مكتبة الإمام الرضا

فهرس الكتاب

 

الانحراف الاخلاقي

لعبت أجواء الترف والرفاهية دوراً كبيراً في انتشار وتفشي الانحراف الاخلاقي، عند الحاكم ومؤسساته الحكومية وعند الاُمّة، فكان الحاكم يعيش مظاهر اللهو واللعب والانسياق وراء الشهوات، فهارون أول خليفة لعب بالصوالجة والكرة ورمي النشاب في البرجاس، وأول خليفة لعب الشطرنج من بني العباس[1].

وكان يجري سباق الخيل فجاء في أحد الايام فرسه سابقاً فأمر الشعراء ان يقولوا فيه شعراً فسبقهم ابو العتاهية، فاجزل صلته[2].

وبعض هذه الاُمور وان كانت مباحة إلاّ انها لا تليق بالحاكم الذي يحكم دولة إسلامية مترامية الأطراف، ومعرضة لمخاطر ومؤامرات من قبل اعداء الإسلام .

 وكان مولعاً بالغناء، ومن اهتمامه وتشجيعه للغناء ان جعل للمغنين مراتب وطبقات[3].

وكان ينفق الأموال والهدايا على المغنين ـ كما تقدّم ـ وكان مولعاً بحب ثلاث من الجواري المغنيات حتى انشد شعراً في ذلك قال فيه :

ملك الثلاث الآنسات عناني*** وحللن من قلبي بكلِّ مكانِ

مالي تطاوعني البرية كلها *** وأطيعهنَّ وهنَّ في عصياني

ما ذاك الاّ ان سلطان الهوى *** وبه غُلبت غرزن من سلطاني[4]

وفي الوقت الذي يذهب الآف الجنود ضحايا في الغزوات تجده لا يكترث من كثرة القتلى والمعوّقين وإنّما يؤلمه موت جارية من جواريه تسمى هيلانة، فيرثيها بأبيات شعر :

فلها تبكي البواكي *** ولها تشجي المراثي

خلقت سقماً طويلاً *** جعلت ذاك تراثي[5]

وكان مدمناً على شرب الخمر وربما كان يتولّى بنفسه سقاية ندمائه[6].

وكان من حبّه للضحك والفكاهة ان اختص بابن ابي مريم المدني، وكان لا يصبر عن فراقه ولا يملّ من محادثته، وبلغ من خاصته به أن بوّأه منزلاً في قصره، وخلطه بحريمه وبطانته ومواليه وغلمانه[7].

وكان لا يتحرّج من سماع الفاظ الفحش والبذاء في مجلسه، فحينما اهدى له العباس بن محمد اناءً من خزف فيه مسك وعنبر وهبه هارون الى ابن ابي مريم، فتألم العباس وقال لابن أبي مريم : اُمه فاعلة ان دهن به الاّ إسته، فضحك هارون، ثم وثب ابن ابي مريم، وأدخل يده في الاناء ثم دهن بها عورته وجميع جوارحه ثم أمر غلامه ان يذهب بما تبقى الى زوجته وان يقول لها : ادهني بها حرك الى أن انصرف فأ... وهارون يضحك وهو يسمع الفاظ الفحش، ولم يكتف بذلك وإنّما وهب لابن ابي مريم مائة الف درهم[8].

ولما وصل الأمين الى منصبه في رئاسة الحكومة طلب الخصيان وابتاعهم وغالى فيهم، فصيّرهم لخلوته ليله ونهاره ... وفرض لهم فرضاً، ثم وجّه الى جميع البلدان في طلب الملهّين، وضمّهم اليه، وأجرى عليهم الأرزاق، واحتجب عن أخويه وأهل بيته، واستخف بهم وبقوّاده، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجواهر في خصيانه، وجلسائه، ومحدثيه، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته، ومواضع خلواته ولهوه ولعبه، وعمل خمس حرّاقات في دجلة على صورة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالاً عظيماً[9].

وأمر ان يفرش له على دكان في ساحة مفتوحة، ففرش عليها أفخر الفراش، وهُيّئ من آنية الذهب والفضة والجواهر أمر عظيم، وأمر قيّمة جواريه أن تهيّئ له مائة جارية صانعة فتصعد اليه عشراً عشراً بأيديهن العيدان، يغنّين بصوت واحد ...[10].

