّ، وطلاق في غير عِدّة.. وأمّا مَن دخل في دعوتنا فقد هدم إيمانُه ضلالَه.. ويقينُه شكَّه. وسألتَ عن الزكاة فيهم.. فما كان من الزكاة، فأنتم أحقّ به، لأنّا قد أحللنا ذلك لكم مَن كان منكم وأين كان. وسألتَ عن الضعفاء.. فالضعيف من لم يُرفع إليه حجّة، ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف. وسألت عن الشهادة لهم.. فأقم الشهادة لله عزّوجلّ ولو على نفسك والوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم، فإن خفت على أخيك ضيماً فلا.. وادعُ إلى شرائط الله عزّ ذِكره مَن رجوتَ إجابته ولا تَحصّن بحصن رياء.. ووال آل محمّد ولا تقل لما بلغك عنا ونُسب إلينا هذا باطلاً، وإن كنت تعرف منا خلافه.. فانّك لا تدري لما قلناه، وعلى أي وجه وضعناه. آمنْ بما أُخبرك.. ولا تُفشِ بما استكتمناك من خبرك، إنّ مِن واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئاً تنفعه به لأمر دنياه وآخرته، ولا تحقد عليه وإن أساء.. وأجب دعوته إذا دعاك، ولا تخلِّ بينه وبين عدوه من الناس، وإن كان أقرب إليه منك.. وعُدْه في مرضه.. ليس من أخلاق المؤمن الغشّ ولا الأذى، ولا الخيانة ولا الكِبْر، ولا الخَنا، ولا الفحش، ولا الأمر به. فإذا رأيت المشوّه الأعرابي في جحفل جرّار، فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين.. وإذا انكسفت الشمس فارفع بصرك إلى السماء، وانظر ما فعل الله بالمجرمين.. فقد فسّرت لك جُمَلاً مجملاً.. وصلّى الله على محمّد وآله الأخيار.
40- الغدر.. آخر الطريق
وفي قصر الخلافة كان هارون يفكّر.. ويدبّر، فقُتل كيف فكّر، ثمّ قُتل كيف فكّر.. ها هو يتهامس مع يحيى بن خالد وقد بدت عيونهما تبرقان دناءةً وغدراً.. وبينهما طبق فيه عنقود عنب وفيه رطب.. الزمن يمضي واهناً وقد بدت النجوم بين أكوام الغيوم قلوباً حزينة تنبض بالألم.. وكان القمر يختفي ويظهر.. يشرق ويغيب. وفي منتصف تلك الليلة.. وفيما كانت السحب الدكناء تحتشد في السماء أيقظ يحيى بن خالد مديرَ الشرطة السنديَّ بن شاهَك؛ ليسلّمه طبقاً مترعاً بالرطب والعنب والغدر.. أدرك السنديّ أن اللحظة الرهيبة قد حلّت.. دلف إلى السرداب.. كان يتألق بأنوار المشاعل.. وكان عليّ بن سويد ما يزال يشهق بعبرته.. رفسه السندي وخاطبه بفظاظة: ـ أنت ما تزال هنا.. اقترب ابن سويد من سيّده العظيم، قبّل يده، شدّ عليها مودِّعاً.. كانت آثار القيود ما تزال محفورة، همس بحزن: ـ قلبي يحدّثني أنني لن أراك يا سيدي. ـ ستراني قريباً. سأل بلهفة: ـ متى يا سيدي ؟ ـ يوم الجمعة. ـ أين يا ابن رسول الله ؟! ـ على الجسر ببغداد. جذبه السندي من يده: ـ أُخرج يا رافضيّ. خرج عليّ وقد ملأ الأمل قلبَه وروحه.. خرج ليبشر المستضعفين والمقهورين.. خرج ليقول أن اليوم الذي ينتظرونه قد دنا.. إنْ هي إلاّ أيام ثلاثة وتكتحل العيون.. وتبتهج القلوب بيوم الخلاص.. يوم الحريّة.. ذلك وعد غير مكذوب. جثم صمت رهيب فوق المكان.. في ذلك السرداب البعيد عن سطح الأرض.. في ذلك القبو كان موسى يستعدّ للرحيل.. للخلاص.. وقف مدير الشرطة ينظر إلى سجينه.. وقد وضع بين يديه طبقَ ( الخلافة ).. طبقاً مليئاً بالرطب وبالعنب. صفّق السندي بيديه.. فاقتحم الشرطة المكان.. وجوه قاسية جامدة.. منحوتة من صخر، وقلوب