في مجلس المأمون(1)
لمّا قدم عليّ بن موسى الرضا (عليه السّلام) إلى المأمون أمر
الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤساء
الصابئين، والهربذ الأكبر، وأصحاب زردهشت، وقسطاس الرومي والمتكلّمين ليسمع كلامه
وكلامهم. فجمعهم الفضل بن سهل ثم أعلم المأمون باجتماعهم: فقال: أدخلهم عليّ، ففعل،
فرحّب بهم المأمون، ثم قال لهم: إنّي انّما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن
عمّي هذا المدنيّ القادم عليّ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليّ ولا يختلّف منكم أحد.
فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكرون إن شاء الله. قال الحسن بن
محمّد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) إذ دخل
علينا ياسر الخادم - وكان يتولّى أمر أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) - فقال: يا
سيّدي أنّ أمير المؤمنين يقرؤك السلام فيقول: فداك أخوك، انّه اجتمع إليّ أصحاب
المقالات وأهل الأديان والمتكلّمون من جميع الملل فرأيك في البكور علينا إن أحببت
كلامهم، وإن كرهت كلامهم فلا تتجشّم، وإن أحببت أن نصير إليك خفّ ذلك علينا. فقال
أبو الحسن (عليه السّلام):
أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك بكرة إن
شاء الله.
قال الحسن بن محمّد النوفلي: فلمّا مضى ياسر، التفت إلينا ثمّ
قال لي: يا نوفلي أنت عراقيّ ورقّة العراقي غير غليظة، فما عندك في جمع ابن عمّك
علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟
فقلت: جعلت فداك يريد الإمتحان ويحبّ أن يعرف ما عندك، ولقد بنى
على أساس غير وثيق البنيان، وبئس والله ما بنى.
فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟
قلت: انّ أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء، وذلك أنّ العالم ﻻ
ينكر غير المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلّمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، وإن
احتججت عليهم أنّ الله واحد، قالوا: صحّح وحدانيّته، وإن قلت: انّ محمّداً (صلى
الله عليه وآله) رسول الله، قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم
بحجّته ويغالطونه حتّى يترك قوله، فاحذرهم جعلت فداك.
قال: فتبسّم (عليه السّلام) ثم قال: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا
عليّ حجّتي؟!
قلت: ﻻ والله ما خفت عليك قط، وانّي لارجو أن يظفرك الله بهم إن
شاء الله.
فقال لي: يا نوفليّ أتحبّ أن تعلم متى يندم المأمون؟
قلت: نعم.
قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل
الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى
الهرابذة بفارسيّتهم، وعلى أهل الروم بروميّتهم، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا
قطعت كلّ صنف ودحضت حجّته وترك مقالته ورجع إلى قولي علم المأمون أنّ الموضع الّذي
هو بسبيله ليس هو بمستحقّ له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوّة إلاّ
بالله العليّ العظيم.
فلمّا أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ابن عمّك
ينتظرك وقد اجتمع القوم فما رأيت في إتيانه؟
فقال له الرضا (عليه السّلام): تقدمني فإنّي صائر إلى ناحيتكم
إن شاء الله، ثم توضّأ (عليه السّلام) وضوء الصلاة، وشرب شربة سويق وسقانا منه، ثم
خرج وخرجنا معه حتّى دخلنا على المأمون، فإذا المجلس غاصّ بأهله، ومحمّد بن جعفر في
جماعة الطالبيّين والهاشميّين والقوّاد حضور.
فلمّا دخل الرضا (عليه السّلام) قام المأمون وقام محمّد بن جعفر
وقام جميع بني هاشم، فما زالوا وقوفاً والرضا (عليه السّلام) جالس مع المأمون حتّى
أمرهم بالجلوس، فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدثّه ساعة.
ثم التفت إلى جاثليق فقال: يا جاثليق هذا ابن عمّي عليّ بن موسى
بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبيّنا، وابن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهما
فأحبّ أن تكلّمه وتحاجّه وتنصفه.
فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف احاجّ رجلاً يحتجّ عليّ
بكتاب أنا منكره، ونبيّ ﻻ اومن به؟
فقال له الرضا (عليه السّلام): يا نصرانيّ فإن احتججت عليك
بإنجيلك أتقرّبه؟
قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل؟ نعم والله
أقرّبه على رغم أنفي.
فقال له الرضا (عليه السّلام): سل عمّا بدا لك وافهم الجواب.
قال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسى (عليه السّلام) وكتابه؟ هل
تنكر منهما شيئاً؟
قال الرضا (عليه السّلام): أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما
بشّر به امّته وأقرّبه الحواريّون وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد (صلى
الله عليه وآله) وبكتابه ولم يبشّر به امّته.
قال الجاثليق: أليس انّما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟
قال: بلى.
قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمّد ممّن ﻻ
تنكره النصرانيّة، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.
قال الرضا (عليه السّلام): الآن جئت بالنصفة يا نصراني، ألا
تقبل منّي العدل المقدّم عند المسيح عيسى بن مريم؟
قال الجاثليق: ومن هذا العدل؟ سمّه لي.
قال: ما تقول في يوحنّا الديلمي؟
قال: بخ بخ، ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح.
قال (عليه السّلام): فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أنّ يوحنّا
قال: انّ المسيح أخبرني بدين محمّد العربي، وبشّرني به أنّه يكون من بعده فبشّرت به
الحواريّين فآمنوا به؟
قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنّا عن المسيح وبشّر بنبوّة رجل
وبأهل بيته ووصيّه ولم يلخّص متى يكون ذلك، ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.
قال الرضا (عليه السّلام): فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا
عليك ذكر محمّد وأهل بيته وامّته أتؤمن به؟
قال: سديداً.
قال الرضا (عليه السّلام) لقسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث
من الإنجيل؟
قال: ما أحفظني له!
ثمّ التفت إلى رأس الجالوت فقال له: ألست تقرأ الإنجيل؟
قال: بلى لعمري.
قال: فخذ على السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته
وامّته سلام الله عليهم فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي.
ثم قرأ(عليه السّلام) السفر الثالث حتّى إذا بلغ ذكر النبيّ
(صلى الله عليه وآله) وقف.
ثمّ قال: يا نصراني انّي أسألك بحقّ المسيح وامّه أتعلم أنّي
عالم بالإنجيل؟
قال: نعم.
ثمّ تلا علينا ذكر محمّد وأهل بيته وامّته، ثم قال: ما تقول يا
نصراني؟ هذا قول عيسى بن مريم، فإن كذّبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذّبت موسى وعيسى
(عليه السّلام)، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل، لأنّك تكون قد كفرت بربّك
وبنبيّك وبكتابك.
قال الجاثليق: ﻻ أنكر ما قد بان لي في الإنجيل، وانّي لمقرّبه.
قال الرضا (عليه السّلام): اشهدوا على إقراره.
ثم قال: يا جاثليق سل عمّا بدا لك.
قال الجاثليق: أخبرني عن حواريّ عيسى بن مريم كم كان عدّتهم؟
وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟
قال الرضا (عليه السّلام): على الخبير سقطت، أمّا الحواريّين
فكانوا اثنى عشر رجلاً، وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا، وأمّا علماء النصارى فكانوا
ثلاثة رجال: يوحنّا الأكبر بأجّ ويوحنّا بقرقيسيا ويوحنّا الديلمي بزجان، وعنده كان
ذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وذكر أهل بيته وامّته، وهو الّذي بشّر امّة عيسى
وبني إسرائيل به.
ثم قال (عليه السّلام): يانصراني والله انّا لنؤمن بعيسى الّذي
آمن بمحمّد (صلى الله عليه وآله) وما ننقم على عيساكم شيئاً إلاّ ضعفه وقلّة صيامه
وصلاته.
قال الجاثليق: أفسدت والله علمك، وضعّفت أمرك، وما كنت ظننت
إلاّ أنّك أعلم أهل الإسلام.
قال الرضا (عليه السّلام): وكيف ذلك؟
قال الجاثليق: من قولك: انّ عيساكم كان ضعيفاً قليل الصيام،
قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوماً قطّ، ولا نام بليل قطّ، وما زال صائم الدهر، قائم
اللّيل.
قال الرضا (عليه السّلام): فلمن كان يصوم ويصلّي؟
قال: فخرس الجاثليق وانقطع.
قال الرضا (عليه السّلام): يا نصرانيّ انّي أسألك عن مسألة.
قال: سل فإن كان عندي علمها أجبتك.
قال الرضا (عليه السّلام): ما أنكرت أنّ عيسى كان يحيي الموتى
بإذن الله عزّ وجلّ؟
قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل أنّ من أحيا الموتى وأبرأ
الأكمه والأبرص فهو ربّ مستحقّ لأن يعبد.
قال الرضا (عليه السّلام): فإنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى:
مشى على الماء وأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص فلم يتّخذه امّته ربّاً، ولم
يعبده أحد من دون الله عزّ وجلّ، ولقد صنع حزقيل النبيّ (عليه السّلام) مثل ما صنع
عيسى بن مريم (عليه السّلام) فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستّين سنة.
ثمّ التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت اتجد هؤلاء
في شباب بني إسرائيل في التوراة؟ اختارهم بخت نصّر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت
المقدس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله تعالى عزّ وجل إليهم فأحياهم، هذا في
التوراة ﻻ يدفعه إلاّ كافر منكم.
قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه.
قال: صدقت.
ثمّ قال (عليه السّلام): يا يهوديّ خذ على هذا السفر من
التوراة، فتلا (عليه السّلام) علينا من التوراة آيات، فأقبل اليهوديّ يترجّح
لقراءته ويتعجّب.
ثمّ أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى
أم عيسى كان قبلهم؟
قال: بل كانوا قبله.
قال الرضا (عليه السّلام): لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله (صلى
الله عليه وآله) فسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجّه معهم عليّ بن أبي طالب (عليه
السّلام) فقال له: اذهب إلى الجبّانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم
بأعلى صوتك: يا فلان، ويا فلان، ويا فلان، يقول لكم محمّد رسول الله (صلى الله عليه
وآله): قوموا بإذن الله عزّ وجلّ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش
تسألهم عن امورهم، ثم أخبروهم أنّ محمّداً قد بعث نبيّاً وقالوا: وددنا انّا
أدركناه فنؤمن به، ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين، وكلّمه البهائم والطير
والجنّ والشياطين، ولم نتّخذه ربّاً من دون الله عزّ وجلّ، ولم ننكر لاحد من هؤلاء
فضلهم.
فمتى اتّخذتم عيسى ربّاً جاز لكم أن تتّخذوا اليسع وحزقيل
ربّاً، لأنّهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى وغيره، انّ قوماً من بني
إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم الوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة
واحدة، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتّى نخرت عظامهم
وصاروا رميماً، فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل فتعجّب منهم ومن كثرة العظام
البالية، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: أتحبّ أن احييهم لك فتنذرهم؟
قال: نعم يا ربّ.
فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: أن نادهم.
فقال: أيّتها العظام البالية قومي بإذن الله عزّ وجلّ، فقاموا
أحياء أجمعون، ينفضون التراب عن رؤوسهم، ثم إبراهيم (عليه السّلام) خليل الرحمن حين
أخذ الطيور وقطعنّ قطعاً، ثم وضع على كلّ جبل منهنّ جزءاً، ثم نادا هنّ فأقبلن
سعياً إليه، ثم موسى بن عمران وأصحابه والسبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل
فقالوا له: انّك قد رأيت الله سبحانه، فأرناه كما رأيته، فقال لهم: انّي لم أره،
فقالوا: لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم، وبقي
موسى وحيداً فقال: يا ربّ اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي
فكيف يصدّقني قومي بما أخبرهم به؟ فلو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي، أفتهلكنا بما فعل
السفهاء، منّا؟ فأحياهم الله عزّ وجلّ من بعد موتهم، وكلّ شيء ذكرته لك من هذا ﻻ
تقدر على دفعه، لأنّ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن كان كلّ من
أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتّخذ ربّاً من دون الله فاتّخذ هؤلاء
كلّهم أرباباً، ما تقول يا نصراني؟!
قال الجاثليق: القول قولك، ولا إله إلاّ الله.