وذكر الأمين عند الفضل بن سهل بخراسان فقال : كيف لايستحل قتل محمد وشاعره يقول في مجلسه :

الا فاسقني خمراً ***وقل لي هي الخمر

ولا تسقني سرّاً***اذا أمكن الجهر[11]

وقال ابن الاثير واصفاً له : ولم نجد في سيرته ما يستحسن ذكره من حلم، أو معدلة، أو تجربة، حتى نذكرها[12].

وتابع المأمون أباه وأخاه في اللهو واللعب وحب الغناء والطرب، قال اسحاق بن ابراهيم بن ميمون : وكان المأمون من أشغف خلق الله بالنساء، وأشدّهم ميلاً اليهنَّ واستهتاراً بهنَّ[13].

وكان يشرب الشراب مع ندمائه فيأخذ الشراب منهم مأخذاً[14].

وأخرج من طرق عدة أن المأمون كان يشرب النبيذ[15].

وكان يسهر الليالي مع الجواري والمغنيين في شراب وغناء حتى الصباح، ففي ليلة من الليالي كان محمد بن حامد واقفاً على رأس المأمون وهو يشرب، فاندفعت عريب فغنّت ... فأنكر المأمون أن لا تكون ابتدأت بشيء ... فقال محمد بن حامد : أنا يا سيدي أومأت اليها بقبلة ... فقال المأمون : ... لقد زوجت محمد بن حامد عريب مولاتي، ومهرتها عنه اربعمائة درهم... فلم تزل تغنّيه الى السحر وابن حامد على الباب[16].

ومن مصاديق الانحراف الاخلاقي ان أحد قضاة الأمين ثم المأمون كان يمارس اللواط حتى اشتهر به، فاشتكى المسلمون الى المأمون منه فأجابهم : لو طعنوا عليه في أحكامه قبل ذلك منهم، وبعد ازدياد الشكاوي عليه عزله، ثم اصبح فيما بعد من ندمائه ورخّص له في أمور كثيرة[17].

وكان الانحراف واضحاً لدى المقربين من الحكام، ففي بداية عهد المأمون كان بعض الجنود والشرطة في بغداد والكرخ يجهرون بالفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق ... وكانوا يجتمعون فيأتون القرى ... ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك، لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لان السلطان كان يعتزّ بهم، وكانوا بطانته[18].

الانحراف السياسي

1 ـ الأوضاع السياسية في عهد هارون

عاصر الإمام الرضا (عليه السلام) في مرحلة امامته حكومة هارون عشر سنين من سنة (183 هـ ) الى سنة (193 هـ )، ولم تختلف سياسة هارون عن سياسة من سبقه من الحكّام، ولا عن سياسته السابقة في مرحلة الإمام الكاظم (عليه السلام) إلاّ انه لم يتعرض تعرضاً مباشراً للامام الرضا (عليه السلام) ; لأن الظروف والاوضاع السياسية لم تساعده على ذلك، فاغتيال الإمام الكاظم (عليه السلام) مسموماً لا زال يثير هواجسه خوفاً من ردود فعل الحركات المسلّحة المرتبطة بأهل البيت(عليهم السلام)، ولذا نجده في بداية استشهاد الإمام (عليه السلام) أحضر القوّاد والكتّاب والهاشميين والقضاة، ثم كشف عن وجهه، وقال : أترَوْن به اثراً أو ما يدل على اغتيال ؟[19].

 ولهذا لم يقدم على اتخاذ نفس الاسلوب مع الإمام الرضا (عليه السلام) ورفض الاستجابة لمن حرّضه على قتله ـ كما تقدّم ـ واضافة الى ذلك فإن الإمام الرضا (عليه السلام) اتخذ اسلوباً واعياً في التحرك السياسي، ولم يعط لهارون أيّ مبرّر للتخوف من تحركه، على أنّ أغلب الرسائل التي رفعت إليه لم تتطرق الى نشاط سياسي ملحوظ للامام الرضا (عليه السلام).

