مكتبة الإمام الرضا

فهرس الكتاب

 

دوافع المأمون لفرض ولاية العهد على الإمام (عليه السلام)

لم تكن دوافع المأمون من جعل الإمام (عليه السلام) ولياً لعهده نابعة من ولائه لأهل البيت (عليهم السلام); لأن مغريات السلطة والرئاسة متغلبة على جميع الولاءات والميول، ولم يكن المأمون صادقاً في ولائه، وكان ميله للعلويين اصطناعاً[1]، ولا يمكن التصديق بعمق الولاء حتى يكون دافعاً للتنازل عن الحكم وتسليمه الى الإمام الرضا (عليه السلام) أو توليته للعهد من بعده، فهل يُعقل ان يضحّي المأمون بالحكم الذي قتل من أجله الالاف من الجنود والقادة، وقتل أخاه وبعض أهل بيته، ثم يسلّمه الى غيره ؟!

وبالفعل لم يدم الأمر طويلاً، ورحل الإمام (عليه السلام) الى ربّه والمأمون حي يرزق، فدوافع المأمون نابعة من مصلحة حكمه ومستقبل أهل بيته، وهو حال جميع أو اغلب الحكام المتعاقبين على دفة الحكم، والاّ فما معنى الالحاح على الإمام (عليه السلام) حتى وصل الى درجة التلويح بل التصريح بالقتل ـ كما سيأتي ـ ويمكن تحديد دوافع المأمون بالنقاط التالية :

أوّلاً : تهدئة الأوضاع المضطربة

كانت الاوضاع في عهد المأمون مضطربة للغاية، فبعد قتال دام مع أخيه واستيلائه على الحكم فوجئ بعدة ثورات وحركات مسلحة، ومنها ثورات العلويين، وكان المعارضون لحكمه منتشرين في جميع الأمصار الاسلامية، وقد وضّح المأمون حقيقة الاوضاع قائلاً:

والله ما أنزلت قيساً من ظهور خيولها إلاّ وأنا أرى أنّه لم يبق في بيت مالي درهم واحد ... وأمّا اليمن، فو الله ما أحببتها، ولا أحبتني قطّ، وأمّا قضاعة فساداتها تنتظر السفياني، حتى تكون من اشياعها، وامّا ربيعة فساخطة على ربّها مذ بعث الله نبيّه من مُضر[2].

وقد خلخلت الثورات المسلحة الوضع العسكري والسياسي، فقد نظر في الدواوين فوجد من قتل من اصحاب السلطان في وقائع أبي السرايا مائتا الف رجل[3].

فأراد المأمون من تقريب الإمام (عليه السلام) وتولّيه العهد أن يستقطب أعوانه وأنصاره، ويوقف زحفهم ونشاطهم العسكري، بل يستميلهم الى جانبه ليتفرّغ الى بقية الثائرين والمتمردين الذين لا يعتد بهم قياساً للثوار العلويين .

واراد كسب الاغلبية العظمى من المسلمين لارتباطهم العاطفي والروحي بالامام (عليه السلام) وخصوصاً أهل خراسان الذين اعانوه على احتلال بغداد، والشاهد على ذلك استقبال الإمام (عليه السلام) من قبل العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث، والذين بلغ عددهم عشرين ألفاً في نيسابور[4].

وبتقريب الإمام (عليه السلام) كان يمكنه امتصاص نقمة المعارضة، وتفويت الفرصة عليها للمطالبة بالحكم، وشق صفوفها عن طريق تقريب البعض واقناعهم بترك الثورة المسلحة دون البعض الآخر .

ثانياً : إضفاء الشرعية على حكمه

إنّ شرعية الحاكم عند المسلمين مستمدة من النص عليه من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو رأي أهل البيت (عليهم السلام) أو من الشورى وموافقة أهل الحل والعقد، أو العهد من قبل السابق مشروطاً برضى الاُمة المتأخّر عن زمن العهد وهو رأي بقية الفقهاء، وهؤلاء الفقهاء وان اقرّوا حكومة المأمون الاّ انّ اقرارهم كان نابعاً من الترغيب والترهيب، أو استسلاماً منهم للأمر الواقع وعدم قدرتهم على ازالته .

من هنا فالمأمون أدرك ان حكمه بحاجة الى اضفاء الشرعية عليه، لذا اظهر استعداد التنازل عن الحكم ليقوم الإمام الرضا (عليه السلام) بالتصدّي له، وحينما رفض الإمام (عليه السلام) استلام الحكم عرض عليه ولاية العهد فاضطره الى قبولها، والإمام (عليه السلام) موضع قبول ورضى من قبل جميع المسلمين كما عبّر الإمام محمد الجواد (عليه السلام) عن هذه الحقيقة بقوله :

«رضي به المخالفون من اعدائه كما رضي به الموافقون من اوليائه، ولم يكن ذلك لأحد من آبائه(عليهم السلام)، فلذلك سمي من بينهم الرضا»[5].

