له في أي عصر ، والمقام يضيق عن الاستقصاء . فحسبنا أن نقف قليلا عند فقرات من عهده لمالك بن الحارث (الأشتر النخعي) فهذا عهد مقطوع القرين في شكله وموضوعه، في التراث العالمي والإسلامي، وبخاصة في السياسة الإسلامية، والحكم الصالح، سواء في صياغته أو محتوياته.
وهذا العهد يضع اسم علي في ذروة المؤسسين للدول (واضعي الدساتير) حيث يتكلم عما يسمى في الدساتير العصرية بالمقومات الأساسية، وواجبات الولاة نحو الأمة، وطريقة قيامهم بحقوق الجماعة، بالتفصيل اللازم. والتنبيه على ملء الفراغ، فيما سكت عنه، بالرجوع إلى أصل الشريعة: القرآن والسنة.
ولقد تتابعت على هذا العهد شروح الأئمة من بعد، فرأينا لزين العابدين في رسالة الحقوق تفصيلات جديدة يقتضيها الزمان، وشهدنا الإمام جعفر الصادق يضيف التطبيق، والتفصيل الدقيق، لما تضمنته رسالة زين العابدين وعهد علي - فيجعل من تنفيذهما وشروحه لهما، عهدا جديدا للمسلمين وللشيعة، تبلغ به مجتمعاتهم أو دولهم مبالغها كلما التزموهما أو قاربوا الالتزام بهما.
يبدأ «عهد علي» بتحديد مهمة الوالي (حين ولاه مصر، جباية خراجها وجهاد عدوها وإصلاح أهلها وعمارة بلادها) فهو قد جمع له ولاية الخراج وولاية الحكم وقال:
(واعلم أن الرعية طبقات. لا يصلح بعضها إلا ببعض. ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود اللّه. ومنها كتاب العامة. ومنها قضاة العدل(1). ومنها عمال الإنصاف والرفق. ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس. ومنها التجار وأهل الصناعات. ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة. وكلا قد سمى اللّه سهمه.
فالجنود بإذن اللّه حصون الرعية. وزين الولاة. وعز الدين. وسبيل الأمن. وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج اللّه تعالى لهم من الخراج . ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب. لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها.
(1) يراجع شرح القسم القضائي من هذا العهد في كتابنا (المنهج العلمي المعاصر مستمد من القرآن ص(145 - 160).