يراه الرائي فيحسبه أقبل من دفن والديه. فإذا انتهى الكلام قال عمرو للإمام (هلك من سلبكم تراثكم ونازعكم في الفضل والعلم).
ويجيء إمام خراسان عبد اللّه بن المبارك، وهو إمام فقه، وبطل معارك. تلمذ للإمام زمانا، ولأبي حنيفة، فتعلم ما جعله يخفي بطولاته في الفتوح «لأن من صنعها لأجله - سبحانه - مطلع عليها(1)». وفي الإمام جعفر شعره الذي ورد فيه:
أنت يا جعفر فوق الـ
|
|
مدح. والمدح عناء
|
إنما الأشراف أرض
|
|
ولهم أنت سماء
|
جاز حد المدح من
|
|
قد ولدته الأنبياء
|
فإذا كان الصادق في مواجهة مع المنصور، حيث القواد والعلماء يجلسون على مبعدة منه، فإن مجلس الإمام عن يمينه حتى ولو دعاه يخوفه. فلقد طالما انتهت اللقاءات بالموعظة يلقيها الإمام من حديث رسول اللّه، ولحديث رسول اللّه شرف المجلس، ولابن رسول اللّه شرف من رسول اللّه.
ولو جلس الصادق على مبعدة أو مقربة من الخليفة، لكان الشرف حيث يجلس. وربما قربه الخليفة ليلتمس لنفسه القربى إلى الناس في الدنيا، ويوم لا تملك نفس لنفس شيئا، وعندما تلتمس الشفاعة.
وأبو جعفر المنصور يقر بمكانه من العلم والتقوى مع ضيق صدره بمكانته في الأمة. يقول (هذا الشجى المعترض في حلقي أعلم أهل زمانه. وإنه ممن يريد الآخرة لا الدنيا).
(1) استعصى على المسلمين حصن من حصون الروم. فتصدى له فارس ملثم فاقتحمه وتتابع وراءه المسلمون واختفى الفارس في الجند. ولما سئل ابن المبارك فيما بعد، عن إخفاء نفسه، قال (لأن من صنعت ذلك لأجله - سبحانه - مطلع عليه).
وخرج إلى الحج فمر بأمرأة رآها تخرج غرابا ميتا من حيث ألقى به. فسألها فقالت إنها وزوجها لا يجدان ما يطعمانه. فقال لوكيله : كم معك من نفقة الحج؟ قال: ألف دينار . قال: (عد منها عشرين تكفي للعودة إلى مرو (عاصمة خراسان) وأعطها الباقي. فهذا أفضل من حجنا هذا العام). ورجع ولم يحج.
وكان الرشيد بالرقة يوما وأقبل عليها ابن المبارك. فانجفل الناس خلفه ورأته أم ولد الرشيد فقالت: هذا واللّه الملك. لا ملك هارون الذي يجمع الناس بشرطه وأعوان.
ولما مات ابن المبارك جلس الرشيد فتقبل العزاء فيه.