مكتبة الإمام الرضا

فهرس الكتاب

 

أهداف المأمون من البيعة

بعدما ذكرنا وضع المأمون السياسي المتدهور في كل الأطراف الإسلامية وأنّه أكره الإمام وألجأه للمجيء إليه كان لا بدّ لنا أن نعرف بالحدس أو التنقيب ما هي الأهداف التي توخّاها المأمون من جعل الإمام خليفة أو وليّاً للعهد.

الهدف الأول: أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من جانب هذه الشخصية العظيمة التي أجمع العدو والصديق على احترامها لأنّها كانت رمزاً للعلويين الذين يقومون بإشعال الثورة في كل بلد ولم يكن أحد يستغني عن علوم الإمام فيما لو أصبح أميراً إذاً سيكون للإمام اليد الطولى في تسيير دفة الحكم ولو لم يكن ثائراً، ولربما دعا الإمام الناس بعد هذا إلى نفسه وهو أحقّ الناس بهذا الأمر وهذا الذي كان يقض مضجع المأمون فجاء به ليجعله وليّ عهده فأي عمل يقوم به بعد ذلك يعتبره الناس أنّه نكران للجميل، ويستطيع المأمون حينئذٍ بأساليبه ودعاياته المضللة أن يشوّه أي حركة يقوم بها الإمام وبالأخص حينما يكون قريباً منه. وقد أشار المأمون إلى ذلك بأنّه: خشي إن ترك الإمام أن يتفتق عليه ما لا يسدّه، ويأتي عليه منه ما لا يطيقه.

الهدف الثاني: أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة من الداخل والخارج ولا يستبعد أنّ زواج بنت المأمون من الرضا التي يكبرها بأربعين سنة ما هو إلاّ محاولة جادّة لإحصاء تحرّكات الإمام من حيث لا يشعر.

ولقد كان المأمون يبعث للإمام بالوصائف مع أنّه زوج ابنته وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ أنّ المأمون خاف من أن يكون الرضا قد ملك قلب ابنته فلم تعد تنقل أخباره خوفاً من الله فكان يتفق مع الجارية المعلمة الجميلة لتنقل إليه خبر الإمام حرفياً.

ولم يكتف بكل ذلك فإنّه وضع على الإمام عيوناً آخرين يضبطون عليه كل كلمة وكل تصرّف وتحرّك.

فقد كان هشام بن إبراهيم الراشدي من أخصّ الناس عند الرضا (عليه السلام) وكانت أمور الرضا تجري من عنده وعلى يده ولكنه لما حمل إلى (مرو) اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين والمأمون فحظي بذلك عندهما وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره فولاّه المأمون حجابة الرضا وكان لا يصل إلى الرضا إلاّ من أحب. وضيق على الرضا فكان من يقصده من مواليه لا يصل إليه وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلاّ أورده هشام على المأمون وذي الرئاستين.

وعن أبي الصلت أنّ الرضا كان يناظر العلماء فيغلبهم فكان الناس يقولون: والله إنّه أولى بالخلافة من المأمون فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه.

وكان جعفر بن محمد بن الأشعث يطلب من الإمام (عليه السلام) أن يحرق كتبه إذا قرأها مخافة أن تقع في يد غيره ويطمئنه الإمام بذلك فيهدأ.

الهدف الثالث: أن يجعل الإمام قريباً منه ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية ويبعد الناس عنه حتى لا تؤثّر فيهم شخصيته الكبيرة والأهم أنه يريد عزل الإمام عن شيعته ومواليه ويقطع صلاته بهم بحيث ينقطع هذا الحبل الطويل وبذلك يتقلص الظل العلوي حتى ينعدم نهائياً من قلوب المؤمنين.

وقد ذكرنا في الهدف الثاني أنّه كان هشام بن إبراهيم الراشدي لا يوصل إلى الإمام إلاّ من أحبّ.