مصبوبة من الرصاص، وقد دقت الساعة النحاسية آخر دقّات الليل.. سقطت اثنتا عشرة كرة من نحاس.. رنّت في منتصف الليل. في ذلك الزمن النحاسي مدّ موسى يده المعروقة ليتناول رطباً مسموماً وعنباً.. نظر الإمام إلى نقطة ما في سقف السرداب.. كانت نظراته تخترق القضبان والصخور والظلام، همس بصوت حزين: ـ يا ربّ.. إنك تعلم أنّي لو أكلتُ قبل اليوم كنتُ قد أعنتُ على نفسي.. غمغم السندي بصوت أجشّ: ـ كُلْ يا موسى، إنه رطب لذيذ خصّك به الخليفة من دون الناس. نحن في الشتاء وهذه فاكهة الصيف! كان الإمام يلوك على مضض رطباً مسموماً، وعنباً. أمسك الإمام ولاذ بمحراب الصمت. قال السندي: ـ زِدْ على ذلك يا موسى. رمقه الإمام بحزن: ـ حسْبك، قد بلغتَ ما تحتاج إليه!. السمّ يسري في الجسد الواهن.. ورياح الشتاء تعصف ترشق النوافذ.. تدفع الأبواب الخشبية.. تُولول في الأزقة، تجوس خلال الديار، تعصف بشواهد القبور.. بغداد غارقة في الليل والظلام، نوافذها مطفئة ما خلا نوافذ القصور المنيفة تتدفّق منها أنوار حمراء وموسيقى وأصوات ناعمة.. ( الخليفة ) يقضي ليله مع الجواري الحِسان.. والألحان.. والقيان، حتّى يطلع الصباح، وتكفَّ شهرزدادُ عن الكلام المُباح. وفي السماء.. كانت السحب الدكناء تتراكم بعضها فوق بعض.. بدت أكوام الغيوم لوحةً مشحونة بالمطر.. تشكّلت خلجان ومرافئ وبحيرات وتلال وجبال.. وكانت الرياح تعصف.. تدور في الغيوم. اختفت المرافئ، وتهاوت التلال وتلاشت الخلجان، وكان القمر يفرّ خائفاً، لكأنه يبحث عن بقعة صافية في السماء.. ولكن لا جدوى، غرق القمر.. اندثر تحت ركام السحب.. وبدا الجوّ مشحوناً.. فجأة انفجر البرق.. توهّج كسوط سماويّ.. جلجل الرعد في الفضاء اللانهائيّ، دارت معركة في السماء.. وكانت الصواعق تضيء كسيوف أُسطورية، وقد بدت السماء تنوء بثقل الغيوم.. وأخيراً.. تدفّق المطر من خلال ركام الغيوم عنيفاً غزيراً.. راحت ميازيب المدينة الغارقة في الليل والمطر.. تنشج.. وقد بدا جسر الرصافة حيث يخترق دجلة المدينة.. بدا في تلك الليلة المطيرة ثعباناً أسطورياً جاثماً فوق النهر.. ورجال الشرطة يهرولون.. يطرقون بعض الأبواب الكبيرة في المدينة.. استحال قصر السندي حيث يقبع السجن الخاصّ لمدير شرطة بغداد.. استحال تلك الليلة إلى معسكر أُعلنت فيه حالة إنذارٍ قصوى.. الأعصاب متوتّرة، والأحذية الثقيلة تهزّ القاعات والأروقة.. وصهيل خيل الدوريات يوقظ النائمين.. وكان المطر ما يزال ينهمر بغزارة، والرعود تدوّي.. و ( الخليفة ) يحدّق في الظلام، مسّه طائف الأرق.. وحده كان موسى هادئاً.. تغمره حالة من الطمأنينة والسلام.. وحده كان يمثّل النقطة المضيئة وسط الظلام.. وحده في وسط الإعصار حيث تدور الدوّامة الرهيبة.. توجد نقطة هادئة.. هي المركز.. كان موسى في تلك النقطة الهادئة.. العالَم من حوله يموج بالمؤامرة.. بالغدر بالخسة والدناءة.. أمّا هو فقد بدا في تلك اللحظات رجلاً يشبه المسيح عيسى بن مريم.. السرداب ما يزال مفعماً بالسلام.. وقد جلس موسى.. ينوء بآلام الإنسان.. السمّ يسري في أنحاء البدن المعذَّب.. كشرطة الدوريات تجوس خلال المدينة.. تدوس ورود البنفسج وتسحق رؤوس الأطفال.. تبقر بطون النسوة.. وتحيل شوارع المدينة إلى أنهار تتدفق دماءً وعذابات وآهات.
