فهرس الكتاب

 

الفصل الثالث :

الإسراء والمعراج

 

الإسراء والمعراج :

بعد بعثه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي أثناء المرحلة السرية ، التي استمرت ثلاث ، أو خمس سنوات ، كان – على الأرجح – الإسراء والمعراج : الإسراء إلى بيت المقدس ، حسب نص القرآن الكريم .

والمعراج من هناك إلى السماء ، الذي وردت به أخبار كثيرة .

وحيث إن التفاصيل الدقيقة لهاتين القضيتين يصعب الجزم في كثير منها إلا بعد البحث الطويل والعميق . وذلك لأن هذه القضية ، وجزئياتها قد تعرضت على مر الزمان للتلاعب والتزيد فيها ، من قبل الرواة والقصاصين ، ثم من قبل أعداء الإسلام ؛ بهدف تشويه هذا الدين ، وإظهاره على أنه يحوي الغرائب والعجائب ، والأساطير والخرافات ، لأسباب شخصية ، وسياسية وغيرها . ولم يسلم من مكائد هؤلاء حتى رموز الإسلام ، وحفظته وأئمة المسلمين أيضاً .

وقد حذر الإمام الرضا (عليه السلام) من هؤلاء –حسبما روُي عنه – حيث قال لإبن أبي محمود : ( إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على أقسام ثلاثة : أحدها : الغلو . وثانيها : التقصير في أمرنا .وثالثها : التصريح بمثالب أعدائنا .

فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا ، ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا . وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا . وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا وقد قال الله عز وجل : ولا تسبوا الذين يدْعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم )(1) .

وبعد ما تقدم ، فإن التعرض لبحث التفاصيل الدقيقة لقضية الإسراء والمعراج يحتاج إلى توفر تام، وتأليف مستقل ؛ ولذا فنحن لا نستطيع في هذه الفرصة المتوفرة لنا أن نعطي تصوراً دقيقاً عنه .

وعلى هذا فسوف نكتفي بالإشارة إلى بعض الجوانب التي رأينا : أن من المناسب التعرض لها ؛ فنقول :

متى كان الإسراء والمعراج :

إن المشهور هو أن الإسراء والمعراج قد كان قبل الهجرة بمدة وجيزة ؛ فبعضهم قال : ستة أشهر ، وبعضهم قال : في السنة الثانية عشرة للبعثة ، أو في الحادية عشرة أو في العاشرة . وقيل : بعد الهجرة (2) .

وفي مقابل ذلك نجد البعض يقول : إنه كان في السنة الثانية من البعثة (3) ، وقيل في الخامسة ، وقيل في الثالثة – وهو الأرجح عندنا – ولعل ابن عساكر يختار ما يقرب مما ذكرنا ، حيث إنه ذكر الإسراء في أول البعثة كما ذكره عنه ابن كثير (4).

وقال مغلطاي ، بعد أن ذكر بعض الأقوال : (وقيل : كان بعد النبوة بخمسة أعوام ، وقيل : بعام ونصف عام . وقال عياض : بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً ) (5) .

وقال ملا علي القاري : (وذكر النووي : أن معظم السلف ، وجمهور المحدثين والفقهاء على أن الإسراء والمعراج كان بعد البعثة بستة عشر شهراً ) (6).

وقال ابن شهر آشوب : ( ثم فرضت الصلوات الخمس بعد إسرائه في السنة التاسعة من نبوته (7) ) . ولكنه لم يبين لنا تاريخه باليوم والشهر .

وقال الديار بكري : ( فأما سنة الإسراء ، فقال الزهري : كان ذلك بعد المبعث بخمس سنين . حكاه القاضي عياض ، ورجحه القرطبي ، والنووي . وقيل : قبل الهجرة بسنة إلخ ) (8).

الأدلة على المختار :

وأما ما يدل على أن الإسراء قد كان في السنوات الأولى من المبعث ؛ فعدا عن الأقوال المتقدمة ، ولا سيما ما ذكره الزهري والنووي ، ونشير إلى الأمور التالية :

1- ما روي عن ابن عباس أن ذلك كان بعد البعثة بسنتين (9) وابن عباس كان أقرب إلى زمن الرسول ، واعرف بسيرته من هؤلاء بسيرته من هؤلاء المؤرخين ، فإذا ثبت النص عنه قدّم على أقوال هؤلاء .

ولربما لا يكون هذا مخالفاً لما تقدم عن الزهري وغيره ، إذا كان ابن عباس لا يحسب الثلاث سنوات الأولى ، على اعتبار : أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنما أمر بإنذار الناس بعدها .

2- قد ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : أن الإسراء قد كان بعد ثلاث سنين من مبعثه (10).

3- ويدل على ذلك بشكل قاطع ما روي عن : ابن عباس ، وسعد بن مالك ، وسعد بن أبي وقاص ، والإمام الصادق (عليه السلام) ، وعمر بن الخطاب ، وعائشة ، من أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لعائشة – حينما عاتبته على كثرة تقبيله ابنته سيدة النساء ، فاطمة ( عليها السلام) - :

نعم يا عائشة ، لما اسري بي إلى السماء أدخلني جبرائيل الجنة ن فناولني منها تفاحة ن فأكلتها ، فصارت نطفة في صلبي ، فلما نزلت واقعت خديجة ، ففاطمة من تلك النطفة ؛ ففاطمة حوراء إنسية ، وكلما اشتقت إلى الجنة قبلتها (11).

ومعلوم مما سبق : أن فاطمة قد ولدت بعد البعثة بخمس سنوات ؛ فالإسراء والمعراج كانا قبل ذلك بأكثر من تسعة أشهر ، ولعله قبل ذلك بسنتين . حتى أذن الله لتلك النطفة بالظهور ، والاستقرار في موضعها .

4- إن سورة الإسراء قد نزلت في أوائل البعثة ، ويدل ذلك :

ألف – ما رواه البخاري وغيره ، من أن قوله تعالى في سورة الإسراء : (ولا تجهر بصلاتك ، ولا تخافت بها ) قد نزل بمكة ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مختف . كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ؛ فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ، ومن أنزله ، ومن جاء به الخ (12) .

ومعلوم : أن اختفاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) في دار الأرقم إنما كان في أوائل البعثة .

وأجاب المحقق الروحاني على ذلك ، بأن من الممكن أن يكون ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حينئٍذ مختفياً في شعب أبي طالب .

ولكن ، لنا إن نناقشه بأن شعب أبي طالب لم يكن محل اختفاء لهم ، وإنما كانوا محاصرين فيه ، فالتعبير بالإختفاء يدل على أن ذلك قد كان في أوائل البعثة .

ووجود هجوم في سورة الإسراء على عقائد المشركين ، لا يضر ؛ إذا كانت السورة قد نزلت في أوائل البعثة .

ب- ما ذكره البعض في مقال له (13) من أن سورة الإسراء قد نزلت بعد الحجر بثلاث سور (14) وسورة الحجر قد نزلت في المرحلة السرية . وفيها جاء قوله تعالى : ( فاصدع بما تؤمر ، واعرض عن المشركين ) . الأمر الذي تسبب عنه الجهر بالدعوة وإظهارها .

وإيراد المحقق الروحاني هنا بأن في السورة ما يدل على وجود الصدام بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) والمشركين . وهذا الصدام إنما حصل بعد الاختفاء في دار الأرقم ، وبعد الإعلان بالدعوة .

يجاب عنه بما تقدم ، من أن من غير البعيد أن تكون هذه السورة قد نزلت تدريجاً ؛ فبدأ نزولها في أول البعثة . ثم أكملت في فترة التحدي والمجابهة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركين .

ويدل على قدم نزولها أيضاً قول ابن مسعود عن سور الإسراء ، والكهف ، ومريم : إنهن من العتاق الأول ، وهن من تلادي (15) .

وابن مسعود ممن هاجر إلى الحبشة ، ورجع منها ، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) يتجهز إلى بدر(16) .

إلا أن يقال : إن ابن مسعود إنما هاجر إلى الحبشة بعد الطائف ، أي في الهجرة الثانية ، لا في الأولى ؛ فلاحظ ؛ فان ذلك لا يلائم قوله : أنهن من العتاق الأول .

5- إن سورة النجم التي يذكرون أنها تذكر المعراج في آياتها – قد نزلت هي الأخرى في أوائل البعثة ؛ فإنها نزلت بعد اثنتين أو ثلاث وعشرين سورة ، ونزل بعدها أربعة وستون سورة في مكة (17) ، وسيأتي في قصة الغرانيق المكذوبة أو المحرفة : أنهم يقولون : إنها إنما نزلت بعد الهجرة إلى الحبشة بثلاثة اشهر . والهجرة إلى الحبشة إنما كانت في السنة الخامسة .

بل لقد قيل : إن سورة النجم هي أول سورة أعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بقراءتها ؛ فقرأها على المؤمنين والمشركين جميعاً (18).

إن كان من الممكن النقاش في كون آيات سورة النجم ناظرة إلى المعراج ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

6- ويؤيد كون هذه القضية قد حصلت في أوائل البعثة : انه حين عُرج به (صلى الله عليه وآله وسلم ) صار الملائكة يسألون : أو قد أرسل إليه ؟ (19) . فان هذا يسير إلى أن ذلك إنما كان في أول بعثة (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بعد عشرة أو اثنتي عشرة سنة ، فان أمره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد اشتهر في أهل السماوات حينئذ . بل يمكن أن يكون قد اشتهر ذلك منذ الأيام الأولى من البعثة.

7- ما يدل على أن الإسراء قد كان قبل وفاة أبى طالب : فإن بعض الروايات تذكر أن أبا طالب (ره) قد افتقده ليلته ، فلم يزل يطلبه حتى وجده ، فذهب إلى المسجد ، ومعه الهاشميون ، فسل سيفه عند الحجر ، وأمر الهاشميين بإظهار السيوف التي معهم ، ثم التفت إلى قريش ، وقال : لو لم أره ما بقي منكم عين تطرف . فقالت قريش : لقد ركبت منا عظيماً (20).

8- ما روي من أن جبرائيل قال للنبي حين رجوعه : حاجتي أن تقرأ على خديجة من الله ومنّي السلام (21) .

9- وعن عمر : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ثم رجعت إلى خديجة ، وما تحولت عن جانبها .

فكل ذلك يدل على أن هذا الحدث قد كان قبل وفاة شيخ الأبطح ، وأم المؤمنين خديجة (رحمها الله ) وهما قد توفيا في السنة العاشرة من بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فكيف يكون الإسراء والمعراج قد حصل في الحادية عشرة أو الثانية عشرة أو بعدها ؟! .

