مكتبة الإمام الرضا

فهرس الكتاب

 

مواريث الأنبياء

(والنص على الإمام بعينه)

لقد عانى الأئمة والصالحون من أهل البيت أشد ما يعانيه إنسان من ظالم وجائر، فمنذ معاوية حتى هذه اللحظة بل منذ السقيفة حتى هذا الوقت وهم مع أتباعهم يعانون أشدّ أنواع الظلم والإرهاب النفسي والجسدي.

وكان الظلم القاسي من الحكّام والملوك، لعلمهم بأنّ هؤلاء الصفوة هم أحقّ الناس بالأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأولاهم من كل الجوانب، وكانوا على جانب عظيم من الورع والعلم والإحاطة الشاملة... لكل جوانب الإنسان.

وبالحق إنّهم ساسة العباد، وأركان البلاد، من هذا المنطلق كان الحكام يظلمونهم ويجورون عليهم طغوا على الأئمة، واحد بعد الآخر، وكم قتل واحد منهم غدراً وسمّاً، وهكذا إلى نهاية السلسلة الدموية، التي لا نزال نعيش مآسيها في ظلم علمائنا الكبار تجسّدت بقتل الشهيد السعيد السيد (محمد باقر الصدر) وشقيقته العلوية الطاهرة (بنت الهدى) وبإخفاء السيد (موسى الصدر) الذي حيكت له مؤامرة، وإلى الآن لم نعرف عنه شيئاً! وعند ذلك يستطيع الإنسان تفسير الظاهرة الفريدة في نوعها في أهل البيت (عليهم السلام) بأنّ أكثر أولادهم لا يعرف أحدهم الآخر وقد تشردوا في كل بقاع الدنيا من الديلم حتى بلاد المغرب كل هذا كان سببه الخوف والرعب اللذان بثهما الحاكم الظالم فكان لا يأمن العلوي أن يظهر نفسه وإلاّ أخذ بالحال والساعة ويقتل على الظنّة والتهمة دون محاكمة، ومن هذا الباب حاول البعض إخفاء عقيدته عن الناس حتى لا يتهم بالرفض أو التشيّع فيقتل حالاً فنشأت العقائد الباطنية التي تحوّلت بعد ذلك إلى مذهب من أخطر المذاهب الإسلامية. وكان نتيجة هذا الحدث الرهيب أن تحوّلت الشيعة إلى شيع، والفرقة إلى فرق، فمنهم من تحوّلت نتيجة الخفاء في شخصية الإمام، ومنهم من تحوّلت نتيجة الخفاء في الخط، وقد يعذر أحياناً بعض أتباع الأئمة نتيجة لهذا الخفاء.

والمسألة كانت لا تخصّ الأفراد العاديين بل تجاوزتها إلى أعظم الشخصيات الإسلامية. فالإمام الصادق (عليه السلام) عند حضور أجله ما استطاع أن يوصي للإمام موسى بن جعفر بعينه خوفاً من بطش المنصور ولهذا أوصى لخمسة أحدهم المنصور وزوجته حميدة ووالي المدينة وولديه الأفطح وموسى.

وعندما علم المنصور بوفاة الصادق (عليه السلام) بعث لواليه يقول: إن كان جعفر بن محمد قد أوصى إلى شخص بعينه فقدمه واضرب عنقه، فأخبره الوالي بأنّه قد أوصى إلى خمسة وهو منهم فقال لا سبيل إلى قتل هؤلاء جميعاً وهكذا استطاع الإمام بثاقب رأيه أن يحمي ابنه الإمام موسى من المنصور وقد عمل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) على نفس الخطى ليحمي رسالته ونهجه الأقدس الذي أمر الله تعالى به فلم يوضح للناس جميعاً عن وصية علي بل ترك الأمر موقوفاً على بعض المقربين من العلماء وهم بدورهم يبينون للطائفة وجود الإمام وعلومه، ولقد كان الإمام موسى يعاني من هارون الرشيد أشدّ أنواع الظلم وأمرّه، ومات بتلك الميتة المريبة وبقي في السجن سبع سنين حتى خفي الأمر على كثير من شيعته ومحبّيه، وكان هذا غرض السلطة الحاكمة الإبعاد بينه وبين مواليه، ليقطع حبل المودّة والألفة بينهم فيتحولون إلى غيره من العلماء.

ونتيجة لما بيّناه من بعد الإمام عن الشيعة وغيابه عنهم سبع سنوات وبعد ولده عنه في المدينة، وعدم توفير وسيلة إعلامية كافية، كان كثير منهم لا يعترف بإمامة الإمام (علي الرضا)، إلاّ بعد أن ظهر له منها الدلائل الواضحة على إمامته.

وهناك نصوص عامة تشمل الإمام بعمومها وهناك نصوص خاصّة تدل عليه وحده.

بعض النصوص العامة

1- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

(الأئمة بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبى طالب وآخرهم القائم هم خلفائي وأوصيائي وأوليائي وحجج الله على أمتي بعدي المقرّ بهم مؤمن، والمنكر لهم كافر)(1).

2- عن عبد الله بن العباس، قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أنا سيد النبيّين، وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم)(2).

3- عن عبد الله بن العباس قال:

سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون)(3).

4- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

(اثنا عشر من أهل بيتي أعطاهم الله فهمي وعلمي وحكمتي وخلقهم من طينتي، فويل للمنكرين عليهم، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي).

هذه النصوص العامة، وعشرات أمثالها، تدلّ بشموليتها وسعتها على كل الأئمة الاثني عشر ومن جملتهم هذا الإمام العظيم.

وأكتفي من النصوص العامة بهذا المقدار تاركاً المجال لمن أراد الاستقصاء والاستقراء وإليك بعض النصوص الخاصة من قبل أبيه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام):

1- روي في الكافي عن الحسين بن نعيم الصحاف أنه قال:

كنت أنا وهشام بن علي بن يقطين ببغداد، فقال علي بن يقطين: كنت عند السعيد الصالح – أي الإمام موسى بن جعفر – جالساً فدخل عليه ابنه علي الرضا فقال الإمام: يا علي بن يقطين، هذا علي سيد ولدي، أما إنّي قد نحلته كنيتي. فضرب هشام بن الحكم براحة جبهته ثم قال: ويحك كيف قلت؟ فقال ابن يقطين: سمعته والله منه كما قلت، فقال له هشام بن الحكم: لقد أخبرك أن الأمر له من بعده(4).