وقف السندي قلقاً.. سرت في جسمه رعدة.. وكان يبذل جهداً جبّاراً للحفاظ على توازنه.. خاطب كاتب الضبط بقسوة: ـ إستعدّ.. سيأتي الشهود.. سَجّل الشهادات بدقة والأسماء والعناوين.. سجّل كلَّ شيء.. كل شيء، أفهمت ؟ ـ نعم يا سيدي. ارتفعت جلبة.. أُحضر الشهود، كانوا ثمانين من أهل بغداد من أهل القصور المنيفة. وقفوا جميعاً ينظرون إلى موسى.. موسى الذي أرعب هارون.. أحال لياليه إلى أرق.. وقفوا يتطلعون إلى وجه أسمر يتألق بطيوف النبوّات.. رجل لم يقهره هارون.. لم تصرعه الدنيا.. ظلّ ثابتاً كجبل، قويّاً كإعصار.. طاهراً كقطرات الندى.. قال السندي بلهجة مترعة بالدجل: ـ انظروا إلى هذا الرجل.. هل حدث به شيء ؟ إن الناس يزعمون.. أنه قد فُعل به مكروه.. يُكثرون من ذلك.. هذا منزله.. انظروا: قناديل.. مشاعل.. وهذا فراشه.. إنه يعيش في سعة.. لم يقصّر الخليفة في التوسعة عليه.. لا يعيش في ضيق.. لم يُرد به الخليفة سوءً.. لقد حبسه فقط.. حبسه ليناظره.. وها هو موسّع عليه فاسألوه! لم يجرؤ أحد على السؤال.. عاصفة من الشكّ تجتاج المكان تعصف بالرؤوس.. قال موسى بصوت أوهنه العذاب: ـ أمّا ما ذُكر من التوسعة، وما أشبه ذلك، فهو على ما ذُكر.. غير أني أخبركم أيها النفر.. أني قد سُقيت السمَّ في تسع تمرات.. إنّني أموت.. انهار السندي.. أُسقط ما في يده، لقد تكشّفت خيوط جريمته. لعبة قديمة.. يلعبها الطغاة.. يقتلون الإنسان من الداخل.. خنجر لا يراه أحد.. يأتي الطبيب.. يُجري فحوصات على سلامة الجسم من كل شدّة خارجية.. جرح، سوط عذاب.. يسجل شهادته: مات حتف أنفه.. ولكنّ الجوع والسم والعذاب.. كلّ هذا لا يحسب له طبيب السجن حساباً!
41- الوداع.. أيّها العلقم!