تسمية أبي بكر بالصّديق

إنه إذا تأكد لنا : أن الإسراء والمعراج كان في السنة الثالثة من البعثة . أي قبل أن يسلم من المسلمين أربعون رجلاً ؛ فإننا نعرف : أن الإسراء كان قبل إسلام أبي بكر بمدة طويلة ؛ لأنه كما تقدم قد اسلم بعد اكثر من خمسين رجلاً ، بل إنما اسلم حوالي السنة الخامسة من البعثة ، بل في السابعة أي بعد وقوع المواجهة بين قريش وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أو بعد الهجرة إلى الحبشة فهو أول من أسلم بعد هذه المواجهة أو الهجرة – على الظاهر .

وإذا كان الإسراء قد حصل قبل إسلامه بمدة طويلة ، فلا يبقى مجال لتصديق ما يذكر هنا ، من أنه قد سُمّي صديقاً ، حينما صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) في قضية الإسراء (22)، ولا لما يذكرونه ، من أن ملكاً كان يكلم رسول الله حين المعراج بصوت أبي بكر (23) وقد صرح الحفاظ بكذب طائفة من تلك الروايات (24) .

والصحيح : هو أنه قد كلمه بصوت علي (عليه السلام) (25). وبذلك يظهر حال سائر ما يذكر هنا لهذا الرجل من فضائل ومواقف تنسب إليه في السنوات الثلاث الأولى من البعثة .

وبعد ما تقدم نقول :جاء في الشفاء عن أبى حمراء قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لما اسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أيدته بعلي (عليه السلام) (26) .

الإسراء والمعراج في اليقظة أو في المنام :

يرى البعض : أن الإسراء قد كان بالروح فقط ، في عالم الرؤيا ،ويحتجون بما عن عائشة : ما فقدت جسد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) (27) .

وعن معاوية : أنها رؤيا صالحة (28) . وحكي مثل ذلك عن الحسن البصري .

ولكن الصحيح هو ما ذهب إليه الإمامية ومعظم المسلمين من أن الإسراء إنما كان بالروح والجسد معاً . أما المعراج فذهب الأكثر إلى أنه كان بالروح والجسد وهو الصحيح أيضاً . ونحن نشير هنا إلى ما يلي :

أولاً : بالنسبة لعائشة ، قال القسطلاني : (وأجيب : بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة ؛ لأنها لم تكن إذ ذاك زوجاً ، ولا في سن من يضبط ، أو لم تكن ولدت بعد ، على الخلاف في الإسراء متى كان ) (29).

وأما معاوية فحاله معلوم مما ذكرناه في الجزء الأول : المدخل لدراسة السيرة .

وثانياً : قال تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) (30) وقال في سورة النجم – إذا كانت الآيات ناظرة إلى المعراج ، ويرجع الضمير فيها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) لا إلى جبرائيل - : ( فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى ) (31) .

فان لفظ العبد إنما يطلق على الروح والجسد معاً ، لو كان مناماً ، لكان قال : بروح عبده ، وإلى روح عبده .

كما أن قوله تعالى : ( ما زاغ البصر وما طغى ) ظاهر في البصر الحقيقي أيضاً (32).

أضف إلى ذلك : أن آية سورة الإسراء ، وآيات سورة النجم واردة في مقام الامتنان . وفيها ثناء على الله ، وعجيب قدرته ، وذلك لا يحسن ، ولا يتم لمجرد رؤيا رآها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؛ إذ ربما يرى غير النبي ، وحتى الفاسق الفاجر رؤيا اعظم من ذلك .

هذا بالإضافة إلى أن الرؤيا عند عامة الناس لا تدل على عظيم قدرته تعالى ، إذ ربما تفسر على أنها نوع من الأوهام والخيالات ، فيفوت الغرض المقصود من الإسراء والمعراج ، كما هو ظاهر (33).

وثالثاً : انه لو كان الإسراء مجرد رؤيا صالحة ؛ فلا يبقى فيه إعجاز ؛ ولما أنكره المشركون والمعاندون ، ولما ارتدّ ناس ممن كان قد اسلم ، كما سنشير إليه .

ورابعاً : لو كان مجرد رؤيا ، لم يخرج أبو طالب والهاشميون في طلبه (صلى الله عليه وآله وسلم ) . وكان العباس يناديه حتى أجابه من بعض النواحي ، حسبما ورد في بعض الروايات .

وأما لماذا ينكرون : آن يكون ذلك بالروح والجسد معاً ؛ فهو إما لعدم قدرتهم على تعقل ذلك ، أو لأجل الحط من كرامة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما تقدم في المدخل لدراسة السيرة ، أو لعدم قدرتهم على إقناع الناس بأمر مبهم كهذا .

الإسراء والمعراج في القرآن :

إننا نؤمن بالإسراء استناداً إلى قوله تعالى : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، الذي باركنا حوله ، لنريه من آياتنا(34) ) .. فمحط النظر في الآية هو بيان الإسراء فقط .

أما المعراج ، فانه لم يذكر في القرآن صراحة ، إلا ما جاء في تفسير آيات سورة النجم وهي قوله تعالى : ( ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى الإمامة عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . ) (35) ، إن قلنا أن الضمير فيها يرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لا إلى ذي المرة ، الذي هو جبرائيل .

مع أن الثاني هو الظاهر ، ويدل عليه رواية صحيحة السند ، عالية الإسناد ، عن الإمام الرضا (عليه السلام) . والرواية تستشهد وتستدل بنص الآيات في السورة(36).

ويدل على ذلك أيضا ويفسره قوله تعالى : (ولقد رآه بالأفق المبين (37) ) فراجع .

ولكن كثرة الأخبار الواردة في المعراج ، وحتى تواترها القطعي لا يبُقي مجالاً للشك في حصول المعراج ؛ فنحن نؤمن به أيضاً استناداً إلى ذلك .

وأما القول بوجود تعارض بين آية سورة الإسراء ، وبين الروايات الدالة على المعراج ، على اعتبار : أن الآية تدل على أن انتهاء السير كان في المسجد الأقصى ، ولم يكن بعده سير .

فلا يصح ؛ لأن هناك رحلتين مختلفتين من حيث الكيفية والقصد . وقد كان انتهاء الرحلة الأولى في المسجد الأقصى ، ولم يتعلق غرض في الآية ببيان الرحلة الثانية أصلا .

سؤال هام وجوابه :

وأما لماذا لم يذكر المعراج في القرآن صراحة ، كما كان الحال بالنسبة إلى الإسراء .

فلربما يكون السر في ذلك هو أن الإسراء أمر قريب إلى الحس ، فالتصديق به يكون ايسر وأقرب .

وإذا كانوا قد صعب عليهم التصديق بالإسراء ، بل واستهزؤا وشنعوا عليه ما شاء لهم بغيهم وحنقهم . رغم أنه قد أخبرهم بما جرى للقافلة التي رآها في طريقه ، وبأنها قد أضلت بعيراً ، وكسرت فيها ناقة حمراء في الوقت الفلاني ، وبان لهم صدقه في ذلك . ورغم أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصف لهم بيت المقدس وصفاً دقيقاً ، يعلمون صحته وصدقه ، مع علمهم بعدم رؤيته (صلى الله عليه وآله وسلم ) له فيما مضى .

وأيضاً ، إذا كان بعض ضعفاء المسلمين قد ارتدوا ، حين أخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بقضية الإسراء (38)، الذي هو من جملة المعجزات القاطعة ، والبراهين الساطعة.

نعم ، إذا كان ذلك كله ، فكيف تكون الحال إذا أخبرهم بما هو اكثر غرابة وبعداً عن أذهانهم ، وهو رحلته إلى السماوات العلى ، وما شاهد فيها من عجائب الصنع ، وبديع الخلق ؟!.

ولهذا ، فإننا نرجح : أنه (صلى الله عليه وآله وسلم ) قد تدرّج في إخباره لهم بالإسراء والمعراج، فأخبرهم أولاً بالإسراء ، أما المعراج فأخبر به أولياءه المؤمنين القادرين على التحمل ، والتعقل . ثم صار يتوسع في إخباره لغيرهم ذلك في الأوقات المناسبة ، وبحسب ما تقتضيه المصلحة ، ومتطلبات الدعوة إلى الله تعالى .

الداعية الحكيم :

ولعل مما تقدم يظهر : أنه إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) إنما جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ومن الضلالة إلى الهدى ، فان من الطبيعي أن يهتم في الحفاظ على الركيزة الإيمانية التي يحصل عليها ، وأن لا يدخلها في أجواء ليس لها القدرة على استيعابها ولا على مواجهة أخطار الانحراف فيها .

ومن الواضح : أنه إذا أخبرهم بقضية المعراج ، مع عدم قدرتهم على التحمل والتفاعل معها ولا على تصورها ، فانهم إذا ارتدوا حينئٍذ فسيكونون معذورين ، ولا سيما إذا كان التصديق بهذه القضية إنما يستند إلى المستوى الإيمان لديهم بالدرجة الأولى .

وأما قضية الإسراء ، فقد كان بالإمكان أن يؤدي الإخبار عنها نفس النتيجة المتوخاة ، وهي الجهة الإعجازية ذات الطابع المعين مع إمكان الاستناد في مقام الإقناع بها إلى أدلة تقربها إلى الحس ، وتجعل القبول بها أيسر وأسهل من تلك ، ولا يعتمد فيها على المستوى الإيماني وحسب . وإذن ؛ فلا يبقى ثمة مبرر لإرتداد هؤلاء ، ولا لعناد أولئك .

لا تدركه الأبصار :

ويرى البعض ، استناداً إلى قوله تعالى : (أفتمارونه على ما يرى ، ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى إلخ (39) ) : أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) قد رأى الله حين المعراج بعين رأسه ، ورووا ذلك عن ابن عباس . بل لقد حكى النقاش عن أحمد بن حنبل ، أنه قال : أنا أقوال بحديث ابن عباس : بعينه رآه ، ورآه ، حتى انقع نفسه ، يني نفس أحمد (40).

ونحن لا نريد أن نفيض في الحديث حول الرؤية له تعالى ، فلقد أثبت علماؤنا الأبرار ، بما لا مجال معه للشك استحالة رؤيته تعالى ، سواء في الدنيا ، أو في الآخرة . وقد فندوا أدلة المجسمة المثبتين للرؤية في الدنيا والآخرة ، أو في الآخرة فقط بشكل علمي وقاطع .. فمن أراد الاطلاع على ذلك فعليه بمراجعة دلائل الصدق ، وغيره من الكتب المعدة لذلك(41) .

ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن الرواية عن ابن عباس غير ثابتة ، فقد روي عنه أيضاً خلافها (42) .

