|
الفصل الثالث مدرسة الإمام الرضا(عليه السلام) احتجاجاته وتراثه
عاش الإمام الرضا(عليه السلام) في عصر انفتاح الاُمة الإسلامية على تراث الاُمم الاُخرى التي أخذت تدخل في حاضرة المسلمين وتساهم معهم في بناء صرح حضارتهم الإسلامية. وقد بلغ هذا الانفتاح مبلغاً عظيماً في عصر الإمام الرضا(عليه السلام) بشكل واضح حتى كان يهدّد الثقافة الإسلامية إن لم يتصدّ له المعنيّون بحفظ أصالة الثقافة الإسلامية من الذوبان في الثقافات الدخيلة عليها بشكل أو آخر. وقد اعتنى الإمام الرضا(عليه السلام) بهذا الجانب الخطير فقام باعداد وتربية أجيال من العلماء ليحرصوا على صيانة التراث الإسلامي من الذوبان والانهيار، ويقوموا بمهمة نشر الفكر الإسلامي الصائب في أرجاء العالم الإسلامي ويهتمّوا بتربية أجيال تحمل هذه الرسالة الى العالم أجمع. من هنا كانت للإمام الرضا(عليه السلام) مدرسة حيّة تتقوّم بعناصر عالمة ومتعلّمة وذات ثقافة رسالية فريدة. وهذه المدرسة تعتبر جزءً من التراث الحي للإمام الرضا(عليه السلام) . وهي بعدٌ متميّز من تراثه الثرّ. وتأتي احتجاجات الإمام الطويلة والمتنوّعة مع أرباب شتى المذاهب والأديان لتشكّل علامة فارقة اُخرى في حياة الإمام الرضا(عليه السلام) وهي الجزء الآخر من تراثه المعطاء. كما يعتبر كل ما دوّن وروي عن الإمام الرضا(عليه السلام) من أحاديث ورسائل وكتب في شتى ميادين المعرفة الإسلامية الجزء الثالث من تراثه الخالد للاُمة الإسلامية بل البشرية جمعاء . من هنا سوف نتكلّم عن هذه الحقول والأجزاء الثلاثة ضمن ثلاثة بحوث تأتي تباعاً. البحث الأول: مدرسة الإمام الرضا(عليه السلام)يتراوح عدد الرواة عن الإمام الرضا (عليه السلام) كما جاء في المصادر الموجودة بأيدينا بين (313) الى (367) راوياً. وهؤلاء يعتبرون طلاّب مدرسته والمتخرجين على يديه. وقد أحصى عددهم صاحب مسند الإمام الرضا وترجم لِـ 313 راوياً منهم بشكل موجز جدّاً استناداً الى ما جاء لهم من ذكر في أسناد روايات المسند . على أن الشيخ الطوسي (رضي الله عنه) قد ذكر ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام)، بينما أنهاهم الشيخ باقر شريف القرشي الى (367) راوياً [1] . ونظرة سريعة إلى مسند الإمام الرضا(عليه السلام) تعطينا صورة اجمالية عن اتجاهات مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) وملامح عصره في مجالات التربية العلمية والاخلاقية كما كانت تتطلّبها الظروف التي عاشها الإمام (عليه السلام) هذا فضلاً عن الإعداد الخاص للمستقبل القريب والبعيد الذي كان قد خطط له الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) كما هو واضح لمن يتدبّر مجموع ما صدر عنهم من نصوص وما تضمّنتها من التوجيه الى آفاق المستقبل المشرق الذي ينتظر أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وهم الجماعة الصالحة التي التزمت خطّهم الفكري والسياسي وأصرّت على التضحية في سبيل العقيدة الصحيحة والمبدأ الحق . وقد ازداد النشاط العلمي لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا العصر وتمثّل في كثرة التأليف والتدوين، والتدريس والرواية وشمل جميع الحقول المعرفية المعروفة آنذاك . كما ازداد عدد الأفراد المنتمين لمدرسة الفقهاء الرواة من أتباع أهل البيت(عليهم السلام) ازدياداً ملحوظاً، ونلمس ذلك بوضوح من خلال عدد رواة الإمام الرضا(عليه السلام) حيث تكشف قائمة الرواة عن مدى الاهتمام منهم بانتهال العلم من مدرسة الإمام الرضا(عليه السلام) الرسالية في عصره، لا سيّما إذا لاحظنا تنوّع مستوياتهم وتنوّع اتجاهاتهم وتنوع بلدانهم واهتماماتهم العلمية من خلال تنوع الاسئلة والمجالات التي رووا فيها الأحاديث عن الإمام الرضا(عليه السلام). ونشير فيما يلي الى بعض أصحاب الإمام والى جملة من مؤلفاتهم . لقد ذكرت كتب التراجم ليونس بن عبدالرحمن [2] الكتب التالية : 1 ـ كتاب الشرايع، 2 ـ جوامع الآثار، 3 ـ الجامع الكبير