2- وروي عن معاوية بن حكيم بسنده إلى أبي الحسن موسى أنّه قال:

(إن ابني علياً أكبر ولدي عندي وأحبهم إليّ وهو ينظر معي في الجفر ولم ينظر فيه إلاّ نبيّ أو وصي نبي)(5).

3- روي في الكافي عن داود الرقي أنّه قال:

قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام) جعلت فداك إنّي قد كبر سنّي فخذ بيدي من النار، فأشار إلى ولده أبي الحسن الرضا وقال: (هذا صاحبكم من بعدي).

4- وروي أيضا عن محمد بن عمر عن إسحاق بن عمّار أنّه قال:

قلت لأبي الحسن الأول: ألا تدلّني إلى من آخذ عنه ديني؟ قال: (هذا ابني علي، إنّ أبي أخذ بيدي فأدخلني إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: يا بني إنّ الله عزّ وجل يقول: (إنّي جاعل في الأرض خليفة) وإنّ الله إذا قال قولاً وفى به).

5- وفي رواية ثانية رواها الكليني عن داود الرقي أنّه قال:

قلت لأبي الحسن موسى: إنّي قد كبر سني، ودقّ عظمي، وإنّي سألت أباك (عليه السلام) فأخبرني عنك فأخبرني مَن بعدك؟ فقال: (هذا أبو الحسن الرضا).

6- عن نصر بن قابوس أنّه قال:

قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): إنّي سألت أباك: من الذي يكون من بعدك؟ فأخبرني أنّك أنت هو، فلما توفي ذهب الناس يميناً وشمالاً وقلت فيك أنا وأصحابي، فأخبرني مَن الذي يكون بعدك من ولدك؟ فقال: (ابني فلان) أي الرضا.

7- وجاء في رواية داود بن سليمان أنّه قال:

قلت لأبي إبراهيم: إنّي أخاف أن يحدث عليك حدث ولا ألقاك، فأخبرني عن الإمام بعدك؟ فقال: (ابني هذا) وأشار إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام).

8- وروي عن محمد بن سنان قال:

دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام) من قبل أن يقدم العراق بسنة، وعلي ابنه جالس بين يديه فنظر إليّ وقال: يا محمد أمّا إنّه سيكون في هذه السنة حركة فلا تجزع لذلك فقلت: وما يكون جعلت فداك أقلقني ما ذكرت؟ فقال: أصيّر إلى الطاغية أمّا أنّه لا يبدأُني منه سوء، ومن الذي يكون بعده، قال قلت: وما يكون جعلت فداك؟ قال: يضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ثم قال: من ظلم ابني هذا حقّه - وأشار إلى ولده علي الرضا (عليه السلام) - كان كمن ظلم علي بن أبي طالب حقّه وجحده إمامته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله). قلت: والله لئن مدّ الله في العمر لأسلمن له حقّه ولأقرّنّ بإمامته، قال: صدقت يا محمد يمدّ الله في عمرك، وتسلّم إليه حقّه، وتقرّ بإمامته وإمامة من يكون من بعده، قلت: ومن ذاك قال: ابنه محمد(6).

هذا غيض من فيض وهناك روايات كثيرة في هذا المجال آثرنا تركها لأهمية ما أوردناه.

وبعد وفاة الإمام موسى بن جعفر من قبل الطاغية هارون وفي هذا الجو الخانق الذي كان الناس يحاسبون ويقتلون على الظن والتهمة أظهر الإمام الرضا إمامته وجلس يعلن نفسه للناس وكان هذا الموقف من الصعوبة بمكان إلاّ أنّ الإمام اضطرّ لذلك لأنّه وقع بين محذورين.

الأول: إذا ستر نفسه عن شيعته ومواليه بعد غيبة أبيه الطويلة فسوف يؤدّي إلى انحسار وتقلّص أكيد في صفوف الشيعة وسوف يحصل كثير من الاضطّرابات الفكرية والسلوكية.

الثاني: أن يتعرض لخطر السلطة الغاشمة وربما يقتلونه كما قتل أبوه وعندئذٍ ينطفئ نور النبوّة ومصباح الإمامة ويعود الناس إلى جاهلية جهلاء. غير أنّ الإمام رأى بواسع علمه وثاقب نظره أنّ هذا الخطر أهون من الخطر الأول وأنّ هارون أشرف على نهايته، وسوف لا يتعرض له لأنّ موته على يد غيره.

محاولات مخلصة

في هذا الجو المرعب الخانق يجلس الإمام ويعرض نفسه على الناس ويبدأ يحدث الناس عن الحلال والحرام وكل ما في الدنيا، إنّه لشيء عجيب!

أمام هذا الحادث الخطير خاف بعض المخلصين من شيعته على حياته وجاءوا إليه يطلبون إليه التريث في الإعلان لتهدأ العاصفة الرهيبة وينحسر الموج الجنوني في حبّ السلطة، فمن جملة هذه المحاولات ما صدر عن (صفوان الجمال) وجماعة من المخلصين حيث جاءوا إليه، وقالوا له: إنّك أظهرت أمراً عظيماً، وإنّنا نخاف عليك من هذا الطاغي فقال الإمام علي الرضا (عليه السلام): يجهد جهده فلا سبيل له عليّ(7).

وعن محمد بن سنان قال:

قلت لأبي الحسن الرضا أيام هارون: إنّك قد شهرت نفسك بهذا الأمر وجلست مجلس أبيك وسيف هارون يقطر الدم. قال (عليه السلام): (جرأني على هذا ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة، فاشهدوا إنّي لست بنبي). وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة، فأنا لست بإمام).