وروى عن عائشة : أن مسروقاً قال لها : يا أم المؤمنين ، هل رأى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) ربه ؟ قالت : لقد قفّ شعري مما قلت .. إلى أن قالت : من حدثك أن محمد رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : لا تدركه الأبصار إلخ (43) .

وعند مسلم : أنها أضافت : أنها سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) عن ذلك ، فأخبرها : أنه لم يره ، وإنما رأى جبرائيل (44).

والروايات في أن المقصود بالآيات في سورة النجم هو جبرائيل كثيرة جداً وكذلك الروايات التي تؤكد : على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم ) قد رآه بقلبه وفؤاده ، لا بعينه وبصره ، فإنها كثيرة أيضاً (45).

بل إن نفس الآيات ظاهرة –إن لم تكن صريحة – في أن المقصود هو جبرائيل ، بيان ذلك باختصار :

إن قوله تعالى : علمه شديد القوى يراد القوى هو جبرائيل (عليه السلام) ، ثم وصف جبرائيل ، الذي وصفه الله بالقوة في قوله : (ذي قوة عند ذي العرش مكين (46)) بكونه ذا مرة ، (أي شدة وحصافة في العقل والرأي(47) ) ، وقوله (فاستوى) أي أن ذلك الشديد ، ذا المرة . استقام أو استولى ، وهو بالأفق الأعلى . وقوله : ثم دنا ، أي ذلك الشديد ذو المرة دنا من النبي وتدلى في الأفق نحو النبي (صلى الله عليه وآله ) .

ثم ، إن ذلك الشديد القوي ذا المرة الذي دنا فتدلى ، أوحى إلى النبي الذي هو عبد الله ما أوحى .

ورجوع الضمير إلى الله مع عدم سبق ذكره ، لا ضير فيه لوضوحه ، كما قال العلامة الطباطبائي ، أو على أن يكون ضمائر فأوحى إلى عبده ما أوحى راجعه إلى الله تعالى .

ثم قال : ما كذب الفؤاد ما رأى . والمرئي هو الآيات الكبرى ، ومنها ما تقدم من الدنّو ، والتدلي ، وكون جبرائيل بالأفق الأعلى .

وليس في الآية ما يدل على أن الرؤية قد كانت لله تعالى . ويدل على ما نقول قوله تعالى الآتي : ( ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) .

ثم قال تعالى : أفتمارونه على ما يرى . أي اتجادلونه في رؤيته جبرائيل ، وهل هذا أمر نظري عقلي يصح الجدال والمراء فيه ؟ وهل بإمكانه أن يكذب بصرة ويقول : لا أراه ؟! فان الكفار كانوا ينكرون الوحي له ، ورؤيته الملك .

ثم قال تعالى : ولقد رآه ،_ والضمير يرجع إلى ذلك الذي لا يزال يتحدث عنه -، نزلة أخرى ، أي في نزول آخر ، والذي كان ينزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم ) هو جبرائيل ، فانه رآه والتقى معه على صورته في نزلة ثانية عند سدرة المنتهى . والسدرة نوع من الشجر .

ولا بد أن تكون هذه الرؤية الثانية في الأرض ، وإلا لوجب أن يقول : ولقد رآه أخرى ، ثم عرج به إلى السماء ، حتى انتهى إلى السدرة ، فرآه عندها .

ويبدو : أنه كان في الأرض – كما يراه بعض المحققين –شجرة سدر كان لقاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بجبرائيل عندها ، وعند تلك السدرة توجد جنة المأوى ، أي جنة وبستان يؤوى إليها ، أو أن الجنة في الآخرة ستكون في تلك المنطقة .

وبعض المحققين يرى : أن المراد بالنزلة الدفعة ، وأنه قد رأى جبرائيل بعد العروج عند سدرة المنتهي ، وان الجنة الحقيقية موجودة هناك .

ونقول :

إن هذا الكلام خلاف ظاهر التعبير بنزلة . وتحقيق مكان الجنة ليس هنا محله .

وهكذا يتضح : أن هذه الآيات ناظرة إلى رؤية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) لجبرائيل على صورة الحقيقة مرتين في نزلتين لجبرائيل .

وهذا هو ما أكده الإمام الرضا (عليه السلام) في رواية صحيحة السند عنه ، جاء فيها : قال أبو قرة : إنا روينا : أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين ؛ فقسم الكلام لموسى ، ولمحمد الرؤية .

فقال أبو الحسن (عليه السلام) : فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين ، من الجن والإنس : ( لا تدركه الأبصار . ولا يحيطون به علماً . وليس كمثله شيء ) ؟ أليس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟

قال : بلى .

قال : كيف يجيئ رجل إلى الخلق جميعاً ؛ فيخبرهم : أنه جاء من عند الله ، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، فيقول : ( لا تدركه الأبصار . ولا يحيطون به علما . وليس كمثله شيء ) ، ثم يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطت علماً ، وهو على صورة البشر ؟! أما تستحون ؟! . ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر .

قال أبو قرة : فانه يقول : (ولقد رآه نزلة أخرى ) ؟

فقال أبو الحسن (عليه السلام) : إن بعد هذه الاية ما يدل على ما رأى ، حيث قال : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) ، يقول : ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ، ثم أخبر بما رأى ، فقال : (لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) ؛ فآيات الله غير الله ، وقد قال الله : ( ولا يحيطون به علماً ) . فإذا رأته الأبصار ؛ فقد أحاطت به العلم ، ووقعت المعرفة .

فقال أبو قرة : فتكذب بالروايات ؟!.

فقال أبو الحسن (عليه السلام) : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها . وما أجمع المسلمون عليه : أنه لا يحاط به علماً ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء (48).

وفي الرواية دلالة على حجية ظواهر الكتاب ، وعلى حجية السياق القرآني أيضا . صلوات الله وسلامه عليك يا أبا الحسن وعلى آبائك وأبناؤك الطاهرين ، فإنكم ما زلتم حصون الإسلام ، والمدافعين عنه ، والباذلين مهجكم في سبيله ، فانتم مصابيح الدجى ، والعروة الوثقى ، والحجة على أهل الدنيا .

الإسراء من المسجد :

صريح القرآن : إن الإسراء كان من المسجد ، وجاء في عدد من الروايات : أنه كان من بيت أم هاني (49) واحتمل السيد الطباطبائي أن يكون الإسراء حصل مرتين ، إحداهما من بيت أم هاني (50).

ويحتمل أيضاً التجوز ، وإرادة مكة من (المسجد الحرام) . وهو إطلاق متعارف ، قال تعالى : (هدياً بالغ الكعبة ) ويقال : وهو يسكن في مشهد الرضا ، مع أنه يسكن في البلد المحيطة به . وأطلق في الروايات مسجد الشجرة على ذي الحليفة . ومثل ذلك كثير ، فان من المتعارف .

ويحتمل أيضاً أن يكون ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خرج تلك الليلة إلى المسجد من بيت أم هاني ، ثم اسري به من المسجد .

موسى ، وفرض الصلوات الخمس :

هذا ، وقد جاء في بعض الروايات : أن الصلوات الخمس قد فرضت حين المعراج ، وأنها فرضت أولاً خمسين صلاةً في اليوم . وحين عودة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) التقي بموسى ، فأشار عليه أن يرجع إلى الله ، ويسأله التخفيف ، لأن الأمة لا تطبق ذلك – كما لم تطقه بنو اسرائيل –فرجع ، وطلب إلى الله التخفيف فخففها إلى أربعين ، وعاد الرسول ؛ فمر بموسى ، فأشار عليه بطلب التخفيف ، ففعل ، فخففت إلى ثلاثين ، ثم إلى عشرين ، ثم إلى عشرة ، ثم إلى خمسة ، ثم استحيا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) من المراجعة من جديد فاستقرت الصلوات على خمس (51).

وهذه الرواية وإن كانت قد وردت في بعض المصادر الشيعية أيضاً ، إلا أننا لا نستطيع قبولها ، وقال عنها السيد المرتضى (رحمه الله) : (أما هذه الرواية فهي من طريق الآحاد ، التي لا توجب علماً ، وهي مع ذلك مضعفة(52) )

ونحن نشير إلى الأسئلة التالية :

ولماذا يفرض الله على الأمة هذا العدد أولاً ، ثم يعود إلى تخفيفه بعد المراجعة ، فانه إن كانت المصلحة في الخمسين ، فلا معنى للتخفيف ، وإن كانت المصلحة في الخمس ، فلماذا يفرض الخمسين ، ثم الأربعين ، ثم الثلاثين وهكذا . وفي بعض الروايات : أنه كان في كل مرة يحط عنه خمساً ، حتى انتهى إلى خمس صلوات .

وقد أجاب بعض المحققين عن هذا بأن ما جرى هنا ما هو إلا نظير إضافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) الركعتين الأخيرتين في الرباعية من الصلاة اليومية ؛ ونظير التكليف بعدم الفرار من الزحف ، فقد نسخت حرمته بعد وقوع المخالفات منهم ؛ قال تعالى : علم أنكم كنتم تختانون أنفسكم ؛ فتاب عليكم ، وعفا عنكم ؛ فالآن باشروهن(53) .

ونقول : إن ما ذكره –حفظه الله لا يكفي لدفع ما ذكرناه ، أما بالنسبة لتشريع الركعتين الأخيرتين في الرباعية من قِبَله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؛ فإن الله سبحانه قد فوّض له ذلك له ذلك حينما يعلم (صلى الله وآله وسلم ) ؛ فإن الله سبحانه قد فوّض له ذلك حينما يعلم (صلى الله عليه وآله وسلم ) بتحقق مصلحته ومقتضيه في متن الواقع .

وأما بالنسبة لحكم الفرار من الزحف ، وحكم الرفث إلى النساء ، فان المقصود بـ : (علم أن فيكم ضعفاً ) . و(علم أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) هو تحقق معلوم الله سبحانه في الخارج . أي أن الحكم السابق ، وهو حرمة الفرار بملاحظة قلة العدد ، وحرمة الرفث قد استمر وبقي إلى أن حصل الضعف وحصلت الخيانة وتغير الموضوع . فنسخ الحكم الأول ، فنسخت حرمة الرفث ونسخت حرمة الفرار وليس المراد علم الله بعد جهله ، والعياذ بالله .

أما السيد المرتضى ، فقد أجاب ( رحمه الله) عن التساؤل الذي طرحناه فيما سبق بنحو آخر ، وهو : أن من الممكن أن تكون المصلحة أولا تقتضي الخمسين ، ثم تغيرت هذه المصلحة بسبب المراجعة ، وأصبحت تقتضي الخمس (54).

