2- الروح القيادية في الأمة |
|
في واقعة أحد عندما أصيب المسلمون بالهزيمة في الجولة الثانية في المعركة، بعد ما ربحوا الجولة الأولى، وسيطروا على المشركين، واستولوا على الغنائم، وانشغلوا بجمع الغنائم من ساحة المعركة، وكان النبي قد أوكل إلى خمسين نفراً ليقفوا على الجبل ويحموا ظهر المسلمين، ولكن هؤلاء تخلفوا عن أمر رسول الله، عندما رأوا آثار الهزيمة في صفوف أعدائهم المشركين، تركوا مواقعهم ونزلوا من الجبل، وانحدروا إلى الوادي لينشغلوا بجمع الغنائم مع سائر المسلمين، وبقى أفراد قلائل، فلما نظر خالد بن الوليد إلى هذا الموقع الذي تخلى عنه المسلمون، وأصبح منفذاً للهجوم على المسلمين من الخلف استغل خالد هذه الثغرة وهجم مع جماعة من المشركين، وباغت المسلمين من الخلف وأوقع هزيمة منكرة، ففر المسلمون على وجوههم، وبقي النبي وحده مع جماعة قليلة، عددهم تسعة أنفار منهم: علي (عليه السلام) وأبو دجانة الأنصاري ثبتوا مع النبي. وأشاع أحد المشركين إشاعة: بأن النبي (صلّى الله عليه وآله) قد قتل، وسرت هذه الشائعة بين المسلمين المنهزمين، وأصابهم الخوف والتراجع، ولكن بعد هذه الجولة الخاسرة، وبفعل صمود النبي والأفراد القلائل الذين ثبتوا معه، تمكن المسلمون أن يستعيدوا النصر، وقتل حمزة سيد الشهداء، ومصعب بن عمير، وعدد من الصحابة.
القرآن يريد أن يلتقط صورة من هذه الواقعة، وينقلها إلينا، ويعطينا بذلك درساً عظيماً: (درس الروح القيادية) فعندما أصيب المسلمون بهزيمة نفسية على أثر خسارتهم للجولة الأولى في معركة أحد، وعندما سمعوا بأن النبي قتل، يعني عندما شعروا بافتقاد القائد في ساحة المعركة، فإن هذا يعني أن القضية انتهت، وكأن الناس ليست عليهم مسؤولية مواصلة المسيرة. إن كل واحد من المسلمين يتحمل جزء من المسؤولية، فالمسؤولية لا تنحصر في شخص واحد هو القائد مثلاً، أو في طبقة معينة هم العلماء، أو في جماعة معينة، أو في حركة واحدة، بل الكل يشتركون في تحمل القضية، وفي تحمل المسؤولية. أما إذا فقدت الأمة الروح القيادية، وبدأ كل واحد يلقي بالمسؤولية على الآخرين، هذا يلقي باللوم على ذلك، وذاك يلقي اللوم على هذا، هذه الحالة اللا مسؤولية في الأمة تصيب الأمة بنكسة. ففي الظروف الطبيعية قد لا تكون مشكلة، لكن في ظروف المواجهة والأزمات، وعندما تتعرض الأمة لنكسة أو لأزمة، حينئذ يجب أن يتحلى كل إنسان بروح المسؤولية... وليس في الهزيمة كالغزال، أي في الوقت الذي تحتاج الأمة إلى أن تتماسك، وتتكاتف، وتتكاتف حول قيادتها، نرى الأمة تتخاذل، وتتفرق، وتترك قيادتها وحيدة في الساحة، تعصف بها الأزمات والنكسات، حينئذ تقع المأساة، وتحرق بنارها الأخضر واليابس. (اتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
قد لا تكون المشكلة عدم وجود القائد في فترة من الفترات، بل المشكلة عدم وجود الروح القيادية في الأمة، فكل واحد لا يتحمل المسؤولية تجاه القيادة، أو اتجاه القضية، ويلقي المسؤولية على أكتاف الآخرين. قد تكون عند الأمة قيادة كفوءة وقاد كعلي (عليه السلام) يتمكن أن يقود الأمة إلى شاطئ النصر والأمان، لكن لماذا نجد علياً (عليه السلام) قد انهزم جيشه إمام جيش معاوية، جيش الشام؟ أو نجد الإمام الحسن سلام الله عليه يضطر للمصالحة مع معاوية، وأن يسلم الحكم للحزب الأموي أو نجد الحسين (عليه السلام) يبقى وحيداً في الساحة ويقتل؟؟ هذه مأساة نتيجة عدم تحمل الأمة لمسؤوليتها، وعدم امتلاكها الوعي القيادي. فالأنبياء والأئمة والمصلحون يعملون ضمن القانون الطبيعي للمجتمعات الإنسانية والقانون الطبيعي: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). الأنبياء والمرسلون قد يأتون إلى أمم وأقوام ليسوا بمستوى المسؤولية، فماذا يفعل النبي؟ هل يجبر الأمة على الطاعة والالتزام؟ أو يحدث من معجزة حتى يصبح الناس في مستوى لائق؟ فإذا كانت الأمة غير مؤهلة للتقدم، ولا تتحمل مسؤوليتها، فإن الأنبياء لا يجبرون الناس على شيء معين، وهم لا يتمكنوا أن يغيروا السنن الطبيعية، بل يسيرون حسب القانون الطبيعي، فحينما تتعرض الأمة لانتكاسة أو لازمة يجب أن نلتف حول القيادة في كل الظروف وحتى في ظروف الهزيمة، وليس فقط في ظروف الرخاء والانتصار، أو حينما تواجه الأمة غياب القائد عن الساحة فجأة، فإن هذا يجب أن يدفع الأمة إلى أن تتحمل المسؤولية، وتواصل المسيرة، وتلتف حول المبدأ، وتملأ الفراغ الذي أحدثه غياب القائد. هذه الآية من القرآن الكريم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ). تعالج هذه المسألة الحساسة والهامة جداً، يعني أن النبي رسول، ليس بدعاً من الرسل، والنبي بشر، وشخص يأتي ويذهب، وكل شخص يأتي ويتحمل قسطاً من المسؤولية، ولكن إذا ذهب لا يعني أن القضية انتهت وانتهى المبدأ، ولا تنتهي المسيرة لذهاب الأشخاص، المسيرة مرتبطة بالله، والله خالد دائم، فإذن تطلعوا إلى المبدأ الأعلى، وتعلقوا أنظاركم على شخص النبي، فإذا ذهب هل يعني ذهابه إنهاء مسؤوليتكم. (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). وهنا ننقل صوراً من الروح القيادية التي كانت عند الأمة الإسلامية وعند المسلمين الأوائل.