تدهورت صحة السجين في اليوم التالي، اجتاحت وجهَه صفرة.. فرّت الدماء من الوجه الأسمر.. بات شاحباً تماماً.. قد يدهمه الموت بين لحظة وأخرى.. استُدعي الطبيب للكشف عن حالة السجين الغريب.. في الطريق عرف الطبيب أن السجين ليس بغدادياً ولا عراقياً.. إنه حجازيّ مدنيّ ليس له في بغداد أهل ولا عشيرة. دلف الطبيب إلى السرداب.. كان كل شيء هادئاً ما خلا خطىً ثقيلة وئيدة لمدير الشرطة، كان يذرع أرض السرداب جِيئةً وذهاباً.. بدا عصيباً وهو يعقد يديه على صدره البارز فوق بطن منتفخة.. أجرى الطبيب فحوصات أوّلية.. كان يبحث عن سبب لعلّته.. لهذا الشحوب القاتل في وجهه.. إلى لسانه الذي اسودّ قليلاً.. هزّ رأسه حيرة وسأل مغمغماً: ـ ما حالك ؟ سكت الإمام. سأل الطبيب بلهجة فيها إلحاح: ـ أتشكو علّة.. إنني لا أرى في جسمك أثراً لجرح ؟! رمقه الإمام بطرف عينه، وفتح راحته اليمنى وقال بصوت أوهنته سنون العذاب: ـ هذه علّتي.. كانت نقطة مُزْرَقّة تحكي سريان سُمّ فتّاك.. سم قاتل لا يرحم جسد الإنسان. هزّ الطبيب رأسه بأسى ونهض، كان السندي يترقّب إفادة الطبيب.. قال الطبيب بلهجة فيها مرارة: ـ واللهِ لَهُو أعلم بما فعلتم به منكم! اكتفى السنديّ بأن رمق الطبيب بنظرة شزراء.. فيها تهديد ووعيد.. لم يصمد الطبيب، انسحب على عجل تاركاً الضحية والجلاّد.. صدرت الأوامر بمنع كافّة أنواع الزيارات.. شُدّدت الحراسة بشكل مكثف.. قُطع عنه الماء والغذاء.. ومُنعت جميع الاسعافات، تركوا السجين يواجه مصيره لوحده.. وبين الفينة والأخرى كان مدير الشرطة يدهم المكان ليُسمع ضحيتَه ألوان الشتائم. موسى يواجه آلامه الرهيبة لوحده.. آلاماً لا يتحمّلها كائن بشريّ، ولكن الإنسان الذي سطعت في أعماقه الحقيقة، وأضاءت في طواياه النبوّات.. كل النبوّات، يتحمّل بعزم كلّ عذابات الأرض وويلاتها. في منتصف الليل.. وفيما كانت بغداد تغطّ في نوم ثقيل.. تدهورت صحة السجين فأكثر فاكثر.. شعر أنه يقترب من النهاية.. نهاية كلّ الحيوات.. استُدعي مدير الشرطة فحضر على الفور.. جاء السندي يشهد اللحظات الأخيرة من عمر الضحيّة.. ليشهد الفصل الأخير من ملحمة المقاومة.. جاء ليرى كيف يموت الإنسان وحيداً.. كيف تنطفئ الشموع بصمت.. وكيف يرحل موسى.. سوف يهنأ هارون في دنياه العريضة.. ينصرف إلى مُتعه وغرائزه.. يخلو مع الكعاب الحسان.. سوف يسكت موسى.. يسكت إلى الأبد.. كان السندي يتوجّس خيفة من غضب شعبي عارم.. ربّما تثور بغداد.. لا يريد أن يصبح كبش فداء من أجل هارون.. إنّه يعرف جيداً ما يجري في الظلام.. وكيف يصبح البعض موتى دون سبب واضح.. من أجل هذا عزم على أن يتولّى مراسم الدفن.. ويتحمل نفقات الكفن.. وشق الضريح! لهذا تمتم بلهجة أراد لها أن تكون خالية من فظاظته المعروف بها: ـ لقد عزمت على أن أتولّى الكفن والدفن. قال الإمام دون أن ينظر إليه: ـ إنّا ـ أهل بيت ـ مهورُ نسائنا وحجّ ضرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا.. وعندي كفني.. سكت هُنَيهة وأردف بصوت واهن، ولكن فيه عزيمة الروح القويّة: ـ إن لي مولى يسكن في مشرعة القصب، عنده كفني وهو يتولّى غُسلي.. الجسد الآدمي لم يعد قادراً على احتمال روح تضجّ بالرحيل.. الجسد الآدمي تفتك به السموم.. بلع موسى ريقه.. كان جافّاً تماماً.. غادرته الحياة كأنّه عبر الصحراء بلا ماء.. طلب ماءً.. جاء حارس غليظ بجرّة صغيرة.. شربها على مَهل.. ثمّ سقط على وجهه.. فيما كانت