ولكنه جواب منظور فيه ؛ فان النبي إذا كان يعلم : أن الله تعالى لا يشرع إلا وفق المصلحة ، فانه لا يبقى مجال لمراجعته أصلاً ؛ لأنه كأنه حينئٍذ يطلب تشريعاً لا يوافق المصلحة .

ولو صحّت المراجعة هنا ، وأوجبت تبدل المصلحة صحّت في كل مورد ، وأوجبت ذلك أيضا ، فلماذا كانت هنا . ولم تكن في سائر الموارد .

كما أن تعليل موسى للتخفيف بعدم طاقة الأمة ، كأنه يدل على أنه يعتقد : أن هذا التشريع يخالف المصلحة .

وهذا محال بالنسبة إلى الله تعالى . ولا يمكن صدوره لا من موسى (عليه السلام) ولا من نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم ) .

قال صاحب المعالم :

( المطالبة بصحة الرواية ، مع أن فيها طعناً على الأنبياء بالإقدام على المراجعة في الأوامر المطلقة ) (55).

وسؤال آخر : كيف لم يعلم الله تعالى : أن الأمة لا تطيق ذلك ، وعلم بذلك موسى ؟:

وسؤال آخر وهو : ما المراد بعدم الإطاقة عقلاً ؟ فيد عليه : انه لا يمكن القول بجواز التكليف بما لا يطاق ؟ أو المراد به ما كان في مستوى العسر والحرج ، المنفي في الشرع الإسلامي ، كما دلت عليه الروايات والآيات ولا سيما قوله تعالى : (يريد الله بكم اليسر ، ولا يريد بكم العسر ) (56)و (ما جعل عليكم في الدين من حرج ) (57)وغير ذلك من الآيات.

ومما ذكرناه يتضح : أنه لا يمكن أن يكون تعالى قد كلف بني إسرائيل مالا يطيقون .

وأما قوله تعالى : ( بنا ، ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ) (58).

فهو لا يدل على ذلك لعطف قوله (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) عليه ؛ فيدل على أن المراد بالإصر هو ما يطاق ، لا ما لا يطاق . ويمكن أن يكون المراد بالإصر : جزاء السيئات الثقيل والشاق ، أو المبادرة بعذاب الاستيصال .

وأما طلبهم أن لا يحمّلهم ما لا طاقة لهم به ، فليس المراد أنه يحمّلهم ذلك في التكليف الابتدائي ، لأن العقل لا يجيز ذلك ، بل المراد مالا طاقة لهم به ، مما يتسبب عن المخالفة وهو العذاب الأليم ، والعقاب العظيم .

وسؤال آخر هنا ، وهو :

كيف نسي الله تعالى تلك التجربة الفاشلة مع بني إسرائيل ، حتى أراد أن يكررها مع أمة محمد من جديد ؟!.

ولعل هذه التجربة كانت هي عذر إبراهيم الذي مر عليه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ذهاباً وإيابا عشر مرات ، أو عشرين (59)على اختلاف النقل . ولكنه لم يسأله عن شيء ، ولا أمره بشيء !! .

وإن كنا نستغرب عدم سؤاله عن سر هذه الجولات المتتالية ذهابا وإيابا ؟!.

ولماذا لم يلتفت نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ثقل هذا التشريع على أمته ، والتفت إليه نبي الله موسى ؟ ولماذا بقي يغفل عن ذلك خمس مرات ، بل ستة أو اكثر ولا يعرف : أن هذا ليس هو الحد المطلوب ، حتى يضطر موسى لأن يرصد له الطريق باستمرار ، ولولاه لوقعت الأمة في الحرج والعسر ؟ .

ولماذا لا ينزل الله العدد إلى الخمس مباشرة من دون أن يضطر الرسول إلى الصعود والنزول المتعب والمتواصل باستمرار ؟!

استبعاد الإسراء والمعراج :

وبعد ، فلا بد لنا من الإشارة هنا : إلى أن استبعاد الإسراء والمعراج ؛ بدعوى عدم إمكان تصور أن تقطع تلك المسافات الشاسعة ، التي تعد بآلاف الأميال في ليلة واحدة ذهاباً وإيابا – هذا الاستبعاد – في غير محله .

فقد حضر عرش بلقيس لدى سليمان من اليمن إلى بلاد الشام في أقل من لمح البصر . وكان عفريت من الجن قد تكفل بأن يأتيه به قبل أن يقوم من مقامه .

وأما بالنسبة لنا اليوم فقد اصبح التصديق بالإسراء والمعراج اكثر سهولة ، والإقناع به أقرب منالاً ، ولا سيما بعد أن تمكن هذا الإنسان العاجز المحدود من أن يصنع ما يمكنه من قطع 13 كيلومتراً في ثانية واحدة ، ولربما يتضاعف ذلك عدة مرات في المستقبل . كما أنه قد اكتشف أن سرعة النور هي حوالي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية (60) ، بل يعتقد بعض العلماء : إن الموجات غير المرئية للجاذبية تستطيع أن تقطع العالم بلحظة واحدة من دون حاجة إلى الزمان ..

وبعد كل هذا فإنه إذا كان قطع المسافات البعيدة بهذه السرعة المذهلة ليس مستحيلاً على هذا الإنسان المحدود ، الذي بقي الأعوام الطوال يفكر ويستعد ، ويجمع الخبرات والإمكانات ، فهل يستحيل على خالق الإنسان والكون ، ومبدعه أن يسري بعبده الذي اصطفاه رسولاً للبشرية جمعاء ، ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وإلى ملكوت السماوات ، ثم يعيده إلى مكانه الأول ؟!.

من أهداف الإسراء والمعراج :

إننا إذا أردنا معرفة الأهداف والحكم ، والمعجزات ، والتأثيرات العميقة للإسراء والمعراج ، فلا بد لنا من دراسة كل نصوصه ، وفقراته ، ومراحله بدقةٍ وعمقٍ . بعد تحقيق الصحيح منها . وحيث إن ذلك غير متيسِّر بل هو متعذر علينا في ظروفنا الحاضرة ، فإننا لا بد أن نكتفي بالإشارة إلى الأمور التالية :

أولاً : إن حادثة الإسراء والمعراج معجزة كبرى خالدة ، ولسوف يبقى البشر إلى الأبد عاجزين عن مجاراتها ، وإدراك أسرارها ولعل أعجازها هذا اصبح اكثر وضوحاً في هذا القرن العشرين ، وبعد أن تعرف هذا الإنسان على بعض أسرار الكون وعجائبه . وما يتعرض سبيل النفوذ إلى السماوات من عقبات ومصاعب .

وإعجازها هذا إنما يكون بعد التسليم بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق الخضوع لمعجزته الخالدة ، وهي القرآن ، أو اليقين بصدقه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أي طريق آخر ، بحيث يكون ذلك موجباً لليقين بصدق إخباراته كلها ؛ فإذا اخبر (صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذه الحادثة ، فان إخباره مساوق لليقين بوقوعها . وهي حينئذٍ تكون معجزة خالدة تتحدى هذا الإنسان على مدى التاريخ .

وثانياً : يلاحظ : أن هذه القضية قد حصلت بعد البعثة بقليل ، وقد بين الله سبحانه الهدف من هذه الجولة الكونية ؛ فقال في سورة الإسراء : (لنريه من آياتنا ) .

وإذا كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم ) هو الأسوة والقدوة للإنسانية جمعاء ، وإذا كانت مهمته هي حمل أعباء الرسالة إلى العالم بأسره ، وإذا كان سوف يواجه من التحديات ، ومن المصاعب والمشكلات ما هو بحجم هذه المهمة الكبرى ، فان من الطبيعي : أن يعدَّهُ الله سبحانه إعداداً جيداً لذلك ، وليكن المقصود من قصة الإسراء والمعراج هو أن يشاهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم ) بعض آثار عظمة الله تعالى ، في عمليةٍ تربوية رائعة ، وتعميق وترسيخ للطاقة الإيمانية فيه ، وليعدّه لمواجهة التحديات الكبرى التي تنظره ، وتحمل المشاق والمصاعب والأذايا التي لم يواجهها أحد قبله ، ولا بعده ، حتى لقد قال حسبما نقل ( ما أوذي نبي مثلما أوذيت ) . وعلى حسب نص السيوطي ، والمناوي ، وغيرهما : ( ما أوذي أحد ما أوذيت ) (61)ولا سيما إذا عرفنا : إن عمق إدراك هذا النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم ) –هو عقل الكل ، وإمام الكل – لأخطار الانحرافات في المجتمعات ، وانعكاساتها العميقة على الأجيال اللاحقة كان من شأنه أن يعصر نفسه ألماً من أتجلهم ، ويزيد في تأثره وعذاب روحه حتى لقد خاطبه الله تعالى بقوله : (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات (62) ) .

وأيضاً ، فانه بالإسراء والمعراج يفتح قلبه وعقله ليكون أرحب من هذا الكون ، ويمنحه الرؤية الواضحة ، والوعي الأعمق في تعامله مع الأمور ، ومعالجته للمشكلات . ولا سيما إذا كان لا بد أن يتحمل مسؤولية قيادة الأمة والعالم بأسره .

وكذلك ليصل هذا النبي الأميّ إلى درجة الشهود والعيان بالنسبة إلى ما أوحي إليه ، وسمع به عن عظمة ملكوت الله سبحانه ، ولينتقل من مرحلة السماع إلى مرحلة الرؤية والشهود ، ليزيد في المعرفة يقينا ، وفي الإيمان رسوخاً .

وثالثاً : لقد كان الإنسان – ولا سيما العربي آنئذٍ – يعيش في نطاق ضيق ، وذهنية محدودة ، ولا يستطيع أن يتصور أكثر من الأمور الحسية ، أو القريبة من الحس ، التي كانت تحيط به ، أو يلتمس آثارها عن قرب . وذلك من قبيل الفرس ، والسيف ، والقمر ، والنجوم والماء والكلاء ، ونحوها ، ويشعر بالحب ، والبغض والشجاعة وغير ذلك .

وهذا بالطبع ينسحب على كل أمة ، وكل جيل ، وإلى الأبد .

ورابعاً : والأهم من ذلك : أن يلمس هذا الإنسان عظمة الله سبحانه ، ويدرك بديع صنعه ، وعظيم قدرته ، من أجل أن يثق بنفسه ودينه . ويطمئن إلى أنه بإيمانه بالله ، إنما يكون قد التجأ إلى ركن وثيق لا يختار له إلاّ الأصلح ، ولا يريد له إلا الخير ، قادر على كل شيء ، ومحيط بكل الموجودات .

وخامساً : وأخيراً ، أنه يريد أن يتحدى الأجيال الآتية ، ويخبر عما سيؤول إليه البحث العلمي –من التغلب ، على المصاعب الكونية ، وغزو الفضاء ؛ فكان هذا الغزو بما له من طابع إعجازي خالدٍ هو الأسبق والأكثر غرابة وإبداعاً ؛ وليطمئن المؤمنون ، وليربط الله على قلوبهم ، ويزيدهم إيماناً كما قلنا .

