مُصْعَب بن عُمَير
وأقبل الليل، وأقبل معه عشاق حديث الشيخ أبي معاذ الى مجلسهم، وشوقهم اليه لا ينقطع.. وكان في حديثه الليلة متفتحاً يصوغ الكلمات جميلة، وينمق أسلوبه الحلو، بما يجلب به أنظار السامعين.. قال: لفَّ مكة وشعابها حديث المتسللين في آناء الليل، وأطراف النهار الى دار الأرقم يستمعون الى حديث محمد، وقد تجمع عنده عدد فيهم الكبير والصغير، وفيهم السيد والعبد، وفيهم الذكر والأنثى، وكل يوم آخذ بالتكاثر. وفكرت قبائل العرب في مكة بأمر هؤلاء، وخطرهم على آلهتهم، وانعقدت الندوات، وازدحمت المجالس للتداول بشأن هذه الدعوة الجديدة، وقد توسع أمرها حتى لم يبد غريباً على الأسماع أن يقال : فلان تبع محمداً، وفلان أصبح من أعضاء بيت الأرقم، ويلوي القوم جباههم متألمين، يكتمون في صدورهم زفرة الخسران، وحسرة الفرقة. وذات يوم يقبل أبو سفيان على البيت، وقد بدا عليه الغضب ونزَّ الحقد من عينيه، فالتفت القوم اليه، وشيء من الاهتمام قد ظهر عليهم، انهم جميعاً يعرفون أن وراء أبي سفيان حدثاً جديداً وصاح به عتبة: - ماذا وراءك يا أبا معاوية؟ واجتاز أبو سفيان هذه الحلقة دون أن يلتفت الى السؤال وهو يتعثر في مشيته، فلا يكاد يبصر طريقه من ظلام الحقد. وأحس شيبة بخواطر صاحبه، فاستقبله وقد افتعل موجة من الحزن، وبدا كأنه يواسيه في بليته: يا أبا معاوية، لو تجلس معنا قليلاً نتراشد أمر هذه الجماعة التي انداحت لسحر محمد. وتكشفت أسارير الرجل، ورضي من شيبة هذا الاستقبال وتوسط القوم وأخذ يضحك حتى انقلب على قفاه من الضحك ولم يستغرب الجالسون منه هذا الحال، فقد تعودوا ان يروا منه هذه النوبة كلما طرأ عليه جديد، أو ألح عليه حدث، يدور حول محمد ودعوته. وأفاق قليلاً قليلاً من حالته، فالتفت الى الجالسين قائلاً: أتعلمون ما حدث اليوم؟ لقد أخبرني عثمان بن طلحة، بأن فتى عبد الدار (مصعب بن عمير) قد صبا لدين محمد منذ مدة قصيرة وصار يتردد على دار الأرقم كلما جن عليه الليل، ينفث فيه يتيم بني هاشم سحره. وتعلو الدهشة الجميع، ويصرخ ابو جهل: وحتى هذا الفتى الوسيم الذي يقطر رقة ودلالاً ينحاز الى محمد، ويصبح في عداد أصحابه؟ يا لخسران آلهة قريش.. لا واللات والعزى، لا بد ان نضع لهذه المهزلة حداً.. وتفرق الجمع، وفي تفكير كل واحد منهم مخطط يضعه للوقيعة بمحمد ودعوته. كانت مكة تعرف مصعب بن عمير شاباً وسيماً، عليه من هيبة الجمال ما يحببه عند أهل مكة.. يرتدي أغلى الثياب ويتعطر بأحسن العطور، وكانت تشخص اليه العيون كلما مر في شعاب البلد وطرقاتها. تعب من جماله ما تمتلئ به عيون الناظرين، وتستنشق من عبيره ما يبهر الانوف، وكان أكثر من هذا وذاك. وانتشر حديث مصعب وإسلامه كالبرق بين الناس، وكلهم يتساءل : ما الذي حدا بمصعب ان يصبو الى دين محمد الجديد؟ وهرع الجميع الى بيت عمير يشكون اليه أمر ولده، وفي الطريق يهمس ابو جهل في أذن عتبة: ما رأيك لو قتلنا مصعباً وأرحنا آلهتنا منه؟.. لقد صبا الرقيق والمستضعفون فسكتنا وقلنا ليس لهم أثر في كياننا، أما الآن فقد انجر الأمر الى بطون العرب، وهذا ما كنا نخشاه، فما ترى لو قتلناه واسترحنا منه؟ فردَّ عليه عتبة وهو يحملق في وجهه: لا سبيل لك على قتله، إن لمصعب محبة في قلوب الناس، فلا يتركوه وحيداً في الميدان.. مضافاً ان لعمير مكانة بين أهله وصحبه، وليس من السهل عليهم ان يتركوك سالماً بعد ان يقتل فتاهم. وزمَّ ابو جهل شفتيه، وكأنه قنع بما قاله عتبة، فهو على صواب. إن لمصعب محبة في قلوب الناس. وهما بهذا الحديث إذ أشرفا على حي عمير بن هاشم بن عبد مناف سيد قومه، وكبير سراته، فاستقبلهم هاشاً مرحباً. ولكن أبا جهل لم يطق السكوت ريثما يهدأ الجميع، بل انتفض في وجه عمير، وقد شهر حسامه، والشرر يتطاير من عينيه، وصاح: أعلمت يا أبا زرارة ما كان من أمر ولدك مصعب إنه صبا إلى دين محمد، وخرج على آلهتنا، فإذا لم تردعه عن غيه فإن سيوف قريش أولى بتأديبه من غيرنا. ولوَّح بسيفه أمام عمير ثم كر راجعاً. وطافت على وجوه القوم سحابة من تأثر واشمئزاز من تسرع أبي جهل وتهوره، فلم تكن إهانة عمير بالأمر الهين. فاستشاط غاضباً، وحاول أن يرد عليه بالمثل، ولكن عميراً سمح لأبي جهل إهانته لأنه في بيته، غير أن هذا لم يخفف من غضبه. وبكل رفق ولين التفت اليه أبو سفيان وقال : رفقاً بابن عمك يا أبا مصعب إن أبا الحكم لم يقصد بك، ولا بولدك سوءاً إنما هي شنشنة هدرت، وحرقة طغت، فاغفر له زلته. وتفرق القوم إلى مضاربهم، وهم يأخذون على أبي جهل موقفه من عمير. ويعود عمير إلى الدار ليحدث زوجته عن أمر ولده. ومع أفول الشمس ينسل الشاب الوسيم من جماعته ليأخذ طريقه تحت جنح الظلام إلى دار الأرقم، ليجتمع بمحمد ويعب من حديثه أنداه وأعذبه. ويلتفت الفتى يمنة ويسرة، ودقات قلبه تتعالى كلما اقترب من دار الأرقم، وتغوص في أعماقه أفكار وأفكار، وتجتاح ذهنه أكثر من خاطرة، فيدور معها، وكأنما مشدود بها شداً وثيقاً لا يمكن أن يتحرر منها، ومهما حاول أن يقطع سلسلة خواطره، فإن محاولاته تبوء بالفشل. وعلى عتبة دار الأرقم تجسمت خواطر مصعب، وتصارعت أمامه صور وذكريات، كل منها تأخذ لنفسها إطاراً صاخباً. طارق جديد على أفكاره يلح عليه بالولوج، وقد أخذ بمجامع قلبه، يدفعه دفعاً حيث يريد.. صوت محمد يرن في أُذنيه، كالنغم الهادي يداعب عقله وحسه، فيعيش في عذوبته طويلاً طويلاً ووجوه مشرقة بالإيمان تنفث إلى أعماقه روحيتها، كخفة الهواء وانسياب العطر. ثم صورة مكة وسكانها، وصورة أبيه وأُمه، وقومه وموقفهم منه لو عرفوا أمره ماذا يكون مصيره معهم، ويخطر في نفسه خاطر يلتاع له، ويهتز جسمه هزاً خفيفاً. ذلك منظر أبي جهل وحربته يطارد أصحاب محمد يذيقهم ألواناً من عذابه، ويسيمهم أنواع البلاء.. يتصور كل هذا، ويفكر بعواقب كل هذا. وتوشوش له بعض الخواطر بالعودة من حيث أتى ليسهر، ويمرح مع فتيان الحي، اولئك الذين خلفهم