تمتمات الصلاة تموج على شفتَيه.. إرتاع السندي، شعر بهَول الجريمة، لقد هوى موسى شهيداً له رهبة الشهادة.. أصبح صمته أكثر دويّاً.. أكثر رهبة! وفيما كانت السماء تنثّ مطراً خفيفاً.. كان رجال الشرطة يجوبون أزقّة بغداد ويطرقون بعض الأبواب.. مرّة أخرى يريد مدير الشرطة أن يُبعد عن نفسه الاتهامات. طرق شرطي باب منزل في الرصافة من بغداد.. في غمرة الظلام والمطر.. ارتفعت دقّات تمزّق سكون الليل.. هتف رجل يُدعى عمرو بن واقد: ـ مَن الطارق ؟ ـ إفتح الباب. هبّت الأسرة مذعورة.. شرطي بالباب.. أرسله السندي مدير الشرطة العام لبغداد!! ماذا حصل ؟! أوصى عمرو عياله.. قال لهم ربما لا يعود.. قال لهم إذا لم يعد هذه الليلة فليبحثوا عنه في الصباح.. تمتم وهو يتبع الشرطي في الظلام: إنا لله وإنا إليه راجعون. الليل في هزيعه الأخير.. وصل عمرو قصر مدير الشرطة. كانت ثيابه قد ابتُلّت تماماً.. وأرنبة أنفه تقطر ماءً.. وقبل أن يُحيّيَ عمرُو السنديَّ هتف مدير الشرطة مرحّباً: ـ يا أبا حفص، لعلنا أرعبناك وأزعجناك! ـ نعم. ـ ليس هنا إلاّ الخير. ـ إذن فابعث إلى أهلي رسولاً ليخبرهم، فلقد تركتهم مُرَوَّعين. ـ أفعل. أشار السندي إلى جلواز وهمس في أذنه شيئاً. قال السندي بعد أن استعاد عمرو توازنه: ـ أتدري يا أبا حفص لِم أرسلتُ إليك ؟ ـ لا. ـ أتعرف موسى بن جعفر ؟ ـ نعم أعرفه، وبيني وبينه صداقة منذ دهر. ـ هل ببغداد ممن يُقبَل قوله وشهادته يعرف موسى. ـ أعرف بعضهم.. ـ أُذكرْ أسماءهم.. حتى نبعث خلفهم.. مرّة أخرى تحوّلت دار السندي إلى معسكر يعجّ بالحركة.. رجال الشرطة آتون ذاهبون.. والشهود يتقاطرون زرافاتٍ ووحداناً.. حتّى إذا انبلج نور الفجر كان عدد الشهود قد ناهز السبعين.. الأعصاب متوتّرة.. والعيون حمراء بسبب السهر والتعب. حضر كاتب الضبط فسجّل أسماء الشهود واحداً واحداً.. أعمالهم ومنازلهم وحتّى صفاتهم.. دخل كاتب الضبط وحيّى السنديَّ قائلاً: ـ كل شيء جاهز.. ضُبطت جميع الأسماء، وفيهم فقهاء ورواة. الشهود ينتظرون في إحدى القاعات الكبيرة.. دلف السندي وخاطب عمرو بن واقد: ـ قم يا أبا حفص. نهض عمرو ونهض الشهود.. قادهم السندي إلى السرداب حيث سُجِّيَ جثمان الشهيد.. سيطرت رهبة المكان على النفوس.. قال السندي: ـ اكشف يا أبا حفص عن موسى بن جعفر. تقدم عمرو وجِلاً وأزاح على مهل ملاءة بيضاء كالثلج.. ظهر وجه رجل أسمر بدا نائماً غارقاً في الشحوب.. التفتَ السندي إلى حشد الشهود فقال لهم: ـ أُنظروا إليه. راح أشباه الرجال يمرّون عليه الواحد تلو الآخر.. حتّى إذا تكامل عددهم قال السندي: ـ تشهدون كلُّكم أنّ هذا موسى بن جعفر ؟ ـ نعم. أشار السندي إلى جلواز قريب منه: ـ جرّده من ثيابه. تقدّم الجلواز وراح يجرّد الثياب كاشفاً عن جسد نحيل هزيل.. يحكي أيام الجوع والعذاب والقهر وثقل القيود.. وقسوة الجلاّدين. هتف السندي بلهجة رسمية جافة: ـ أترون به أثراً ؟ كان الشهود يدلون بشهادتهم الواحد بعد الآخر: ـ لا.. ـ لا.. ـ لا... لا... لا... لا.. وكان السندي يخاطب كاتب الضبط.. سجّلْ شهاداتهم سجّل.. لا شك أنّ الجميع سيصدّقون أنّ موسى مات حتف أنفه. لم يلتفت أحد إلى البقع الزرقاء في بعض الأجزاء من جسده.. لم يلتفتوا إلى بعض الأورام هنا وهناك.. لاح الصباح ولمّا تشرق الشمس بعد.. السماء ما تزال ملبّدة بالغيوم.. مثقلة بالسحب.. ما تزال تنثّ مطراً خفيفاً كدموع اليتامى في ليلة شتائية قارسة البرد.