الأذان :

ونحن نعتقد : أن الأذان قد شرع في مناسبة الإسراء والمعراج كما جاء في الخبر الصحيح ، ولكنهم إنما يذكرون ذلك بعد الهجرة ؛ فنحن نرجئ الحديث عنه إلى هناك ، إن شاء الله تعالى .

اليهود والمسجد في القرآن :

قال تعالى :

(وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب : لتفسدون في الأرض مرتين ، ولتعلن علواً كبيراً .فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا ، أولي بأس شديد ، فجاسوا خلال الديار ، وكان وعداً مفعولا . ثم رددنا لكم الكرة عليهم ، وأمددناكم بأموال وبنين ، وجعلناكم اكثر نفيرا . إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم فلها ؛ فإذا جاء وعد الآخرة ؛ ليسوؤا وجوهكم ، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ، وليتبروا ما علوا تتبيرا . عسى ربكم أن يرحمكم ، وإن عدتم عدنا ، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات : أن لهم أجراً كبيراً . وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليما)(63) .

مفاد الآيات إجمالاً :

فهذه الآيات الكريمة تتضمن :

أ : أحداثاً أربعة هامة ، هي التالية :

إن بني إسرائيل سوف يفسدون في الأرض ، ويعلون علواً كبيرا ، بعد أن كتب الله عليهم الجلاء ، وضرب عليهم الذل والمسكنة ، وباءوا بغضب من الله.

إن عباداً لِله أولي بأس شديد سوف يحاربون الإسرائيليين ، بعد فسادهم وعلوهم ، ويطأون بلادهم ، ويجوسون خلال ديارهم جزاء على بغيهم وفسادهم ، ويدخلون المسجد الأقصى أيضا .

إن بني إسرائيل سوف تكثر بعد ذلك أموالهم ، وأولادهم ، وذلك يحتاج إلى مدة طويلة نسبياً ، ولسوف يجهزون جيشاً أعظم من جيش أولئك العباد ، وتكون الكرة لهم عليهم .

ثم انهم بعد إن يعودوا إلى الإفساد من جديد ؛ في مهلة زمنية لا بأس بمقدارها يعود أولئك العباد إلى حربهم ، ليسوؤا وجوههم ، وليتبروا ما علوا تتبيرا .

ب : إن حصول المرتين الأولى والثانية ، يعني الإفساد والأول من بني إسرائيل ثم إرسال الله تعالى عباداً له عليهم ، أمر حتمي ، لقوله تعالى : (وكان وعداً مفعولاً ) . أما المرتان الأخيرتان فهما تتوقفان على اعتبار بني إسرائيل بما حصل ، ثم اختيارهم أحد الأمرين .

فلأجل إبراز عنصر الاختيار هذا والتشكيك بصدوره منهم ، عبّر بـ (إن) :(إن أحسنتم الخ ..) لأنها تستعمل في مقام الترديد والشك في صدور الإحسان منهم .

ضرب القاعدة ، وإعطاء الضابطة :

ثم إنه بالنسبة للإفساد الثاني قد اختار التعبير بـ (إذا) كما استعمل نفس هذه الكلمة بالنسبة بفسادهم الأول ، وذلك لإفادة أن اختيارهم لطريق الشر أمر حتمي . ولا شك فيه لما يعلمه الله فيهم من خصائص ، وطموحات .

ولكن جواب الشرط قد جاء بصيغة المضارع لإفادة حصول سَوْءِ الوجوه والتتبير بصورة تدريجية ، ليكون ذلك أدعى في الإذلال ، وأدلّ على المساءة ولكن هذا المضارع إنما هو بملاحظة زمان تحقق الشرط في المستقبل .

ويلاحظ هنا : كثرة المؤكدات على صدور ذلك منهم ؛ فلاحظ قوله تعالى : (قضينا ) المشير إلى حتمية ذلك لكن لا على سبيل الجبر ، وإنما على سبيل الأخبار بما هو حتمي الوقوع بحسب ما يعلمه الله من أحوالهم . ثم عبر بكلمة : (في الكتاب) المفيدة إلى نوع التأكيد أيضاً .

ثم أتى بلام الإبتداء في أكثر من مورد ، فقال : (لتفسدن ، ولتعلن) . ثم أتى بنون التوكيد . مشفوعة بإذا التي تستعمل في مقام الجزم بتحقق الشرط .

وعقب على ذلك باعتباره وعداً قد جاء بصيغة التحقق والوقوع ، حيث قال : (إذا جاء وعد ) ولم يقل : وقت أو موعد وهو يقتضي الحصول والتحقق أيضاً ، ثم ألحقه بكلمة : (بعثنا ) ، ولم يقل : سنبعث ، ليشير إلى أنه أمر حاصل لا محالة ، فهو يخبر عن وقوعه .

ثم عاد فكرر كونه وعداً ولكن بصيغة تؤكد وقوعه وحصوله حيث قال : (كان وعداً ) ثم وصفه بقوله : (مفعولا) .

ونلاحظ أيضاً أنه لم يزل يعبر بـ : (أمددنا ، بعثنا ، جعلنا ، رددنا ) بصيغة الخبر عن أمر حاصل، وإظهارا للثقة بحصوله أيضاً . فلاحظ الآيات .

ج : إن المستفاد من هذه الآيات هو : أن من سوف تجري لهم مع بني إسرائيل هذه الأحداث هم جماعة واحدة ، يجوسون خلال ديار بني إسرائيل أولاً ، ثم ترد الكرة لبني إسرائيل عليهم ، ثم يعودون هم إلى ضرب بني إسرائيل ضربة تسوء لها وجوههم ، ويتبّروا فيها ما علوا .

وذلك لأن الضمائر في : (جاسوا ، وعليهم ، ليسوؤا ، وليدخلوا ، ودخلوه وليتبروا ) – كل هذه الضمائر ترجع إلى جماعة واحدة ، عبر عنها بقوله تعالى : (عبادا لنا ) وليس غيره في الآيات يصلح مرجعاً لهذه الضمائر _ أصلاً .

د – يستفاد من هذه الآيات : أن هؤلاء العباد سوف يدخلون المسجد مرتين . وأن دخولهم هذا سوف يكون على نحو واحد في المرتين معاً ، أي بالقوة والقهر ، والغلبة (كما دخلوه أول مرة ) .

هـ : إنه تعالى بعد أن ذكر الأحداث الأربعة عاد فقال : (وإن عدتم عدنا ) وهو لبيان قاعدة كلية ، وسنة إلهية في مواجهة طغيان بني إسرائيل وفسادهم ، وهو لا يدل على أن ذلك سوف يقع منهم ، بعد تلك الأحداث الأربعة ، بل إن ما سوف يقع جزماً هو ما ذكر . أما ما سواه فلا دليل على حدوثه ، بل إن تعبيره بـ (إن) الشرطية ، الموضوعة للاستعمال في غير موارد الجزم لربما يشير إلى عدم الوقوع .

و : أن المقصود بـ : (عباداً لنا) (64) لأن البعث ، والعباد له ، لم يستعملا في القرآن – إلا ما شذ – إلا في مقام المدح والثناء ، ولا سيما مثل قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ، وغير ذلك .

ولا أقل من أنه قصد به ما سوى الكافرين .

ولربما يشير إلى ذلك أيضاً : أنه تعالى بعد أن ذكر انتصار عباده على بني إسرائيل وما سوف يحيق ببني إسرائيل من سوء ، وأنه جعل جهنم للكافرين حصيرا ، عاد فأجمل كل ذلك على شكل قاعدة كلية ، فبين : أن سنة الله هي أن يبشر عباده المؤمنين الذين يقفون المواقف الصالحة ،ويدافعون عن دينه –كهؤلاء العباد الذين أرسلهم على بني إسرائيل – بأن لهم أجراً عظيماً . وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويفسدون في الأرض ، ويعلون ، علواً كبيراً ، كما هو حال بني إسرائيل قد أعْتدَ لهم عذاباً أليما ، فقال :

(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات : أن لهم أجراً عظيما . وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليما ) .

ثم دخل في موضوع آخر .

ويرى العلامة المحقق البحاثة السيد الطباطبائي ( رحمة الله ) : أنه لا دليل في الكلام – أي في قوله تعالى : (بعثنا عليكم عباداً لنا ) يدل على كون المبعوثين (مؤمنين) ؛ إذ لا ضير في عدّ مجيئهم إلى بني إسرائيل ، مع ما كان فيه من القتل الذريع ، والأسر ، والسبي ، والنهب ، والتخريب ، بعثاً إلهياً ؛ لأنه كان على سبيل المجازاة على إفسادهم في الأرض ، وعلوّهم ، وبغيهم بغير الحق ؛ فما ظلمهم الله ببعث أعدائهم ، وتأييدهم عليهم ، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم (65).

ونقول :

إننا لا نستطيع – بدورنا – أن نقبل : أن الله تعالى يؤيد الظالمين والمجرمين بأي وجه . نعم ، هو يخلي بينهم وبينهم ، ويوقف تأييداته لهم ، وهذا غير تأييده لأولئك ، وبعثهم على هؤلاء .

إلا أن يُدّعى أن المراد هو التسليط عليهم . وذلك بالتخلية فيما بينهم ، ووقف التأييدات للفئة المؤمنة بسبب ما فعلته .

لكن يرد عليه : أن نسبة البعث – والحالة هذه إلى الله سبحانه – تصبح غير ظاهرة ، ولا مقبولة .

كما إننا قد أشرنا فيما سبق إلى وجود بعض القرائن المشيرة إلى إيمان المبعوثين . فالأظهر هنا : هو أن أولئك العباد سوف يدفعهم أمر الله تعالى والتكليف الشرعي إلى القيام بذلك العمل ؛ فيصبح أن يقال : إن الله هو المحرك والباعث لهم .

هذا ما يستفاد من الآيات بشكل عام .

بقي الكلام في تطبيقها الخارجي ؛ فهل حصل وتحقق مفادها كله في السابق ؟ أو أنه لسوف يحصل ذلك كله في الآتي ! . أو أن بعض ذلك قد حصل ؟ . والبعض الآخر متوقع الحصول ؟!.

أقوال الرواة والمفسرين :

لقد راجعنا عدداً من كتب الحديث والتفسير ، فوجدنا الروايات والأنظار مختلفة ومتباينة في ذلك ..

ونحن نذكر موجزاً عن تلك الروايات ، والآراء بتلخيص منّا ، وذلك على النحو التالي:

عن ابن مسعود : إن الفساد الأول هو قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، ثم عادوا هم فغزوا النبط ، فأصابوا منهم .