ثمّ التفت (عليه السّلام) إلى رأس الجالوت فقال: يا يهوديّ أقبل
عليّ أسألك بالعشر الآيات الّتي انزلت على موسى بن عمران (عليه السّلام)، هل تجد في
التوراة مكتوباً نبأ محمّد وامّته:
(إذا جاءت الامّة الاخيرة أتباع راكب البعير يسبّحون الربّ
جدّاً جدًاً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد فليفرغ بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم
لتطمئنّ قلوبهم، فإنّ بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الامم الكافرة في أقطار
الأرض)).
هكذا هو في التوراة مكتوب؟
قال رأس الجالوت: نعم إنّا لنجده كذلك.
ثمّ قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟
قال: أعرفه حرفاً حرفاً.
قال الرضا (عليه السّلام) لهما: أتعرفان هذا من كلامه: (يا قوم
انّي رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء
القمر)؟
فقالا: قد قال ذلك شعيا.
قال الرضا (عليه السّلام): يا نصراني هل تعرف في الإنجيل قول
عيسى: (إنّي ذاهب إلى ربّي وربّكم والفار قليطا جاء، هو الّذي يشهد لي بالحقّ كما
شهدت له، وهو الذي يفسّر لكم كلّ شيء، وهو الذي يبدي فضائح الامم، وهو الذي يكسر
عمود الكفر)؟
فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئاً ممّا في الإنجيل إلا ونحن مقرّون
به.
قال: أتجد هذا في الإنجيل ثابتاً يا جاثليق؟
قال: نعم.
قال الرضا (عليه السّلام): يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل
الأوّل حين افتقدتموه عند من وجدتموه؟ ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟
قال له: ما افتقدنا إلإنجيل إلاّ يوماً واحداً حتّى وجدنا غضّاً
طريّاً فأخرجه إلينا يوحنّا ومتّى.
فقال له الرضا (عليه السّلام) ما أقلّ معرفتك بسرّ الإنجيل
وعلمائه؟ فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل؟ انّما وقع الإختلاف في هذا
الإنجيل الذي في أيديكم اليوم، فلو كان على العهد الأوّل لم تختلفوا فيه، ولكنّي
مفيدك علم ذلك، إعلم أنّه لما افتقد الإنجيل الأوّل اجتمعت النصارى إلى علمائهم
فقالوا لهم: قتل عيسى بن مريم (عليه السّلام)، وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما
عندكم؟
فقال لهم ألوقا ومرقابوس: انّ الإنجيل في صدورنا ونحن نخرجه
إليكم سفراً سفراً في كلّ أحد فلا تخزنوا عليه، ولا تخلّوا الكنائس، فإنّاسنتلوه
عليكم في كلّ أحد سفراً سفراً حتّى نجمعه لكم كلّه.
فقعد ألوقا ومرقابوس ويوحنّا ومتّى ووضعوا لهم هذا الإنجيل بعد
ما افتقدتم الإنجيل الأوّل، وانّما كان هؤلاء الأربعة تلاميذاً لتلاميذ الأولين،
أعلمت ذلك؟
قال الجاثليق: أمّا هذا فلم أعلمه، وقد علمته الآن، وقد بان لي
من فضل علمك بالإنجيل، وسمعت أشياء ممّا علمته شهد قلبي أنّها حقّ فاستزدت كثيراً
من الفهم.
فقال له الرضا (عليه السّلام): فكيف شهادة هؤلاء عندك؟
قال: جائزة، هؤلاء علماء الإنجيل، وكلّ ما شهدوا به فهو حقّ.
فقال الرضا (عليه السّلام) للمأمون ومن حضره من أهل بيته ومن
غيرهم: اشهدوا عليه.
قالوا: قد شهدنا.
ثم قال للجاثليق: بحقّ الابن وامّه هل تعلم أنّ متّى قال:
(انّ المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهودا
بن حضرون).
وقال مرقابوس في نسبة عيسى بن مريم:
(انّه كلمة الله أحلّها في جسد الآدمي فصارت إنساناً).
وقال ألوقا:
(انّ عيسى بن مريم وامّه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيهما
روح القدس).
ثمّ انّك تقول من شهادة عيسى على نفسه:
(حقّاً أقول لكم يا معشر الحواريّين: انّه ﻻ يصعد إلى السماء
إلاّ ما نزل منها إلاّ راكب البعير خاتم الأنبياء فإنّه يصعد إلى السماء وينزل) فما
تقول في هذا القول؟
قال الجاثليق: هذا قول عيسى ﻻ ننكره.
قال الرضا (عليه السّلام): فما تقولوا في شهادة ألوقا ومرقابوس
ومتى على عيسى وما نسبوه اليه؟
قال الجاثليق: كذبوا على عيسى.
قال الرضا (عليه السّلام): يا قوم أليس قد زكّاهم وشهد أنّهم
علماء الإنجيل وقولهم حقّ؟
فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين احبّ أن تعفيني من أمر هؤلاء.
قال الرضا (عليه السّلام) فإنّا قد فعلنا، سل يا نصراني عمّا
بدا لك.
قال الجاثليق: ليسألك غيري، فلا وحقّ المسيح ما ظننت أنّ في
علماء المسلمين مثلك.
فالتفت الرضا (عليه السّلام) إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني
أو أسألك؟
فقال: بل أسألك، ولست أقبل منك حجّة إلاّ من التوراة أو من
الإنجيل، أو من زبور داود، أو ممّا في صحف إبراهيم وموسى.
فقال الرضا (عليه السّلام): ﻻ تقبل منّي حجّة إلاّ بما تنطق به
التوراة على لسان موسى بن عمران، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم، والزبور على لسان
داود.
فقال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوّة محمّد؟
قال الرضا (عليه السّلام): شهد بنبوّته (صلى الله عليه وآله)
موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفة الله عزّ وجلّ في الأرض.
فقال له: اثبت قول موسى بن عمران.
قال الرضا (عليه السّلام): هل تعلم يا يهوديّ أنّ موسى أوصى بني
إسرائيل فقال لهم: انّه سيأتيكم نبيّ هو من إخوتكم، فبه فصدّقوا ومنه فاسمعوا، فهل
تعلم أنّ لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل، إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من
إسماعيل، والنسب الّذي بينهما من قبل إبراهيم (عليه السّلام)؟
فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى ﻻ ندفعه.
فقال له الرضا (عليه السّلام): هل جاءكم من اخوة بني إسرائيل
نبيّ غير محمّد (صلى الله عليه وآله)؟
قال: ﻻ.
قال الرضا (عليه السّلام): أو ليس قد صحّ هذا عندكم؟
قال: نعم، ولكنّي احبّ أن تصحّحه لي من التوراة.
فقال له الرضا (عليه السّلام): هل تنكر أنّ التوراة تقول لكم:
(جاء النور من جبل طور سيناء وأضاء لنا من جبل ساعير، واستعلن علينا من جبل فاران)؟
قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها.
قال الرضا (عليه السّلام): أنا أخبرك به، أمّا قوله: (جاء النور
من جبل طور سيناء) فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى (عليه السّلام)
على جبل طور سيناء.
وأمّا قوله: (وأضاء لنا من جبل ساعير) فهو الجبل الذي أوحى الله
عزّ وجلّ إلى عيسى بن مريم (عليه السّلام) وهو عليه.
وأمّا قوله: (واستعلن علينا من جبل فاران) فذاك جبل من جبال
مكّة بينه وبينها يوم.
وقال شعيا النبيّ (عليه السّلام) فيما تقول أنت وأصحابك في
التوراة: (رأيت راكبين أضاء لهما الأرض، أحدهما راكب على حمار، والآخر على جمل) فمن
راكب الحمار؟ ومن راكب الجمل؟
قال رأس الجالوت: ﻻ أعرفهما فخبّرني بهما.
قال (عليه السّلام): أمّا راكب الحمار فعيسى بن مريم، وأمّا
راكب الجمل فمحمّد (صلى الله عليه وآله)، أتنكر هذا من التوراة؟
قال: لا، ما أنكره
ثم قال الرضا (عليه السّلام): هل تعرف حيقون النبي؟
قال: نعم انّي به لعارف.
قال (عليه السّلام): فإنّه قال وكتابكم ينطق به: (جاء الله
بالبيان من جبل فاران، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وامّته، يحمل خيله في البحر
كما يحمل في البرّ، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس) يعني بالكتاب القرآن،
أتعرف هذا وتؤمن به؟
قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حيقون النبي ولا ننكر قوله.
قال الرضا (عليه السّلام): وقد قال داود في زبوره وأنت تقرأ:
(اللّهمّ ابعث مقيم السنّة بعد الفترة) فهل تعرف نبيّاً أقام السنّة بعد الفترة غير
محمّد (صلى الله عليه وآله)؟
قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره، ولكن عنى بذلك
عيسى، وأيّامه هي الفترة.
قال الرضا (عليه السّلام): جهلت، انّ عيسى لم يخالف السنّة، وقد
كان موافقاً لسنّة التوراة حتّى رفعه الله إليه، وفي الإنجيل مكتوب: انّ ابن البرّة
ذاهب والفار قليطا جاء من بعده، وهو الذي يخفّف الآصار، ويفسّر لكم كلّ شيء، ويشهد
لي كما شهدت له، أنا جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل، أتؤمن بهذا في الإنجيل؟
قال: نعم، ﻻ أنكره.
فقال له الرضا (عليه السّلام): يا رأس الجالوت أسألك عن نبيّك
موسى بن عمران.
فقال: سل.
قال (عليه السّلام): ما الحجّة على أنّ موسى ثبتت نبوّته؟
قال اليهودي: انّه جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله.
قال له: مثل ماذا؟
قال: مثل فلق البحر، وقلبه العصا حيّة تسعى، وضربه الحجر
فانفجرت منه العيون، وإخراجه يده بيضاء للناظرين، وعلامات ﻻ يقدر الخلق على مثلها.
قال له الرضا (عليه السّلام): صدقت إذا كانت حجّته على نبوّته
أنّه جاء بما ﻻ يقدر الخلق على مثله، أفليس كلّ من ادّعى أنّه نبيّ ثم جاء بما ﻻ
يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟
قال: ﻻ، لأنّ موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربّه، وقربه منه،
ولا يجب عليناالإقرار بنبوّة، من ادّعاها حتّى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به.
قال الرضا (عليه السّلام): فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا
قبل موسى (عليه السّلام) ولم يفلقوا البحر، ولم يفجّروا من الحجر اثنتي عشرة عيناً،
ولم يخرجوا أيديهم بيضاء مثل إخراج موسى يده بيضاء، ولم يقلّبوا العصا حيّة تسعى؟
قال له اليهودي: قد خبّرتك أنّه متى جاؤوا على دعوى نبوّتهم من
الآيات بما ﻻ يقدر الخلق على مثله ولو جاؤوا بما لم يجئ به موسى أو كان على غير ما
جاء به موسى وجب تصديقهم.
قال الرضا (عليه السّلام): يا رأس الجالوت فما يمنعك من الإقرار
بعيسى بن مريم وقد كان يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة
الطير ثمّ ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله؟
قال رأس الجالوت: يقال: انّه فعل ذلك، ولم نشهده.
قال له الرضا (عليه السّلام): أرأيت ما جاء به موسى من الآيات
شاهدته؟ أليس انّما جاء في الأخبار به من ثقات أصحاب موسى أنّه فعل ذلك؟
قال: بلى.
قال: فكذلك أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم، فكيف
صدّقتم بموسى ولم تصدّقوا بعيسى؟ فلم يحر جواباً.
قال الرضا (عليه السّلام): وكذلك أمر محمّد (صلى الله عليه
وآله) وما جاء، به، وأمر كلّ نبيّ بعثه الله، ومن آياته أنّه كان يتيماً فقيراً
راعياً أجيراً لم يتعلّم كتاباً ولم يختلف إلى معلّم ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص
الأنبياء وأخبارهم حرفاً حرفاً، وأخبار من مضى ومن بقى إلى يوم القيامة، ثم كان
يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، وجاء بآيات كثيرة ﻻ تحصى.
قال رأس الجالوت: لم يصحّ عندنا خبر عيسى ولا خبر محمّد، ولا
يجوز لنا أن نقرّلهما بما لم يصحّ.
قال الرضا (عليه السّلام): فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمّد صلّى
الله عليهما شاهد زور؟ فلم يحر جواباً.
ثم دعا (عليه السلام) بالهوبذ الأكبر، فقال له الرضا (عليه
السلام): أخبرني عن زرد هشت الذي تزعم أنّه نبيّ ما حجّتك على نبوّته؟
قال: انّه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ولم نشهده ولكنّ
الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنّه أحلّ لنا ما لم يحلّه غيره فاتّبعناه.
