السيرة المحمدية

فهرس الكتاب

 

 

( 5 )

 

مقدمة الموَلّف

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أعظم صفحات التاريخ قيمة، هي تلك التي تعكس لنا حياة العظماء، وسيرةالرجال الخالدين، والتي تبحث عنهم بصدق وأمانة وموضوعية، ذلك إنّهم معجزة الخليقة بلا ريب، وحياتهم في الحقيقة ملحمة التاريخ الكبرى، وساحة البطولات الخالدة، ومسرح الحماسات العظمى الحيَّة النابضة على مر العصور.

لقد كان أُولئك العظماء يعيشون على خط الثوارات و التغييرات الاجتماعية، تجد مصداقيّتها في حياتهم، وتتجسّد في مواقفهم،ولهذا كانوا يشكّلون حلقة الاتّصال بين مظاهرالدنيا المختلفة المتناقضة، فكانت حياتهم الحافلة بالاَحداث، شاهدةً للاَلوان والمشاهد المثيرة المتنوعة.

ويأتي على رأس أُولئك الرجال التاريخيين والعظماء الخالدين، رسولُ الاِسلام العظيم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إذ أنّه لم تتسم حياة أحد ـ من حيث وفرة الاَحداث وعظمة الاَمواج ـ كما اتّسمت حياته«صلى الله عليه وآله وسلم» ، ولا اتّصفت شخصيةً بمثل ما اتّصف به ذلك النبيُّ العظيم. فلم يستطع أحدٌ سواه، أن يوَثّر في بيئته،ثمّ في جميع أنحاء العالم، وينفذ إلى أعماق الاَعماق بمثل السرعة والسعة التي حصلت له (صلى الله عليه وآله وسلم) .

إنّمطالعة عميقة لسيرة وحياة هذا الاِنسان العظيم، قادرة على أن تعلمنا الكثيرَ الكثيرَ، وأن توقفنا على مشاهد متنوعة في غاية النفع ومنتهى الفائدة.

وقد أُلّفت حول حياة رسول الاِسلام كتبٌ ورسائل ودراسات كثيرةٌ، بحيث


( 6 )

لو أُتيح لنا أن نجمعها في مكان واحد، لشكّلت مكتبةً ضخمة وعظيمة.

ويمكن القول بأنّه ليس ثمّة من عظيم استقطب اهتمام التاريخ والموَرّخين والمفكّرين، كما أنّه ليس ثمّة شخصيةً عالمية كتب حولَها الموَلّفون والباحثون، هذا القدرَ الهائلَ من الموَلّفات والمصنّفات والرسائل والكتب، مثل ما حصل للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) .

إلاّ أنّ أكثر هذه الكتب والموَلّفات تعاني من أحد إشكالين:

إمّا أنّه جاء على نَسَق التسجيل المجرّد للحوادث، أو النصوص التاريخية دون أن يقوم موَلّفُه بتحليلها ودراسة خلفيّاتها ونتائجها وإصدار الحكم اللازم بشأنها.

أو عَمَدَ إلى طائفة من الآراء الحدسية والاجتهادات الباطلة العارية عن الدليل، وإثباتها في موَلّفه على أنّها الحكمُ الحقّ، وخلط هذه الاَحكام مع الاَحداث، ليخرج كتابه إلى الجمهور المتعطّش إلى تاريخ الاِسلام، على أنّه التاريخ المحقَّق.

ويمكن الردُّ على هوَلاء، بأنّ الهدف من التاريخ ليس مجرّد تسجيل للحوادث وضبطها وتدوينها، بل هو تناول أحداثه من المصادر الصحيحة الموثوق بها، وإبراز عللها، وأسبابها وثمارها ونتائجها، وهو بهذا الشكل يصبح أعظم كنز تركه الاَقدمون لنا.

لقد تجنّب أكثر كُتّاب السيرة النبوية عن إظهار الرأي في الحوادث، أو القيام بأيّ تحليل للوقائع، بحجّة الحفاظ على أُصول الحوادث ونصوصها، بل إنّ أكثر الحوادث التاريخية في العصر الاِسلامي أُدرجت في الكتب من دون دراسة موضوعية وتقييم دقيق.

أمّا هذا الكتاب فإنّه يتميّز بميزتين هامتين:

أوّلها: إنّنا عمدنا فيه إلى تناول الحوادث والوقائع المهمة، ذات الفائدة


( 7 )

الكبرى والعبر ، بالبحث والتحليل مع إبعاد الاَحداث الجزئية الصغرى، و قد اتّخذنا تلك الاَحداث من المصادر الاَصلية و الاَوّلية التي دوّنت في القرون الاِسلامية المشرقة الاَُولى.