عن عطية العوفي : بعث الله عليهم أولا جالوت ، ثم قتله طالوت على يد داود ، ثم قتلوا يحيى ؛ فبعث عليهم بخت نصر . وكذا عن ابن عباس .

عن علي : الفساد الأول قتل زكريا ، والثاني قتل يحيى ، مع عدم بيان من بعث عليهم في المرتين .

عن حذيفة : المرة الأولى بخت نصر ، ثم ردّهم كورش ، ثم عادوا في المعاصي ، فسلط عليهم ابطنا نحوس ، ثم عادوا في المعاصي ، فسلط عليهم ثالثاً اسبيانوس .

عن ابن زيد : الأولى قتل زكريا ويحيى ، فسلط عليهم سابور ذا الأكتاف ، الفارسي ، من قبل زكريا ، وبخت نصر من قبل يحيى .

عن مجاهد : إن ملك فارس بعث جنداً إليهم ليتجسسوا أخبارهم ويسمعوا حديثهم . ثم رجعت فارس ، ولم يكثر قتال ، ونصرت عليهم بنو إسرائيل ، ثم بعث عليهم ملك فارس ببابل جيشاً ، أمر عليه بخت نصر ؛ فدمروهم .(66)

رأي العلامة الطباطبائي :

قال العلامة البحاثة المحقق الطباطبائي أيده الله تعالى : ( … والذي يظهر من تاريخ اليهود : أن المبعوث أولا لتخريب بيت المقدس هو بخت نصر ، وبقي خراباً سبعين سنة . والمبعوث ثانياً هو قيصر الروم اسبيانوس ، سيّر إليهم وزيره طوطوز ، فخرب البيت ، وأذل القوم قبل الميلاد بقرن تقريباً .

وليس من البعيد : أن يكون الحادثتان هما المرادتان في الآيات ؛ فان الحوادث الأخرى لم تفن جمعهم ، ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرة ، لكن نازلة بخت نصر ذهبت بجمعهم ، وسؤددهم إلى زمن كورش ، ثم اجتمع شملهم بعد برهة ، ثم غلب عليهم الروم ، وأذهبت بقوتهم ، وشوكتهم ، فلم يزالوا على ذلك إلى زمن ظهور الإسلام ) .

قال هذا سلمه الله بعد أن ذكر : أنه كالمسلّم : أن إحدى هاتين النكايتين كانت على يد بخت نصر (67).

ولكنه عاد فأورد على نفسه بأن في الآيات إشعاراً بأن المبعوث إلى بني إسرائيل هم قوم بأعيانهم في كلا المرتين .

وأجاب عن ذلك بأنه مجرد إشعار ؛ من دون تصريح .

ونقول : إن الضمائر حسبما تقدم ليس لها مرجع في الكلام سوى قوله : ( عباداً لنا) . وهذا يدل دلالة واضحة على وحدة القوم المرسلين على بني إسرائيل وليس مجرد إشعار.

ومرادنا بالوحدة هو أن يكون لهم رابطة تجمعهم ككونهم فُرساً ، أو مسلمين مثلاً . ويرد على كلامه سلمه الله ، وعلى جميع الروايات المتقدمة ، عن الدر المنثور وغيره ما يلي:

إننا لم نجد لبني إسرائيل كرة على بخت نصر ، ولا على سابور ولا غيرهما . بل إن كورش قد أرجعهم إلى بلادهم بعد حوالي مئة سنة من اسر بخت نصر لهم . مع أن الآية تكاد تكون صريحة بأن لبني إسرائيل كرّة على أولئك العباد المبعوثين .

إن النبط لم يدخلوا المسجد مرتين وكذلك بخت نصر ، وقيصر ، وغيرهم ممن ذكر جميعاً . وقد أشارت الآية إلي أن المبعوثين سوف يدخلون المسجد مرتين.

إن جميع أولئك ما كانوا من المؤمنين ، بل كانوا من الطغاة والمتجبرين .

إن بخت نصّر كان قبل الميلاد بست مئة سنة تقريباً (68)وكان يحيى معاصراً للمسيح (عليه السلام) (70)فكيف ينتقم له بخت نصّر ؟ كما أن سابور متأخر عن بخت نصر ، لا مقدم عليه كما في الرواية .

هذا كله عدا عن الإشكال في أسانيد تلكم الروايات (69).

إن إفسادهم في المنطقة محدودة ، لا يعني كون ذلك هو المقصود من الاية التي تتحدث عن إفساد كبير ، وعلوّ لهم في الأرض .ولا شك أنهم كانوا على مدى التاريخ أضعف من أن يكون لهم علو في الأرض كلها ، بل وحتى على سابور ، أو بخت نصّر أو غيرهما .

رأي آخر الآيات :

ويحتمل البعض : أن الفساد الأول كان في منطقة الحجاز ، فبعث الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) عليهم ، وضربهم الضربة القاصمة ، وكان دخول عمر إلى المسجد الأقصى ، الذي يمثل دخول المسلمين ، هو المعني في الآيات . وتبقى المرة الثانية ستأتي . كما ويحتمل أن تكون هي ضربة بخت نصر لهم هي الأولى ، والثانية هي ضربة عمر لهم .

ولكن ذلك لا يمكن قبوله ؛ لأن عمر حينما دخل المسجد الأقصى لم يكن في بيت المقدس أحد من اليهود ، وإنما كان تحت سيطرة النصارى ، الذين استولوا عليه قبل ذلك بعقود من الزمن . وكانوا يجعلون الأقذار والأوساخ على (الصخرة) ، التي هي قبلة اليهود ، بل كانت المرأة ترسل بخرقة حيضها من بلاد الروم إلى بيت المقدس لتلقى على الصخرة ، مبالغة في امتهانها ، وإذلالا لليهود واحتقاراً لهم (70).

رأي آخر :

وثمة رأي آخر يقول : إن الفساد الأول هو إنكارهم نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، مع أنهم يعرفون أبناءهم ، واتفقوا مع المشركين ضده .

وإرسال عباد الله على هؤلاء المفسدين هو ما جرى في صدر الإسلام . فأرسل الله النبي (صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين عليهم ؛ فضربوهم في خيبر وقريظة ؛ وقينقاع ، وغير ذلك المسلمون المسجد الأقصى في زمن عمر .

والفساد الثاني هو ما جرى ويجري منهم في فلسطين ولبنان ، والمنطقة بشكل عام ، في هذا القرن الرابع عشر ، ولسوف يأتي المهدي (عجل الله فرجه ) لينتقم منه . ويدخل المسلمون المسجد ، كما دخلوه أول مرة في عهد عمر .

وقد قرّر بعض الأعلام هذا ، وطبق الآيات عليه ، على النحو التالي :

إنه ليس في الآيات ما يدل على أن الغلبة على اليهود ، وغلبة اليهود على أولئك العباد تكون في مكان واحد محدد . وقوله تعالى : (كما دخلوه أول مرة ) يشعر ، بل يدل على أن قوله : (جاسوا خلال الديار ) ، هو غير دخولهم المسجد ، أي انهما أمران متغايران ، كما يدل على أن الجوس خلال الديار متقدم على دخولهم المسجد ، وذلك لمكان اللام في قوله : (ليدخلوا) التي هي لام العاقبة وقد تحقق ذلك في زمن عمر . كما أن عدم ذكر دخول العباد بيت المقدس حينما بعثهم أولاً يدل على أن دخول المسجد لمّا يتحقق لهم عند ذلك .

وتدل الآية على أن دخول المسجد في الثانية يكون أشد على اليهود لقوله وليتبروا ما علوا تتبيراً ، ففسادهم الثاني يكون في غلبتهم على البلاد المقدسة ، وقتلهم المسلمين ، وهذا ما يحصل في هذا العصر . وجزاؤهم سيكون عاجلاً على يد أهل قم إن شاء الله تعالى ، أو المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه ، أو بإمارته مع كون الجيش من أهل قم ، والله العالم .

ونقول :

هذا رأي لا يمكن المساعدة عليه ، لأن ما ذكر في تطبيق الآيات عليه مخالف لظاهرها.

فأولاً : إن الظاهر : هو أن دخول المسجد سيكون عنوة وقهراً ورغماً عن بني إسرائيل . وحينما دخل المسلمون المسجد في عهد عمر لم يكن في بيت المقدس أحد من اليهود ، وإنما كان النصارى هم المسيطرون .

فلم يحارب المسلمون اليهود ليدخلوا المسجد بالرغم عنهم ، من جهة ، ومن جهة أخرى فان عمر قد دخل بيت المقدس صلحاً وليس عنوة ، وظاهر الآية : هو أن الدخول سيكون عنوة ، معه سوء الوجوه ، وفيه القهر والغلبة على اليهود أنفسهم ، (ليسوؤا وجوهكم ، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ، وليتبروا ما علوا تتبيرا ) .

وثانياً : ما ذكر من أن اللام في (ليدخلوا) تدل على أن الدخول سيتأخر عن الجوس خلال الديار ، وأن التفريق بين الجوس خلال الديار ، ودخول المسجد ، يدل على ذلك أيضاً . وكذا عدم ذكر الدخول للمسجد في المرة الأولى .

إن هذا الذي ذكر ، لا يدل على ذلك ؛ لأن ظاهر الآيات : أنه قد اكتفي في المرة الأولى عن ذكر دخول المسجد ، بذكر الجوس خلال الديار ، لأنه مستبطن له ويكون في ضمنه ، ثم أوضحه بقوله : كما دخلوه أول مرة وقوله : ليدخلوا معطوف على ليسوؤا بالواو ، التي لا تدل على الترتيب الزماني .

بل لعل ذكر دخول المسجد بين التتبير لما علوا ، وبين سوء الوجوه للإشارة إلى أن دخول المسجد سيكون في وسط المعركة ، في المرة الثانية ، وكذلك سيكون في المرة الأولى لقوله تعالى ؛ (كما دخلوه أول مرة ) .

وإلا ، فلو صح ما ذكره صاحب هذا الرأي ، لوجب أن يكون الدخول الثاني للمسجد صلحاً ، لا عنوة ، كما كان دخول عمر بن الخطاب في السابق . وحينئذٍ فلا يبقى معنى لذكر دخول المسجد فيما بين قوله : (ليسوؤا وجوهكم ) ، وبين قوله : (ليتبروا علوا تتبيراً ) .