في رحبة بيته. ولكن صدى الإيمان من أعماقه يتعالى، ويدفعه دفعاً رقيقاً الى دنياه الجديدة، وليذيقه أبو جهل وزمرته ما شاؤوا من عذاب وليصنع أبوه به ما يحب، فإن إيمانه ماض به الى حيث دار الأرقم، الى نداء الضمير، الى موعد محمد. ويلج الدار، ويستقبله الصفوة من الأصحاب مبتسمين يشرق عليهم إيمان الدعوة وتصهرهم عواطف العقيدة، وينساب اليهم الصوت الرزين، يتلو عليهم من آيات اللّه ما شغف بها قلبه وتغور الى أعماقه قوة تلك الكلمات، فتتهلل أساريره إشراقاً وابتهاجاً، وهكذا كان نصيب مصعب من دعوة محمد في بدء تكوينها. وفي مساء ليل داكن يعود فتى عمير الى بيته يقطر رقة وعذوبة - كعادته - من مجلسه، وفي عتمة الظلام يلمح ظلاً خفيفاً على باب بيته يقترب منه رويداً كلما اقترب الى داره. وعن مقربة من بيته، سمع صوت أمه الحنون يزحف اليه بشيء من الحنان والحزن. وهي التي كانت شديدة الولوع به، كما كان والده شديد المحبة اليه، حتى لا يمكنهما مفارقته. ويجمد الدم في عروق مصعب، ما الذي حدا بأمه أن تقف منه هذا الموقف، والليل قد نزع عنه ظله الكبير، ولم يبق منه إلا طرف خفي؟. ويا لهول ما سمع منها أن أباه على وشك الانفجار من الغضب فقد عرف بكل شيء، واكتشف ما كان يخفيه عنه، وقد أصبح عالة على والده، ومصدراً لأقاويل المتشمتين، كأبي جهل وأبي سفيان وأضرابهما. ودارت في رأسه أفكار وخواطر هل سيصارح أباه بالحقيقة أو يكذب عليه، هل يعطيه المواثيق بعدم العودة لدار الأرقم أم يصرّ على المضي بأمره، وهكذا دارت في رأسه هذه الأفكار والخواطر وهو يجتاز عتبة الدار، وحاولت أمه أن تثنيه عن الدخول في هذه الساعة الهوجاء التي فيها أبوه كالبركان من شدة الغضب. ولكن إيمان الفتى بدعوة محمد دفعه إلى مصارحة والده بالواقع الذي يتبناه.. انه لن يسمح لنفسه بالتراجع، والعودة الى الوراء، فالصراحة هو الحل الوحيد، وليتحمل مواجهة الحقيقة بجنان ثابت ومهما كلف الأمر. واصطدم بأبيه فلمح موجة من الغضب تطفو على ملامح هذا الشيخ، وارتسمت على قسماته صورة مشوهة للرجل الذي ضاق بدنياه، واسودت أيامه. ووقف بين يديه، وقد أشاح بنظراته عنه، وحاول عمير أن يتكلم فخانه التعبير، ثم نطق، وفي طيات حديثه شيء ينم عن حزن دفين، ولم يطل التساؤل والاستفسار بينهما، بل انقض عليه أبوه، وأوثقه كتافاً، وصاح بأهله المجتمعين حوله ان يحملوا مصعباً الى البيت الذي أفرده له ليسجن فيه، حتى يعود الى صوابه. وتمر الأيام، والفتى الوسيم رهين السجن قد طال شعره وذبل ضوءه، وبهت شروقه ويتركه جميع متعلقيه، فلم يتردد عليه سوى والدته، وهي تكاد تموت شفقة على ولدها الذي سرق نوره ثقل السجن وامتص جماله كابوس الهم، وكلما حاولت ان تثنيه عن عزيمته للدعوة الجديدة لينعم بالحياة السعيدة التي يفرشها له أبوه، كان يزداد صلابة وإيماناً بعقيدته. وهكذا ديدن أصحاب محمد بين تعذيب وتشريد، وسجن وتبعيد، مما اضطر الرسول الأعظم أن يدعو أصحابه