قال (عليه السّلام): أفليس انّما أتتكم الأخبار فاتّبعتموه؟
قال: بلى.
قال: فكذلك سائر الامم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به
النبيّون وأتى به موسى وعيسى ومحمّد صلوات الله عليهم، فما عذركم في ترك الإقرار
لهم؟ إذ كنتم انّما أقررتم بزردهشت من قبل الأخبار المتواترة بأنّه جاء بما لم يجئ
به غيره، فانقطع الهر بذ مكانه.
فقال الرضا (عليه السّلام): يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف
الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم.
فقام إليه عمران الصابئ وكان واحداً في المتكلّمين، فقال: يا
عالم الناس لو ﻻ أنّك دعوت إلى مسألتك لم اقدم عليكم بالمسائل، ولقد دخلت الكوفة
والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتكلّمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً ليس غيره
قائماً بوحدانيّته، أفتأذن لي أن أسألك؟
قال الرضا (عليه السّلام): إن كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت
هو.
فقال: أنا هو.
فقال (عليه السّلام): سل يا عمران وعليك بالنصفة، وإيّاك والخطل
والجور.
قال: والله يا سيّدي ما اريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلّق به
فلا أجوزه.
قال (عليه السّلام): سل عمّا بدا لك، فازدحم عليه الناس وانضمّ
بعضهم إلى بعض.
فقال عمران الصابئ: أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق.
قال (عليه السّلام): سألت فافهم، أمّا الواحد فلم يزل واحداً
كائناً ﻻ شيء معه بلا حدود ولا أعراض، ولا يزال كذلك، ثم خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً
بأعراض وحدود مختلفة، ﻻ في شيء أقامه ولا في شيء حدّه، ولا على شيء حذاه ولا مثّله
له، فجعل من بعد ذلك الخلق صفوة وغير صفوة، واختلافاً وائتلافا، وألواناً وذوقاً
وطعماً، ﻻ لحاجة كانت منه إلى ذلك، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به، ولا رأى
لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناًُ، تعقل هذا يا عمران؟
قال: نعم والله يا سيّدي.
قال (عليه السّلام): واعلم يا عمران انّه لوكان خلق ما خلق
لحاجة لم يخلق إلاّ من يستعين به على حاجته، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق،
لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران ﻻ يسعها لأنّه لم يحدث
من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة اخرى، ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة، ولكن
نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض، وفضّل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضّل،
ولا نقمة منه على من أذلّ فلهذا خلق.
قال عمران: يا سيّدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه؟
قال الرضا (عليه السّلام): انّما تكون المعلمة بالشيء لنفي
خلافه، وليكون الشيء نفسه بما نفى عنه موجوداً، ولم يكن هناك شيء يخالفه فتدعوه
الحاجة إلى نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد علم منها، أفهمت يا عمران؟
قال: نعم والله يا سيّدي، فأخبرني بأيّ شيء علم ما علم؟ أبضمير
أم بغير ذلك؟
قال الرضا (عليه السّلام): أرأيت إذا علم بضمير هل تجد بدّاً من
أن تجعل لذلك الضمير حدّاً ينتهي إليه المعرفة؟
قال عمران: لابدّ من ذلك.
قال الرضا (عليه السّلام): فما ذاك الضمير؟
فانقطع عمران ولم يحر جواباً.
قال الرضا (عليه السّلام): ﻻ باس إن سألتك عن الضمير نفسه
تعرّفه بضمير آخر؟!
فقال الرضا (عليه السّلام): أفسدت عليك قولك ودعواك، يا عمران
أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع؟
وليس يتوهّم منه مذاهب وتجزئه كمذاهب المخلوقين وتجزئتهم؟ فاعقل ذلك وابن عليه ما
علمت صواباً.
قال عمران: ياسيّدي ألا تخبرني عن حدود خلقه كيف هي؟ وما
معانيها؟ وعلى كم نوع يتكوّن؟
قال (عليه السّلام): قد سألت فافهم، انّ حدود خلقه على ستّة
أنواع: ملموس وموزون ومنظور إليه وما ﻻ وزن له وهو الروح، ومنها منظور إليه وليس له
وزن ولا لمس ولا حسّ ولا لون ولا ذوق والتقدير والأعراض والصور والطول والعرض،
ومنها العمل والحركات الّتي تصنع الأشياء وتعلمها وتغيّرها من حال إلى حال وتزيدها
وتنقصها، وأمّا الأعمال والحركات فإنّها تنطلق لأنّه ﻻ وقت لها أكثر من قدر ما
يحتاج إليه، فإذا فرغ من الشيء انطلق بالحركة وبقي الأثر، ويجري مجرى الكلام الذي
يذهب ويبقى أثره.
قال له عمران: يا سيّدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً ﻻ
شيء غيره ولا شيء معه أليس قد تغيّر بخلقه الخلق؟
قال الرضا (عليه السّلام): لم يتغيّر عزّ وجلّ بخلق الخلق،
ولكنّ الخلق يتغيّر بتغييره.
قال عمران: فبأيّ شيء عرفناه؟
قال (عليه السّلام): بغيره.
قال: فأيّ شيء غيره؟
قال الرضا (عليه السّلام): مشيّته واسمه وصفته وما أشبه ذلك،
وكلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر.
قال عمران: يا سيّدي فأيّ شيء هو؟
قال (عليه السّلام): هو نور بمعنى أنّه هاد لخلقه من أهل السماء
وأهل الأرض، وليس لك عليّ أكثر من توحيدي إيّاه.
قال عمران: يا سيّدي أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق ﻻ ينطق ثمّ
نطق؟
قال الرضا (عليه السّلام): ﻻ يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله،
والمثل في ذلك أنّه ﻻ يقال للسراج: هو ساكت ﻻ ينطق، ولا يقال: انّ السراج ليضيء
فيما يريد أن يفعل بنا، لأنّ الضوء من السراج ليس بفعل منه ولا كون، وانّما هو ليس
شيء غيره، فلمّا استضاء لنا قلنا: قد اضاء لنا حتّى استضأنا به، فبهذا تستبصر أمرك.
قال عمران: يا سيّدي فإنّ الذي كان عندي أنّ الكائن قد تغيّر في
فعله عن حاله بخلقه الخلق.
قال الرضا (عليه السّلام): أحلت يا عمران في قولك: انّ الكائن
يتغيّر في وجه من الوجوه حتّى يصيب الذات منه ما يغيّره، يا عمران هل تجد النار
يغيّرها تغيّر نفسها؟ أو هل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قطّ رأى
بصره؟
قال عمران: لم أر هذا، ألا تخبرني يا سيّدي أهو في الخلق، أم
الخلق فيه؟
قال الرضا (عليه السّلام): جلّ يا عمران عن ذلك، ليس هو في
الخلق ولا الخلق فيه، تعالى عن ذلك، وسأعلّمك ما تعرفه به ولا حول ولا قوّة إلاّ
بالله، أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه
فبأيّ شيء استدللت بها على نفسك؟
قال عمران: بضوء بيني وبينها.
فقال الرضا (عليه السّلام): هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر
ممّا تراه في عينك؟
قال: نعلم.
قال الرضا (عليه السّلام): فأرناه، فلم يحر جواباً.
قال الرضا (عليه السّلام): فلا أرى النور إلاّ وقد دلّك ودلّ
المرآة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا ﻻ يجد
الجاهل فيها مقالاً، ولله المثل الأعلى.
ثم التفت (عليه السّلام) إلى المأمون فقال: الصلاة قد حضرت.
فقال عمران: يا سيّدي ﻻ تقطع عليّ مسألتي فقد رقّ قلبي.
قال الرضا (عليه السّلام): نصلّي ونعود، فنهض ونهض المأمون
فصلّى الرضا (عليه السّلام) داخلاً، وصلّى الناس خارجاً خلف محمّد بن جعفر، ثم خرجا
فعاد الرضا (عليه السّلام) إلى مجلسه ودعا بعمران فقال: سل يا عمران.
قال: يا سيّدي ألا تخبرني عن الله عزّ وجلّ هل يوحّد بحقيقة أو
يوحّد بوصف؟
قال الرضا (عليه السّلام): انّ الله المبدئ الواحد الكائن
الأوّل، لم يزل واحداً ﻻ شيء معه، فرداً ﻻ ثاني معه، ﻻ معلوماً ولا مجهولاً، ولا
محكماً ولا متشابهاً، ولا مذكوراً ولا منسيّاً، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من
الأشياء غيره، ولا من وقت كان، ولا إلى وقت يكون، ولا بشيء قام، ولا إلى شيء يقوم،
ولا إلى شيء استند، ولا في شيء استكنّ، وذلك كلّه قبل الخلق إذ ﻻ شيء غيره، وما
أوقعت عليه من الكلّ فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم، واعلم أنّ الإبداع
والمشيّة والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة وكان أوّل إبداعه وإرادته ومشيّته
الحروف الّتي جعلها أصلاً لكلّ شيء، ودليلاً على كلّ مدرك، وفاصلاً لكلّ مشكل، وتلك
الحروف تفريق كلّ شيء من اسم حقّ وباطل، أو فعل أو مفعول، أو معنى أو غير معنى،
وعليها اجتمعت الامور كلّها، ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهى
ولا وجود لأنّها مبدعة بالإبداع، والنور في هذا الموضع أوّل فعل الله الذي هو نور
السماوات والأرض، والحروف هي المفعول بذلك الفعل، وهي الحروف التي عليها الكلام
والعبارات كلّها من الله عزّ وجلّ، علّمها خلقه وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً، فمنها
ثمانية وعشرون حرفاً تدلّ على لغات العربيّة، ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون
حرفاً تدلّ على اللغات السريانيّة والعبرانيّة، ومنها خمسة أحرف متحرّفة في سائر
اللّغات من العجم لأقاليم اللغات كلّها، وهي خمسة أحرف تحرّفت من الثمانية والعشرين
الحرف من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً.
فأمّا الخمسة المختلفة فبحجج ﻻ يجوز ذكرها أكثر ممّا ذكرناه، ثم
جعل الحروف بعد إحصائها وأحكام عدّتها فعلاً منه كقوله عزّ وجلّ: (كن فيكون)(2)
وكن منه صنع، وما يكون به المصنوع، فالخلق الأوّل من الله عزّ وجلّ الإبداع ﻻ وزن
له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حسّ، والخلق الثاني الحروف ﻻ وزن لها ولا لون وهي
مسموعة موصوفة غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلّها محسوساً
ملموساً ذا ذوق منظور إليه، والله تبارك وتعالى سابق للإبداع لأنّه ليس قبله عزّ
وجلّ شيء، ولا كان معه شيء، والإبداع سابق للحروف والحروف ﻻ تدلّ على غير أنفسها.
قال المأمون: وكيف ﻻ تدلّ على غير أنفسها؟
قال الرضا (عليه السّلام): لأنّ الله تبارك وتعالى ﻻ يجمع منها
شيئاً لغير معنى أبداً، فإذا ألّف منها أحرفاً أربعة أو خمسة أو ستّة أو أكثر من
ذلك أو أقلّ لم يؤلّفها لغير معنى، ولم يك إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً.
قال عمران: فكيف لنا بمعرفة ذلك؟
قال الرضا (عليه السّلام): أمّا المعرفة فوجه ذلك وبابه أنّك
تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتها فرداً فقلت: ا ب ت ث ج ح خ حتّى تأتي
على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، فإذا ألّفتها وجمعت منها أحرفاً وجعلتها
إسماً وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت كانت دليلة على معانيها، داعية إلى الموصوف
بها، أفهمته؟
قال: نعم.
قال الرضا (عليه السّلام): واعلم أنّه ﻻ يكون صفة لغير موصوف،
ولا إسم لغير معنى، ولا حدّ لغير محدود، والصفات والأسماء كلّها تدلّ على الكمال
والوجود، ولا تدلّ على الإحاطة، كما تدلّ على الحدود الّتي هي التربيع والتثليث
والتسديس، لأنّ الله عزّ وجلّ وتقدّس تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك
بالتحديد بالطول والعرض والقلّة والكثرة واللّون والوزن وما أشبه ذلك، وليس يحلّ
بالله جلّ وتقدّس شيء من ذلك حتّى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا،
ولكن يدلّ على الله عزّ وجلّ بصفاته، ويدرك بأسمائه، ويستدلّ عليه بخلقه حتّى ﻻ
يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين ولا استماع اذن ولا لمس كفّ ولا إحاطة
بقلب، فلو كانت صفاته جلّ ثناؤه ﻻ تدلّ عليه وأسماؤه ﻻ تدعو إليه والمعلمة من الخلق
ﻻ تدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلولا أنّ ذلك
كذلك لكان المعبود الموحّد غير الله تعالى، لأنّ صفاته واسماءه غيره، أفهمت؟
قال: نعم يا سيّدي زدني.