والرضا (عليه السلام) ذكر هذا المعنى في رسالته إلى أحمد بن محمد البيزنطي يقول: وأمّا ما طلبت من الإذن عليّ فإن الدخول إليّ صعب وهؤلاء قد ضيّقوا عليّ في ذلك الآن فلست تقدر الآن وسيكون إن شاء الله.

كما أننا نرى أنّه عندما وصل إلى القادسية وهو في طريقه إلى مرو يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (اكر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج فإنّه أستر عليك). ولا يستبعد أن يكون عزل الإمام هو سبب إرجاعه مرتين عن صلاة العيد، وللسبب نفسه، أيضاً فرّق عنه تلامذته عندما أخبر أنّه يقوم بمهمة التدريس.

الهدف الرابع: إنّ المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجنّاً يتقي به سخط الناس على بني العباس ويحوط نفسه من نقمة الجمهور يريد أيضاً أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه، ويوظّف ذلك في صالحه إنّه يهدف من وراء اللعبة أن يجبر قاعدة الإمام الشعبية الهائلة لصالح دولته فيريد أن يجعله وليّاً للعهد ليقول لهؤلاء هذا إنسان عادل وطاهر ويحب أهل البيت (عليهم السلام) فيصبح له في قلوبهم عاطفة ومحبة وفي النهاية عندما تنمو هذه المحبة يستريح من الرضا بواسطة خفية ويحافظ على هذه المكتسبات.

يقول الدكتور الشيبي وهو يتحدث عن الرضا: أنّ المأمون جعله وليّ عهده لمحاولة تأليف قلوب الناس ضد قومه العباسيين الذين حاربوه ونصروا أخاه ويقول: قد كان للرضا من قوة الشخصية وسموّ المكانة أن التف حوله المرجئة وأهل الحديث والزيدية ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.

وكذلك يقول: إنّ الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم وإنّما مرّ بنا أنّ الناس حتى أهل السنّة والزيدية وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة قد اجتمعت على إمامته واتباعه والالتفاف حوله. وقد اعترف المأمون بأنّه الأرضى في الخاصة والعامة، وأنّ كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب حتى أنّ البيعة له بولاية العهد لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنّه كان من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول للمأمون في حقّه: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد من دون اللهّ).

وقد ذكر المأمون في رسالته للعباسيين (.. وإن تزعموا أنّي أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة – يعني العلويين – فإنّي في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم..).

الهدف الخامس: نستطيع أن نقول إنّه يريد أن يقوي دعائم حكمه حيث أصبح الحكم بعد ولاية العهد يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا.

ولقد كان الحكم بحاجة إلى شخصية من هذا القبيل بدل الشخصيات العلمية المهزوزة التي فشلت في المقارع الكلامية مع الآخرين من أهل المذاهب الأخرى. إنّ الحكم بحاجة إلى العلماء الأكفاء والأحرار في تقليدهم لا العلماء الجامدين والمهزوزين، ولذا رأينا الحكم يستبدل أهل الحديث بأهل الكلام فيقرب المعتزلة كبشر المريسي وأبي الهذيل العلاف وأحزابهما ولكن الشخصية العلمية التي لا يشك أحد في تفوقها هي شخصية الإمام الرضا باعتراف المأمون كما بيّنا ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من أي شخصية أخرى.

الهدف السادس: إنّه يريد أن يحمي الدولة من الانهيار بعد أن وصل إلى درجة من الانحلال والابتعاد عنه وكيف يثق الناس به وقد قتل أخاه من أجل الملك وقضى على كثير من القادة فرأى لكي يسترد الحكم عافيته ويعود له دوره أن يموّه على الأمة مرة من الزمن بإرجاع الحق إلى صاحبه ونشر لواء العدل من طريقه فيهدأ للأمة بال ويقرّ لها قرار وعندئذٍ سوف يعود إلى طبيعة عمله الظالم وسلوكه اللئيم الغاشم كأسلافه حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل.