نوايا غير مخلصة

غير أن الجماعة، الذين يعيش حبّ الدنيا في قلوبهم، رأوا أنّ ظهور الإمام يخرب عليهم مطامعهم ويهدم عليهم بناءهم الذي بنوه على غير أساس متين وكان حبّ المال قد أعمى قلوبهم، فسلكوا مسلكاً يظهر سوء عاقبتهم وبعدهم عن منهج الحق.

ولنقرأ هذا الحوار الذي رواه لنا (أبو مسروق) بين الإمام وبين بعض هؤلاء:

دخل على الرضا (عليه السلام) جماعة من الواقفة فيهم علي بن حمزة البطائني ومحمد بن إسحاق بن عمّار والحسين بن عمران والحسين بن أبي سعيد المكاري. فقال له علي بن حمزة: جعلت فداك أخبرنا عن أبيك ما حاله؟

فقال: قد مضى (عليه السلام).

فقال له: فإلى من عهد؟

فقال: إليّ.

فقال له: إنّك لتقول قولاً ما قاله أحد من آبائك، علي بن أبي طالب فمن دونه.

قال: لكن قد قاله خير آبائي وأفضلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: ألا تخاف هؤلاء على نفسك؟

فقال: لو خفت عليها كنت عليها معيناً، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتاه أبو لهب فتهدده، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن خدشت من قبلك خدشة فأنا كذاب! فكانت أول آية نزع بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي أول آية أنزع بها لكم.. إن خدشت خدشاً من قبل هارون فأنا كذاب! فقال له الحسين بن مهران: قد أتانا ما نطلب إن أظهرت هذا القول.

قال له: فتريد ماذا؟ أتريد أن أذهب إلى هارون فأقول إنّي إمام وأنت لست في شيء؟

ما هكذا صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أول أمره إنّما قال ذلك لأهله ومواليه ومن يثق به دون الناس، وأنتم تعتقدون الإمامة لمن كان قبلي من آبائي وتقولون: إنّه يمنع علي بن موسى أن أباه حي وتقية، فأنا لا أتقيكم في أن أقول: إنّي إمام فكيف أتّقيكم في أنّه حيّ لو كان حيّاً. وهكذا تصدق نبوءة الإمام أخيراً ويقضي الرشيد دون أن ينال الإمام بسوء.

 

(1)

السلوك القدوة

إنّ من يختاره الله ويصطفيه لقيادة البشرية لابدّ وأن تتوفّر فيه أرفع الصفات وأعلاها، وأسمى النعوت وأحلاها، ليأخذ كل إنسان منه بطرف فيهيم الناس بحبه، وينتفعوا بسلوكه وأئمتنا (صلوات الله وسلامه عليهم) كانوا المثل الأعلى في السلوك الإنساني فلم يعرف عنهم رغم وجود الكثير من أعدائهم الذين يهتمون بالسقطات إلاّ أنهم خيرة البشرية في كل مصر وعصر ولم يستطع أعداؤهم أن يأخذوا عليهم ولو بغلطة صغيرة لا قيمة لها وكانوا (عليهم السلام) يقولون لمواليهم كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا.

وتعال معي أيها الأخ لنأخذ كتب التاريخ والمناقب، لنتصفح تاريخ هذا الإمام المظلوم والغريب والقدوة، ليضيء لنا سلوكه الإنساني الرفيع فينير لنا الدرب البعيد المدى.

فعن إبراهيم بن العباس الصولي أنّه قال: ما رأيت أبا الحسن الرضا جفا أحداً بكلمة قط. وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها. وما مدّ رجليه بين جليس له قط. ولا اتكأ بين يدي جليس له قط. ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط. ولا رأيته تفل قط. ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. كان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه حتى البواب والسائس.

إلى أن قال: فمن زعم أنّه رأى مثله فلا تصدّقوه(8).

ونزل به ضيف وكان جالساً عنده يحدّثه في بعض الليل فتغيّر السراج فمدّ الرجل يده ليصلحه فزبره أبو الحسن (عليه السلام) ثم بادره بنفسه فأصلحه ثم قال: إنّا قوم لا نستخدم أضيافنا(9).

وعن المناقب دخل الرضا الحمام. فقال له بعض الناس: دلّكني! فجعل يدلّكه فعرفوه فجعل الرجل يتعذر منه، وهو يطيّب قلبه ويدلكه.

ومن تواضعه الخلقي ما عن عمّه محمد بن الفضل:

قال الرضا لبعض مواليه يوم الفطر وهو يدعو له: تقبّل الله منك ومنّا، ثم أقام حتى إذا كان يوم الأضحى قال له: يا فلان تقبّل الله منّا ومنك قال فقلت له: يا بن رسول الله قلت في الفطر شيئاً وتقول في الأضحى غيره.

قال فقال: نعم، إنّي قلت في الفطر: تقبّل الله منك ومنّا، لأنّه فعل مثل فعلي وناسبت أنا وهو في الفعل وقلت له في الأضحى: تقبّل الله منّا ومنك لأنّه يمكننا أن نضحي ولا يمكنه أن يضحي فقد فعلنا غير فعله.

وهكذا ينسجم الإمام الرضا مع رسالته في الأخلاق فيجسّدها عملاً رسالياً يتسلق به قمة الكمال الإنساني ويرتفع به إلى مشارف العظمة الذاتية وبهذا ومثله تعرف أصالة الإيمان وسموّ الذات ورفعتها.

ويحدد لنا الإمام الرضا (عليه السلام) نظرية الإسلام في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان عملياً ببعض اللفتات الإنسانية الواقعية في سلوكه التي يمكن أن نستلهم منها فكرة إلغاء الإسلام للفوارق الطبقية القائمة بين الأفراد والجماعات في مجال الحقوق العامة ورعاية كرامة الإنسان وأن الفارق الذي يجب ملاحظته في هذه المجالات هو إطاعة الله ومعصيته.

يقول رجل للإمام: والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً.

فقال: التقوى شرّفتهم وطاعة الله أحظتهم(10).

وقال له آخر: أنت والله خير الناس.