وثانيتهما: إنّنا أشرنا خلال الدراسة، إلى الاعتراضات والاِشكالات، وإلى مواطن الاِساءة التي قدّمها المستشرقون المغرضون، وتناولناها بالاِجابة على كلّ تلك الانتقادات غير الصحيحة بأجوبة مقنعة وقاطعة.

ولهذا بادرنا إلى ذكر رأى الموَلّفين الشيعة في المسائل التي اختلف عليها موَرّخو السنّة والشيعة، مع ذكر المصادر والشواهد التاريخية الواضحة المبرهنة.

وإنّنا إذ نقدّم هذه الدراسة التحليلية لشخصية وحياة خاتم الاَنبياء محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى القرّاء الكرام، نأمل أن يهتم بها عامّةُالمسلمين وخاصةً المثقفون والشباب منهم، ليتناولوا هذه السيرة العطرة بالمطالعة المتأنيَّة و التأمّل والتدبّر، حتى يمكنهم أن يرسموا خريطة حياتهم وحياة مجتمعهم في ضوء ما يستلهمونه ويتعلَّمونه من سيرة وحياة رسول الاِسلام«صلى الله عليه وآله وسلم» في هذه الحقبة البالغة الخطورة.

واللّه وليُّ التوفيق

جعفر السبحاني

قم المقدّسة ـ موَسّسة الاِمام الصادق (عليه السلام)

الاَربعاء 27 محرم 1420هـ

12|5|1999م


( 8 )


( 9 )

 

مقدمة الملخّص

 

كان لي الشرف العظيم والافتخار أن أتقابل مع الاَُستاذ المحقّق و العلاّمة الشيخ جعفر السبحاني في مكتبه بقم المقدسة، حينما جمعتني به الظروفُ والصّدفُالحسنة الطيبة والمباركة، أدام اللّه ظلّه وأطال في عمره الشريف، فقد كنتُ في قم المقدّسة بهدف تقييم كتابي:«أهل البيت «عليهم السلام» وآثارهم في المجتمع الاِنساني» الّذي كان يستدعي أن أعرضه على عدد من علمائنا الاَفاضل ـ أطال اللّه في أعمارهم وجعلهم أنواراً في الاَرض ـ ليقدّموا ما لديهم من مقترحات حول ما جاء فيه من أفكار وآراء قد لا تتناسب مع جزئيات الدين أو المذهب أو المعتقدات الخاصة بالمسلمين عامة و الشيعة خاصة.

وكان الشيخُ الفاضل ممن أُوصيت بالاتّصال به للمساعدة في هذا الجانب، فتشرَّفت بلقائه وتقبّل ما عرضت عليه، فله الشكرُ و التقديرُ والاحترام، إلاّ أنّه في نفس الوقت تقدّم هو الآخر بعرضٍ مماثل، وهو أن أقوم بتلخيص كتابه الكبير : «سيد المرسلين» الذي يتناول فيه سيرة الرسول الكريم محمّد «صلى الله عليه وآله وسلم» ، وذلك ليسهل تداوله في الاَيدي، فيطّلع عليه شبابنا المثقّف في هذا الزمن الذي امتنع فيه عن قراءة الكتب المطوّلة ذات الاَجزاء المتعدّدة، بل بالكاد يطلع على أقلّ الكتب صفحات وموضوعات وأفكار. وكان عرضه في الحقيقة شرفاً كبيراً لي، وتقديراً منه لي أيضاً، في الوقت الذي اندهشت لعرضه، إذ انّني في كتابي« أهل البيت» تناولت ما يتعلّق من أحداث عن الاَئمّة الاثني عشر «عليهم السلام» وأولادهم وأحفادهم، دون التعرّض للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والسيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) إلاّ نادراً، فأصبح هذا الكتاب وكأنّه يكمل


( 10 )

ولا شكّ ما جاء من وقائع وأحداث في كتابي أهل البيت «عليهم السلام» .

وقد نهج الكاتب العظيم في تأليفه، بأن قسمّ كتابه إلى جزءين: تناول في الاَوّل منهما أحداث الاِسلام والمسلمين في مكة إلى زمن الهجرة إلى يثرب. وفي الجزء الثاني، قدم شرحاً مفصلاً لاَحداث المدينة المنورة سنةً بعد سنةً، إلاّ أنّه لم يتخذ منهج التنظيم، شكلَ الاَبواب والفصول، بل نهج في تنظيمه بالاَعداد والاَرقام.