وتأمل معي ما ورد من أنّ المأمون بعد ولاية العهد كتب إلى الجبّار بن سعد المساحقي عامله على المدينة أن أخطب الناس وأدعهم إلى بيعة الرضا فقام خطيباً فقال:

يا أيها الناس! هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ستة أباؤهم ما هم! هم أفضل من يشرب صوب الغمام...

وقد أكّد ذلك بحسن اختياره إذ اختار هذه الشخصية التي تمثّل أمل الأمّة ورجائها في حاضرها ومستقبلها. وتكون النتيجة أنّه قد حصل على حماية لكل تصرّف من تصرفاته مهما كان غريباً وبعيداً عن منطق العدل والدين.

الهدف السابع: لقد كان من نتائج اختياره الإمام والبيعة له لولاية العهد التي كان يتوقعها، أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأقطار، ولعلّه لم تقم أي ثورة علوية ضد المأمون بعد بيعة الرضا سوى ثورة عبد الرحمن بن أحمد في اليمن وكان سببها – باتفاق المؤرخين – هو ظلم الولاة وجورهم وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه ويمكن لنا أن نقول أيضاً فإنّه لم يخمد ثوراتهم فحسب بل حصل على ثقة كثير منهم ومن شايعهم ووالاهم ويقول المأمون في رسالته التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى:

(ما أظن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعدما عملته بالرضا). ولقد كان قسم كبير من الشيعة لم يبايعوه قد دانوا له بالطاعة بعدئذٍ.

الهدف الثامن: يريد بالبيعة الحصول على اعتراف العلويين بشرعية خلافته ليمكّن دعائمها علي أعلى مستوى من الاعتراف ولقد صرّح المأمون بذلك حيث قال: فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ليكون دعاؤه لنا وليعترف بالملك والخلافة لنا(1).

 

مبررات قبول الإمام لولاية العهد

ولقد قبل الإمام ولاية العهد ولكن بعد أن عرف أنّ ثمن رفضه لها لن يكون غير نفسه التي بين جنبيه هذا عدا عمّا سوف يتبع ذلك من تعرّض العلويين وكل من تشيّع لهم إلى أخطار هم في غنى عنها، ولو فرض أنّه كان له (عليه السلام) الحقّ في مثل هذه الظروف في أن يعرّض غيره من شيعته ومحبّيه والعلويين أجمع إلى الهلاك أيضاً.

هذا، عدا عن أنّه (عليه السلام) كان عليه أن يحتفظ بحياته وحياة شيعته ومحبّيه لأنّ الأمّة كانت بأمسّ الحاجة إلى وعيهم وإدراكهم ليكونوا لها قدوة ومناراً تهتدي وتقتدي به في حالكات المشاكل وظلم الشبهات.

نعم لقد كانت الأمّة بأمسّ الحاجة إلى الإمام (عليه السلام) وإلى من ربّاهم الإمام حيث كان قد غزاها في ذلك الوقت تيار فكري وثقافي غريب من الزندقة والإلحاد، وشاعت فيها الفلسفات والتشكيكات بالمبادئ الإلهية الحقّة، فكان على الإمام (عليه السلام) أن يقف ويقوم بواجبه وينقذ الأمّة، ولقد كان ذلك منه بالفعل، فلقد قام بواجبه وأدّى ما عليه على أكمل وجه رغم قصر المدّة التي عاشها بعد البيعة نسبياً ولهذا نقرأ في الزيارة الجوادية:

(السلام على من كسرت له وسادة والده أمير المؤمنين حتى خصم أهل الكتاب وثبت قواعد الدين). والمراد بذلك الإمام الرضا (عليه السلام).

ولو أنّه رفض ولاية العهد وعرض نفسه وشيعته ومحبّيه للهلاك فلسوف لا يكون لموته وموتهم أدني أثر في هذا السبيل بل كان الأثر عكسياً وخطيراً جداً. أضف إلى ذلك: أنّ قبول الإمام بولاية العهد معناه اعتراف من العباسيين عملاً مضافاً إلى القول بأنّ العلويين لهم حقّ في هذا الأمر بل إنّهم الأحقّ فيه وأن الناس قد ظلموهم حقّهم هذا وإن ظلم الناس لهم ليس معناه عدم ثبوت ذلك الحقّ لهم.