42- تظلّ السماء تمطر
بدا ذلك الصباح رمادياً.. والمارّة كانوا يعبرون الجسر بسرعة بسبب المطر.. ورجال الشرطة يتمركزون في مناطق حسّاسة. كل شيء كان يُنذر بالخطر.. شائعات كثيرة تحوم في سماء بغداد.. وفي الضحى، وفيما كانت السماء ما تزال تنث المطر على هون، خرج نعش الشهيد موسى بن جعفر يحمله رجال الشرطة والجيش يتقدّمهم السندي مدير شرطة بغداد.. بدوا ببزاتهم السوداء أسراباً من الغربان جاءت لتبشّر بزمن الخرائب. الحشود السود تتجه صوب جسر الرصافة.. العابرون ينظرون بخوف إلى ما يجري.. الأحذية الثقيلة تهزّ الطرقات والسكك في طريقها إلى الجسر.. بدا دجلة حزيناً وأمواجه تندفع متلاحقة.. وقد امتدت جبهة النهر لتلتقي عند الأفق الغائم المُدْلهمّ.. فيما بدت أشجار النخيل أهدابَ حورية تبكي بصمت.. وصلت حشود الشرطة وهي تحفّ بالنعش إلى الجسر.. فجأة دوّت نداءات الجلاوزة: ـ هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت، فانظروا إليه ميّتاً! كانت الشرطة في حالة إنذار قصوى تحسّباً للطوارئ، فقد يستفزّ هذا النداء بعض أهالي بغداد.. إن موسى يعيش في القلوب، سلطانه في القلوب والضمائر الحرّة.. السماء ما تزال تسحّ من دموعها الثقال.. ووجه الشهيد مكشوف للعابرين.. النداء يرتفع بين الفينة والأخرى.. العابرون فوق الجسر.. تجمعوا ينظرون إلى موسى.. ينظرون إلى آخر الرجال.. ينظرون إلى السيّد العظيم.. يا للوعة!! أهكذا يرحل الرجال الصالحون ؟! سرت همهمة لا يُعرف مصدرها بعد. سرت الكلمات كالسحر تلاقفتها الآذان كخيال جميل.. ـ موسى لم يمت.. أُقسم أنّه ليس موسى بن جعفر.. لقد شُبّه لهم.. أما موسى فقد رُفع إلى السماء.. كما رُفع عيسى بن مريم. موسى لم يمت.. موسى ما يزال حيّاً.. السماء ما تزال تمطر.. والمطر ما يزال يغسل وجه الشهيد الراحل، ورجال الشرطة كأسراب الغربان ما تزال تنادي: ـ هذا موسى بن جعفر.. مات الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت.. انظروا إليه.. إنه ميّت.. في الجانب الآخر من النهر.. وقريباً من الجسر على ضفاف النهر يرتفع قصر منيف.. إنّه قصر سليمان.. ( عم الخليفة ).. كان سليمان يطلّ عبر النافذة على النهر.. رأى ذلك الصباح الغائم.. رأى جموعاً غفيرة من لابسي السواد تحمل نعشاً فوق الجسر.. وفي كل مرّة كان النعش يوضع على الأرض بقسوة، وصيحات تتعالى في الفضاء.. والجثمان تغسله السماء.. تساءل سليمان عما يجري فوق الجسر! قال أحدهم وقد أحاط بما يجري خُبْراً: ـ هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر. ـ ينادي ؟! ـ نعم سمعتهم يصيحون: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت. ـ موسى يُنادى عليه هكذا.. يا لهوان الدنيا! لا أحد يدري لماذا هبّ سليمان.. لماذا تفجّرت في أعماقه