ولما كنت أميل نحو تنظيم الكتب في موَلفاتي إلى الاَقسام والاَبواب والفصول، فإنّي قمت بتقسيمه أوّلاً إلى قسمين: اختص الاَوّل بأحداث مكّة المكرّمة.

والثاني: ارتبط بوقائع ومجريات الاَُمور في المدينة المنورة.

ثمّ إنّ كلّ قسم اتّخذ عدة فصول بحسب الاَحداث و الوقائع وأهميتها. كما أنّي أضفت عدّة فقرات كانت بحاجة إلى تفسير بعض الاَحداث أو المواقع أو الشخصيات. ثمّ أعددت قائمة منظمة للمراجع والمصادر التي استفاد منها الموَلّف كما أعددت فصلاً خاصاً تناولت فيه ما جاء من قصص وروايات في كتاب العلاّمة الشيخ تثري المعلومات المقدمة.

وأرجو من اللّه العلي القدير أن يكون قد وفّقني في عملي المتواضع هذا، وأن يتقبّله الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأهل بيته الكرام، فيكون شفيعاً لي ولاَهلي يوم القيامة، وأن يُرضِيَ به أُستاذنا وشيخنا المحقّق العلاّمة جعفر السبحاني، أطال اللّه عمره بالصحّة الموفورة، ووفّقه لما فيه الخير والمصلحة للاِسلام والمسلمين.

د. يوسف جعفر سعادة

الكويت

21 ربيع الاَوّل1420هـ

4| 7 (يوليو) | 1999م


( 11 )

القسم الاَوّل

مكّة المكرمة

و فيه فصول:

1. العرب قبل الاِسلام

2. الرسول الاَكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)

3. البعثة النبوية

4. مواجهة المسلمين للكفّار


( 12 )


( 13 )

 

الفصل الاَوّل

العرب قبل الاِسلام

الاَحوال الداخلية في شبه الجزيرة العربية

الاَحوال السياسية في المنطقة المجاورة

التعريف بأسلاف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)


( 14 )


( 15 )

1. الاَحوال في جزيرة العرب

لم تكن القبائل العربية الجاهلية المتناحرة، تعيش أيّة حضارة، ولم تكن تمتلك أيّة تعاليم وقوانين وأنظمة وآداب قبل مجيء الاِسلام، فقد كانت محرومةً من جميع المقوّمات الاجتماعية التي توجب التقدّمَ والرقي، ولذا فلم يكن من المتوقع أن تصل إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد والعظمة، ولا أن تنتقل من نمط الحياة القبلية الضيقة إلى عالم الاِنسانية الواسع و أُفق الحضارة الرحيب، بمثل هذه السرعة التي وصلت إليه، والزمن القصير الذي انتقلت فيه.

ويمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب قبل الاِسلام، من خلال مصدرين إسلاميين أساسيّين، وهما:

1. القرآن الكريم، وهو خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بالدقّة والشمولية.

2. ما صدر عن الاِمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة في وصف الحالة قبل الاِسلام.

فقد ورد فيهما تصريحاتٌ ونصوصٌ صريحة تكشف عمّا كان عليه العرب في الجاهلية من سوء أحوال، وأوضاع، وأخلاق في جميع الاَبعاد والاَصعدة.


( 16 )

وبالرغم من أنّ العرب من ولد عدنان قد اتّصفوا بصفات حسنة، إذ كانوا يكرمون الضيف، وقلّما يخونون الاَمانة، ويضحّون في سبيل المعتقد، ويتحلّون بالصراحة الكاملة، إضافة إلى براعتهم في فن الشعر والخطابة، وكونهم يضربُ بهم المثل في الشجاعة والجرأة، إلاّ أنّهم إلى جانب كلّذلك، كانوا يعانون من مفاسد أخلاقية تطغى على ما لديهم من كمال وفضيلة.

فالمجتمع العربي وخاصة منطقة الحجاز لم تقم فيها حضارة،أو أنّه لم يبق أي أثر من هذه الحضارات فيها إلى ما قبل بزوغ الاِسلام، وقد شاعت فيه أخلاق وعادات كان أبرزها:

ـ الشرك في العبادة، حيث عبدوا الاَصنام والاَوثان والنجوم.