وقد رأينا ابن المعتز يهتم في الاستدلال على أن جعل المأمون الرضا وليّاً لعهده لا يعني أنّ الحقّ في الخلافة كان للرضا والعلويين دون المأمون والعباسيين، وأنّه إنّما أعطاهم عن طريق التقوى والورع وليثبت لهم أنّ الخلافة التي ثاروا من أجل الوصول إليها وقتلوا أنفسهم في سبيلها لا تساوي عنده جناح بعوضة فهو يقول:

وأعطاكـــم المــــــأمون حقّ خلافةٍ         لنا حقــــــها لكــــــنه جــــاد بالدنيا

ليعلمكم أن الــــذي قــــد حـــرصتم          كما ينبغي للصالــحين ذوي التقوى

فمات الرضا من بــــعد ما قد علمتم          ولاذت بنا من بعــــده مــرة أخرى

وأيضاً حتى لا يتناساهم الناس ويقطعوا آمالهم بهم وحتى لا يصدق الناس ما يشاع عنهم من أنّهم مجرّد علماء فقهاء لا يهمهم العمل لما فيه خير الأمّة. ولا يفكّرون في الخروج إلى المجتمع بصفتهم روّاد صلاح وإصلاح ولعلّ إلى ذلك يشير الإمام (عليه السلام) في قوله لمحمد بن عرفة عندما سأله عن قبوله بولاية العهد، فقال له: يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟ فأجابه الإمام (عليه السلام): (ما حمل جدّي على الدخول في الشورى)؟ هذا بالإضافة إلى أنّه يكون في فترة ولاية العهد قد أظهر المأمون على حقيقته أمام الملأ وعرّفهم بواقع وأهداف كل ما أقدم عليه وأزال كل شبهة وليس في ذلك كما قد حدث ذلك بالفعل.

سؤال وجواب:

هل يعقل أنّ رجلاً تعرض عليه الخلافة أو ولاية العهد بل ما هو أقل منها بمراتب ويعرف جدية العرض ثم يرفض ذلك رفضاً قاطعاً ثم يهدد فلا يقبل إلاّ بما هو أبعد منالاً، وأقلّ احتمالاً بالنسبة إلى سنّه وبشروط تبعده كل البعد عن مسرح السياسة والحكم وتجعل من كل شيء مجرّد إجراءات شكلية لا أثر لها.

هل يعقل أنّ رجلاً من هذا القبيل يسلم من أن ينسب إلى ما لا يرضى به أحد بأن ينسب إليه؟!! اللهم إلاّ إذا كان هناك ما هو أعظم وأدهى وأخطر من ذلك المنصب، وإلاّ إذا علم أنّه سوف يدفع ثمن ذلك غالياً وغالياً جداً، ألا وهو نفسه التي بين جنبيه.

والإمام الذي يعرف ويعرف كل أحد، أنّه ذلك الرجل الجامع لكل صفات الفضل والكمال من العلم والحكمة والعقل والدراية. قد رفض كلا عرضي المأمون، الخلافة وولاية العهد رفضهما رفضاً باتاً وقاطعاً ولم يقبل ولاية العهد إلاّ على كره وإجبار وإلاّ وهو باك حزين وعاش بعد ذلك في ضيق شديد ومحنة عظيمة حتى أنّه كان يدعو الله بالفرج بالموت!!

وعليه فلا يكفي موقف الإمام هذا وسائر مواقفه من مختلف تصرّفات المأمون لأن يضع علامة استفهام كبيرة حول طبيعة هذا الحدث(2).

ألم يكن الإمام يدرك أن هناك لعبة سياسية خطيرة تنتظره من وراء هذا الكلام المعسول والاحترام الكبير.