الثورة، صاح بأولاده المسلّحين: ـ انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم، ومزّقوا ما عليهم من السواد. وشهد الجسر عند الجثمان مشادّة بين رجال سليمان وبين الشرطة.. وجد رجال الشرطة أنفسهم عاجزين عن مقاومة عم ( الخليفة ) وأقوى شخصية في الأسرة العباسية بعد ( الخليفة ). حُمل الجثمان إلى القصر المنيف، وبدأت على الفور مراسم الغُسل والكفن.. ولُفّ الجسد الطاهر بحَبرة فيها كتابات قرآنية.. وشهد أحدهم أن شاباً كان يشارك في مراسم الغسل والكفن، وكانت دموعه تهمل من عينيه بصمت. احتفى سليمان لإعلان فجيعته.. وبدأ موكب التشييع يتحرك منطلقاً من القصر إلى الجسر.. وعلى جسر الرصافة دوّت نداءات كان سليمان قد أمر بها: ـ ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيّب ابن الطيب، موسى بنِ جعفر، فلْيحضر. الموكبُ الحزين يشق طريقه في أزقّة بغداد وشوارعها. المطر ما يزال يتساقط كدموع اليتامى.. هبّ أهل بغداد.. هرعت المدينة عن بكرة أبيها لتشارك في موكب تشييع العبد الصالح موسى.. لم يبق أحد في منزله في ذلك اليوم المطير.. انتظم أهل بغداد في موكب جنائزي.. العيون تبكي وآهات تبحث عن السلام الراحل تتصاعد في الفضاء.. توقف الموكب في سوق الرياحين.. وحُطّ النعش فوق الأرض.. ليتحوّل ذلك المكان إلى بقعة طاهرة.. ونُثرت فوق النعش طاقات الرياحين.. فيما كان حملة مجامير العطور ينتظرون استئناف الموكب مسيرَه إلى مثوى الشهيد الأخير.. إرتفع النعش فوق الأنامل.. العيون تبكي، والقلوب صدّعها الحزن، والفجيعة تهزّ الأرواح.. لقد رحل السلام.. الموكب في طريقه إلى قنطرة قطربل.. حيث يتدفق دجلة عبر ممر مائي صغير.. الموكب يتجه إلى بقعة بين بساتين ( زبيدة ) ومحلّة باب التبن، حيث تنهض هناك بيوت الفقراء.. وفي مقابر قريش كان المثوى الأخير.. شُقّ ضريح الشهيد، ووُري الثرى المعطور. وفي تلك البقعة حيث يمرّ دجلة بصمت.. وفيما كانت السماء ما تزال تبكي، والفضاء مفعماً برائحة الأرض المرشوشة بالمطر.. انبرى أحد المفجوعين لرثاء السلام الراحل: ـ قد قلتُ للرجل المولَّى غُسلُه هلاّ أطعت وكنت من نصحائِهِ! جنّبْه ماءَك ثمّ غسّله بما أذرت عيون المجد عند بكائِهِ وأزلْ أفاويهَ الحنوط ونحِّها عنه وحنّطْه بطيب ثنائِهِ ومُرِ الملائكة الكرام بحملهِ كرماً.. ألستَ تراهمُ بإزائهِ ؟! لأ توه أعناقَ الرجال بحمله يكفي الذي حملوه من نعمائهِ(56). وشيئاً فشيئاً تفرقت الجماهير.. عادت إلى منازلها في محلّة باب التبن، وفي مشرعة القصب.. وفي سوق الرياحين، وفي الشماسية.. وفي محلّة باب الكوفة، ومحلة الكرخ والرصافة والشرقية والحربية والخطابية.. أقفر المكان تماماً ما خلا شابّاً ليس من أهل بغداد، كان يذرف الدموع، بينما السماء ما تزال تمطر بصمت.