ـ إنكار المعاد، أي عودة الاِنسان إلى الحياة في العالم الآخر.

ـ هيمنة الخرافات، التي كانت تكبّل عقول الناس في المجتمع، حيث تركزت فيها، فكانت سبباً قوياً في تخلّفهم، وسداً منيعاً في طريق تقدّم الدعوة الاِسلامية، فيما بعد، ممّا جعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل بكلّ طاقاته وجهده في محو وإزالة تلك الآثار الجاهلية، والاَفكار والمعتقدات الخرافية.

ـ الفساد الاَخلاقي، مثل انتشار القمار ـ الميسر ـ والخمر و الزنا واللواط والبغاء.

ـ وأد البنات، وهي العادة القبيحة التي اعتبرها القرآن الكريم جريمة نكراء لا تمر في الآخرة بدون حساب شديد.

ولذا فإنّ المرأة كانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعية حتى حقّ الاِرث، كما عدّها المثقفون من الحيوانات تباع وتشترى، وجزء من أثاث البيت.


( 17 )

وكان الرجل يتزوج بزوجة أبيه متى طلقها أو بعد وفاته، و ربما تناوب الاَبناء على امرأة أبيهم واحد بعد واحد، كما كان الرجل يرث امرأة من قرابته إذا مات عنها، مثلما يرث أمتعة المنزل، إضافة إلى أنّهم كانوا يورثون البنين دون البنات.

ـ تناول الدم والميتة والخنزير، وأكل الحيوانات التي يقتلونها بقسوة.

ـ النسيء، وهو تأخير الاَشهر الحرم، كان يقوم به سدنة الكعبة أو روَساء العرب، عندما كانوا يقررون استمرار الحرب و الغارات في الاَشهر الحُرم.

ـ الربا، الذي شكّل العمود الفقرى في اقتصادهم.

ـ النهب والسلب، فقد كان انتهاب ما في أيدي الناس، والاِغارة والقتال، من العادات المستحكمة عندهم، حتى إنّ بعض حروبهم كانت تمتدّ إلى مائة سنة أو أكثر، حيث كانت الاَجيال تتوارث تلك الحروب، وقد بلغ ولعهم بالقتال وسفك الدماء أن جعلوها من مفاخر الرجال.

ـ أمّا عن الجانب العلمي والثقافي، فإنّ أهل الحجاز وُصِفوا بالاَُمّيين، فلم يتجاوز عددُ الّذين عرفوا القراءة والكتابة في قريش ما قبل الاِسلام عن(17) شخصاً في مكة ، و (11) نفراً في المدينة المنورة.

ومن ذلك يمكن القول أنّ تاريخ العرب قبل الاِسلام وبعده،تاريخان على طرَفي نقيض: الاَوّل جاهلي ووثني وإجراميّ، والثاني تاريخ علم ووحدانية وإنسانية وإيمان.

ومن التخلّف والانحطاط في الاَوّل، يمكن معرفة مدى تأثير الاِسلام وعظمة التعاليم الاِسلامية في جميع المجالات والحقول المعيشية. فكيف تحقق


( 18 )

ذلك التطور العظيم لهوَلاء العرب الجاهليّين في الجزيرة العربية، في حين لم يستطع عربُ اليمن الذين امتلكوا الشيء الكثير من الثقافة والحضارة، وعاشوا حياة حضارية متطورة، أن يصلوا إلى هذه النهضة الشاملة، أو تقيم مثل هذه الحضارة العريضة، أو عرب الغساسنة الذين جاوروا بلاد الشام المتحضّرة، والذين عاشوا تحت ظلّ حضارة الروم، أن يصلوا إلى تلك الدرجة من الثقافة، أو عرب الحيرة الذين عاشوا تحت ظل إمبراطورية الفرس أن ينالوا مثل ذلك الرقيّ والتقدّم، في الوقت الذي تمكّن فيه عرب الحجاز من تحقيق تلك النهضة الجبارة، وورثوا الحضارة الاِسلامية العظمى، في حين لم يكن لهم عهدٌ بأيّ تاريخ حضاريّ مشرق، بل كانوا يرزحون تحت أغلال الاَوهام والخرافات والاَساطير والعادات السيّئة.