في (أحد) عندما فر المسلمون ولم يبق مع رسول الله إلا تسعة من الأصحاب فيهم علي (عليه السلام) وأبو دجانة، والتاريخ ذكر لنا موقف امرأة أنصارية بإجلال واحترام لموقفها البطولي والواعي من القيادة في وسط المعركة وهي نسيبة بنت كعب المازنية، وكانت تخرج مع رسول الله في غزواته لتداوي الجرحى. وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع فحملت عليه وقالت: يا بني إلي أين تفر عن الله وعن رسوله فردته فحمل عليه رجل فقلته، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته. فقال رسول الله: بارك الله فيك يا نسيبة. وكانت تقي رسول الله بصررها وثدييها حتى أصابتها جراحات كثيرة وشهد لها رسول الله بقوله: ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا رأيتها تذب عني يوم أحد.
إن أنس بن النضر انتهى إلى جماعة من المهاجرين والأنصار ـ وقد ألقوا بأيديهم ـ فقال: ما يحبسكم؟ قالوا: قتل رسول الله. قال: فماذا تصنعون بالحياة من بعده، قوموا فقاتلوا وموتوا على ما مات عليه رسول الله. ثم استقبل القوم (الأعداء) فقاتل حتى قتل.
(أبو خيثمة) كان رجلاً قوياً وعنده زوجتان وعريشان. وكانت زوجتاه قد رشتا عريشيه، وبردتا له الماء وهيأتا له طعاماً فأشرف على عريشته فلما نظر إليهما قال: لا والله ما هذا بإنصاف، رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قد خرج في الفيح والريح (الحر والبرد) وقد حمل السلاح ليجاهد في سبيل الله، وأبو خيثمة قوي قاعد في عريشته وامرأتين حسناوين لا والله ما هذا بإنصاف. فأخذ ناقته وشد رحله والتحق برسول الله (صلّى الله عليه وآله). فنظر الناس إلى راكب في الطريق، فأخبروا رسول الله. فقال الرسول: كن أبا خيثمة. فأقبل وأخبر النبي بما كان، فجزاه النبي خيراً. (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ). وكمحاولة لتربية الأمة على الروح القيادية، نجد القرآن الكريم في آية أخرى، يدعو النبي إلى تطبيق مبدأ الشورى في سلوكه التربوي والتوجيهي للأمة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). (سورة آل عمران: 158) فنجد أن النبي مع كونه رسولاً مطاعاً ونبياً مسموع الكلمة لكنه يستشير أصحابه ويستعمل مبدأ الشورى، لماذا؟ ليربي الروح القيادية في الأمة ويمنح الثقة لأصحابه ويشعرهم بقيمة أنفسهم ويستثير عقولهم. هذا أولاً. وثانياً: يستهدف استخدام الحد الأعلى من فاعلية الأمة عن طريق إشعارها بالمشاركة في اتخاذ القرارات والتحامها بخطوات المسيرة القيادية. فرغم تسليم الصحابة واعتقادهم بأن قرارات النبي إلهية إلا أنه اعتمد المشاورة، ليصبح مثلاً أمام كل الأمة ـ الخواص والعوام ـ وليشيع روح المسؤولية والوعي القيادي بين أبنائها.
إن النبي (صلّى الله عليه وآله) أتاه خبر مسير قريش إلى المسلمين فاستشار من معه من أصحابه، فتكلم المهاجرون كلاماً حسناً.. ولكن النبي ظل ينظر إلى القوم ويقول لهم: أشيروا علي أيها الناس، فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فقال سعد: لقد آمنا بك وصدقناك.. فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فسر رسول الله بقول سعد.
استشار النبي أصحابه في الخروج فطلبوا منه الخروج لقتال قريش حتى وافقهم على ما أرادوا، فدخل بيته ولبس درعه وأخذ سلاحه وظن الذين ألحوا على رسول الله بالخروج أنهم أخطأوا وأن النبي ليس من رأيه الخروج. فقالوا: استكرهناك يا رسول الله، ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد. فقال رسول الله: ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته (درعه) أين يضعها حتى يقاتل.
لما وجد النبي (صلّى الله عليه وآله) أن البلاء اشتد بالمسلمين بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فاستشارهما في أن يصالح بني غطفان على ثلث ثمار المدينة كي ينصرفوا عن قتال المسلمين. فقالا له: يا رسول الله أهو أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك به الله، أم شيء تصنعه لنا؟ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله) بل شيء أصنعه لكم كي أكسر عنكم شوكتهم حينئذ قال له سعد بن معاذ: والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا بالسيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فتهلل وجه رسول الله وقال: فأنت وذلك. |