وثالثاً : إنه لم يكن لليهود في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) فساد في الأرض ، وعلو كبير فيها ، وإنما كانوا في محيط ضيق جداً محصورين في نواحي المدينة ، وكانوا مقهورين من قبل الأوس والخزرج ، ويمالئون مشركي مكة ، وسائر القبائل في المنطقة ، فلا يصح أن يقال : إن لهم (علواً كبيراً ) . فضلاً عن إضافة قوله : (في الأرض ) سواء قلنا : إن المراد : الأرض المقدسة ، يعني فلسطين ، أو قلنا : بأن المراد الأرض مطلقاً أي معظمها ن أو السيطرة على مراكز القوة والنفوذ فيها .

وثمة رأي آخر أيضاً :

وهو أن الحروب التي جرت بين العرب وإسرائيل تمثل المراحل الثلاث الأولى ، وبقيت المرحلة الأخيرة ، التي أشارت إليها الآية بالقول : (فإذا جاء وعد الآخرة ، ليسوؤا وجوهكم إلخ .. )وهي سوف تأتي إن شاء الله تعالى (71).

وهذا أيضاً رأي لا يمكن المساعدة عليه ؛ لأن العرب الذين حاربوا إسرائيل لم يجوسوا خلال ديار بني إسرائيل في حروبهم تلك ، ولا دخلوا المسجد عنوة ، بل إنهم ليسوا من عباد الله المؤمنين ؛ لأنهم قد تخلوا عن دينهم ، وجروا خلف شهواتهم ، واستبدت بهم انحرافاتهم بشكل واضح لكل أحد .

والروايات ماذا تقول :

لقد وردت بعض الروايات – التي ليس لها أسانيد – معتبرة – تفيد : أن الفساد الأول هو قتل علي ، وطعن الحسن (عليه السلام) ، والعلو الكبير هو قتل الحسين ، ووعد أولاهما نصر دم الحسين ، والمبعوثون أولاً هم قوم قبل خروج القائم ، وكان وعداً مفعولاً : خروج القائم . وثم رددنا لكم الكرة عليهم : خروج الحسين في سبعين من أصحابه(72) .

وفي تفسير القمي : الفساد الأولى : فلان وفلان ، ونقضهم العهد ، والعلو الكبير : ما ادّعوه من الخلاف . ووعد أولاهما : الجمل . وجاسوا خلال الديار : طلبوكم وقتلوكم ، ورددنا لكم الكرة : بنو أمية . ووعد الآخرة : القائم (عليه السلام) ، وكما دخلوه أول مرة : رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) .

الرأي الأمثل :

وإذ قد عرفنا معنى الآيات إجمالاً ، وعرفنا : أن مفادها لم يحصل ولم يقع لبني إسرائيل بعد ، لا في تاريخهم القديم ، ولا الحديث ، فإننا نعلم : أن مفادها سيقع في المستقبل ، ومفادها هو :

أن يفسد بنو إسرائيل في الأرض (ولتلاحظ كلمة في الأرض ) ، فانه لا يصدق ذلك على بلد أو قرية صغيرة في نواحي الحجاز مثلاً ، بل لا بد أن يكون فسادهم وعلوهم في الأرض المقدسة ، أو في الأرض بصورة عامة . أو على الأقل في مراكز هامة ، بحيث يرون أنفسهم لا غالب لهم ، ولا شيء يقف في وجههم . ثم يعلون علوا كبيراً (ولتلاحظ هذه الجملة بدقة أيضا ) .

أن يبعث الله عليهم عباداً له أتقياء مؤمنين ، فيجوسون خلال ديارهم ، ويدخلون المسجد . (والتعبير بالجوس لربما يشير إلى عدم المكث طويلاً فيها ) ؛ لأن الجوس هو الوطء الخفيف ، وهو وطأ خلال الديار أو فيما بينها من دون ثبات وتحكم فيها نفسها أو لعله إشارة إلى الدخول السري للمجاهدين .

ثم يمد الله بني إسرائيل بأموال وبنين ، ويصير جيشهم أعظم ، ويردّ لهم الكرة على السابقين .

ثم يعود أولئك المؤمنين لاحتلال بلاد الإسرائيليين ، ويدخلون المسجد من جديد ، ويسوؤون وجوههم إلخ .

كل ذلك سوف يحصل في المستقبل ، حسبما تفيده الآيات الكريمة ، مع العلم بأنه لم يحصل من ذلك شيء في الماضي .

ويبقى أن نشير إلى المؤيدات التالية :

القميّون يقاتلون الإسرائيليين :

ويؤيد ما تقدم : ما رواه المجلسي عن كتاب تاريخ قم ، تأليف : الحسن بن محمد بن الحسن القمي :

( روى بعض أصحابنا قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالساً ؛ إذ قرأ هذه الآية : حتى (73)إذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا ، أولى بأس شديد ؛ فجاسوا خلال الديار ، وكان وعداً مفعولاً .

فقلنا : جعلنا فداك ، من هؤلاء ؟

فقال – ثلاث مرات- هم والله أهل قم) .(74)

ولقد قال هذا (عليه السلام) قبل أن تخلق إسرائيل بأكثر من اثني عشر قرناً ، وفي حين لم يكن لليهود أية قوة في منطقة بيت المقدس .

وقوله (عليه السلام) هذا يعني : أن أهل قم باعتبارهم مسلمين ، أو قادة للمسلمين هم الذين سوف يقودون الحرب ضد إسرائيل في المرة الأولى . وهم المعنيون بقوله : (عباداً لنا) وباقي الحديث يفهم من الآيات الكريمة ؛ حيث تعود لإسرائيل الكرة عليهم بجيش أعظم ثم يعود المسلمون بقيادة أهل قم أو بقيادة غيرهم (المهدي مثلاً) ليسوؤا وجوه الإسرائيليين وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة .

الغرب وإسرائيل :

وثمة رواية ضعيفة أيضاً تقول : (وتشب نار بالحطب الجزل من غبي الأرض ، رافعة ذيلها ، تدعو يا ويلها لرحلة ومثلها ؛ فإذا استدار الفلك ، قلتم مات أو هلك بأي واد سلك ، فيومئذٍ تأويل هذه الآية : (ثم رددنا لكم الكرة عليهم ، وأمددناكم بأموال وبيني ، وجعلناكم اكثر نفيرا ) .(75)

فهذهِ الرواية تشير إلى أن المرة الثالثة وهي علّو الإسرائيليين وكرتهم على (عباد الله) لسوف تكون بمعونة غربية ، تمدهم بالمال والجيوش حتى يصبحوا اكثر نفيراً وجندا . ولسوف تكون حرباً ضروساً وقاسية ، كما يفهم من لحن الرواية المشار إليها ، لو صحت .

الحروب الطويلة والصعبة :

وهذه دولة الإسلام قد ظهرت ، وهي بقيادة أهل قم ، ولكنها تواجه الحروب المدمرة ، والمؤامرات الصعبة من قبل قوى الاستكبار العالمي .

وقد جاء في الرواية المروية عن : علي بن عيسى ، عن أيوب بن يحي الجندل ، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) ، أنه قال :

(رجل من أهل قم ، يدعو الناس إلى الحق ، يجتمع معه قوم كزبر الحديد ، لا تزلهم الرياح العواصف ، ولا يملون من الحرب ، ولا يجبنون ، وعلى الله يتوكلون ، والعاقبة للمتقين ) (76) .

ولربما يمكن أن نستفيد من قوله : (لا تزلّهم الرياح العواصف) : أن دولة الإسلام هذهِ سوف تواجه مشكلات صعبة ، لا يثبت أمامها الرجال العاديون .

ومن قوله : (لا يملون من الحرب) أنهم سوف يواجهون حروباً طويلة ، يمل الإنسان العادي . ولكنهم سوف يصمدون ، وفي النهاية سوف ينتصرون إن شاء الله ، وذلك لقوله : (والعاقبة للمتقين ) .

الفلسطينيون والأرض :

وبعد كل ما تقدم ، فإننا لا بد أن نشير هنا إلى أن الفلسطينيين قد هبوا للدفاع عن شرفهم وكرامتهم ، وتحرير أرضهم ، والدفاع عن دينهم وإسلامهم .

وإننا في نفس الوقت الذي نحيي فيه الشعب الفلسطيني المسلم ، ونحيي المقاتلين الشرفاء والغيارى من هذا الشعب الأبي .

فإننا نجد بعض المنظمات ، التي لا تمثل الشعب الفلسطيني ، ولا أكثرية المناضلين من أجل حقهم ووطنهم ، قد أعرضت عن هذا الإسلام العظيم ، ولم تتخذه عقيدة ومنطلقاً لها ، بل هي لا تعرف منه إلا اسمه ، بل هي تحاول الابتعاد عنه ، والتبري منه ، وتعتبره رجعياً ومتأخراً . وذلك لأنها تسعى وراء الحصول على مكاسب دنيوية ، مادية . بل لقد اتخذت الماركسية وغيرها مذهباً وعقيدة لها ؛ فبئس للظالمين بدلاً .

والأنكى من ذلك والأشد مرارةً : أننا نشهد من هذهِ المنظمات محاولات جادة لإجهاض الثورة الإسلامية الفلسطينية ، وتضييع ثمرة جهودها وجهادها . فقاتل الله الخونة الأفاكين أنى يؤفكون .

ولكن شذوذ هؤلاء وانحرافهم لا يعنى أنه يجب تشويه سورة الفلسطينيين جميعاً في أذهان الشعوب المسلمة المؤمنة ؛ فان ذلك سوف يكون ظلماً آخر لهذا الشعب ، كما أنه سوف يحرم القضية من قوة دافعة لها أهميتها . وذلك لأن أية قضية إذا أفرغت من محتواها الإنساني ؛ فإنها تفقد زخمها وقوتها ، ودافعها العاطفي وذلك لأن هذا الإنسان العادي ربما يخطر له : انه لماذا يقاتل ويضحي ، ما دام أن الأرض يمكن أن تباع وتشترى ، ويقايض عليها ، والإنسان وحده هو الأعلى والأغلى ؛ فلماذا إذن تزهق النفوس والأرواح في سبيل قطعة من الأرض ، ما دام يمكن الاستعاضة عنها بثمنها ، ثم الاحتفاظ بهذا الإنسان ومواهبه وطاقاته لما هو أهم ، ونفعه أعم .

وحتى المسجد أيضاً ، فليكن لأنصاف الحلول فيه مجال ، ولن بمانع الإسرائيليون في وصول المسلمين إلى مسجدهم في كل حين ، وممارسة عباداتهم فيه بحرية ، إذا كانوا هم الحكام ، أو كان تحت مظلة الأمم المتحدة .

نعم ، يمكن أن يخطر كل هذا في ذهن الإنسان العادي . ولربما يؤثر هذا الخاطر على تعامله مع أقدس قضية ، فيما إذا فصل الجانب الإنساني والعاطفي والإسلامي عن الأرض ، فيضعف الدافع لتحريرها . وهناك الكارثة الحقيقية والخيانة والجريمة الكبرى .