إذن كان حكم هارون أكثر هدوءً وسلاماً مع الإمام الرضا(عليه السلام)، وإن كان قد اتّسم بالمظاهر التالية:

أولاً : الارهاب

إن وصول هارون للحكم كغيره من بني اُمية وبني العبّاس لم يكن بنص من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا باختيار من المسلمين، ولم يختاره أهل الحل والعقد طبقاً للنظريات السائدة آنذاك . وإنّما وصل عن طريق العهد والاستخلاف من قبل من سبقه، وهذا الشعور دفعه للتشبث بالحكم بأيّ اسلوب أمكن، ولهذا استخدم الارهاب الى جانب الاغراء في تثبيت حكمه، فلم يسمح لأي معارضة وان كانت سلمية كما لم يسمح لأيّ نصح أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، ففي أحد خطبه قام اليه رجل فقال : (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)[20]، فأمر بضربه مائة سوط[21].

وفي سنة (188 هـ ) أخذ هارون أحد المقرّبين الى أحمد بن عيسى العلوي، وضربه حتى مات ـ على الرغم من تجاوزه التسعين من عمره ـ لأنه لم يعلمه بمكان العلوي[22].

 وطارد هارون يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن، ثم آمنه، وحينما حمل اليه، سجنه وبقي في السجن الى ان مات فيه، وقيل ان الموكل به منعه من الطعام اياماً فمات جوعاً[23].

وفي عهده قتل حميد بن قحطبة الطائي ستين علوياً ورماهم في البئر بأمر من هارون حينما كان بطوس[24].

وعلى الرغم من ممارساته للارهاب وقتله للعلويين إلاّ انه لم يقدم على قتل الإمام (عليه السلام)، وإنّما كان يكتفي بالتهديد أو التخطيط لقتله دون تنفيذ، ففي أحد المواقف قال : لاخرجنّ العام الى مكة ولآخذنَّ علي ابن موسى ولأوردنّه حياض أبيه، وحينما وصل الخبر الى الإمام (عليه السلام) قال : «ليس عليّ منه بأس»[25].

وحينما طلبه هارون للمثول أمامه قال (عليه السلام) لمن معه : «انه لا يدعوني في هذا الوقت إلاّ لداهية، فوالله لا يمكنه أن يعمل بي شيئاً اكرهه» ولما دخل على هارون اكرمه وطلب منه ان يكتب حوائج أهله، وحينما خرج (عليه السلام) قال هارون : أردت وأراد الله وما أراد الله خير[26].

وبقي الإمام (عليه السلام) تحت رقابة شديدة من قبل عيون وجواسيس هارون، وكانوا ينقلون له كل ما يقوله، وكل ما يفعله، ويحصون عليه لقاءاته وزياراته، إلاّ انه كان شديد الحذر من أجل ان يأمن هارون جانبه .

[1] تاريخ الخلفاء : 237 .

[2] الاغاني : 4 / 43 .

[3] تاريخ الخلفاء : 237 .

[4] الاغاني : 16 / 345 ، فوات الوفيات : 4 / 226

[5] فوات الوفيات : 4 / 226 .

[6] حياة الإمام علي بن موسى الرضا : 2 / 224 .

[7] تاريخ الطبري : 8 / 349 .

[8] تاريخ الطبري 8 / 349 ـ 350 .

[9] الكامل في التاريخ : 6 / 293 ـ 294 .

[10] الكامل في التاريخ : 6 / 295 .

[11] الكامل في التاريخ : 6 / 295 .

[12] الكامل في التاريخ : 6 / 295 .

[13] العقد الفريد : 8 / 156 .

[14] الكامل في التاريخ : 6 / 437 .

[15] تاريخ الخلفاء : 260 .

[16] تاريخ الخلفاء : 260 .

[17] مروج الذهب : 3 / 435 .

[18] تاريخ الطبري : 8 / 551 .

[19] تاريخ اليعقوبي : 2 / 414 .

[20] سورة الصف (61): 3 .

[21] العقد الفريد : 1 / 51 .

[22] تاريخ اليعقوبي : 2 / 423 .

[23] تاريخ اليعقوبي: 2 / 408 .

[24] عيون أخبار الرضا : 1 / 109 .

[25] اثبات الوصية : 174 .

[26] بحار الانوار : 49 / 116، عن مهج الدعوات .