|
32 ـ جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وزير الرشيد وأقرب المقربين إليه. تسلّم منصب الوزارة سنة 177 هـ، أصبح الحاكم الفعلي مدّة من الزمن. لقي مصرعه على يد الرشيد سنة 187 وقُتل بطريقة بشعة وتشير الروايات إلى مؤامرات ودسائس كان الفضل بن الربيع حاجب المنصور وراءها. صُلب جسده شقَّين، كل شق على جسر من جسور بغداد، ثمّ أُحرقت جثته بعد عام. سألت ( عليّة ) أخاها الرشيد عن سبب نكبته البرامكة فقال: ( لو علمتِ أن قميصي يعلم السبب لمزّقتِه ). 33 ـ شنَّ ( الميذُ ) أو لصوصُ البحر والقراصنة غارات عديدة استهدفت مدينة البصرة جنوب العراق، فقد شنّوا أُولى غاراتهم سنة 148 هـ ثمّ سنة 149 هـ وسنة 153 و 178 و 179 ، 225 هـ و 227 و 231 هـ. (تاريخ الطبري 192:9). 34 ـ المناقب، لابن شهرآشوب 379:2 . 35 ـ سورة القصص: 76 ـ 83. 36 ـ الفضل بن الربيع بن يونس: تسلّم منصب الوزارة بعد نكبة البرامكة، وكان حينها حاجباً للرشيد وكان وزيراً للأمين أيضاً. 37 ـ كان الفضل بن يحيى أخاً للرشيد في الرضاعة، وذلك أن الفضل والرشيد وُلدا في نفس العام سنة 149 فقامت أم الفضل بإرضاعهما معاً. 38 ـ الرافقة مدينة أزمع الرشيد أن تكون عاصمة له على نهر الفرات، فبدأ العمل فيها مدّة ثمّ توقف سنة 179 هـ. 39 ـ بنى جعفر قصراً فخماً في الشماسية في الجانب الشرقي من بغداد عُدّ من أفخم قصور بغداد. وتذكر بعض الروايات أن ذلك كان أحد الأسباب التي دعت الرشيد إلى تصفية البرامكة خشيةً من اتّساع نفوذهم. (تاريخ بغداد 149:7 . الوزراء والكتاب، للجهشياريّ 189). 40 ـ بحار الأنوار، للشيخ المجلسيّ 299:11، (الطبعة القديمة). 41 ـ ضرب زلزال عنيف مصر فسقطت إثره منارة الاسكندرية، وذلك سنة 180 هـ. 42 ـ أصول الكافي، للشيخ الكلينيّ 105:1. 43 ـ قال فيه إبراهيم العربي: ( ما أخرجتْ بغداد أتمَّ عقلاً، ولا أحفظ للسانه، من بُشر ). وقد عُرف عنه تذمّره من أهل عصره، وإعراضه عن زينة الحياة. حاول المأمون زيارته فرفض. (الكنى والالقاب، للشيخ عبّاس القمّي 150:2. تاريخ بغداد 73:7 ، 77). 44 ـ عبدالملك بن قريب الأصمعي، نشأ في البصرة ودرس العربية على أيدي علمائها، وكان يكثرالخروج إلى البوادي. اتّصل بالرشيد وأصبح نديماً له. غادر بغداد بعد اندلاع الحرب بين الأخوين: الأمين والمأمون. له مؤلفات عديدة في الشعر وغيره. تُوفّي سنة 216 هـ عن عمر ناهز الرابعة والتسعين. (الفهرست 82. شذرات الذهب 28:2. تاريخ بغداد 410:10). 45 ـ أنواع من الخمور معروفة في بغداد آنذاك. 46 ـ أنواع من الخمور معروفة في بغداد آنذاك. 47 ـ عليّ بن سويد السائي، روى عن الإمام الصادق عليه السّلام وعن نجله الإمام موسى الكاظم عليه السّلام، عُدّ من الثقات في الرواية.(رجال النجاشي 211). 48 ـ أبو يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكّيت، كان حاملاً للواء العربية والأدب في عصره، وله مصنفات عديدة. لقي مصرعه سنة 224 هـ على يد المتوكّل العباسي، فقد سأله الأخير عمّا إذا كان يحبّ ولدَيه ( المعتزَّ والمؤيد ) أكثر من الحسن والحسين سبطَي النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال ابن السكّيت: واللهِ إن قنبر خادم علي بن أبي طالب عليه السّلام خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكّل للأتراك: سُلّوا لسانه من قَفاه.(الكنى والالقاب 304:1). 49 ـ روضة الكافي، للكلينيّ 125. 50 ـ مقاتل الطالبيين 504. 51 ـ حياة الإمام موسى بن جعفر 214. 52 ـ بحار الأنوار 302:11. 53 ـ بحار الأنوار 302:11. 54 ـ أحداث التاريخ الإسلامي، للترمانيني 1116. 55 ـ المناقب، لابن شهرآشوب 264:2. 56 ـ الإتحاف بحب الأشراف، للشبراويّ 57. |