فقال له: لا تحلف يا هذا، خير منّي من كان أطوع لله وأتقى له والله ما نسخت هذه الآية (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم).

وقال أبو الصلت سألته: يا بن رسول الله ما شيء يحكيه الناس عنكم؟

قال: وما هو؟ قلت: يقولون إنّكم تدّعون أنّ الناس لكم عبيد!

قال: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت شاهد بأنّي لم أقل ذلك قط ولا سمعت أحداً من آبائي قاله قط وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمّة وأنّ هذه منها.

ثم أقبل عليّ فقال: يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا على ما حكوه فممن نبيعهم؟ قلت: يا بن رسول الله صدقت.

ثم قال: يا عبد السلام أمنكر أنت لما أوجب الله عزّ وجل لنا من الولاية كما ينكره غيرك.

قلت معاذ الله، بل أنا مقرّ بولايتكم(11).

فهو ينفي عن نفسه وعن آبائه ذلك الاتهام المغرض الذي يريد أعداؤهم أن يشنعوا عليهم من خلاله وقد جعله من جملة المظالم التي ارتكبتها الأمّة في حقهم فإنّهم يرون أنّ جميع الناس سواسية في الحقوق العامة ماعدا حق الولاية على الخلق التي فرضها الله لهم فإنّه ليس لغيرهم أن يدّعيها لنفسه ما عدا حق الطاعة لله في أخلص معانيها والتي غلت مراتبهم عند الله وعند الناس ما عدا هذا فالكل عبيد الله تجمعهم أم واحدة وأب واحد وربّ واحد.

فعن عبد الله بن الصلت عن رجل من أهل بلخ قال: كنت مع الرضا في سفره إلى خراسان فدعا يوماً بمائدة له فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم.

فقلت: جعلت فداك لو جعلت لهؤلاء مائدة.

فقال: إنّ الربّ تبارك وتعالى واحد والأب واحد والأم واحدة والجزاء بالأعمال(12).

فلا يرى الإمام فارقاً بينه وبين مماليكه وعبيده إلاّ في العمل وفيما عداه تلغى الفروق عندما يتعلّق الأمر بالحقوق العامّة التي يتساوى فيها جميع الأفراد فكل مخلوق وكلهم من آدم وآدم من تراب.

وحينما نرى الإمام يجلس إلى مائدته ومن حوله مماليكه وبوابه وسائس دوابه فليس إلاّ ليعطي الأمة درساً في الإنسانية الفاضلة التي تؤمن بكرامة الإنسان وليعرض نظرية الإسلام عملياً في طبيعة السلوك الذي يجب أن يعتمده الإنسان في سلوكه مع أخيه الإنسان، فرفعة المقام وسموّ المركز لا يستدعيان أن يحتقر الإنسان من دونه في ذلك أو يشعره بوضاعة بشخصية ولو كان ذلك الإنسان عبداً مملوكاً ليتسبب من ذلك عقدة تباين الطبقات فتتسع الهوة بين أفراد الأمّة ويتوزع كيانها في فصائل متنافرة يمزّقها الحقد وتنهشها البغضاء(13).

وقد اعتمد الإسلام قانون المساواة بين أفراد الأمة في مجال الحقوق العامة تحريراً لكرامة الإنسان من الالتزامات الطبقية التي كانت معاشة في الواقع الجاهلي وفي واقع الأمم السالفة. فقد قال الله تعالي: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): (كلكم لآدم وآدم من تراب).

وقال (صلى الله عليه وآله): (لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى).

فعن إبراهيم بن العباس الصولي: سمعت علي بن موسى الرضا يقول: حلفت بالعتق، ولا أحلف بالعتق، إلاّ أعتقت رقبة وأعتقت بعدها ما أملك إن كان يرى أنّه خير من هذا – وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه – بقرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل منه(14).

وبهذا يحدّد لنا الإمام الخلق الإسلامي الأصيل في الحفاظ على كرامة الإنسان وإلغاء الامتيازات الطبقية، فيما عدا العمل الصالح فهو (عليه السلام) لا يرى أنّ قرابته من النبي (صلى الله عليه وآله) تعطيه امتيازاً على العبد الأسود ما لم يقترن بتلك القرابة عمل صالح يكون به الفضل والامتياز.

قال لنا أبو الحسن: إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون فلا تقوموا حتى تفرغوا. ولربما دعا بعضنا فيقال: هم يأكلون فيقول دعوهم حتى يفرغوا.

وعن نادر الخادم قال: كان أبو الحسن إذا أكل أحدنا لا يستخدمه حتى يفرغ من طعامه.

هذه بعض النماذج العملية من أخلاقه وإنسانيته التي استمدها ميراثاً نقياً يعبق بالخير والرحمة من جدّه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي توّج رسالته بشعار الأخلاق حين قال (صلى الله عليه وآله): (إنّما بعثت لأتّمم مكارم الأخلاق).

ذلك التراث الإنساني الأصيل الذي تستمد الأمم قوتها من روحه وتبني عليه دعائم مجدها وتضمن به ديمومتها في البقاء.

 

(2)

السلوك القدوة

سلوكه في مظهره

ممّا لا نزاع فيه عند أحد ممن قرأ التاريخ وعرف سيرة أهل بيت العصمة أنّهم أبعد الناس عن الكبرياء والتعالي على الناس وأنّهم كانوا بمظهرهم الخارجي يمثّلون الإنسان المتواضع البسيط غير أنّهم من ناحية أخرى يرفضون أن يفسّروا الزهد على طريقة المتصوفين بتشعيث اللمّة ولبس الأرذل من الثياب وأكل الجشب من الطعام، فهم يرون أفضل الزهد إخفاء الزهد والنعم التي ينعم بها ربّ العباد، يجب أن تظهر على المنعم عليه بشكل واضح وملموس وإلاّ عدّ غير شاكر لنعمائه سبحانه وتعالى.

