فهرس الكتاب

مكتبة الرسول الأعظم (ص)

 

 

في البدَاية

 

رغم أن فترة من الزمن تمر على مكة والمدينة بعد غزو الجيش الأموي لهما بقيادة مسلم بن عقبة المري، فإن ذكرى الحوادث المريرة، وصور المآسي القاسية كانت تطغى على كل ناد ومجلس سمر.

وكانت جراج مدينة الرسول - على الخصوص - لم تلتئم بعد. فقد غزاها الجيش الأموي بأمر من يزيد بن معاوية، وبعد أن خلعت بيعته، وأمرت عليها والياً جديداً - هو عبد اللّه بن حنظلة بن أبي عامر - وفعل الجيش الغازي ما فعل بوحي من شعوره المجرم وحقده الطويل، ولم يقف بوجهه أي رادع ديني أو إنساني.

ولم يكن نصيب مكة بأقل مما أصاب المدينة، فقد حرقت الكعبة المشرفة ولم يبقَ بيت منها - عدا بيوت الأمويين - إلا سلب ونهب.

وكانت حلقات السمر، ومجالس الليل تعج بأخبار هذه الحوادث وفظاعتها بما يعصر القلوب حزناً، ويرهق العيون تأثراً.

ومرة امتد السهر بإحدى الحلقات المنتثرة في فناء المسجد النبوي حتى كادت تحاذي السحر في سهرتها، أو تتجاوزه بقليل وهي تعيد ألماً على ألم، وتجتز حزناً على حزن.

ويلتفت أحد الجالسين إلى صاحبه - وهو متضايق من الحديث الذي يجدد الذكرى المؤلمة، ويعيد عليهم صورة المأساة الفظيعة - قائلاً وهو يقطع الكلمات من الأسى: أما آن لنا أن نطوي حديث الأمويين وفجائعهم، ونحاول أن نخفف عن مصائبنا بما يساعدنا على تحمل مشاكل حياتنا.

ولم يكن الزميل بأقل منه ضيقا ً وبرماً بهذه الأحاديث المروعة، وما أن سمع هذا الرأي حتى استجاب له.

وتسرب الإقتراح للباقين، وكأنه أيقظهم من سبات، ونبههم إلى شيء كان قد غاب عن أذهانهم.. وقالوا: ولنا عند الشيخ أبي معاذ ما نبتغيه، فهو محدث رائع، عذب الأسلوب، حلو الكلمة، ورجل مسنّ جاوز عتبة الثمانين، رافق الأيام فكان فيها عيناً لا تغمض، وعاش الحوادث فحفظ من أخبارها الشيء الكبير.

ولم يلقَ القوم من أبي معاذ أي امتناع، فقد استجاب للطلب وصادف في نفسه قبولاً.

وصار يحدث أصدقاءه في لياليه بما سيمر علينا..