الى الهجرة هرباً من أذى قريش الى مكان بعيد عن عيون الحاقدين ويختار لهم الحبشة. وتزحف الصفوة الطيبة الى تلك الديار النائية لتتقي بهذا السفر المضني مشقة الأذى، والعذاب من هؤلاء القساة. ويترامى النبأ الى أسماع مصعب، وهو في سجنه الانفرادي ويفكر في اللحاق بهم، وطال به التفكير. وفي زحمة الخواطر المرة تدخل أمه عليه، وترثي لحاله، ويؤلمها ان ترى حبيب قلبها وهو رهين آلامه. ويفيق على آهات امه وزفراتها التي نفرت منها دون إرادة وقصد، ويلتفت اليها، وقد طبع على ثغره ابتسامة هادئة وقسماته تنمُّ عن توسل عميق: - يا أماه، هل لك ان تسدين لولدك خدمة فأنا بحاجة اليها؟ وتهش الأم المنكوبة لطلب ولدها - وإن كانت لا تعرف بعد ماهيته -. - يا أماه اريد ان تساعديني على الهروب لألتحق بركب محمد الى الحبشة. وترتسم على وجه الأم كآبة وحزن. إن سجنه بهذه الحالة أهون عليها ان يبعد عنها الى أرض النجاشي. ولكن مصعباً لم يهدأ من تكرار الطلب عليها. ويوضح لها بأن في هذا العمل سلامته. وأخيراً تخضع الأم لطلب عزيزها وتساعده على الهرب، والتخلص من سجن أبيه، ويلحق بقومه وتضم الصفوة الطاهرة أرض النجاشي عهداً ليس بالطويل. وتشرق شمس، وتغرب شمس، ونور الاسلام يمتد مع الأيام حتى يقوى ويشتد، وتنهار أمامه حشرجات الظلام.. وعلى ضوء الصباح تعود القافلة المسلمة، توشح طريق الإيمان بالأمل. ويعود مصعب مع من يعود، وهو في عودته أقوى جناناً من قبل، لا يهاب سطوة قريش، ولا سخط أبيه. وعلى قارعة الطريق تقف أُم مصعب مع الواقفات يشاهدن موكب المسلمين، وهم يعودون سالمين إلى أوطانهم.. وتحاول الأم الشفيقة أن تتشبث بولدها، ولكن المسلم الجريء يدفع أُمه برفق، ثم يرمقها بنظرات عاطفية، ويتفوه والدمعات تنتثر على وجناته، وهو يخاطب أُمه: يعز عليّ واللّه أن أمتنع من استقبال أبي وأمي، فليس لمسلم أن يطرق باب المشركين، ولو كانت دار أبيه وأمه. وتكتم الأم زفرة بين طيات صدرها وتنثني عائدة إلى الدار فتلمح عميراً، وهو على عتبة الباب وقد تسمرت عيناه إلى وضح الطريق، ودمعة تترقرق في مآقيه. وبين صدى النشيج المنساب، تقول الأم المحزونة: يا أبا زرارة: إن مصعباً عاد مع القافلة، ومسحة من إشراق تظلله. وهالة من إيمان تحيطه. فيقاطعها عمير، والثورة تؤز في كيانه: اسكتي، وكأنك ملت إلى هذا الدين الجديد، أخشى أن يسمعك أحد فيصيبنا بسوء.. وتلملم الوالدة الحزينة دمعة نافرة في مآقيها ثم تنثرها مدراراً. ولا يمسي المساء حتى يزهد مصعب بأمره، ويترك مظاهر الرقة والدلال، ويبعد عن عينيه مظاهر النعيم والترف، فالإسلام يحارب هذه المظاهر الزائفة، ولا بد من أن يواسي اخوانه الفقراء. ويرمقه الرسول الأعظم، وقد نزع عنه ابراد الحياة الناعمة فيتأثر لذلك، ويدعو له بالخير. كان مصعب لا يلبس إلا أرق حلة، ولا يتطيب إلا بأحسن طيب، ويمر الزمن وإذا به يرتدي فروة قد رفعها عن كاهله قليلاً لخشونتها، فيبكي محمد رقة