ويرون أنّ الدنيا إذا أقبلت أحقّ بها أبرارها لا فجّارها، ومؤمنوها لا منافقوها. والإمام الرضا (عليه السلام) هو فرد من أفراد هذه الثلة الطاهرة والذي عرف بعظيم تواضعه وكبير حلمه وواسع علمه.

قال الآبي في (كنز الدرر):

دخل على الرضا بخراسان قوم من الصوفية فقالوا له: أمير المؤمنين نظر فيما ولاّه الله تعالى من الأمر فرآكم أهل البيت أولى الناس بالناس بأن تؤمّوا الناس، ونظر فيكم أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس فرأى أن يرد الأمر إليك والأمّة تحتاج إلى من يلبس الخشن ويأكل الجشب ويركب الحمار ويعود المريض.

قال: وكان الرضا متكئاً، فاستوى جالساً ثم قال: كان يوسف نبيّاً يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب ويجلس على متكآت آل فرعون، ويحكم؟! إنّما يراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز إنّ الله لم يحرم لبوساً ولا مطعماً ثم تلا قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(15).

وقيل للإمام الجواد: ما تقول في المسك؟

فقال: إنّ أبي أمر فعمل له مسك في بان يسيع مائة درهم فكتب له الفضل بن سهيل يخبره: إنّ الناس يعيبون ذلك فكتب إليه: (يا فضل أما علمت أن يوسف وهو نبي كان يلبس الديباج مزرراً بالذهب على كراسيّ الذهب فلم ينقص ذلك من حكمته شيئاً قال: ثم أمر فعملت له غالية بأربعة آلاف درهم)(16).

وبذلك يثبت الإمام أنّ المظهر الخارجي للزهد لا علاقة له بواقع الزهد بل ربما يكون ذلك زيفاً يحاول الإنسان أن يلفت به لنفسه انتباه الآخرين ومن هنا كان الإمام الرضا وغيره من الأئمة لا يرون بأساً في الظهور بمظهر العزة في اللباس والمأكل مادام ذلك لا يصطدم مع واقع الزهد الذي هو بناء النفس من الداخل على رفض الدنيا وفتنتها باعتبارها عرضا زائلاً لا بقاء له وهذا لا يمنع من أن ينال المؤمن من طيباتها بالوجه الذي أحلّه الله ولم يخلق الله الطيبات في الدنيا لينعم بها الكافر ويحرم منها المؤمن بل المؤمن أولى بنعم الله عندما يهب نفسه لله ويبذلها في سبيله.

ويحدثنا بن عباد عن طبيعة السلوك الزهدي للإمام الرضا فيقول: وكان جلوس الرضا (عليه السلام) في الصيف على حصير وفى الشتاء على مسح، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزين لهم(17).

فهو حين يخلو لنفسه ويبتعد عن واقع الحياة العامة تنسجم روحه مع طبيعة الرفض للزيف المتمثل في بهارج هذه الدنيا وزينتها، أمّا حين يبرز للناس فإنّه يتزين لهم انسجاماً مع ما فطروا عليه من الاهتمام بمظاهر هذه الدنيا والتمتع بطيباتها.

وهذا السلوك الزهدي الواقعي للإمام يعطينا المثال الرائع على واقعية أهل البيت في نظرتهم الصافية للحياة الخالية من كل شائبة زيف أو خداع.

 

(3)

السلوك القدوة

أول نصر يناله الحليم أن الناس أنصاره على الجاهل والحلم ملكة عالية يستطيع بها صاحبها أن يضبط أعصابه حتى في أمرّ الظروف وأحلكها وأقساها ويستفيد بهذه الملكة الرائعة أن يمنع كثيراً من المشاكل الصعبة كإراقة الدماء وما إليها.

وقد كان لأهل بيت العصمة أثر ملموس وواضح في هذا المجال والتحدّث عن هذه الظاهرة الفريدة في أهل البيت (عليهم السلام) يستغرق وقتاً طويلاً وإمامنا الإمام الرضا قبس من هذا النور النبوي المتدفق، وقد تعلم الحلم وكظم الغيظ من والده الإمام الكاظم الذي كان حلمه يوزن به الجبال. ولا غرابة أن يكون الإمام الرضا حليماً كأبيه بل الغرابة ألاّ يكون كذلك.

حلم الإمام الرضا وتسامحه

كان الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) قد أوصى إلى ولده الإمام الرضا وجعله وليّاً على أمواله ونسائه وأبنائه وأمهات أولاده دون أن يجعل لأبنائه الآخرين أي حقّ في التصرّف بشيء من بعده وكتب بذلك كتاباً وختمه ولعن من يفضّ ذلك الكتاب بعد أن أشهد عليه جملة من أهل بيته وأصحابه وقد نازع أخوة الإمام الرضا أخاهم في وصية أبيهم وما ترك.

فعن الكافي بسنده إلى يزيد بن سليط قال أبو عمران الطلحي قاضي المدينة: فلما مضى موسى قدّمه أخوته – أي الرضا – للطلحي. فقال العباس بن موسى: أصلحك الله وأمتع بك إنّ في أسفل هذا الكتاب كنزاً وجوهراً ويريد أن يأخذه ويحتجبه دوننا ولم يدع أبونا شيئاً إلاّ ألجأه إليه وتركنا عالة ولو أنّي أكف نفسي لأخبرتك على رؤوس الملأ.

فوثب إليه إبراهيم بن محمد وكان من شهود الوصية فقال: إذاً والله تخبر بما لا نقبله منك ولا نصدقك عليه ثم تكون عندنا ملوماً مدحوراً نعرفك بالكذب صغيراً وكبيراً وكان أبوك أعرف الناس بك لو كان فيك خير، وإن كان أبوك لعارفاً بك في الظاهر والباطن، وما كان ليأتمنك على تمرتين ثم وثب إسحاق بن جعفر فأخذ بتلابيبه فقال له: إنّك لسفيه ضعيف أحمق هذا مع ما كان منك بالأمس وأعانه القوم أجمعون.