قال الرضا (عليه السّلام): إيّاك وقول الجهّال أهل العمى
والضلال الّذين يزعمون أنّ الله جلّ وتقدّس موجود في الآخرة للحساب والثواب
والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء، ولو كان في الوجود لله عزّ وجلّ
نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً.
ولكنّ القوم تاهوا وعموا وصمّوا عن الحقّ من حيث ﻻ يعلمون، وذلك
قوله عزّ وجلّ: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً)(3)
يعني أعمى عن الحقائق الموجودة، وقد علم ذووا الألباب أنّ الإستدلال على ما هناك ﻻ
يكون إلاّ بما ههنا، ومن أخذ علم ذلك برايه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها
لم يزدد من علم ذلك إلاّ بعداً، لأنّ الله عزّ وجلّ جعل علم ذلك خاصّة عند قوم
يعقلون ويعلمون ويفهمون.
قال عمران: يا سيّدي ألا تخبرني عن الإبداع خلق هو أم غير خلق؟
قال له الرضا (عليه السّلام): بل خلق ساكن ﻻ يدرك بالسكون،
وانّما صار خلقاً لأنّه شيء محدث، والله الذي أحدثه فصار خلقاً له، وانّما هو الله
عزّ وجلّ وخلقه ﻻ ثالث بينهما، ولا ثالث غيرهما، فما خلق الله عزّ وجلّ لم يعد أن
يكون خلقه، وقد يكون الخلق ساكناً ومتحرّكاً ومختلفاً ومؤتلفاً ومعلوماً ومتشابهاً،
وكلّ ما وقع عليه حدّ فهو خلق الله عزّ وجل، واعلم أنّ كلّ ما أوجدتك الحواسّ فهو
معنى مدرك للحواسّ، وكلّ حاسّة تدلّ على ما جعل الله عزّ وجلّ لها في إدراكها،
والفهم من القلب بجميع ذلك كلّه.
واعلم أنّ الواحد الّذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقاً
مقدّراً بتحديد وتقدير، وكان الّذي خلق خلقين اثنين: التقدير والمقدّر، فليس في كلّ
واحد منهما لون ولا وزن ولا ذوق فجعل أحدهما يدرك بالآخر، وجعلهما مدركين بنفسهما،
ولم يخلق شيئاً فرداً قائماً بنفسه دون غيره للّذي أراد من الدلالة على نفسه وإثبات
وجوده، والله تبارك وتعالى فرد واحد ﻻ ثاني معه يقيمه ولا يعضده ولا يمسكه، والخلق
يمسك بعضه بعضاً بإذن الله ومشيّته، وانّما اختلف الناس في هذا الباب حتّى تاهوا
وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم الله صفة أنفسهم فازدادوا من
الحقّ بعداً، ولو وصفوا الله عزّ وجلّ بصفاته ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا
بالفهم واليقين ولما اختلفوا، فلمّا طلبوا من ذلك ما تحيّروا فيه ارتكبوا والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال عمران: يا سيّدي أشهد أنّه كما وصفت، ولكن بقيت لي مسألة.
قال: سل عمّا أردت.
قال: أسالك عن الحكيم في أيّ شيء هو؟ وهل يحيط به شيء؟ وهل
يتحوّل من شيء إلى شيء، أو به حاجة إلى شيء؟
قال الرضا (عليه السّلام): اخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه
فإنّه من أغمض ما يرد على المخلوقين في مسائلهم، وليس يفهمه المتفاوت عقله العازب
علمه، ولا يعجز عن فهمه اولوا العقل المنصفون، أمّا أوّل ذلك فهو كان خلق ما خلق
لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحوّل إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك، ولكنّه عزّ وجلّ
لم يخلق شيئاً لحاجته، ولم يزل ثابتاً ﻻ في شيء ولا على شيء إلاّ أنّ الخلق يمسك
بعضه بعضاً، ويدخل بعضه في بعض، ويخرج منه، والله عز وجل وتقدّس بقدرته يمسك ذلك
كله، وليس يدخل في شيء ولا يخرج منه، ولا يؤوده حفظه، ولا يعجز عن إمساكه، ولا يعرف
أحد من الخلق كيف ذلك إلاّ الله عزّ وجلّ، ومن أطلعه عليه من رسله، وأهل سرّه
والمستحفظين لأمره، وخزّانه القائمين بشريعته، وانّما أمره كلمح بالبصر أو هو أقرب،
إذا شاء شيئاً فإنّما يقول له: كن، فيكون بمشيّته وإرادته، وليس شيء من خلقه أقرب
إليه من شيء، ولا شيء منه هو أبعد منه من شيء أفهم أفهمت يا عمران؟
قال: نعم يا سيّدي قد فهمت، وأشهد أنّ الله على ما وصفته
ووحّدته وأنّ محمّداً عبده المبعوث بالهدى ودين الحقّ ثمّ خرّ ساجداً نحو القبلة
وأسلم.
قال الحسن بن محمّد النوفلي: فلمّا نظر المتكلّمون إلى كلام
عمران الصابئ وكان جدلاً لم يقطعه عن حجّته أحد قطّ لم يدن من الرضا (عليه السّلام)
أحد منهم، ولم يسألوه عن شيء، وأمسينا، فنهض المأمون والرضا (عليه السّلام) فدخلا
وانصرف الناس، وكنت مع جماعة من أصحابنا إذ بعث إليّ محمّد بن جعفر فأتيته فقال لي:
يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك، ﻻ والله ما ظننت أنّ عليّ بن موسى (عليه
السّلام) خاض في شيء من هذا قطّ ولا عرفناه به، انّه كان يتكلّم بالمدينة أو يجتمع
إليه أصحاب الكلام؟
قلت: قد كان الحاجّ يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم
فيجيبهم، وكلّمه من يأتيه لحاجة.
فقال محمّد بن جعفر: يا ابا محمّد انّي أخاف عليه أن يحسده هذا
الرجل فيسمّه أو يفعل به بليّة فأشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء.
قلت: إذا ﻻ يقبل منّ، وما أراد الرجل إلاّ امتحانه ليعلم هل
عنده شيء من علوم آبائه (عليهم السلام).
فقال لي: قل له: انّ عمّك قد كره هذا الباب وأحبّ أن تمسك عن
هذه الأشياء لخصال شتّى.
فلمّا انقلبت إلى منزل الرضا (عليه السّلام) أخبرته بما كان من
عمّه محمّد بن جعفر، فتبسّم ثم قال: حفظ الله عمّي ما أعرفني به، لم كره ذلك؟ يا
غلام صر إلى عمران الصابئ فأتني به.
فقلت: جعلت فداك أنا أعرف موضعه هو عند بعض إخواننا من الشيعة.
قال (عليه السّلام): فلا بأس قرّبوا إليه دابّة، فصرت إلى عمران
فأتيته به فرحّب به ودعا بكسوة فخلعها عليه وحمله ودعا بعشرة آلاف درهم فوصله بها.
فقلت: جعلت فداك حكيت فعل جدّك أمير المؤمنين (عليه السّلام).
فقال: هكذا نحبّ، ثمّ دعا (عليه السّلام) بالعشاء فأجلسني عن
يمينه، وأجلس عمران عن يساره حتّى إذا فرغنا قال لعمران: انصرف مصاحباً، وبكّر
علينا نطعمك طعام المدينة.
فكان عمران بعد ذلك يجتمع عليه المتكلّمون من أصحاب المقالات
فيبطل أمرهم حتّى اجتنبوه، ووصله المأمون بعشرة آلاف درهم، وأعطاه الفضل مالاً
وحمله، وولاّه الرضا (عليه السّلام) صدقات بلخ فأصاب الرغائب.
مع المروزي(4)
قدم سليمان المروزي متكلّم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله،
ثمّ قال له: انّ ابن عمّي عليّ بن موسى قدم عليّ من الحجاز وهو يحبّ الكلام
وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته؟ فقال سليمان: يا أمير
المؤمنين انّي أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم فينتقص عند القوم
إذا كلّمني ولا يجوز الإستقصاء عليه! قال المأمون: انّما وجّهت إليك لمعرفتي
بقوّتك، وليس مرادي إلاّ أن تقطعه عن حجّة واحدة فقط. فقال سليمان حسبك يا أمير
المؤمنين، اجمع بيني وبينه وخلّني وإيّاه وألزم. فوجّه المأمون إلى الرضا (عليه
السّلام) فقال: انّه قدم علينا رجل من أهل مرو وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام،
فإن خفّ عليك أن تتجشّم المصير إلينا فعلت. فنهض (عليه السّلام) للوضوء وقال لنا:
تقدّموني، وعمران الصابئ معنا فصرنا إلى الباب فأخذ ياسر وخالد
بيدي فأدخلاني على المأمون. فلمّا سلّمت قال: أين أخي أبو الحسن أبقاه الله؟
قلت: خلّفته يلبس ثيابه، وأمرنا أن نتقدّم، ثمّ قلت: يا أمير
المؤمنين انّ عمران مولاك معي وهو بالباب.
فقال: من عمران؟
قلت: الصابئ الّذي أسلم على يديك.
قال: فليدخل فدخل فرحّب به المأمون، ثمّ قال له: يا عمران لم
تمت حتّى صرت من بني هاشم.
قال: الحمد لله الذي شرّفني بكم يا أمير المؤمنين.
فقال له المأمون: يا عمران هذا سليمان المروزي متكلّم خراسان.
قال عمران: يا أمير المؤمنين انه يزعم أنّه واحد خراسان في
النظر وينكر البداء!
قال: فلم ﻻ تناظره؟
قال عمران: ذلك إليه.
فدخل الرضا (عليه السّلام) فقال: في أيّ شيء كنتم؟
قال عمران: يابن رسول الله هذا سليمان المروزيّ، فقال سليمان:
أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه؟ قال عمران: قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن
يأتيني فيه بححّة أحتجّ بها على نظرائي من أهل النظر.
قال المأمون: يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه؟ قال:
وما أنكرت من البداء يا سليمان؟ والله عزّ وجلّ يقول: (أولا
يذكر الإنسان أنّا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً)(5).
ويقول عزّ وجلّ: (وهو الّذي يبدؤا الخلق ثمّ يعيده)(6).
ويقول: (بديع السماوات والأرض)(7).
ويقول عزّ وجلّ: (يزيد في الخلق ما يشاء)(8).
ويقول: (وبدأ خلق الإنسان من طين)(9).
ويقول عزّ وجلّ: (وآخرون مرجون لأمر الله إلاّ إمّا يعذّبهم
وإمّا يتوب عليهم)(10).
ويقول عزّ وجلّ: (وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلاّ في
كتاب)(11).
قال سليمان: هل رويت فيه شيئاً عن آبائك؟
قال: نعم رويت عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنّه قال: انّ
لله عزّ وجلّ علمين: علماً مخزوناً مكنوناً ﻻ يعلمه إلاّ هو، من ذلك يكون البداء،
وعلماً علّمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيّه يعلمونه.
قال سليمان: احبّ أن تنزعه لي من كتاب الله عزّ وجلّ.
قال (عليه السّلام): قول الله تعالى لنبيّه (صلى الله عليه
وآله): (فتولّ عنهم فما أنت بملوم) أراد هلاكهم ثم بدا لله تعالى فقال: (وذكّر فإنّ
الذكرى تنفع المؤمنين)(12).
قال سليمان: زدني جعلت فداك.
قال الرضا (عليه السّلام): لقد أخبرني أبي، عن آبائه (عليهم
السلام) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: انّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّ
من أنبيائه: أن أخبر فلان الملك أنّي متوفّيه إلى كذا وكذا، فأتاه ذلك النبيّ
فأخبره فدعا الله الملك وهو على سريره حتّى سقط من السرير.
فقال: يا ربّ أجّلني حتّى يشبّ طفلي وأقضي أمري.
فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلك النبيّ: أن ائت فلان الملك فأعلمه
أنّي قد أنسيت في أجله، وزدت في عمره خمس عشرة سنة.
فقال ذلك النبي: يا ربّ انّك لتعلم أنّي لم أكذب قطّ.
فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: انّما أنت عبد مأمور، فأبلغه ذلك
والله ﻻ يسأل عمّا يفعل.
ثمّ التفت إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب؟
قال: أعوذ بالله من ذلك، وما قالت اليهود؟
قال: قالت: (يد الله مغلولة)(13)
يعنون أنّ الله تعالى قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئاً، فقال الله عزّ وجلّ: (غلّت
أيديهم ولعنوا بما قالوا)(14)
ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن البداء فقال: وما ينكر
الناس من البداء، وأن يقف الله قوماً يرجيهم لأمره؟
قال سليمان: ألا تخبرني عن (إنّا أنزلنا في ليلة القدر)(15)
في أيّ شيء انزلت؟
قال الرضا (عليه السّلام): يا سليمان ليلة القدر يقدّر الله عزّ
وجلّ فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شرّ أو رزق، فما
قدّره من تلك الليلة فهو من المحتوم.
قال سليمان: الآن قد فهمت جعلت فداك فزدني.
قال (عليه السّلام): يا سليمان انّ من الامور اموراً موقوفة عند
الله تبارك وتعالى يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ما يشاء، يا سليمان انّ عليّاً (عليه
السّلام) كان يقول: العلم علمان: فعلم علّمه الله ملائكته ورسله فما علّمه ملائكته
ورسله فإنّه يكون ولا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطّلع
عليه أحداً من خلقه، يقدّم منه ما يشاء، ويؤخّر منه ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت
ما يشاء.
قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين ﻻ أنكر بعد يومي هذا
البداء ولا اكذّب به إن شاء الله.
فقال المأمون: يا سليمان سل أبا الحسن عمّا بدا لك وعليك بحسن
الإستماع والإنصاف.
قال سليمان: يا سيّدي أسألك؟
قال الرضا (عليه السّلام): سل عمّا بدا لك.
قال: ما تقول فيمن جعل الإرادة إسماً وصفة مثل حيّ وسميع وبصير
وقدير؟
قال الرضا (عليه السّلام): انّما قلتم حدثت الأشياء واختلفت
لأنّه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت واختلفت لأنّه سميع بصير، فهذا دليل على أنّها
ليست بمثل سميع ولا بصير ولا قدير.
قال سليمان: فإنّه لم يزل مريداً؟
قال: يا سليمان فإرادته غيره؟
قال: نعم.
قال: فقد أثبتّ معه شيئاً غيره لم يزل!
قال سليمان: ما أثبتّ؟
قال الرضا (عليه السّلام): أهي محدثة؟
قال سليمان: ﻻ ماهي محدثة.
فصاح به المأمون وقال: يا سليمان مثله يعايا أو يكابر؟! عليك
بالإنصاف، أما ترى من حولك من أهل النظر؟
ثمّ قال: كلّمه يا أبا الحسن فإنّه متكلّم خراسان، فأعاد عليه
المسألة فقال: هي محدثة يا سليمان، فإنّ الشيء إذا لم يكن أزليّاً كان محدثاً، وإذا
لم يكن محدثاً كان أزليّاً.
قال سليمان: إرادته منه كما أنّ سمعه منه وبصره منه وعلمه منه.
قال الرضا (عليه السّلام): فإرادته نفسه؟
قال: ﻻ.
قال (عليه السّلام): فليس المريد مثل السميع والبصير.
قال سليمان: إنما أراد نفسه كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه.
قال الرضا (عليه السّلام): ما معنى أراد نفسه؟ أراد أن يكون
شيئاً؛ أو أراد أن يكون حيّاً أو سميعاً أو بصيراً أو قديراً؟
قال: نعم.
قال الرضا (عليه السّلام): أفبإرادته كان ذلك؟
قال سليمان: ﻻ.
قال الرضا (عليه السّلام): فليس لقولك: أراد أن يكون حيّا
سميعاً بصيراً معنى إذا لم يكن ذلك بإرادته.
قال سليمان: بلى قد كان ذلك بإرادته.
فضحك المأمون ومن حوله، وضحك الرضا (عليه السّلام) ثمّ قال لهم:
ارفقوا بمتكلّم خراسان، يا سليمان فقد حال عندكم عن حالة وتغيّر عنها، وهذا ممّا ﻻ
يوصف الله عزّ وجلّ به، فانقطع.
ثم قال الرضا (عليه السّلام): يا سليمان أسألك مسألة.
قال: سل جعلت فداك.
قال: أخبرني عنك وعن أصحابك تكلّمون الناس بما يفقهون ويعرفون
أو بمالا يفقهون ولا يعرفون؟
قال: بل بما يفقهون ويعرفون.
قال الرضا (عليه السّلام): فالّذي يعلم الناس أنّ المريد غير
الإرادة وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم: انّ
الإرادة والمريد شيء واحد.
قال: جعلت فداك ليس ذاك منه على ما يعرف الناس ولا على ما
يفقهون.
قال (عليه السّلام): فأراكم ادّعيتم علم ذلك بلا معرفة، وقلتم:
الإرادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما ﻻ يعرف ولا يعقل، فلم يحر جواباً.
ثمّ قال الرضا (عليه السّلام): يا سليمان هل يعلم الله عزّ وجلّ
جميع ما في الجنّة والنار؟
قال سليمان: نعم.
قال: أفيكون ما علم الله عزّ وجلّ أنّه يكون من ذلك؟
قال: نعم.
قال: فإذا كان حتّى ﻻ يبقى منه شيء إلاّ كان أيزيدهم أو يطويه
عنهم؟
قال سليمان: بل يزيدهم.
قال: فأراه في قولك قد زادهم مالم يكن في علمه أنّه يكون.
قال: جعلت فداك والمزيد ﻻ غاية له.
قال (عليه السّلام): فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا
لم يعرف غاية ذلك، وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن
يكون، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
قال سليمان: انّما قلت: ﻻ يعلمه لأنّه ﻻ غاية لهذا، لأنّ الله
عزّ وجلّ وصفهما بالخلود، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً.
قال الرضا (عليه السّلام): ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم،
لأنّه قد يعلم ذلك ثمّ يزيدهم ثمّ ﻻ يقطعه عنهم، وكذلك قال الله عزّ وجلّ في كتابه:
(كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب)(16).
وقال عزّ وجلّ لأهل الجنّة: (عطاء غير مجذوذ)(17).
وقال عزّ وجل: (وفاكهة كثيرة ﻻ مقطوعة ولا ممنوعة)(18)
فهو جلّ وعزّ يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة، أرأيت ما أكل أهل الجنّة وما شربوا
أليس يخلف مكانه؟
قال: بلى.
قال: أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه؟
قال سليمان: ﻻ.
قال: فكذلك كلّما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم.
قال سليمان: بل يقطعه عنهم فلا يزيدهم.
قال الرضا (عليه السلام): إذا يبيد ما فيهما، وهذا يا سليمان
إبطال الخلود وخلاف الكتاب، لأن الله عز وجل يقول: (لهم ما يشاؤون فيها ولدينا
مزيد)(19).
ويقول عز وجل: (عطاء غير مجذوذ)(20).
ويقول عز وجل: (وما هم منها بمخرجين).
ويقول عز وجل: (خالدين فيها أبداً).
ويقول عز وجل: (وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة) فلم يحر
جواباً.
ثم قال الرضا (عليه السلام): يا سليمان ألا تخبرني عن الإرادة
فعل هي أم غير فعل؟
قال: بل هي فعل.
قال: فهي محدثة، لأنّ الفعل كلّه محدث.
قال: ليست بعفل.
قال: فمعه غيره لم يزل.
قال سليمان: الإرادة هي الإنشاء.
قال: يا سليمان هذا ادّعيتموه على ضرار وأصحابه من قولهم: انّ
كل ما خلق الله عز وجل في سماء أو أرض أو بحر أو برّ من كلب أو خنزير أو قرد أو
إنسان أو دابة إرادة الله عز وجل، وإن إرادة الله عز وجل تحيا وتموت وتذهب وتأكل
وتشرب وتنكح وتلد وتظلم وتفعل الفواحش وتكفر وتشرك، فتبرؤ منها وتعاديها، وهذا
حدّها.
قال سليمان: إنّها كالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا (عليه السلام): قد رجعت إلى هذا ثانية، فأخبرني عن
السمع والبصر والعلم أمصنوع؟
قال سليمان: لا.
قال الرضا (عليه السّلام): فكيف نفيتموه؟ فمرّة قلتم لم يرد،
ومرّة قلتم أراد، وليست بمفعول له؟
قال سليمان: انّما ذلك كقولنا: مرّة علم، ومرّة لم يعلم.
قال الرضا (عليه السّلام): ليس ذلك سواء، لأنّ نفي المعلوم ليس
بنفي العلم، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون، لأنّ الشيء إذا لم يرد لم يكن إرادة،
وقد يكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم، بمنزلة البصر فقد يكون الإنسان بصيراً
وإن لم يكن المبصر، ويكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم.
قال سليمان: انّها مصنوعة.
قال (عليه السّلام): فهي محدثة ليست كالسمع والبصر، لأنّ السمع
والبصر ليسا بمصنوعين وهذه مصنوعة.
قال سليمان: انّها صفة من صفاته لم تزل.
قال: فينبغي أن يكون الإنسان لم يزل، لأنّ صفته لم تزل.
قال سليمان: ﻻ، لأنّه لم يفعلها.
قال الرضا (عليه السّلام): يا خراساني ما أكثر غلطك! أفليس
بإرادته وقوله تكوّن الأشياء؟!
قال سليمان: ﻻ.
قال: فإذا لم يكن بإرادته ولا مشيّته ولا أمره ولا بالمباشرة
فكيف يكوّن ذلك؟ تعالى الله عن ذلك، فلم يحر جواباً.
ثم قال الرضا (عليه السّلام): ألا تخبرني عن قول الله عزّ وجلّ
(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)(21)
يعني بذلك أنّه يحدث إرادة؟
قال له: نعم.
قال: فإذا أحدث إرادة كان قولك: انّ الإرادة هي هو أم شيء منه
باطلاً، لأنّه ﻻ يكون أن يحدث نفسه ولا يتغيّر عن حاله، تعالى الله عن ذلك.
قال سليمان: انّه لم يكن عنى بذلك أنّه يحدث إرادة.
قال: فما عنى به؟
قال: عنى فعل الشيء.
قال الرضا (عليه السّلام): ويلك كم تردّد هذا المسألة وقد
أخبرتك أنّ الإرادة محدثة، لأنّ فعل الشيء محدث؟!
قال: فليس لها معنى!
قال الرضا (عليه السّلام): قد وصف نفسه عندكم حتّى وصفها
بالإرادة بما ﻻ معنى له، فإذا لم يكن لها معنى قديم ولا حديث بطل قولكم: انّ الله
لم يزل مريداً.
قال سليمان: انّما عنيت أنّها فعل من الله لم يزل.
قال: ألا تعلم أنّ مالم يزل ﻻ يكون مفعولاً وحديثاً وقديماً في
حالة واحدة؟ فلم يحر جواباً.
قال الرضا (عليه السّلام): ﻻ بأس أتمم مسألتك.
قال سليمان: قلت: انّ الإرادة صفة من صفاته.
قال الرضا (عليه السّلام): كم تردّد عليّ أنها صفة من صفاته،
فصفته محدثة أو لم تزل؟
قال سليمان: محدثة.
فقال الرضا (عليه السّلام): الله أكبر فالإرادة محدثة، وإن كانت
صفة من صفاته لم تزل فلم يرد شيئاً.
قال الرضا (عليه السّلام): انّ ما لم يزل ﻻ يكون مفعولاً.
قال سليمان: ليس الأشياء إرادة، ولم يرد شيئاً.
قال الرضا (عليه السّلام) وسوست يا سليمان، فقد فعل وخلق ما لم
يرد خلقه ولا فعله، وهذه صفة من ﻻ يدري ما فعل، تعالى الله عن ذلك.
قال سليمان: يا سيّدي قد أخبرتك أنّها كالسمع والبصر والعلم.
قال المأمون: ويلك يا سليمان كم هذا الغلط والتردّد؟ اقطع هذا
وخذ في غيره، إذ لست تقوى على هذا الرد.
قال الرضا (عليه السّلام): دعه... ﻻ تقطع عليه مسألته فيجعلها
حجة، تكلم يا سليمان.
قال: قد أخبرتك إنها كالسمع والبصر والعلم.
قال الرضا (عليه السّلام): ﻻ بأس، أخبرني عن معنى هذه، أمعنى
واحد أم معان مختلفة؟
قال سليمان: بل معنى واحد.