عليه. وفي ضحوة النهار طلق مصعب دنياه الجملية الضاحكة وأخلص لدينه، وكان بهذه الصفات العالية نال المكانة المرمومة عند النبي (صلى الله عليه وآله). ويقصد النبي مكة في موسم الحج ليبلغ رسالته، ويقدم عليه وفد المدينة من الخزرج والأوس - وهم يشهدون بالتوحيد ورسالته - ويطلبون منه أن يرسل معهم معلماً وموجهاً.. ويرى الرسول أن مصعباً خير من يقوم بهذه المهمة، فيقول له: - يا مصعب: أترغب في خدمة تؤديها للمسلمين؟. - لبيك يا رسول اللّه. - إرحل الى المدينة - وكان ذلك قبل الهجرة بقليل - وعلم المسلمين القرآن، وفقههم في الدين. - سمعاً وطاعة يا رسول اللّه. ويرحل مصعب مع الوفد المدني، ليؤدي رسالته المقدسة ويبلغ ويرشد.. ويتخذ من دار أبي أمامة، أسعد بن زرارة مركزاً له.. وتجمع حوله عدد من الذين نوَّر اللّه قلوبهم بالإيمان يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين حتى صار معروفاً في المدينة ب(المقرئ). وذات ليلة قمراء يحدث أبو أمامة ضيفه مصعباً، فيقول له: لو ترى أن نخرج غداً لسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير وهما سيدا الأوس، وتعرض عليهما الاسلام، فعسى أن يستجيبا للدعوة وفي ذلك إيمان الأوس. وفي الصباح قصد الرجلان زعيمي الأوس، ولم يبلغا مضارب الأوس، حتى بلغ خبرهما سماع سعد وأسيد، فضاقا بهما ذرعاً والتفت سعد الى أسيد طالباً منه أن يذهب الى الرجلين، ويطلب منهما أن يعودا من حيث أتيا، فهما لم يقصدا هذه الديار إلا ليسفها ضعفاءنا، ويضعضعا شبابنا، ما لنا ولهم، ولولا أن سعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، فهو ابن خالتي ومصعب صاحب محمد ضيفه، ولا أرغب أن أكون قاسياً معه. وتوجه أسيد اليهما، وما أن وقعت عين أسعد عليه، حتى قال لمصعب: هذا سيد قومه قد أقبل عليك، فاصدق اللّه فيه. قال مصعب: أرجو أن أوفق في ذلك. ووقف أسيد عليهما، وهو شاهر حربته، وقال لهما: ما جاء بكما الينا، نحن لا نرغب في قولكما. وبكل هدوء قال له مصعب: لو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته ذهبنا عنك. قال: أنصفت.. ثم ركز حربته، وجلس معهما، فكلمه مصعب بالاسلام، وقرأ عليه القرآن. يسمع أسيد هذا الكلام، ويأخذ لبه، ويسيطر على مشاعره.. وتمر به ساعة، وهو لا يعرف عن نفسه شيئاً، لقد انصهر بالحديث، وأعجب بالآيات الكريمة، ولم يلتفت إلا وهو يميل إلى مصعب قائلاً: وكيف أدخل في الاسلام.. ما أحسن هذا الكلام وأجمله، وما أعظم هذه المثل التي يتبناها دينكم.. أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسوله وعبده.. ووثب دفعة وعاد راجعاً الى صاحبه سعد بن معاذ.. ويدخل عليه، وهو بين قومه في مجلسهم فلما نظر اليه سعد بن معاذ مقبلاً، قال: أحلف باللّه لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.. فلما وصل أسيد الى المجلس، قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فواللّه ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما، فقال: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت أن لهما معك حاجة، فلو أجبتهما.. فقام سعد لهما، ولما أقبل قال أبو أمامة لمصعب: جاءك واللّه سيد من وراءه قومه، إن تبعك لم يتخلف عنك منهم اثنان. وما أن وقف عليهما حتى بادرهما بقوله: وماذا تريدان مني.. فقال له مصعب: اجلس واسمع، فإن رغبت بما قلنا وإلا تركناك.. فجلس معهما. فتحدث له مصعب عن الاسلام وقرأ عليه القرآن.. وهما في هذه يقول أسعد: عرفت واللّه في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم.. ولم ينته مصعب من حديثه حتى نوَّر اللّه قلب سعد بن معاذ، وأسلم. وعاد الى قومه، ووقف بينهم، وهو يقول: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا باللّه وبرسوله.. ولم يمسِ المساء على أحياء الأوس إلا وأسلموا، ولم تتخلف منهم إلا بيوت بقيت ولم تشمل بالهداية.. وعاد مصعب مع مضيفه أسعد الى مقامهما، وهما سعيدان في هذه الخطوة. ومرة اخرى يخاطب الرسول مصعباً: كيف تكون لو وقع أحد من أهل بيتك أسيراً في يديك، فهل تأخذك الرقة والعاطفة؟ - يا رسول اللّه لا تأخذني في سبيل اللّه رقة وعاطفة، حتى ولو كان أبي أو أخي. ويعلن النبي النفير العام بين المسلمين استعداداً لغزوة (بدر) وتزحف جيوش المسلمين لتقابل جيشاً سدَّ الخافقين، ومصعب يحمل لواء المسلمين. ويلتحم الجيشان، ولم تنحسر المعركة إلا وزرارة بن عمير أسير بيد أخيه مصعب، والرجل كان يحمل لواء المشركين في بدر. ونادى منادي المشركين أن زرارة أسير لدى المسلمين. وتهرع الجموع الى مصعب لتطلب منه صاحب لواء المشركين: إنه أخوك يا مصعب فارفق به، ولا تعامله بالقسوة. كرامة لأمك اطلق سراح اخيك، ولكن هيهات فلم يسمع الحشد من مصعب إلا السخرية والاستهزاء.. ولما لم ترَ أمه تزعزعاً عن موقفه تضطر هي لتفتدي زرارة بأربعة آلاف درهم فيضيفها لخزانة المسلمين. ويسمع الرسول بهذا الأمر فيطبع على جبين مصعب قبلة الرضا، ويدعو اللّه له بالموفقية. وانطوت أحاديث بدر، وتحدث الناس عن غزوة (أُحد) وقد أصدر الرسول أمره بالتأهب لها، ويستعد المسلمون للزحف، وفي صباح اليوم المشهود انتظر القوم موقف النبي لمن يسلّم رايته، ولم يطل التفكير بهم فقد أعطى لواء المسلمين الى مصعب. وفي ساحة الميدان، وقبل أن تنجلي المعركة يخرّ مصعب صريعاً في رهج الحرب، ويحمله الرسول الأعظم الى حيث ترك أصفيائه، يودعه بدمعة حارة، فيها الكثير من الحزن، وفيها الكثير من الألم. وفي غنوة الضحى يسكن أريج العطر، وتخمد أضواء الفتوة في ساحة الحرب قضى مصعب شبابه، ومسحة من جمال لم تغادر وجهه المشرق.. ورحل ولا يملك من دنياه إلا ثوباً، فكان إذا غطوا رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا رجليه، برز رأسه فقال رسول الله: «اجعلوا على رجليه شيئاً من الاذفر»، وانتهت صفحة هذا الصحابي عن عمر ناهز الأربعين. |