فقال أبو عمران القاضي لعلي: قم يا أبا الحسن، حسبي ما لعنني أبوك اليوم وقد وسع لك أبوك لا والله ما أحد أعرف بالولد من والده ولا والله ما كان أبوك بمستخف في عقله وضعيف في رأيه.

فقال العباس للقاضي: أصلحك الله فض الخاتم واقرأ ما تحته.

فقال أبو عمران: لا أفضّه حسبي ما لعنني أبوك اليوم.

فقال العباس: فأنا أفضّه.

فقال: ذاك إليك.

ففضّ العباس الخاتم فإذا فيه إخراجهم وإقرار علي بها وحده وإدخاله إيّاهم في ولاية علي إن أحبّوا أو كرهوا وإخراجهم من حد الصدقة وغيرها وكان فتحه عليهم بلاء وفضيحة وذلّة ولعلي خيرة.

ثم إنّ عليّاً التفت إلى العباس فقال: يا أخي أنا أعلم أنّه حملكم على هذا، الغرائم والديون التي عليكم فانطلق يا سعيد فتعين لي ما عليهم ثم أقض عنهم واقبض زكاة حقوقهم وخذ لهم البراءة ولا والله لا أدع مواساتكم وبرّكم ما مشيت على الأرض فقولوا ما شئتم!!

فقال العباس: ما تعطينا إلاّ من فضول أموالنا وما لنا عندك أكثر.

فقال: قولوا ما شئتم فالعرض عرضكم فإن تحسنوا فذاك لكم عند الله وإن تسيئوا فإن الله غفور رحيم والله إنّكم تعرفون أن ما لي يومي هذا ولد ولا وارث غيركم فلئن حبست شيئاً ممّا تظنون أو ادخرته فإنّما هو لكم ومرجعه إليكم والله ما ملكت منذ مضى أبوك (رضي الله عنه) شيئاً إلاّ وقد سيبته حيث رأيتم، فوثب العباس فقال: والله ما هو لذلك ولا جعل الله لك من رأي علينا ولكن حسد أبينا لنا وإرادته ما أراد ممّا لا يريده الله إيّاك وإنّك لتعرف إنّي أعرف صفوان بن يحيي بياع السابري بالكوفة ولئن حللت لأغصصنه بريقه وأنت معه.

فقال علي: لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، أمّا إنّي يا أخوتي فحريص على مسرّتكم الله يعلم. اللهم إن كنت تعلم أنّي أحب صلاحهم وأنّي بارّ بهم واصل لهم رقيق عليهم أعني بأمورهم ليلاً ونهاراً فاجزني به خيراً وإن كنت على غير ذلك فأنت علاّم الغيوب فاجزني به ما أنت أهله إن كان شرّاً فشر وإن كان خيراً فخير. اللهم أصلحهم وأصلح لهم واخسأ عنّا وعنهم شرّ الشيطان وأعنهم على طاعتك ووفّقهم لرشدك، أمّا أنا يا أخي فحريص على مسرتكم جاهد في صلاحكم والله على ما تقول.

فقال العباس: ما أعرفني بلسانك، وليس لمسحاتك عندي طين(18).

بهذه الكلمات يختتم العباس حواره مع أخيه الإمام الرضا رغم أنّ الإمام كان في حواره معه رقيقاً وحليماً دون أن تصدر منه أي كلمة جارحة ورغم ثبوت الحق في جانب الإمام وتعدّيهم عليه بجرّه إلى مثل هذه المواقف غير اللائقة بمقامه وهذا ما يدل على حلم عظيم وتسامح أمام التعدّي غير المحدود.

وبالرغم من أنّ العباس تعدّى طور اللياقة في مواجهته لأخيه بقوارص الكلام وتجنيّه على أبيه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) باتهامه له بالحسد والحيف عليهم مما يثير حفيظة الطرف المواجه فقد بقي الإمام ملتزماً بالموقف الحليم الهادئ دون أن تستفزّه حماقة أخيه أو تخرج به عن حد التوازن وليس هذا تصنعاً منه للحلم والتسامح بل هو منطلق من أصالة الخير والمحبة في نفسه التي عرف بها الأئمة عندما يواجهون التحديّات من الآخرين ومن جهة أخرى يحاول الإمام أن يحمل الآخرين على التزام صفة الحلم والتسامح عند الإساءة كعنصر من عناصر المعاملة الطيبة بينهم معللاً ذلك بأنّه يزيد في عزّة الإنسان، لأنّ الحلم والتسامح عند توفّر إمكانية الردّ والقصاص تعبّر عن قوّة التماسك عند الإنسان، وسيطرته على اندفاعاته النفسية حينما يواجه بالتحدّي وهذا ما يبعث على التقدير والإكـــبار له من الآخرين وخصوصاً إذا كــان ذلك الإنــسان متقمــصاً لمــسؤوليات الحكم(19).

يقول الآبي: دخل رجل على المأمون أراد ضرب عنقه، والرضا حاضر.

فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟

فقال: أقول: إنّ الله لا يزيدك بحسن العفو إلاّ عزّاً. فعفا عنه(20).

 

(4)

السلوك القدوة

كرم الإمام وبرّه

جنونان لا خلاني الله منهما: الشجاعة والكرم، هذه الكلمة الخالدة لإمام الحق والهدى علي بن أبي طالب (عليه السلام) دلّت على أن الكرم من الصفات الخلقية العالية والكريم قريب إلى الله قريب إلى الناس قريب إلى الجنة، والبخيل بعيد عن الله بعيد عن الناس بعيد عن الجنة.

وممّا لا شك فيه أنّ العطاء هو الذي يسير عجلة الحياة إذ أنّ الحياة بدون عطاء همود وركود وجمود وقد دفع الإسلام الناس إلى العطاء بأسلوبين الأول إلزامي والثاني إغرائي.

فالإلزامي يكون عندما تتوقف المسيرة الاجتماعية على المال يوجب على الأغنياء أن يدفعوا مقداراً معيناً من أموالهم، ثم ينفق على الفقراء فيأخذونها للسوق يشترون بها وهكذا يتحرك السوق من جديد بعد ركوده.