قال الرضا (عليه السّلام): فمعنى الإرادات كلّها معنى واحد؟
قال سليمان: نعم.
قال الرضا (عليه السّلام): فإن كان معناها معنى واحداً كانت
إرادة القيام وإرادة القعود، وإرادة الحياة وإرادة الموت، إذ كانت إرادته واحدة لم
يتقدّم بعضها بعضاً، ولم يخالف بعضها بعضاً، وكان شيئاً واحداً.
قال سليمان: انّ معناها مختلف.
قال (عليه السّلام): فاخبرني عن المريد أهو الإرادة أو غيرها؟
قال سليمان: بل هو الإرادة.
قال الرضا (عليه السّلام): فالمريد عندكم يختلف إن كان هو
الإرادة.
قال: يا سيّدي ليس الإرادة المريد.
قال (عليه السّلام): فالإرادة محدثة وإلاّ فمعه غيره، افهم وزد
في مسألتك.
قال سليمان: فإنّها اسم من أسمائه.
قال الرضا (عليه السّلام): هل سمّى نفسه بذلك؟
قال سليمان: ﻻ لم يسمّ نفسه بذلك.
قال الرضا (عليه السّلام): فليس لك أن تسميّه بما لم يسمّ به
نفسه.
قال: قد وصف نفسه بأنّه مريد.
قال الرضا (عليه السّلام): ليس صفته نفسه أنّه مريداً إخباراً
عن أنّه إرادة، ولا إخباراً عن أنّ الإرادة اسم من أسمائه.
قال سليمان: لأنّ إرادته علمه.
قال الرضا (عليه السّلام): يا جاهل فإذا علم الشيء فقد اراده؟
قال سليمان: أجل.
قال (عليه السّلام) فإذا لم يرده لم يعلمه؟
قال سليمان: أجل.
قال (عليه السّلام): من أين قلت ذاك؟ وما الدليل على أنّه
إرادته علمه؟ وقد يعلم ما ﻻ يريده أبداً، وذلك قوله عزّ وجلّ: (ولئن شئنا لنذهبنّ
بالذي أوحينا إليك)(22)
فهو يعلم كيف يذهب به، وهو ﻻ يذهب به أبداً.
قال سليمان: لأنّه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئاً.
قال الرضا (عليه السّلام): هذا قول اليهود، فيكف قال عزّ وجلّ:
(ادعوني أستجب لكم)(23)؟
قال سليمان: انّما عنى بذلك أنّه قادر عليه.
قال (عليه السّلام): أفيعد ما ﻻ يفي به؟ فكيف قال عزّ وجلّ
(يزيد في الخلق ما يشاء)(24)؟
وقال عزّ وجلّ: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب)(25)
وقد فرغ من الأمر؟ فلم يحر جواباً.
قال الرضا (عليه السلام): يا سليمان هل يعلم أنّ إنساناً يكون
ولا يريد أن يخلق إنساناً.
أبداً؟ وأنّ إنساناً يموت اليوم ولا يريد أن يموت اليوم؟
قال سليمان: نعم.
قال الرضا (عليه السّلام): فيعلم أنّه يكون ما يريد أن يكون، أو
يعلم أنّه يكون مالا يريد أن يكون؟
قال: يعلم أنّهما يكونان جميعاً.
قال الرضا (عليه السّلام): إذا يعلم أنّ إنساناً حيّ ميّت قائم
قاعد أعمى بصير في حال واحدة، وهذا هو المحال.
قال: جعلت فداك فإنّه يعلم أنه يكون أحدهما دون الآخر.
قال (عليه السّلام): ﻻ بأس، فأيّهما يكون؟ الذي أراد أن يكون؟
أو الذي لم يرد أن يكون؟
قال سليمان: الذي أراد أن يكون.
فضحت الرضا (عليه السّلام) والمأمون وأصحاب المقالات.
قال الرضا (عليه السّلام): غلطت وتركت قولك: انّه يعلم أنّ
إنساناً يموت اليوم وهو ﻻ يريد أن يموت اليوم، وانّه يخلق خلقاً وهو ﻻ يريد يخلقهم،
فإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون فإنّما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون.
قال سليمان: فإنّما قولي: انّ الإرادة ليست هو ولا غيره.
قال الرضا (عليه السّلام): يا جاهل إذا قلت: ليست هو فقد جعلتها
غيره، وإذا قلت: ليست هي غيره فقد جعلتها هو.
قال سليمان: فهو يعلم كيف يصنع الشي؟
قال (عليه السّلام): نعم.
قال سليمان: فإنّ ذلك إثبات للشيء.
قال الرضا (عليه السّلام): أحلت، لأنّ الرجل قد يحسن البناء وإن
لم يبن، ويحسن الخياطة وإن لم يخط، ويحسن صنعة الشيء وإن لم يصنعه أبداً.
ثمّ قال له: يا سليمان هل يعلم أنّه واحد ﻻ شيء معه؟
قال: نعم.
قال: أفيكون ذلك إثباتاً للشيء؟
قال سليمان: ليس يعلم أنّه واحد ﻻ شيء معه.
قال الرضا (عليه السّلام): أفتعلم أنت ذاك؟
قال: نعم.
قال: فأنت يا سليمان أعلم منه إذاً.
قال سليمان: المسألة محال.
قال: محال عندك أنّه واحد ﻻ شيء معه، وأنّه سميع بصير حكيم عليم
قادر؟
قال: نعم.
قال (عليه السّلام): فكيف أخبر الله عزّ وجلّ أنّه واحد حيّ
سميع بصير عليم خبير، وهو لايعلم ذلك؟ وهذا ردّ ما قال وتكذيبه تعالى الله عن ذلك.
ثم قال الرضا (عليه السّلام): فكيف يريد صنع مالا يدري صنعه ولا
ما هو؟ وإذا كان الصانع ﻻ يدري كيف يصنع الشيء قبل أن يصنعه فإنّما هو متحيّر،
تعالى الله عن ذلك.
قال سليمان: فإنّ الإرادة: القدرة.
قال الرضا (عليه السّلام): وهو عزّ وجلّ يقدر على مالا يريده
أبداً ولابدّ من ذلك، لأنّه قال تبارك وتعالى: (ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا
إليك) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته، فانقطع سليمان.
قال المأمون عند ذلك: يا سليمان هذا أعلم هاشميّ، ثم تفرّق
القوم.
مع السمرقندي(26)
انّه انتدب للرضا (عليه السّلام) قوم يناظرونه في الإمامة عند
المأمون فأذن لهم، فاختاروا يحيى بن الضحّاك السمرقندي. فقال سل يا يحيى. قال يحيى:
بل سل أنت يابن رسول الله لتشرّفني بذلك. فقال (عليه السّلام):
يا يحيى ما تقول في رجل ادّعى الصدق لنفسه وكذّب الصادقين؟
أيكون صادقاً محقّاً في دينه أم كاذباً؟ فلم يحر جواباً ساعة.
فقال المأمون: أجبه يا يحيى.
فقال: قطعني يا أمير المؤمنين.
فالتفت إلى الرضا (عليه السّلام) فقال: ما هذه المسألة الّتي
أقرّ يحيى بالإنقطاع فيها؟
فقال (عليه السّلام): ان زعم يحيى أنّه صدّق الصادقين فلا إمامة
لمن شهد بالعجز على نفسه فقال على منبر الرسول: (ولّيتكم ولست بخيركم) والأمير خير
من الرعيّة، وإن زعم يحيى أنّه صدّق الصادقين فلا إمامة لمن أقرّ على نفسه على منبر
الرسول (صلى الله عليه وآله): (انّ لي شيطان يعتريني) والإمام ﻻ يكون فيه شيطان،
وإن زعم يحيى أنّه صدّق الصادقين فلا إمامة لمن أقرّ عليه صاحبه فقال: كانت إمامة
أبي بكر فلتة وقى الله شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فصاح المأمون عليهم
فتفرّقوا.
ثمّ التفت إلى بني هاشم فقال لهم: ألم أقل لكم أن ﻻ تفاتحوه،
ولا تجمّعوا عليه، فإنّ هؤلاء علمهم من علم رسول الله (صلى الله عليه وآله).
مع ابن قرّه(27)
وفي كتاب الصفواني: أنّه قال الرضا (عليه السّلام) لابن قرّة
النصراني:
ما تقول في المسيح؟
قال: يا سيّدي أنّه من الله.
فقال: ما تريد بقولك: (من)؟ و (من) على أربعة أوجه ﻻ خامس لها.
أتريد بقولك: (من) كالبعض من الكلّ فيكون مبعّضاً؟
أو كالخلّ من الخمر فيكون على سبيل الإستحالة؟
أو كالولد من الوالد فيكون على سبيل المناكحة؟
أو كالصنعة من الصانع فيكون على سبيل المخلوق من الخالق؟ أو
عندك وجه آخر فتعرّفناه؟ فانقطع.
حول الإمامة(28)
عن الحسن بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون يوماً وعنده عليّ بن
موسى الرضا (عليه السّلام) وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة فسأله
بعضهم فقال له: يابن رسول الله بأيّ شيء تصحّ الإمامة لمدّعيها؟ قال:
بالنصّ والدليل.
قال له: فدلالة الإمام فيما هي؟
قال: في العلم واستجابة الدعوة.
قال: فما وجه إخباركم بما يكون؟
قال: ذلك بعهد معهود إلينا من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟
قال (عليه السّلام) له: أما بلغك قول الرسول (صلى الله عليه
وآله): (اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله)؟
قال: بلى.
قال: وما من مؤمن إلاّ وله فراسة ينظر بنور الله على قدر إيمانه
ومبلغ استبصاره وعلمه وقد جمع الله للأئمّة منّا ما فرّقه في جميع المؤمنين، وقال
عزّ وجلّ في محكم كتابه: (إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين)(29).
فأوّل المتوسّمين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ أمير
المؤمنين (عليه السّلام) من بعده، ثم الحسن والحسين والأئمّة من ولد الحسين (عليهم
السلام) إلى يوم القيامة.
قال: فنظر إليه المأمون فقال له: يا أبا الحسن زدنا ممّا جعل
الله لكم أهل البيت.
فقال الرضا (عليه السّلام): إنّ الله عزّ وجلّ قد أيّدنا بروح
منه مقدّسة مطهّرة ليست بملك لم تكن مع أحد ممّن مضى إلاّ مع رسول الله (صلى الله
عليه وآله) وهي مع الأئمّة منّا تسدّدهم وتوفّقهم، وهو عمود من نور بيننا وبين الله
عزّ وجلّ.
قال له المأمون: يا أبا الحسن بلغني أنّ قوماً يغلون فيكم
ويتجاوزون فيكم الحدّ.
فقال الرضا (عليه السّلام): حدّثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه
جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن
عليّ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله): (ﻻ ترفعوني فوق حقّي فإنّ الله تبارك وتعالى اتّخذني عبداً قبل أن يتّخذني
نبيّاً).
قال الله تبارك وتعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب
والحكم والنبوّة ثمّ يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيّين
بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة
والنبيّين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)(30).
قال عليّ (عليه السّلام): (يهلك فيّ إثنان ولا ذنب لي: محبّ
مفرط، ومبغض مفرّط).
وأنا أبرأ إلى الله عزّ وجلّ ممّن يغلو فينا ويرفعنا فوق حدّنا
كبراءة عيسى بن مريم (عليه السّلام) من النصارى، قال الله عزّ وجلّ: (وإذ قال الله
يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتّخذوني وامّي إلهَيْن من دون الله قال سبحانك ما
يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما
في نفسك إنك أنت علاّم الغيوب ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربّي
وربّكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت
على كلّ شيء شهيد)(31).
وقال عزّ وجلّ: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا
الملائكة المقرّبون)(32).
وقال عزّ وجلّ: (ما المسيح بن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله
الرسل وامّه صدّيقة كانا يأكلان الطعام)(33)
ومعناه أنّهما كانا يتفوّطان، فمن ادّعى للأنبياء ربوبيّة أو ادّعى للأئمّة ربوبيّة
أو نبوّة أو لغير الأئمّة إمامة فنحن منه براء في الدنيا والآخرة.
فقال المأمون: يا أبا الحسن فما تقول في الرجعة؟
فقال الرضا (عليه السّلام): إنّها لحقّ قد كانت في الامم
السالفة ونطق به القرآن، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يكون في هذه
الامّة كلّ ما كان في الامم السالفة حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة).