وقبوله للعهد ـ في رأي المأمون ورأي كثير من المسلمين ـ يعني اعترافه بشرعية حكم المأمون، والرضا الظاهري بتقبّل ولاية العهد، يعني رضاه عن الحكم الواقع وعدم معارضته له، ورضاه هو رضا الاُمة التي تواليه عاطفياً وفكرياً.

ثالثاً : منع الإمام من الدعوة لنفسه

ان الإمام (عليه السلام) مسؤول عن دعوة الاُمة للارتباط بالإمام الحق وبالمنهج الحق، والمتجسّد بامامته وبمنهج أهل البيت (عليهم السلام)، ولذلك فانّه لا يتوانى عن هذه المسؤولية، ومن هنا كان تفكير المأمون منصباً على منع الإمام من الدعوة لنفسه، أو تحجيم سعة الدعوة، والمتعارف عليه انّ ولي العهد يدعو للحاكم الفعلي ثم يدعو لنفسه، وقد عبّر المأمون عن دوافعه بالقول :

قد كان هذا الرجل مستتراً عنّا يدعو الى نفسه دوننا، فأردنا ان نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه الينا[6].

رابعاً : إبعاد الإمام عن قواعده

وجود الإمام (عليه السلام) في العاصمة الى جنب المأمون يعني ابتعاده عن قواعده الشعبية، وتحجيم الفرص المتاحة للاجتماع بوكلائه ونوّابه المنتشرين في شرق الارض وغربها، وابعاد الإمام (عليه السلام) عن قواعده يعني التقليل من التوجيه والارشاد المباشر لها، ومن خلال ذلك يمكن مراقبة الإمام(عليه السلام) مراقبة دقيقةً ومعرفة تحركاته ولقاءاته اليومية، فقد قام المأمون بتقريب هشام بن ابراهيم الراشدي، وقد كان ممّن يتقرّب الى الإمام(عليه السلام) ويحاول الاختصاص به وولاّه حجابة الإمام(عليه السلام)، فكان ينقل الاخبار اليه، وكان يمنع من اتصال كثير من مواليه به، وكان لا يتكلم الإمام في شيء إلاّ أورده هشام على المأمون[7].

خامساً : إيقاف خطر الإمام على الحكم القائم

ان التفاف المسلمين حول الإمام (عليه السلام) وتوسع قاعدته الشعبية كان يشكل خطراً على الحكم القائم وخصوصاً ان الحكم قد خرج من معارك طاحنة بين الامين والمأمون، وبين المأمون والمعارضين، فقوة الإمام (عليه السلام) تعني ضعف المأمون، وقد اعترف المأمون بذلك فقال :

وقد خشينا ان تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لانسدّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه[8].

سادساً : تشويه سمعة الإمام (عليه السلام)

اراد المأمون من خلال تولية الإمام (عليه السلام) للعهد ان يشوه سمعته بالتدريج عن طريق عيونه ووسائل اعلامه، وقد كشف الإمام (عليه السلام) هذه الحقيقة للمأمون بقوله : «تريد بذلك ان يقول الناس انّ علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، الا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً بالخلافة»[9].

وصرّح المأمون للعباسيين ببعض دوافعه بقوله: ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحق هذا الأمر[10].

سابعاً : تفتيت جبهة المعارضة

إن المعارضين لحكم المأمون سينظرون الى الإمام (عليه السلام) على أنه جزء من الحكومة القائمة، وتتعمّق هذه النظرة حينما يجدون أن اخوة الإمام (عليه السلام) وأبناء عمومته قد اصبحوا ولاة واُمراء على الأمصار، وبالفعل فقد عيّن المأمون العباس وابراهيم اخويّ الإمام (عليه السلام) ولاة على الكوفة واليمن[11].

ففي هذه الحالة اصبح باقي المعارضين وجهاً لوجه أمام انصار الإمام (عليه السلام)، وهذا يعني تفتيت جبهة المعارضة، فاذا ارادت المعارضة القيام بحركة مسلحة فإنها ستواجه الوالي العلوي مباشرة، ويقوم الوالي باصدار الأوامر لقمعها، وتلقى المسؤولية عليه، وكان المأمون يتمنى هذا الأمر فلجأ الى تولية الإمام(عليه السلام) ولاية العهد ليحقق هذه الاُمنية، واضافة الى ذلك فإنه أراد أن يلقي مسؤولية بعض المفاسد الإدارية والحكومية على من نصّبهم في الامصار من أهل البيت (عليهم السلام) أو من اتباعهم .

[1] شذرات الذهب : 2 / 3 .

[2] الكامل في التاريخ: 6 / 432، 433 .

[3] مقاتل الطالبيين : 550 .

[4] الفصول المهمة : 251، نور الابصار : 170 .

[5] عيون أخبار الرضا : 1 / 13 وعنه في البحار: 49/4 .

[6] فرائد السمطين : 2 / 214 .

[7] عيون أخبار الرضا: 2/153 ح 22 وعنه في بحار الانوار : 49 / 139 .

[8] فرائد السمطين : 2 / 214 .

[9] علل الشرايع : 238 .

[10] فرائد السمطين : 2 / 215 .

[11] تاريخ ابن خلدون : 5 / 527، 532 .