في الفقه، 4 ـ الصلاة، 5 ـ الوضوء، 6 ـ يوم وليلة، 7 ـ السهو، 8 ـ الزكاة، 9 ـ اختلاف الحج، 10 ـ العلل الكبير، 11 ـ علل الحديث، 12 ـ الفرائض، 13 ـ الفرائض الصغير، 14 ـ الاحتجاج في الطلاق، 15 ـ التجارات، 16 ـ المزارعات، 17 ـ الآداب والدلالة على الخير، 18 ـ علل النكاح وتحليل المتعة، 19 ـ البيوع، 20 ـ الديات، 21 ـ الحدود . وذكرت لصفوان بن يحيى [3] ما يلي : 1 ـ كتاب الوضوء، 2 ـ الصلاة، 3 ـ الصوم، 4 ـ الحج، 5 ـ الزكاة، 6 ـ النكاح، 7 ـ الطلاق، 8 ـ الفرائض، 9 ـ الوصايا، 10 ـ الشراء والبيع، 11 ـ العتق والتدبير، 12 ـ البشارات، 13 ـ النوادر . وذكرت للحسن بن محبوب أيضاً : 1 ـ كتاب المشيخة، 2 ـ الحدود، 3 ـ الديات، 4 ـ الفرائض، 5 ـ النكاح، 6 ـ الطلاق، 7 ـ النوادر نحو ألف ورقة، 8 ـ التفسير، 9 ـ العتق . كما ذكرت كتب أخرى لعثمان بن عيسى الرؤاسي ومحمد بن ابي عمير وعلي بن يقطين ومحمد بن عيسى اليقطيني حتى جاء عنه في مناقب ابن شهر آشوب انه جمع من مسائل ابي الحسن الرضا مما سئل عنه وأجاب ثمانية عشر ألف مسألة أو خمسة عشر ألف مسألة [4] . البحث الثاني: احتجاجات الإمام الرضا(عليه السلام)إن انفتاح الاُمة الإسلامية على الاُمم والثقافات الاُخرى ـ بأيّ سبب كان [5] ـ كان يتطلّب من القيادة الرساليّة التي كانت مهمّتها الاُولى صيانة الرسالة الإسلامية والاُمة المسلمة من الانهيار والسقوط أن تقوم بتحصين الاُمة والمجتمع الإسلامي تحصيناً علمياً وثقافياً يجعلها تصمد أمام الاختراق الثقافي المقصود أو غير المقصود. وقد عرفنا أن عصر الإمام الرضا(عليه السلام) قد تميّز بانفتاح هذا الباب على مصراعيه، وأصبح الخطر محدقاً بالاُمة، وكان المأمون يبدي رغبة جامحة وشديدة في الحوار بين الإمام الرضا(عليه السلام) وسائر أرباب الأديان والمذاهب والاتجاهات العاملة في المجتمع الإسلامي آنذاك. وقد تحقق هذا الحوار المفتوح على أصعدة شتّى، وتحدّى فيه الإمام الرضا(عليه السلام) ـ باعتباره الشخصية العلمية الوحيدة اللامعة في العالم الإسلامي ـ كل أصحاب الأديان والمذاهب والفرق وفاقهم جميعاً، وسجّل بذلك للعالم الإسلامي تفوّقه وقيمومته العلمية بالنسبة لهم، وتلألأت بذلك شخصية الإمام الرضا(عليه السلام) بشكل خاص [6] . ولا ندري هل سجّلت كتب التراث كل ساحات الحوار ونصوصه التي دارت بين الإمام الرضا(عليه السلام) وسائر أرباب الأديان والمذاهب، غير أنّ ما وصل الينا من حوارات غني في بابه وتنوّع مجالاته، بالرغم من وجود شواهد تأريخية على اصرار المأمون لحجب هذه الحوارات عن الانتشار. وتكفّلت كُتب الاحتجاج بثبت جملة من هذه الحوارات وتجدها في كتاب الاحتجاج للطبرسي وبحار الأنوار للمجلسي فضلاً عن كتاب عيون أخبار الرضا(عليه السلام) . وقد اُنتجت هذه الحوارات المهمة ما يلي: 1 ـ تحدي أرباب الأديان والمذاهب، وإثبات التفوّق العلمي لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام) الرسالية. 2 ـ فتح الباب لانتشار ثقافة أهل البيت(عليهم السلام) في أوساط المجتمع الإسلامي. 3 ـ توجيه المسلمين الى خط أهل البيت(عليهم السلام) الرسالي ودعوتهم للانشداد بهم دون غيرهم دعوة صامتة. 4 ـ دعم الدولة الإسلامية لأنها قدّمت للإنسانية الرصيد العلمي الذي تمتلكه الحضارة الإسلامية. 5 ـ ولا نستبعد أن تكون هذه الفتوحات الكبيرة سبباً من أسباب الإسراع في القضاء على شخص الإمام الرضا(عليه السلام)، لأن تفوقه واشراقه يعود بنتائج سلبية على شخص الخليفة، فيكون وجوده مزاحماً لمثل المأمون الذي يحمل أكبر الآمال في إحكام السيطرة على العالم الإسلامي. وعلى كل حال فقد تنوّعت مجالات الحوار فشملت التوحيد، والنبوّة والأنبياء(عليهم السلام) والإمامة والأئمة، والمذاهب الإسلامية، والخلافة والصحابة، وغيرها من مسائل الخلاف بين المسلمين. ونستعرض فيما يلي نماذج من هذه الاحتجاجات لنقف على جانب من عظمة الإمام العلمية ونشاطه الخاص في هذا المجال الخطير. |
|