قال (صلى الله عليه وآله): (إذا خرج المهديّ من ولدي نزل عيسى
بن مريم (عليه السّلام) فصلّى خلفه).
وقال (صلى الله عليه وآله): (إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود
غريباً فطوبى للغرباء، قيل: يا رسول الله ثمّ يكون ماذا؟ قال: ثم يرجع الحقّ إلى
أهله).
فقال المأمون: يا أبا الحسن فما تقول في القائلين بالتناسخ؟
فقال الرضا (عليه السّلام): من قال بالتناسخ فهو كافر بالله
العظيم مكذب بالجنّة والنار.
قال المأمون: ما تقول في المسوخ؟
قال الرضا (عليه السّلام): اولئك قوم غضب الله عليهم فمسخهم
فعاشوا ثلاثة أيّام ثمّ ماتوا ولم يتناسلوا فما يوجد في الدنيا من القردة والخنازير
وغير ذلك ممّا وقع عليه اسم المسوخيّة فهي مثلها ﻻ يحلّ أكلها والإنتفاع بها.
قال المأمون: ﻻ أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن، فوالله ما يوجد
العلم الصحيح إلاّ عند أهل هذا البيت، وإليك انتهت علوم آبائك، فجزاك الله عن
الإسلام وأهله خيراً.
قال الحسن بن جهم: فلمّا قام الرضا (عليه السّلام) تبعته فانصرف
إلى منزله فدخلت عليه وقلت له: يابن رسول الله الحمد لله الذي وهب لك من جميل رأي
المأمون ما حمله على ما أرى من إكرامه لك وقبوله لقولك.
فقال (عليه السّلام): يابن الجهم ﻻ يغرّنك ما ألفيته عليه من
إكرامي والإستماع منّي فإنّه سيقتلني بالسمّ وهو ظالم لي، أعرف ذلك بعهد معهود
إليَّ من آبائي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاكتم هذا ما دمت حيّاً.
قال الحسن بن الجهم: فما حدّثت أحداً بهذا الحديث إلى أن مضى
الرضا (عليه السّلام) بطوس مقتولاً بالسمّ، ودفن في دار حميد بن قحطبة الطائي في
القبّة الّتي فيها قبر هارون إلى جانبه.
مع القتلة وذراريهم(34)
عن عبد السلام بن صالح الهرويّ قال: قلت لأبي الحسن علي بن موسى
الرضا (عليه السّلام): يابن رسول الله ما تقول في حديث روي عن الصادق (عليه
السّلام) أنّه قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين (عليه السّلام) بفعال
آبائها؟ فقال (عليه السّلام):
هو كذلك.
فقلت: فقول الله عزّ وجلّ: (ولا تزر وازرة وزر اخرى)(35)
ما معناه؟
فقال: صدق الله في جميع أقواله، ولكن ذراري قتلة الحسين يرضون
بفعال آبائهم، ويفتخرون بها، ومن رضي شيئاً كان كمن أتاه، ولو أنّ رجلاً قتل في
المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله عزّ وجلّ شريك القاتل، وانما
يقتلهم القائم (عليه السّلام) إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم.
قال: فقلت له: بأيّ شيء يبدء القائم فيهم إذا قام؟
قال: يبدء ببني شيبة ويقطع أيديهم لأنّهم سرّاق بيت الله
عزّوجلّ.
الحوار الحرّ(36)
روي عن محمّد بن الفضل الهاشمي قال: لمّا توفي الإمام موسى بن
جعفر (عليه السّلام) أتيت المدينة فدخلت على الرضا (عليه السّلام) فسلّمت عليه
بالأمر وأوصلت إليه ما كان معي، وقلت: إنّي صائر إلى البصرة، وعرفت كثرة خلاف الناس
وقد نعي إليهم موسى (عليه السّلام) وما أشكّ أنّهم سيسألوني عن براهين الإمام، فلو
أريتني شيئاً من ذلك. فقال الرضا (عليه السّلام):
لم يخفف عليّ هذا فابلغ أولياءنا بالبصرة وغيرها أنّي قادم
عليهم ولا قوّة إلاّ بالله ثمّ أخرج إليّ جميع ما كان للنبيّ (صلى الله عليه وآله)
عند الأئمّة من بردته وقضيبه وسلاحه وغير ذلك.
فقلت: ومتى تقدم عليهم؟
قال: بعد ثلاثة أيّام من وصولك ودخولك البصرة، فلمّا قدمتها
سألوني عن الحال فقلت لهم: إنّي أتيت موسى بن جعفر (عليه السّلام) قبل وفاته بيوم
واحد فقال: إنّي ميّت ﻻ محالة فإذا واريتني في لحدي فلا تقيمنّ وتوجّه إلى المدينة
بودائعي هذه، وأوصلها إلى ابني عليّ بن موسى فهو وصيّي وصاحب الأمر بعدي.
ففعلت ما أمرني به وأوصلت الودائع إليه وهو يوافيكم إلى ثلاثة
أيّام من يومي هذا فسألوه عمّا شئتم.
فابتدر للكلام عمرو بن هذّاب من القوم وكان ناصبيّاً ينحو نحو
التزيّد والإعتزال فقال: يا محمّد إنّ الحسن بن محمّد رجل من أفاضل أهل هذا البيت
في ورعه وزهده وعلمه وسنّه، وليس هو كشابّ مثل علي بن موسى ولعلّه لو سئل عن شيء من
معضلات الأحكام لحار في ذلك.
فقال الحسن بن محمّد - وكان حاضراً في المجلس -: ﻻ تقل يا عمرو
ذلك فإنّ عليّاً على ما وصف من الفضل، وهذا محمّد بن الفضل يقول: إنّه يقدم إلى
ثلاثة أيّام فكفاك به دليلاً، وتفرقوا.
فلمّا كان في اليوم الثالث من دخولي البصرة إذا الرضا (عليه
السّلام) قد وافى فقصد منزل الحسن بن محمّد واخلى له داره، وقام بين يديه، يتصرّف
بين أمره ونهيه.
فقال: يا [حسن بن] محمّد أحضر جميع القوم الذين حضروا عند محمّد
بن الفضل وغيرهم من شيعتنا وأحضر جاثليق النصارى ورأس الجالوت ومر القوم أن يسألوا
عمّا بدا لهم فجمعهم كلّهم والزيديه والمعتزلة وهم ﻻ يعلمون لما يدعوهم الحسن بن
محمّد، فلمّا تكاملوا ثنّى للرضا (عليه السّلام) وسادة فجلس عليها ثمّ قال: السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته، هل تدرون لم بدأتكم بالسلام؟
فقالوا: ﻻ.
قال: لتطمئنّ أنفسكم.
قالوا: ومن أنت يرحمك الله؟
قال: أنا علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي
بن أبي طالب وابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)... وقد جمعتكم لتسألوني عمّا شئتم
من آثار النبوّة وعلامات الإمامة التي ﻻ تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت فهلمّوا
مسائلكم.
فابتدأ عمرو بن هذّاب فقال: إنّ محمّد بن الفضل الهاشمي ذكر عنك
أشياء ﻻ تقبلها القلوب.
فقال الرضا (عليه السّلام): وما تلك؟
قال: أخبرنا عنك أنّك تعرف كلّ ما أنزله الله وأنّك تعرف كلّ
لسان ولغة.
فقال الرضا (عليه السلام): صدق محمّد بن الفضل فأنا أخبرته بذلك
فهلّموا فاسألوا.
قال: فإنّ نختبرك قبل كلّ شيء بالألسن واللغات وهذا رومي وهذا
هندي و[هذا] فارسي و[هذا] تركي فأحضرناهم.
فقال (عليه السّلام): فليتكلّموا بما أحبّوا أجب كلّ واحد منهم
بلسانه إنشاء الله.
فسأل كلّ واحد منهم مسألة بلسانه ولغته، فأجابهم عمّا سألوا
بأسلنتهم ولغاتهم فتحيّر الناس وتعجّبوا وأقرّوا جميعاً بأنّه أفصح منهم بلغاتهم.
ثمّ إنّ الرضا (عليه السّلام) التفت إلى الجاثليق فقال: هل دلّ
الإنجيل على نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله)؟
قال: لو دلّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه.
فقال (عليه السّلام): أخبرني عن السكتة التي لكم في السفر
الثالث.
فقال الجاثليق: اسم من أسماء الله تعالى ﻻ يجوز لنا أن نظهره.
قال الرضا (عليه السّلام): فإن قرّرتك أنّه اسم محمّد وذكره
وأقرّ عيسى به وأنّه بشرّبني اسرائيل بمحمّد أتقرّبه ولا تنكره؟
قال الجاثليق: إن فعلت أقررت فإنّي ﻻ أردّ الإنجيل ولا أجحده.
قال الرضا (عليه السّلام): فخذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر
محمّد وبشارة عيسى بمحمّد.
قال الجاثليق: هات!
فأقبل الرضا (عليه السّلام) يتلو ذلك السفر - الثالث من الإنجيل
- حتّى بلغ ذكر محمّد (صلى الله عليه وآله).
فقال: يا جاثليق من هذا النبيّ الموصوف؟
قال الجاثليق: صفه.
قال: ﻻ أصفه إلاّ بما وصفه الله، هو صاحب الناقة والعصا والكسا
النبيّ الامّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف
وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيّبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم
والأغلال التي كانت عليهم يهدي إلى الطريق الأقصد والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم.
سألتك يا جاثليق: بحقّ عيسى روح الله وكلمته، هل تجد هذه الصفة
في الإنجيل لهذا النبيّ؟
فأطرق الجاثليق مليّاً وعلم أنّه إن جحد الإنجيل كفر، فقال: نعم
هذه الصفة في الإنجيل وقد ذكر عيسى هذا النبيّ، ولم يصحّ عند النصارى أنّه صاحبكم.
فقال الرضا (عليه السّلام): أمّا إذا لم تكفر بجحود الإنجيل
وأقررت بما فيه من صفة محمّد (صلى الله عليه وآله)، فخذ علي في السفر الثاني فإنّي
اوجدك ذكره وذكر وصيّه وذكر ابنته فاطمة، وذكر الحسن والحسين.
فلمّا سمع الجاثليق ورأس الجالوت ذلك علما أنّ الرضا (عليه
السّلام) عالم بالتوراة والإنجيل.
فقالا: والله قد أتى بما ﻻ يمكننا ردّه ولا دفعه إلاّ بجحود
التوراة والإنجيل والزبور وقد بشّر به موسى وعيسى جميعاً ولكن لم يتقرّر عندنا
بالصحّة أنّه محمّد هذا، فأمّا اسمه محمّد فلا يجوز لنا أن نقرّ لكم بنبوّته، ونحن
شاكّون أنّه محمّد كم أو غيره.
فقال الرضا (عليه السّلام): احتجزتم بالشكّ فهل بعث الله قبل أو
بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيّاً اسمه محمّد (صلى الله عليه وآله)؟ أو تجدونه
في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمّدنا؟
فاحجموا عن جوابه، وقالوا: ﻻ يجوز لنا أن نقرّ لكم بأنّ محمّداً
هو محمّد كم لأنّا إن أقررنا لك بمحمّد ووصيّه وابنته وابنيه على ما ذكرت أدخلتمونا
في الإسلام كرها.
فقال الرضا (عليه السّلام): أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله
وذمّة رسوله أنّه ﻻ يبدؤك منّا شيء تكره ممّا تخافه وتحذره.
قال: أمّا إذا قد آمنتني فإنّ هذا النبيّ الذي اسمه محمّد وهذا
الوصي الذي اسمه عليّ وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما
الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور.
قال الرضا (عليه السّلام): فهذا الذي ذكرته في التوراة والإنجيل
والزبور من اسم هذا النبي وهذا الوصي وهذه البنت وهذين السبطين صدق وعدل أم كذب
وزور؟
قال: بل صدق وعدل وما قال الله إلاّ الحقّ.
فلمّا أخذ الرضا (عليه السّلام) إقرار الجاثليق بذلك قال لرأس
الجالوت: فاستمع الآن يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود.
قال: هات بارك الله عليك وعلى من ولدك.
فتلا الرضا (عليه السّلام) السفر الأوّل من الزبور حتّى انتهى
إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين فقال: سألتك يا رأس الجالوت بحق الله أهذا
في زبور داود؟ ولك من الأمان والذمّة والعهد ما قد أعطيته الجاثليق.
فقال رأس الجالوت: نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم.
