الفصل الثاني نشاطات الإمام الرضا (عليه السلام) بعد البيعة بولاية العهد
لم يحصل المأمون من بيعته للإمام الرضا (عليه السلام) إلاّ على بعض الامتيازات والمكاسب والتي منها ايقاف العمليات العسكرية المسلحة، وقطع علاقة الإمام (عليه السلام) بأغلب قواعده الشعبية المقيمة في العراق وفي الحجاز واليمن، وأمّا الإمام (عليه السلام) ومنهج أهل البيت (عليهم السلام) فقد حصلا على امتيازات واسعة، واستثمر الإمام (عليه السلام) الفرصة للقيام باداء دوره الاصلاحي والتغييري بشكل كبير، وتتحدد معالم هذه المرحلة بالمظاهر والممارسات التالية : افشال خطط المأمونأراد المأمون ان يجعل الإمام (عليه السلام) وسيلة لاضفاء الشرعية على حكمه، وايقاف نشاط الحركات الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، وقد طلب من الإمام (عليه السلام) أن يولّي أحد أتباعه على البلدان التي تمرّدت على حكمه، ولكي يوقف تمرّدها حينما يكون الوالي من أنصار واتباع الإمام (عليه السلام)، أو يجعل المعارضة وجهاً لوجه أمام بعضها البعض . ولكنّ الإمام (عليه السلام) افشل خطة المأمون بهدوء طبقاً للشروط التي اشترطها، كما روي عنه (عليه السلام) انه قال : «قال لي المأمون : يا أبا الحسن انظر بعض من تثق به تولّيه هذه البلدان التي فسدت علينا، فقلت له : تفي لي وأفي لك، فإنّي انما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى ولا أعزل ولا اُولّي ولا اسيّر، حتى يقدمني الله قبلك، فوالله انّ الخلافة لشيء ما حدّثت به نفسي، ولقد كنت بالمدينة أتردّد في طرقها على دابّتي، وان اهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم ، فيصيرون كالأعمام لي، وانّ كتبي لنافذة في الامصار، وما زدتني في نعمة هي عليّ من ربي، فأجابه المأمون : أفي لك». ولم يراجعه المأمون في نفس القضية بعد ذلك، وليس أمامه إلاّ اصلاح الاوضاع العامة لتجنّب الثورات والتمرّدات المسلّحة . ولم يتدخل الإمام (عليه السلام) في تعيين مسؤولي سائر المناصب كالقضاة وامراء الجيش واصحاب بيوتات الاموال، وتجنب جميع التصريحات والمواقف التي تمنح الشرعية لحكم المأمون، ولم يتدخل إلاّ في اصلاح المفاهيم والقضايا القضائية، وكل ما فيه مصلحة للاسلام والمسلمين . إصلاح القضاءكان المأمون يجلس في ديوان المظالم يوم الاثنين ويوم الخميس، ويجلس الإمام (عليه السلام) الى جانبه الايمن، فرفع اليه أن صوفياً من أهل الكوفة سرق، فأمر باحضاره فرأى عليه سيماء الخير فقال : سوءاً لهذه الآثار الجميلة بهذا الفعل القبيح، فقال الرجل : فعلت ذلك اضطراراً لا اختياراً، وقد منعت من الخمس والغنائم، فمنعتني حقي وأنا مسكين وابن السبيل وأنا من حملة القرآن . فقال المأمون: لا اعطل حداً من حدود الله وحكماً من أحكامه في السارق من أجل اساطيرك هذه . قال: فابدأ أوّلاً بنفسك فطهرها ثم طهّر غيرك، وأقم حدود الله عليها ثم على غيرك . فالتفت المأمون الى الإمام (عليه السلام) فقال: ما تقول ؟ فقال (عليه السلام) : «انه يقول سرقت فسرق» . فغضب المأمون ثم قال : والله لاقطعنك . قال الرجل : أتقطعني وأنت عبد لي ؟ أليس أمك اشتريت من مال الفيء، فأنت عبد لمن في المشرق والمغرب من المسلمين حتى يعتقوك وانا منهم وما أعتقتك، والاُخرى ان النجس لا يطهر نجساً إنّما يطهره طاهر، ومن في جنبه حدّ لا يقيم الحدود على غيره حتى يبدأ بنفسه ... فالتفت المأمون الى الإمام (عليه السلام) فقال : ما تقول ؟ قال (عليه السلام) : «ان الله عزوجل قال لنبيّه : (قل فلله الحجة البالغة)[1] وهي التي تبلغ الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه، والدنيا والآخرة قائمتان بالحجة وقد احتج الرجل» . فأمر المأمون باطلاق الرجل الصوفي[2]. وكان الإمام يتدخل في مثل هذه القضية دفاعاً عن المظلومين والمحرومين، وتطبيق احكام القضاء طبقاً للمنهج الاسلامي السليم، ففي أحد الأيام اُدخل الى المأمون رجلٌ أراد ضربَ عنقه والإمام (عليه السلام) حاضر، فقال له المأمون : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : «اقول انّ الله لا يزيدك بحسن العفو الاّ عزاً»، فاتبع المأمون قول الإمام (عليه السلام) وعفى عنه [3]. واُتيَ المأمون بنصراني قد فجر بهاشمية، فلما رآه المأمون أسلم النصراني ; فغاضه ذلك، وسأل الفقهاء فقالوا : أهدر الإسلام ما قبل ذلك، فسأل المأمون الرضا (عليه السلام) فقال : «اقتله; لأنه اسلم حين رأى البأس; قال الله عزّوجلّ : (فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا بالله وحده )[4]». إصلاح الأعمال الإداريةلم يتدخل الإمام (عليه السلام) في الشؤون الادارية إلاّ في الحالات التي كان يجد فيها مصلحة اسلامية عامة تخص الاسلام والمسلمين، وتمنع الاعداء من اختراق الجهاز الاداري أو الحكومي، فكان يبدي نصائحه وتوجيهاته القيّمة في هذا المجال . ومن هذه الشؤون، تعيين الولاة الذين اسلموا حديثاً، ففي ذات مرّة دخل الفضل بن سهل على المأمون وقال له : قد وليت الثغر الفلاني فلاناً التركي، فسكت المأمون، فقال الإمام (عليه السلام) : «ما جعل الله تعالى لإمام المسلمين وخليفة ربّ العالمين القائم باُمور الدين، أن يولي شيئاً من ثغور المسلمين أحداً من سبي ذلك الثغر، لأن الأنفس تحنّ الى أوطانها، وتشفق على اجناسها، وتحب مصالحها، وان كانت مخالفة لأديانها»، فقال المأمون : اكتبوا هذا الكلام بماء الذهب[5]. فالإمام أعطى قاعدة كليّة في شؤون تعيين الولاة واُمراء الثغور، وليس ذلك اعترافاً بإمامة المأمون، وإنّما هو وضع قاعدة كلية لمطلق إمام المسلمين والذي ينصرف الى الإمام العادل . نشر الآراء السديدة في داخل البلاطاستثمر الإمام (عليه السلام) فرصة وجوده في البلاط الحاكم لنشر الآراء السديدة في مختلف جوانب الفكر والعقيدة، ليطّلع الحاكم ووزراؤه والمقربون اليه من قادة واُمراء وفقهاء وخدم وبوّابين على آراء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومتبنياتهم الفكرية والعقائدية، وفضائلهم ومكارمهم . وكان الإمام (عليه السلام) يتحدث ابتداءً حسب الظروف، ويجيب في ظروف اخرى على الاسئلة الموجهة اليه . سأل الفضل بن سهل الإمام (عليه السلام) في مجلس المأمون فقال : «يا أبا الحسن; الخلق مجبورون ؟ فقال (عليه السلام) : الله أعدل أن يجبر ثم يعذّب، قال: فمطلقون ؟ قال (عليه السلام) : الله احكم، أن يهمل عبده ويكله الى نفسه[6]. وقال له المأمون : يا أبا الحسن; اخبرني عن جدك عليّ بن أبي طالب بأي وجه هو قسيم الجنة والنار ؟ فقال : ... الم ترو عن ابيك عن آبائه عن عبدالله بن عباس أنه قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : «حب علي ايمان وبغضه كفر» فقال بلى، فقال الإمام (عليه السلام) : فقسمة الجنة والنار إذا كانت على حبّه وبغضه، فهو قسيم الجنة والنار». فقال المأمون : لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن، اشهد أنك وارث علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)»[7]. واستطاع الإمام (عليه السلام) بفكره الثاقب واسلوبه الواعي ان يجعل المأمون وغيره يبادلونه الاسئلة، وأن يعترفوا بنفسهم بفضائل أهل البيت (عليهم السلام) تقرباً إليه، وكان المأمون : يعقد مجالس النظر ويجمع المخالفين لاهل البيت (عليهم السلام) ويكلمهم في امامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتفضيله على جميع الصحابة، تقرباً الى أبي الحسن علي بن موسى الرضا[8]. ومن الطبيعي ان لا يعترض المخالفون على اقوال المأمون رغبة أو رهبة، وهذا له تأثيره المباشر على من يحضر هذه المجالس ويرى سكوت الفقهاء وعدم اعتراضهم على الآراء المطروحة امّا لضعف الدليل او استسلاماً للمأمون. فاستطاع الإمام (عليه السلام) ان ينشر آراء أهل البيت (عليهم السلام) في جميع الفرص المتاحة له . نصائح الإمام الرضا (عليه السلام) للمأمونوكان الإمام (عليه السلام) يكثر وعظ المأمون اذا خلا به، ويخوفه بالله، ويقبّح ما يرتكبه به، فكان المأمون يظهر قبول ذلك منه، ويبطن كراهته واستثقاله[9]. ودخل عليه في أحد المرّات فرآه يتوضّأ، والغلام يصبّ على يده الماء، فقال (عليه السلام) : «لا تشرك بعبادة ربّك أحداً»، فصرف المأمون الغلام، وتولّى إتمام وضوئه بنفسه [10]. وقال له يوماً : «ما التقت فئتان قط إلاّ نصر الله أعظمهما عفواً»[11]. ودخل عليه المأمون وقرأ عليه كتاب فتح بعض قرى كابل، فلما فرغ، قال له الإمام (عليه السلام) : «وسرّك فتح قرية من قرى الشرك»، فقال المأمون : أوليس في ذلك سرور ؟ فقال الإمام (عليه السلام) : «... اتق الله في اُمة محمد (صلى الله عليه وآله)، وما ولاّك الله من هذا الأمر، وخصّك به، فإنك قد ضيعت أمور المسلمين، وفوضت ذلك الى غيرك يحكم فيهم بغير حكم الله، وقعدت في هذه البلاد وتركت بيت الهجرة ومهبط الوحي، وان المهاجرين والانصار يظلمون دونك ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ويأتي على المظلوم دهر يتعب فيه نفسه ويعجز عن نفقته ولا يجد من يشكو اليه حاله، ولا يصل اليك، فاتق الله يا أمير المؤمنين في امور المسلمين وارجع الى بيت النبوة ومعدن المهاجرين والانصار ...». قال المأمون : يا سيدي فما ترى ؟ قال (عليه السلام) : «ارى أن تخرج من هذه البلاد وتتحول الى موضع آبائك وأجدادك، وتنظر في اُمور المسلمين ولا تكلهم الى غيرك، فإن الله سائلك عمّا ولاّك». فقال المأمون : نِعْمَ ما قلت يا سيدي ! هذا هو الرأي[12]. وقد وجد المأمون في هذه النصيحة أفضل المواقف السياسية التي كان لابد من اتخاذها، وبالفعل رجع الى بغداد بعد هذه النصيحة . |
|