وهل رأيت سلطة زمنية تشيد بالعلم والعلماء إلى هذا الحدّ إلاّ لمصالحها، نعم كان هناك مصلحة كبرى يتوخّاها الحكم من هذه السياسة الجديدة وهى أن تجعل الرضا وسيلة لأغراض الحكم يلعب كما يشاء في قتل الأبرياء وانتزاع حقّ الفقراء واضطهاد الناس وظلمهم ثم يطلب من الإمام مباركة هذه الأعمال الشريرة، وبالإضافة أنّ هذه اللعبة سوف تخسر الإمام الشيء الكثير وتمنعه من أي نشاط إصلاحي يمارسه حيث لم يعد بعد ذلك بإمكانه أن يقوم بأي دور في المستقبل القريب.

ولهذا امتنع عن قبول الخلافة أشدّ امتناع وكذلك عن ولاية العهد.

 

المفاوضات الفاشلة

نصوص تاريخية:

تُحدّثنا كتب التاريخ أن المأمون كان قد عرض الخلافة على الإمام أولاً لكنّه (عليه السلام) رفض قبولها أشدّ الرفض، وبقي مدة يحاول إقناعه بالقبول فلم يفلح.

وقد ورد أنّ محاولاته هذه استمرّت في (مرو) وحدها أكثر من شهرين والإمام (عليه السلام) يأبى ذلك عليه.

بل لقد ورد أنّه (عليه السلام) كان قد أجاب المأمون بما يكره فقد قال المأمون للإمام: يا بن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك وأراك أحقّ بالخلافة منّي.

فقال الإمام: بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم وبالتواضع أرجو الرفعة عند الله.

قال المأمون: فإنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك؟

فقال الإمام (عليه السلام): إن كانت هذه الخلافة لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك.

قال المأمون: لابدّ لك من قبول هذا الأمر!!

فقال الإمام (عليه السلام): لست أفعل ذلك طائعاً أبداً.

فما زال يجهد به أياماً والفضل والحسن يأتيانه حتى يئس من قبوله.

وخرج ذو الرئاستين مرة على الناس قائلاً: واعجباً!! وقد رأيت عجباً!! رأيت المأمون يفوّض أمر الخلافة إلى الرضا.

ورأيت الرضا يقول: لا طاقة لي بذلك ولا قدرة لي عليه فما رأيت خلافة قطّ كانت أضيع منها!!

 

قبول ولاية العهد بعد التهديد

الذي يبدو من ملاحظة كتب التاريخ هو أنّ محاولات المأمون لإقناع الإمام بما يريد كانت متعددة ومتنوعة، وأنّها بدأت من حين كان الإمام (عليه السلام) لا يزال في المدينة حيث كان المأمون يكاتبه محاولاً إقناعه بذلك فلم ينجح وعلم الإمام أنّه لا يكفّ عنه ثم أرسل رجاء بن أبي الضحّاك وهو قرابة الفضل والحسن بن سهل فأتى بالإمام من المدينة إلى (مرو) رغماً عنه وبذل المأمون في (مرو) أيضاً محاولات عديدة استمرّت أكثر من شهرين وكان يتهدّد الإمام بالقتل تلويحاً تارةً وتصريحاً أخرى والإمام (عليه السلام) يأبى قبول ما يعرض عليه.. إلى أن علم أنّه لا يمكن أن يكفّ عنه وأنّه لا محيص له عن القبول فقبل ولاية العهد مكرهاً وهو باك وحزين على حدّ تعبير الكثيرين وكانت البيعة له في السابع من شهر رمضان سنة (201هـ) كما تتضح من تاريخ ولاية العهد.