قال الرضا (عليه السّلام): فبحقّ العشر الآيات التي أنزلها الله
على موسى بن عمران (عليه السّلام) في التوراة هل تجد صفة محمّد وعلي وفاطمة والحسن
والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟
قال: نعم، ومن جحد هذا فهو كافر بربّه وأنبيائه.
قال له الرضا (عليه السّلام): فخذ الآن عليّ سفر كذا من التوراة
فأقبل الرضا (عليه السّلام) يتلو التوراة وأقبل رأس الجالوت يتعجّب من تلاوته
وبيانه، وفصاحته ولسانه حتّى إذا بلغ ذكر محمّد.
قال رأس الجالوت: نعم هذا أحماد وبنت أحماد وأليا وشبّر وشبير
وتفسيره بالعربيّة محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
فتلا الرضا (عليه السّلام) السفر إلى تمامه، فقال رأس الجالوت -
لمّا فرغ من تلاوته -: والله يابن محمّد لو ﻻ الرئاسة التي قد حصلت لي على جميع
اليهود لآمنت بأحماد واتبعت أمرك فوالله الذي أنزل التوراة على موسى والزبور على
داود والإنجيل على عيسى ما رأيت أقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحداً
أحسن بياناً وتفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك.
فلم يزل الرضا (عليه السّلام) معهم في ذلك الى وقت الزوال فلمّا
كان من الغد عاد إلى مجلسه ذلك، فأتوه بجارية روميّة فكلّمها بالروميّة والجاثليق
يسمع، وكان فهما بالروميّة - فقال الرضا (عليه السّلام) بالروميّة - لها: أيّما
أحبّ إليك محمّد أم عيسى؟
فقالت: كان فيما مضى عيسى أحبّ إليّ حين لم أكن عرفت محمّداً
فأمّا بعد أن عرفت محمّداً، فمحمّد الآن أحبّ إليّ من عيسى ومن كلّ نبيّ.
فقال لها الجاثليق: فإذا كنت دخلت في دين محمّد فتبغضين عيسى؟
قالت: معاذ الله بل احبّ عيسى واؤمن به ولكن محمّداً أحبّ إليّ.
فقال الرضا (عليه السّلام) للجاثليق: فسّر للجماعة ما تكلّمت به
الجارية وما قلت أنت لها وما أجابتك، به، ففسّر لهم الجاثليق ذلك كلّه.
ثمّ قال الجاثليق: يابن محمّد ههنا رجل سندي وهو نصراني صاحب
احتجاج وكلام بالسندية.
فقال له: أحضرنيه، فأحضره فتكلّم معه بالسندية ثمّ أقبل يحاجّه
وينقله من شيء إلى شيء - بالسنديّة - في النصرانيّة ثمّ كلّمه في عيسى ومريم فلم
يزل يدرجه من حال إلى حال إلى أن قال بالسندية: أشهد أن ﻻ إله إلاّ الله وأنّ
محمّداً رسول الله، ثم رفع منطقة كانت عليه فظهر من تحتها زنّار(37)
في وسطه.
فقال: إقطعه أنت بيدك يابن رسول الله، فدعا الرضا (عليه
السّلام) بسكّين فقطعه، ثمّ قال لمحمّد بن الفضل الهاشمي: خذا السندي الى الحمام
وطهّره واكسه وعياله واحملهم جميعاً إلى المدينة.
قال محمّد بن الفضل: فشهد له الجماعة بالإمامة، وبات عندنا تلك
الليلة فلمّا أصبح ودّع الجماعة وأوصاني بما أراد ومضى...
وكان فيما أوصاني به الرضا (عليه السّلام) في وقت منصرفه من
البصرة أن قال لي: صر إلى الكوفة فاجمع الشيعة هناك وأعلمهم أنّي قادم عليهم وأمرني
أن أنزل في دار حفص بن عمير اليشكري فصرت إلى الكوفة فأعلمت الشيعة أنّ الرضا (عليه
السّلام) قادم عليهم فأنا يوماً عند نصر بن مزاحم إذ مرّبي سلاّم خادم الرضا (عليه
السّلام) فعلمت أنّ الرضا (عليه السّلام) قد قدم فبادرت إلى دار حفص بن عمير فإذا
هو في الدار فسلّمت عليه ثمّ قال لي: احتشد [لي] في طعام تصلحه للشيعة.
فقلت: قد احتشدت وفرغت ممّا يحتاج إليه.
قال: أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم
فيحاجّ أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بأنجيلهم، وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون
عالماً بجميع اللغات حتى ﻻ يخفى عليه لسان واحد فيحاج كلّ قوم بلغتهم، ثمّ يكون مع
هذه الخصال تقيّاً نقيّاً من كلّ دنس طاهراً من كلّ عيب، عادلاً منصفاً حكيماً
رؤفاً رحيماً حليماً غفوراً عطوفاً صدوقاً بارّاً مشفقا أمينا مأمونا راتقاً
فاتقاً.
فقام إليه نصر بن مزاحم فقال: يابن رسول الله ما تقول في جعفر
بن محمّد؟
فقال: ما أقول في إمام شهدت امّة محمّد قاطبة بأنّه كان أعلم
أهل زمانه.
قال: فما تقول في موسى بن جعفر؟
قال: كان مثله.
قال: فإنّ الناس قد تحيّروا في أمره.
قال: إنّ موسى بن جعفر عمّر برهة من دهره فكان يكلّم الأنباط
بلسانهم، ويكلّم أهل خراسان بالدريّة وأهل الروم بالروميّة، ويكلّم العجم بألسنتهم،
وكان يرد عليه من الآفاق علماء اليهود والنصارى فيحاجّهم بكتبهم وألسنتهم.
فلمّا نفدت مدّته، وكان وقت وفاته أتاني مولى برسالته يقول: يا
بنيّ إنّ الأجل قد نفد والمدّة قد انقضت، وأنت وصيّ أبيك فإنّ رسول الله (صلى الله
عليه وآله) لمّا كان وقت وفاته دعا عليّاً وأوصاه ودفع إليه الصحيفة التي كان فيها
الأسماء التي خصّ الله بها الأنبياء والأوصياء.
فقال: الحمد لله على توفيقك.
فجمعنا الشيعة، فلمّا أكلوا قال: يا محمّد انظر من بالكوفة من
المتكلّمين والعلماء فأحضرهم فأحضرناهم.
فقال لهم الرضا (عليه السّلام): إنّي اريد أن أجعل لكم حظّاً من
نفسي كما جعلت لأهل البصرة، وأنّ الله قد أعلمني كلّ كتاب أنزله، ثمّ أقبل على
جاثليق، وكان معروفاً بالجدل والعلم والإنجيل.
فقال: يا جاثليق هل تعرف لعيسى صحيفة فيها خمسة أسماء يعلّقها
في عنقه، إذا كان بالمغرب فأراد المشرق فتحها فأقسم على الله باسم واحد من الخمسة
أن تنطوي له الأرض فيصير من المغرب إلى المشرق ومن المشرق إلى المغرب في لحظة؟
فقال الجاثليق: ﻻ علم لي بها وأمّا الأسماء الخمسة فقد كانت معه
[بلا شكّ و] يسأل الله بها أو بواحد منها فيعطيه الله جميع ما يسأله.
قال: الله أكبر إذا لم تنكر الأسماء فأمّا الصحيفة فلا يضرّ
أقررت بها أم أنكرتها؟ إشهدوا على قوله.
ثمّ قال: يا معاشر الناس أليس أنصف الناس من حاجّ خصمه بملّته
وبكتابه وبنبيّه وشريعته؟
قالوا: نعم.
قال الرضا (عليه السّلام): فاعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمّد
إلاّ من قام بما قام به محمّد حين يفضي الأمر إليه، ولا تصلح الإمامة إلاّ لمن حاجّ
الامم بالبراهين للإمامة.
فقال رأس الجالوت: وما هذا الدليل على الإمام؟
ثمّ قال: يا علي ادن منّي [فدنا منه] فغطّى رسول الله (صلى الله
عليه وآله) رأس عليّ (عليه السّلام) بملائته ثمّ قال له: أخرج لسانك، فأخرجه فختمه
بخاتمه، ثمّ قال: يا عليّ اجعل لساني في فيك فمصّه وابلع كلّ ما تجد في فيك، ففعل
عليّ ذلك.
فقال له: إنّ الله فد فهّمك ما فهّمني وبصرّك ما بصّرني، وأعطاك
من العلم ما أعطاني، إلاّ النبوّة، فإنّه ﻻ نبيّ بعدي ثمّ كذلك إمام بعد إمام،
فلمّا مضى موسى علمت كلّ لسان وكلّ كتاب.
محنة البرامكة(38)
عن محمّد بن الفضيل قال: لمّا كان في السنة التي بطش هارون بآل
برمك بدأ بجعفر بن يحيى، وحبس يحيى بن خالد، ونزل بالبرامكة، ما نزل، كان أبو الحسن
(عليه السّلام) واقفاً بعرفة يدعو، ثمّ طأطأ رأسه، فسئل عن ذلك فقال:
إنّي كنت أدعو الله تعالى على البرامكة بما فعلوا بأبي (عليه
السّلام) فاستجاب الله لي اليوم فيهم، فلمّا انصرف لم يلبث إلاّ يسيراً حتى بطش
بجعفر ويحيى وتغيّرت أحوالهم.
مع الواقفة(39)
عن اسماعيل بن سهل قال: حدثني بعض أصحابنا وسألني أن أكتم اسمه
قال: كنت عند الرضا (عليه السّلام) فدخل عليه عليّ بن أبي حمزة وابن السراج وابن
المكاري فقال له ابن أبي حمزة: ما فعل أبوك؟ قال:
مضى.
قال: مضى موتاً؟
قال: نعم.
قال: فقال: إلى من عهد؟
قال: إليّ.
قال: فأنت إمام مفترض طاعته من الله؟
قال: نعم.
قال ابن السراج وابن المكاري: قد والله أمكنك من نفسه.
قال (عليه السّلام): ويلك وبما أمكنت أتريد أن آتي بغداد وأقول
لهارون أنا إمام مفترض طاعتي، والله ما ذاك عليّ، وإنّما قلت ذلك لكم عندما بلغني
من اختلاف كلمتكم وتشتّت أمركم لئلا يصير سرّكم في يد عدوّكم.
قال له ابن أبي حمزة: لقد أظهرت شيئاً ما كان يظهره أحد من
آبائك ولا يتكلّم به.
قال: بلى والله لقد تكلّم به خير آبائي رسول الله (صلى الله
عليه وآله) لمّا أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين، جمع من أهل بيته أربعين
رجلاً وقال لهم: إنّي رسول الله إليكم، فكان أشدّهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمّه
أبولهب، فقال لهم النبيّ (صلى الله عليه وآله): إن خدشني خدش فلست بنبيّ، فهذا أول
ما ابدع لكم من آية النبوّة.
وأنا أقول: إن خدشني هارون خدشاً فلست بإمام، فهذا أوّل ما ابدع
لكم من آية الإمامة.
قال له علي: إنّا روينا عن آبائك (عليهم السلام) أنّ الإمام ﻻ
يلي أمره إلاّ إمام مثله.
فقال له أبو الحسن (عليه السّلام): فأخبرني عن الحسين بن عليّ
(عليه السّلام) كان إماماً أو غير إمام؟
قال: كان إماماً.
قال: فمن ولّى أمره؟
قال: علي بن الحسين.
قال: وأين كان علي بن الحسين (عليه السّلام)؟
قال: كان محبوساً بالكوفة في يد عبيد الله بن زياد.
قال: خرج وهم لا يعلمون حتى ولّى أمر أبيه ثم انصرف.
فقال: له أبو الحسن (عليه السّلام): إن هذا أمكن عليّ بن الحسين
(عليه السّلام) أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه فهو يمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي
بغداد فيلي أمر أبيه ثمّ ينصرف وليس في حبس ولا في أسار.
قال له علي: إنّا روينا أنّ الإمام ﻻ يمضي حتّى يرى عقبه.
قال: فقال أبو الحسن (عليه السّلام): أما رويتم في هذا الحديث
غير هذا؟
قال: ﻻ.
قال: بلى والله لقد رويتم فيه إلاّ القائم وأنتم ﻻ تدرون ما
معناه ولم قيل؟
قال له علي: بلى والله إنّ هذا لفي الحديث.
قال له أبو الحسن (عليه السّلام): ويلك كيف اجترأت عليّ بشيء
تدع بعضه، ثمّ قال: يا شيخ اتّق الله ولا تكن من الصادّين عن دين الله تعالى.
|