وخيرُمن يوضّح تلك الاَوضاع والاَحوال، هو الاِمام علي (عليه السلام) في الخطبة الثانية من «نهج البلاغة»:

« والناسُ في فِتَن انجذم(1)فيها حبلُ الدين، وتزعزعت سواري(2)اليقين، واختلف النجرُ (3) و تشتُّت الاَمرُ، وضاق المخرجُ،وعمي المصدرُ، فالهدى خامل، والعمى شامل، عصي الرحمن ونُصر الشيطان، وخُذِلَ الاِيمانُ فانهارت دعائمهُ، وتنكّرت معالمُه،ودرست (4)سبلُه،وعفت شركه(5) ... فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون في خير دارٍ وشرِّ جيرانٍ، نومُهم سُهود، وكُحلهم دموع، بأرض عالمها مُلجَم وجاهلها مُكرَم».

____________

1 . إنقطع.

2 . الدعائم.

3 . الاَصل.

4 . ِنطمست.

5 . الطرق.

 


( 19 )

وفي الخطبة 26 قال (عليه السلام) :

«إنّاللّه بعث محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) نذيراً للعالمين وأميناً على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار منيخون(1) بين حجارة خُشن(2)هث، وحيّات صُمّّ(3) تشربون الكَدر، وتأكلون الجشِب(4) وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الاَصنام فيكم منصوبةٌ، والآثام بكم معصوبة (5).

و قال (عليه السلام) في الخطبة 95:

«بعثه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والناس ضُلاّل في حيرة، وحاطبون في فتنةٍ،قد استهوتهم الاَهواءُ،واستزلّتهم الكبرياءُ، واستخفّتهم(6)الجاهلية الجهلاءُ، حَيارى في زلزالٍ من الاَمر، وبلاءٍ من الجَهل، فبالَغَ (صلى الله عليه وآله وسلم) في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحَسَنة».

وأيضاً في الخطبة151: قال (عليه السلام) :

«أضاءت به (صلى الله عليه وآله وسلم) البلاد بعد الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة، والجفوة الجافية، والناس يستحلون الحريمَ،ويستذلون الحكيمَ، يحيون على فترة(7) ويموتون على كفرة».

وقد أكد تلك الاَحوال والحياة، أيضاً، جعفرُبن أبي طالب، عندما خطب أمام

____________

1 . مقيمون

2 . جمع خشناء من الخشونة.

3 . التي لا تسمع لعدم إنزجارها بالاَصوات.

4 . لطعام الغليظ.

5 . مشدودة

6 . طيّشتهم.

7 . على خلوّ من الشرائع.

 


( 20 )

النجاشي في الحبشة، يشرح أحوال المسلمين والمشركين، فقال:

«أيّها الملك، كُنّا قوماً أهل جاهلية نعبدُ الاَصنام، ونأكلُ الميتة،ونأتي الفواحش،ونقطعُ الاَرحام،ونسيء الجوار، ويأكلُ القويُّمنّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتّى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا نعرف نَسَبَه وصدقَه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللّه لنوحّده ونعبده،ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباوَنا من دونه من الحجارة والاَوثان،وأمرَنا بصدق الحديث،وأداء الاَمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار،والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكلِ مال اليتيم، وقذف المحصَنات. وأمرنا أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام».(1)

 

2. الاَحوال السياسية في المنطقة

لقد جاروت البيئة الّتي ظهر فيها الاِسلام أعظم امبراطوريتين في ذلك الوقت هما: إمبراطوريةالروم والفرس، وهذا ممّا يجعلنا ندرس أحوالهما لنقف على قيمة الحضارة التي قدّمها الاِسلام.

فامبراطورية الروم تميّزت الاَحوال فيها بالحروب الداخلية والخارجية، وخاصّة في صراعها مع دولة فارس، كما كان للمنازعات الطائفية والمذهبية نصيبها في توسيع رقعة الاختلاف فيها، كالحرب بين المسيحيين والوثنيين، حينما مارس رجال الكنيسة أشدّ أنواع الضغط والاضطهاد بحقّ الآخرين، الاَمر الذي ساعد على إيجاد أقلية ناقمة، كما ساعد على ظهور حالة مهدت لتقبّل الشعب الروماني للدعوة الاِسلامية فيما بعد. هذا مضافاً إلى أنّ اختلاف رجال الدين فيما

____________

1 . السيرة النبوية 1| 335 والحديث عن أُمّسلمة.