 

بعض ما يدلّ على عدم قبول الرضا لولاية العهد

والنصوص الدّالة على عدم قبول الإمام الرضا (عليه السلام) بهذا الأمر كثيرة ومتواترة فقد قال أبو الفرج: فأرسلهم (يعنى الفضل والحسن ابني سهل) إلى علي بن موسى فعرضا ذلك – ويعني ولاية العهد – عليه فأبي فلم يزالا به وهو يأبى ذلك ويمتنع.. إلى أن قال له أحدهما: إن فعلت ذلك وإلاّ فعلنا بك وصنعنا. وتهدّداه. ثم قال له أحدهما: والله أمرني بضرب عنقك إذا خالفت ما يريد!! ثم دعا به المأمون وتهدّده فامتنع فقال له قولاّ شبيهاً بالتهديد ثم قال له: إن عمر جعل الشورى في ستة أحدهم جدّك وقال: من خالف فاضربوا عنقه ولا بدّ من قبول ذلك(3).

ويروي آخرون: أنّ المأمون قال له: يا بن رسول الله إنّما تريد بذلك - يعني بما أخبره عن آبائه من موته قبله مسموماً - التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ليقول الناس: إنّك زاهد في الدنيا.

فقال الرضا: والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّ وجل وما زهدت في الدنيا للدنيا وإنّي لأعلم ما تريد.

فقال المأمون: وما أريد؟

قال: الأمان على الصدق!

قال: لك الأمان.

قال: تريد أن يقول الناس: إنّ علي بن موسى لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً بالخلافة.

فغضب المأمون وقال: إنّك تتلقاني أبداً بما أكره وقد آمنت سطوتي فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك(4).

وقال الإمام الرضا (عليه السلام) في جواب الريان له عن سرّ قبوله لولاية العهد: قد علم الله كراهتي لذلك فلما خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل ويحهم.. إلى أن قال: ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إجبار وإكراه بعد الإشراف على الهلاك.

وقال في دعاء له: وقد أكرهت واضطررت كما أشرفت من عبد الله المأمون على القتل متى لم أقبل ولاية العهد.

وقال في جواب أبي الصلت: وأنا رجل من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أجبرني على هذا الأمر وأكرهني عليه.

بل لقد أعرب عن عدم رضاً في نفسه ما كتبه على ظهر وثيقة العهد وإنّه يعلم بعدم تمامية هذا الأمر وإنّما يفعل ذلك امتثالاً لأمر المأمون وإيثاراً لرضاه. هذا بعض ما ورد من النصوص التي تؤكّد رفض الإمام لولاية العهد.

الشروط السلبية مع الحكم

بعد التهديد والوعيد الذي سمعت وافق الإمام مرغماً ومضطراً غير أنه لم يترك عبقريته تذهب سدىً أمام تهديدات المأمون بل استغلها استغلالاً ضيع على المأمون كل ما نصب من مكائد وحيل فلقد وافق بشرط ألاّ يولي أحداً ولا يعزل أحداً ولا ينقض رسماً ولا يغير شيئاً ممّا هو قائم ويكون في الأمر مشيراً من بعيد فأجابه المأمون إلى ذلك.

وما شروط الإمام هذه والإصرار من الطرف الآخر إلى المواقف السلبية التي وقفها ووقفها من قبل كل آبائه من كل الحكومات الظالمة غير أنّه في هذه المرّة السلبية تشتد إذ إنّ الوالي الذي يعتبر الرجل الثاني في الدولة لا يعترف بشيء من أمورها ولا يتحمل شيئاَ من تبعاتها معناه يختلف تماماً عن الرجل الذي لا يتعاون مع الدولة وهو بعيد عنها فهذا الموقف السلبي من الإمام وهو داخل الجهاز الحاكم رفض لشرعية كل تصرّفات الدولة لأنّها دولة ظالمة وجائرة.

 

1 - هذه الأهداف الثمانية أخذت من حياة الإمام الرضا لجعفر مرتضى.

2 - حياة الإمام الرضا جعفر مرتضى.

3 - مقاتل الطالبين ص 562.

4 - مناقب آل أبي طالب أمالي الصدوق وعيون أخبار الرضا وعلل الشرائع والبحار ومسند أحمد وروضة الواعظين وغيرها من تحدّث عن ولاية العهد.