والقسم الثاني - أي الإغرائي - يعِد الناس القادرين على العطاء بثواب عظيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون فمثلاً يقول الإسلام: إنّ في الجنة باباً اسمه المعروف لا يدخله إلاّ من فعل المعروف في الدنيا. وما إلى ذلك من الروايات المشجعة التي تحثّ الناس على الدفع بشكل تتغلب فيه موازين الحياة الاجتماعية التي تغلب عليها الطبقية ليتحول بعد ذلك إلى عدل ومساواة بين الناس ولم يكتف الإسلام بالأقوال من قادته العظام بل سارع هؤلاء القادة في أسلوب عملي رائع ليبرهنوا للناس جميعاً عن أهمية الثواب الموعود به الناس يوم القيامة. فمنذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى آخر الأئمة وهم النماذج الفضلى في العطاء والكرم.

وأمّا إمامنا الإمام الرضا (عليه السلام) هو فرع من تلك الشجرة المعطاء وثمرة من تلك النخلة الجنية فقد كان له دور كبير في ترغيب الناس على العطاء وعمل الخير بقوله وعمله وسلوكه العظيم.

يقول الإمام في حديث له مع البزنطي:

(إنّ صاحب النعمة على خطر، إنّه يجب عليه حقوق الله تعالى فيها، والله إنّه ليكون عليّ النعم من الله عزّ وجلّ فما أزال منها على وجل. وأحرّك يدي حتى أخرج الحقوق التي تجب عليّ فيها)(21).

قلت: جعلت فداك أنت في قدرك تخاف هذا؟

قال: نعم فأحمد ربّي على ما منّ به عليّ.

وعن اليسع بن حمزة قال:

كنت أنا في مجلس الرضا أحدثه وقد اجتمع عليه خلق كثير يسألوه عن الحلال والحرام إذ دخل عليه رجل طوال آدم قال له: السلام عليك يا بن رسول الله، رجل من محبّيك ومحبّي آبائك وأجدادك، مصدر من الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ مرحلة فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله عليّ نعمة فإذا بلغت بلدي تصدّقت بالذي توليني عنك فلست موضع صدقة.

فقال له: اجلس رحمك الله.. وأقبل على الناس يحدّثهم حتى تفرّقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا.

فقال: أتأذنون لي بالدخول.

فقال له سليمان: قدم الله أمرك.

فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة ثم خرج ورد الباب وأخرج يده من أعلى الباب، وقال: أين الخراساني؟

فقال: ها أنا ذا.

فقال: خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرّك بها ولا تصدق بها عني واخرج فلا أراك ولا تراني ثم خرج.

فقال سليمان: جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت فلماذا سترك وجهك؟

فقال مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضاء حاجته أما سمعت حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله): المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجة والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفورٍ له). أما سمعت قول الأول:

متي آته يوماً لأطلب حاجةً***رجعت إلى هلي ووجهي بمائه

فهو يحتجب عن سائله هنا حين يقدم له العطاء لئلا ينظر لذلّ السؤال في وجهه وليحفظ السائل بعزّة نفسه حين يستتر عنه وجه المعطي في حالة العطاء ويطلب منه أن يخرج لئلا يراه صوناً لنفسه عن الشعور بالمنّة على سائله وصوناً لسائله عن تقديم الامتنان له.

وفرّق بخراسان ماله كلّه في يوم عرفة، فقال له الفضل بن سهل: إن هذا لمغرم: فقال: بل هو المغنم. لا تعدّن مغرماً ما ابتعت أجراً وكرماً(22).

وعن يعقوب بن إسحاق النوبختي قال: مرّ رجل بأبي الحسن فقال له أعطني على قدر مروءَتك.

فقال الإمام: لا يسعني ذلك.

فقال: على قدر مروءتي.

قال: أمّا إذاً فنعم. ثم قال: يا غلام أعطه مائتي دينار(23).

وامتناع الإمام من العطاء على قدر مروءته لأنّ ما يملكه لا يساوي في الإنفاق مروءته.

وعن برّه بالمساكين والفقراء ورعايته لهم يحدّثنا معمّر بن خلاّد قال: كان أبو الحسن الرضا إذا أكل أتى بصحفة فتوضع قرب مائدته فيعمد إلى أطيب الطعام ممّا يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئاً فيوضع في تلك الصحفة ثم يأمر بها للمساكين.. ثم يتلو هذه الآية: (فلا اقتحم العقبة) ثم يقول: علم الله عزّ وجل أن ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة بإطعام الطعام(24).

ويروي البيزنطي كتاباً أرسله الإمام الرضا لولده الإمام أبي جعفر يجسّد لنا روح العطاء والكرم الخيرة المتأصلة في نفوس أهل البيت يقول البزنطي: قرأت كتاب أبي الحسن الرضا (عليه السلام) إلى أبي جعفر: يا أبا جعفر بلغني أنّ الموالي إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير فإنّما ذلك من بخل بهم لئلا ينال منك أحد خيراً. فأسألك بحقّي عليك لا يكن مدخلك ومخرجك إلاّ من الباب الكبير. وإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة ثم لا يسألك أحد إلاّ أعطيته ومن سألك من عمومتك أن تبرّه فلا تعطه أقلّ من خمسين ديناراً والكثير إليك ومن سألك من عمّاتك فلا تعطها أقل من خمس وعشرين ديناراً والكثير إليك إنّي أريد أن يرفعك الله فأنفق ولا تخشّ من ذي العرش افتقاراً(25).

 

(5)

السلوك القدوة

التربية الهادفة والصارمة

لم يقتصر الإمام الرضا على أسلوبه وبيانه في التربية بل تعدّاه إلى مراقبة دقيقة وسيطرة كاملة على المنهاج الحياتي ليعرف عن كثب أهمية التربية في نظر هؤلاء العظام وإليك بعض النماذج من حياته (عليه السلام):

فعن ياسر الخادم قال: أكل الغلمان يوماً فاكهة فلم يستقصوا أكلها ورموا بها فقال لهم أبو الحسن (عليه السلام) سبحان الله إن كنتم استغنيتم فإنّ أناساً لم يستغنوا أطعموا من يحتاج إليه!.