إذن ، فلا بد وأن تبقى المآسي والمظالم التي تعرّض ويتعرض لها الشعب الفلسطيني مائلة للعيان أمام المقاتل المسلم والمؤمن بعدالة قضيته ، ليندفع إلى التضحية والفداء في سبيل قضيته المقدسة ، بروح رضية ، ونفس أبية ، وليمتزج من ثم . الوعي بالعاطفة ، وكلاهما بالإيمان .

مع التأكيد على أنه ليس للمؤولين والسياسيين أن يربطوا مصيرهم ومصير أمتهم بأولئك المنحرفين ، ولا أن يثقوا بهم ، لأن أولئك المنحرفين سوف يدفعونهم في النهاية ثمناً لمصالحهم ، ويساومون عليهم وبهم .

 

1 - راجع : البحار ج26 ص239 وعيون أخبار الرضا ج1 ص304 .

2 - راجع : السيرة الحلبية ، وتاريخ الخميس ، وغير ذلك .

3 - البحار ج18 ص319 عن العدد ، ونقل ذلك عن الزهري في عدة مصادر .

4 - البداية والنهاية ج3 ص108 .

5 - سيرة مغلطاي ص27 .

6 - شرح الشفاء للقاري ج1 ص222.

7 - المناقب لابن شهر اشوب ج1 ص43 .

8 - تاريخ الخميس ج1 ص107 .

9 - البحار ج18 ص319 و381 عن المناقب لابن شهر آشوب ج1 ص177 ، وتاريخ اليعقوبي ج2 ص26 . حيث ذكر ذلك بعد المبعث ، وقبل الانذار .

10 - البحار ج18 ص379 عن الخرائج والجرايح .

11 - تاريخ بغداد ج5 ص78 ، والمواهب اللدنية ج2 ص29 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ص63/64 وذخائر العقبى ص36 ، وميزان الاعتدال ج2 ص297 و160 ، ومستدرك الحاكم ج3 ص165 ، وتلخيصه للذهبي ، ومجمع الزوائد ج9 ص 202 ، وينابيع المودة ص97 ، ونزهة المجالس ج2 ص179 ، ومناقب المغازلي ص358 والبحار ج18 ص315 و350 ، 364 ، ونرو الأبصار ص44 و45 وعلل الشرائع ص72 ، وتفسير القمي ونظم درر السمطين ص176 ومحاضرة الأوائل ص88 وملحقات إحقاق الحق للمرعشي ج10 ص1-11 عن بعض من تقدم ، وعن : أرجح المطالب ص239 ، ووسيلة المآل ص78:79 ، وإعراب ثلاثين سورة ص 120 ، وكنز العمال ج14 ص97 وج3 ص94 ، ومفتاح النجا ص 98 مخطوط وأخبار الدول ص87 – وعن ميزان الاعتدال ج1 ص 38 و253 وج2 ص26 و84 . والدر المنثور ج4 ص153 عن الطبراني والحاكم .

12 - صحيح البخاري طبع سنة 1309 ج3 ص99 ، والدر المنثور ج4 ص206 عنه وعن : مسلم وأحمد والترمذي ، والنسائي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والطبراني والبيهقي .

13 - راجع : مجلة الوعي الإسلامي المغربية عدد 163 ص56 .

14 - راجع : الاتقاء ج1 ص11 ، وتاريخ القرآن للزنجاني ص37 .

15 - صحيح البخاري ج3 ط سنة 1309 ص96 والدر المنثور ج4 ص136 عنه وعن ابن الضريس وابن مردويه .

16 - فتح الباري ج7 ص145 .

17 - راجع الاتقان ج1 ص10 –11 و25 .

18 - تفسير الميزان مجلد 19 ص26 .

19 - مجمع الزوائد ج1 ص69/70 عن البزار والمواهب اللدنية ج2 ص6 ، وتاريخ الخميس ج1 ص310 .

20 - مناقب ابن شهر آشوب ج1 ص180 ، والبحار ج18 ص384 .

21 - البحار ج18 ص385 عن العياشي ، عن زرارة ، وحمران بن أعين ، ومحمد بن مسلم ، عن الباقر (ع) .

22 - تاريخ الخميس ج1 ص315 ، والمواهب اللدنية ج2 ص40 مستدرك الحاكم ، وابن إسحاق .

23 - المواهب اللدنية ج2 ص29/30 . وراجع الدر المنثور ج4 ص155 وراجع ص 154 .

24 - راجع : الغدير ج5 ص203 و324 و325 فإنه قد نقل هذه الروايات وتكذيبها عن : ميزان الاعتدال ج1 ص370 ، ولسان الميزان ج5 ص235 ، وتهذيب التهذيب ج5 ص138 ، والسيوطي في الموضوعات ، وابن حبان ، وابن عدي .

25 - المناقب للخوارزمي ص 37 وينابيع المودة ص83 .

26 - تاريخ الخميس ج1 ص313 .

27 - تاريخ الخميس ج1 ص308 ، والمواهب اللدنية ج2 ص2 ، والبحار ج18 ص291 وفي المناقب شهر آشوب ج 1ص177 : أن الجهمية قالت بهذا .

28 - البحار ج18 ص291 عن : المقاصد وشرحه ، وراجع تاريخ الخميس ج1 ص308 .

29 - المواهب اللدنية ج2 ص2 .

30 - الإسراء : 1 .

31 - النجم 9 –10 .

32 - راجع هذا الاستدلال في : البحار ج18 ص286 عن الرازي ، والمواهب اللدنية ج2 ص4 ، وتاريخ الخميس ج1 ص308 .

33 - راجع : تفسير الميزان ج13 ص24 .

34 - الإسراء :1 .

35 - النجم : 6-12 .

36 - راجع البرهان للبحراني ج4 ص248 وستأتي الرواية تحت عنوان : لا تدركه الأبصار .

37 -التكوير : 23 .

38 - المصنف لعبد الرزاق ج5 ص328 ، وتفسير ابن كثير ج3 ص21 ، وأخرجه أبو نعيم ، ومنتخب كنز العمال هامش مسند أحمد ج4 ص353 حياة الصحابة ج3 ص73 عن بعض من تقدم . وتاريخ الخميس ج1 ص308 و315 ، والمواهب اللدنية ج2 ص40 .

39 - النجم :12 –14 .

40 - تاريخ الخميس ج1 ص314 .

41 - مثل : دلائل الصدق ، وغيره من الكتب الباحثة في الشأن العقائدي .

42 - راجع في الروايات الكثيرة عنه : الدر المنثور ج6 ص122-126 .

43 - المواهب اللدنية ج2 ص34 عن البخاري ومسلم ، وتاريخ الخميس ج1 ص313 ، والدر المنثور ج6 ص124 عن عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وابن مردويه .

44 - المواهب اللدنية ج2 ص35 عن مسلم .

45 - يكفي أن يرجع الطالب إلى الدر المنثور ج6 ص122 –126 وتاريخ الخميس ج1 ص313/314 والمواهب اللدنية ج 2 ص36 / 37 وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً .

46 - التكوير : 20 .

47 - احتمل بعض المحققين : أن يكون وصف الله تعالى الجبرئيل بالشدة في مقابل التابع من الجن الذي كان ضعيفاً بحيث يستطيع الإنسان أن يتسلط عليه .

48 - أصول الكافي ط سنة 1388 في إيران ج1 ص74/75 . والبرهان للبحراني ج4 ص248 .

49 - السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص43 .

50 - الميزان ج13 ص31 .

51 - لقد وردت هذه الرواية في مختلف كتب الحديث ، والتاريخ عند غير الشيعة ، ولذا فلا نرى حاجة لذكر مصادرها . فراجع على سبيل المثال : كشف الأستار عن مسند البزار ج1 ص 45 ، ووردت أيضاً في كتب الإمامة رحمهم الله تعالى ، وأعلى درجاتهم ، فراجع : البحار ج18 ص330 و335و348 و349 و350 و408 عن أمالي الصدوق ص 270/271 و274 ،275 ، وتوحيد الصدوق ص 167/168 ، وعلل الشرائع ص 55/56 ، والخصال ج1 ص129 .

52 - تنزيه الأنبياء ص121 .

53 - البقرة : 187 .

54 - تنزيه الأنبياء ص121 .

55 - معالم الدين ص208 مبحث السنخ .

56 - البقرة : 185 .

57 - الحج : 78 .

58 - البقرة : 286 .

59 - لأن ابراهيم حسب نص الرواية كان في السماء السابعة ، وموسى كان في السادسة وكان موسى يُرجع النبي إلى ربه ، كي يسأله التخفيف ، فيرجع ثم يعود إليه فيرجعه من جديد .

60 - راجع حول سرعة النور : موسوعة المعارف والعلوم ص 10 .

61 - راجع : الجامع الصغير ج 2 ص144 وكنوز الحقائق ، هامش الجامع الصغير ج2 ص83 .

62 -فاطر /8 .

63 - سورة الإسراء : 4-10 .

64 - الميزان للعلامة الطباطبائي ج13 ص39 .

65 - تفسير الميزان ج13 ص39 .

66 - راجع هذه الروايات في الدر المنثور للسيوطي ج4 ص163-165 عن ابن جرير ، وابن عساكر ، وابن أبي حاتم ، متفرقاً . وراجع : تفسير الطبري ، وتفسير ابن كثير ، وفتح القدير ، وغير ذلك من التفاسير ، في تفسير الآيات في سورة الإسراء .

67 - تفسير الميزان ج13 ص44/45 .

68 - تفسير الميزان ج13 ص44 وفي تاريخ الخميس ج1 ص173 : من وقت تخريب بخت نصر بيت المقدس إلى مولد يحيى أربع مئة وإحدى وستون سنة .

69 - راجع : قصص الأنبياء للنجّار ص369 .

70 - تقدم ذلك في تميهد الكتاب .

71 - هذا رأي الشيخ إبراهيم الأنصاري في مجلة الهادي .

72 - راجع : البحار ج51 ص56 وتفسير البرهان ، وتفسير نور الثقلين .

73 - الموجود في القرآن (فإذا) فلعل كلمة (حتى) من كلام الراوي .

74 - البحار ج60 ص216 .

75 - البحار ج52 ص272/273 . وراجع ج51 ص57 .

76 - البحار ج60 ص216 . ويلاحظ وجود بعض الاختلاف بين هذا النص وبين ما في الترجمة الفارسية لكتاب تاريخ قم . فلعل المترجم قد تصرف في العبارة . ولعل نسخة المجلسي تختلف عن النسخة المتدوالة لكتاب تاريخ قم ، فليلاحظ ذلك .