 


( 21 )

بينهم، وتعدّد المذاهب من جهة، عملا على التقليل من هيبة الاِمبراطورية واتجاهها نحو الضعف و الانحلال. وقد أدّى كلّ ذلك إلى انقسام الاِمبراطورية الرومانية إلى قسمين: شرقي و غربي. وقد استغل اليهود ذلك الضعف و الانهيار الداخلي فخطّطوا لاِسقاط النظام، ممّا جرّ إلى ازدياد جرائم المذابح الانتقامية بين الطرفين، ولم تهدأ الاَحوال إلاّ بعد ظهور الاِسلام وانتشاره في تلك الجهات.

أمّا إمبراطورية فارس، فقد سيطرت على معظم مناطق العالم بالاشتراك مع إمبراطورية الروم، وتميّزت الفترة بالنزاع الدائم بين إيران الساسانية والروم للسيطرة على مناطق نفوذ جديدة، فقد بدأت الحروب بينهما منذ عهد «أنوشيروان» (531ـ589م) حتى زمن «خسرو برويز» لمدة 24 عاماً، ممّاأضعف الدولتين.

وقد اشتهر «برويز» بالميل نحو الترف وحياة البذخ، حتى بلغت أعداد نسائه وجواريه الآلاف منهن، كما كان أرغب الناس في جمع الاَموال والجواهر والاَواني.

وفي الجانب الاجتماعي، ظهر التمييز بين الطبقات، فالنبلاء والكهنة كانوا على رأسها تملكوا المناصب الاجتماعية العليا، بينما حرم الكسبة والمزارعون وبقية أبناء الشعب من كافة الحقوق الاجتماعية، سوى دفعهم للضرائب الثقيلة والمشاركة في الحروب. وقد أدّى هذا الوضع المتردّي إلى أن تمتلك أقلية صغيرة كلّ شيء وهي نسبة (5|11%) من مجموع الشعب، بينما حرم أكثر من (89%) من حقّ الحياة تماماً. كما أنّ الاَغنياء فقط هم الذين تلقّوا التعليم، بينما حُرِمَ الباقون منه، واتخذ الحكّام الساسانيون سياسةالخشونة القاسية مع الناس، وأخضعوهم بالسيف والعنف، وفرضوا الضرائب الثقيلة، ممّا جعل الشعب غير راضٍ على حكمهم وسيرتهم، الاَمر الذي جعل الصراع والتنافس يدب بين الاَمراء والاَعيان


( 22 )

وقادة الجيش، فاختار كلّ فريق أميراً من أبناء العائلة المالكة، وتفرغ لتصفية الطوائف الاَُخرى، ممّا أصبح كلّذلك أسباباً قويّة لضعف الدولة وانقسامها وانحلالها أيّام الفتح الاِسلامي.

على أنّ الفساد الذي ظهر في أوساط رجال الدين الزرادشت،وتطرّق الخرافات والاَساطير إلى المعتقدات الزرادشتية، تسبب في حدوث مزيد من التشتّت والاختلاف في آراء الشعب الاِيراني وعقيدته، ممّا أفقده الثقة والاِيمان بتلك المعتقدات.

وقد أدّى تردّي الاَوضاع الاجتماعية، والصراع الطويل بين فارس والروم في خلال عشرين عاماً، إلى عقد الصلح بينهما على أساس أن يدفع الروم إلى فارس ما يعادل (20 ألف دينار)، إلاّ أنّ الروم عادوا إلى الحرب والمعارك الطاحنة مرّة أُخرى لفترة سبع سنوات، تمكن فيها الملك الفارسي خسرو برويز في 614م من الاستيلاء على بلاد الشام وفلسطين وأفريقية، ونهب أورشليم، وحرق كنيسة القيامة ومزار السيد المسيح (عليه السلام) ، وقتل 90 ألف نصراني. وقد حدث ذلك في زمن بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد حزن المسلمون على هزيمة الرّوم الّذين كانوا أصحاب كتاب، و لم يتخذ الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» موقفاً خاصّاً اتّجاه هذه الاَحداث حتى نزل الوحي عليه مبشّراً بانتصار الروم في المستقبل القريب، وقد تحقّقت هذه البشارة في سنة 627 م.(1) وقد وضع الجيش الاِسلامي بحملاته الناجحة، حداً لتلك الاَوضاع المضطربة، ونهايةً لذلك الصراع السياسي الدامي الذي استمر خمسين عاماً، وفسح المجال لاَن يختار الشعبُ الفارسي دينه ومعتقداته بحرية في منأى عن القهر والقسر.

____________

1 . راجع سورة الروم:1 ـ 6.