وبما أن الأوضاع الماديّة يومها كانت لا تسمح بترك الفاكهة إلى وقت آخر أي لم يكن هناك ثلاجة تحفظها والحرّ في الجزيرة العربية يفسدها وبالأخص إذا وصلت إلى درجة كبيرة من النضوج والغلمان لقصورهم لم يفكّروا فيما إذا بقي منها شيء إلاّ أن يرموه للحيوانات والبهائم كبقية الفضلات. غير أنّ الإمام نبههم إلى شيء مهم وهو أنّهم إذا استغنوا لأنّهم في بيت الإمام فليس معناه أن كل الناس أصبحت مثلهم فكم من فقير لا يستطيع شراء الفاكهة فلو أخذوا ما بقي من الفاكهة وأعطوه للفقراء والمعوزين لكان أفضل وأحسن.

وبهذا ينفي في كلامه البطر الحاصل عند الناس الذين لا يفكّرون في أحد من الفقراء والمساكين.

وعن سليمان بن جعفر الجعفري قال: كنت مع الرضا (عليه السلام) في بعض الحاجة فأردت أن أنصرف إلى منزلي. فقال لي: انصرف معي فبت عندي الليلة.

فانطلقت معه فدخل إلى داره مع المغيب، فنظر إلى غلمانه يعملون في الطين المعالف أو رأى الدواب أو غير ذلك وإذا معهم أسود ليس منهم.

فقال: ما هذا الرجل معكم؟

قالوا: يعاوننا ونعطيه شيئاً.

قال: قاطعتموه على أجرته؟

قالوا: لا هو يرضى منّا بما نعطيه.

فأقبل عليهم يضربهم بالسوط وغضب لذلك غضباً شديداً.

فقلت: جعلت فداك.. لم تدخل على نفسك؟

فقال: إنّي قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرّة أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه أجرته.

واعلم أن ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة ثم زدته لهذا الشيء ثلاثة أضعاف على أجرته إلاّ ظنّ أنك قد نقصته أجرته وإذا قاطعته ثم أعطيته أجرته حمدك على الوفاء فإن زدته حبّة عرف ذلك لك ورأى أنّك قد زدته(26).

وفي هذا يبين الإمام (عليه السلام) عن أهمية العقد والالتزام به حتى لا يخلق عقداً اجتماعية فلو أنّه لم يشترط معك وعمل لك وكان ذوقه يختلف عن ذوقك في التقدير سوف يطلب منك أكثر ممّا تطلب منه، عندئذٍ يقع النزاع بين الاثنين ويحصل شيئاً لم يكن متوقعاً بينما إذا اشترط على الفصل كمّاً وكيفاً أول الأمر فلا يحصل في النهاية به أي نزاع.

وعن البيزنطي قال: بعث الرضا (عليه السلام) بحمار له فجئت إلى (صريا) فمكثت عامة الليل معه فأتيت بعشاء ثم قال: افرشوا له.. ثم أتيت بوسادة طبرية ومرادع وكساء وملحفة مروي فلما أصبت من العشاء قال لي: أتريد أن تنام؟

قلت: بلى جعلت فداك.. فطرح عليّ الملحفة والكساء ثم قال:

بيتك الله في عافية. وكنّا على سطح.

فلما نزل من عندي قلت في نفسي: قد نلت من هذا الرجل كرامة ما نالها أحد قط، فإذا هاتف يهتف بي يا أحمد ولم أعرف الصوت حتى جاءني مولى له.

فقال: أجب مولاي.. فنزلت وهو مقبل إليّ.

فقال: كفّك. فناولته كفي فعصرها.

ثم قال: إنّ أمير المؤمنين صلى الله عليه أتى صعصعة بن صوحان عائداً له فلما أراد أن يقوم من عنده قال:

يا صعصعة بن صوحان.. لا تفتخر بعيادتي إيّاك وانظر لنفسك فكأن الأمر قد وصل إليك ولا يلهينّك الأمل استودعك الله وأقرأ عليك السلام كثيراً.

ففي هذا الحديث بيّن الإمام (عليه السلام) أن زيارة القائد لأحد رعيته لا يعني أن يزهو ويفخر على الناس فيها ويعتقد بأنّه من خيرة الناس بل يجب عليه أن يعمل وينظر لنفسه ويحاسبها ويهتم بشؤونها ويقيّم واقعها بعيداً عن المؤثرات الخارجية.

 

1 ـ عيون أخبار الرضا ج 1 ص 59.

2 - عيون أخبار الرضا ج 1 ص 64.

3 - نفس المصدر السابق.

4 - نقلاً عن كتاب حياة الأئمة للسيد هاشم معروف ج 2 ص 366.

5 - نفس المصدر السابق.

6 - كل ما ذكرنا من الروايات الخاصة مصدرها تاريخ الأئمة الاثني عشر للسيد هاشم معروف الحسيني ج2 في فصل النص علي إمامته.

7 - الكافي ج 1 ص 487.

8 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 184.

9 - الكافي.

10 - عيون أخبار الرضا ج 2 ص 226.

11 - عيون أخبار الرضا ج 2 ص 226.

12 - عيون أخبار الرضا ج 2 ص 226. 

13 - الإمام الرضا محمد جواد فضل ص 46.

14 - عيون أخبار الرضا ج 2 ص 237.

15 - كشف الغمة ج 3 ص 103.

16 - الكافي ج 6 ص 516.

17 - عيون أخبار الرضا ج 2 ص 178.

18 - الكافي ج 1 ص 316 - 319.

19 - الإمام الرضا محمد جواد فضل الله ص 52.

20 - كشف الغمة ج 3 ص 143.

21 - الكافي ح 3 ص 502.

22 ـ المناقب ح 2 ص 361.

23 - نفس المصدر ص 360.

24 - عيون أخبار الرضا ج 2 ص 264. 

25 - نفس المصدر ص 8.

26 - الكافي ج 5 ص 288.