|
|
1ـ النهي عن المغالاة وتأليه العباد |
|
اتخذ الإمام الصادق (عليه السلام) خطوات هامة ليحول دون انحراف الشيعة وسقوطها، وتمثلت الخطوة الأولى في منع تلامذته وأتباعه من المغالاة في حق الأئمة. وفكرة التأليه أو المغالاة في حق الإمام تسربت إلى الشيعة من وقت سابق على عهد الصادق (عليه السلام)، وكان البعض يرى بأن في الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد الباقر (عليهم السلام) وأئمة الشيعة عنصراً ملكوتياً يميزهم عن سائر البشر تمييزاً جوهرياً، وبعبارة أخرى، كانوا يرون في الأئمة عنصرين أو وجودين، الوجود البشري والوجود الإلهي، وقالوا بأن النبي والأئمة تختلف عن سائر البشر. وكان جعفر الصادق (عليه السلام) يدحض هذه الفكرة ويعارضها منذ ما بدأ بالإفادة والتدريس، وكفر القائلين بها مؤكداً (إن جدي وآبائي خلقوا كغيرهم من الناس، وأن القرآن يقول عن رسوله (قل إنما أنا بشر مثلكم)(1). وكان الصادق (عليه السلام) يرى بأن هذه العقيدة خطيرة، وأنها تعارض فكرة التوحيد في الإسلام، وأنها ستقضي في آخر الأمر إلى انقسام الشيعة على نفسها وضعفها وزوالها(2). ولعله كان يعرف ما أصاب المسيحية من شقاق وفتن بسبب فكرة تأليه المسيح، وأنها انقسمت على نفسها وأصبحت عشرين مذهباً أو كنيسة، وكانت الأرثوذكسية أول مذهب مسيحي أسس لنفسه كنيسة في أنطاكية، وانقسمت الأرثوذكسية فيما بعد على نفسها إلى مذاهب وكنائس أخرى، فتأسست كنيسة في أورشليم (القدس) وأخرى في الإسكندرية، وتزعمت كل منهما مذاهب وكنائس أخرى. كانت أنطاكية في القرن الثاني الميلادي عاصمة المسيحية تتبعها إحدى عشرة مملكة من مصر إلى إيران، وكان مائة وخمسون أسقفاً ينتمون إلى أنطاكية يبشرون بالمسيحية في المنطقة، وكانت ظاهرة الخلاف قد دبت بين الأساقفة بسبب اختلاف القول والرأي في مدى مرتبة الألوهية عند السيد المسيح (عليه السلام). واليوم وقد مر ثمانية عشر قرناً من هذه الحقبة الزمنية، ونحن في نهاية القرن العشرين، وعدد الكنائس في المذهب الأرثوذكسي، وهو أول المذاهب المسيحية، يتجاوز العشرين وأهمها: كنيسة أنطاكية، وكنيسة أورشليم، وكنيسة الإسكندرية أو الأقباط، وكنيسة روسية، وكنيسة أوكرانيا (في روسية)، وكنيسة اسطنبول، والكنيسة اليونانية، وكنيسة مونتيجرو (في يوغسلافيا)، وكنيسة البوسنة والهرسك (في يوغسلافيا)، وكنيسة بلاد الصرب (في يوغسلافيا) وكنيسة دالماسيا (في يوغسلافيا)، وكنيسة بلغاريا، وكنيسة رومانيا، وكنيسة بسارابي (في رومانيا)، وكنيسة ألبانيا، وكنيسة أستونيا، وكنيسة فنلندا، وكنيسة بولونيا، وكنيسة تشكوسلوفاكيا، والكنيسة الأرمنية. لم نورد في هذه القائمة الكنائس الأرثوذكسية في أمريكا لأنها تفرعت وتشعبت من الكنائس الأرثوذكسية الروسية أو اليونانية أو البولونية وغيرها. والخلاف كبير والفرق شاسع بين كل هذه الكنائس مع أنها أرثوذكسية، والخلاف نابع حول الاعتقاد بالمسيح، وأي جزء منه هو عنصر إلهي وأي جزء منه هو عنصر بشري، وهل العنصر الإلهي مركب مع عنصره البشري أو أنهما مختلطان، وهل يمكن فصل العنصر الإلهي عن العنصر البشري أو أنهما اختلطا كاختلاط الماء والخل، ولا سبيل إلى تجزئتهما وتفكيكهما، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف رفع المسيح إلى السماء والتحق بربه، وعن المعراج كان مع جزئه وعنصره البشري؟ وكيف للعنصر الأرضي (البشري) أن يرقى ويرتفع إلى العليين ويلتحق بالرب؟ نعم، كانت فكرة التأليه منذ القرن الأول الميلادي، وبقيت إلى يومنا هذا، سبب الخلاف والنقاش بين المسيحيين، فأدت إلى قيام مذاهب جديدة ضمن المذاهب الرئيسية الثلاثة وهي الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والبروتستانتية. كان الصادق (عليه السلام) علامة عصره وخبير دهره، وكان على إلمام تام بالإضافة إلى العلوم التي تدوولت في مدرسته، بتاريخ المسيحية ومبادئها ومواطن الخلاف بين أتباعها، واليوم، وفي عصرنا هذا، لا يسع أحداً بمفرده الوقوف على تاريخ جميع المذاهب المسيحية، فهي كعلم الطب الذي توسع وتشعب حتى لم يعد في وسع طبيب واحد أن يلم في عصره بجميع شعب الطب ويتخصص فيها. ومن العلماء الذين تخصصوا في تاريخ الأديان (دانيس روبز) الفرنسي المتوفي سنة 1967، وقد كتب عن المسيحية أدق الكتب وأجمعها، ووقف حياته بأسرها على الموضوع فأخرج: (المسيح وعصره)، و(المسيحيون الأولون)، وكان متخصصاً في الجانب التاريخي من الموضوع دون سواه من الجوانب. ولكن يبدو في عصر الصادق (عليه السلام) أن الاضطلاع بمعرفة تاريخ المسيحية كان أيسر، لأنها لم تكن قد تفرقت وتشعبت بصورتها الحالية، وليس ثمة ريب في أن الصادق (عليه السلام) كان من القلائل، إن لم يكن وحيد عصره، الذي ألم إلماماً تاماً بالمسيحية، تاريخها ومذاهبها، ومن هنا اجتهد في منع الشيعة من التورط فيما تورطت فيه المسيحية من حيث مغالاتها في خصوص المسيح حتى لا تقع فريسة لانقسامات خطيرة تنتهي بالقضاء عليها في آخر الأمر(3). فوقف بجد وحزم، وتصدى لمن كان يغالي في حق الإمام أو الرسول، ونفى نفياً باتاً أن يكون في الرسول (صلى الله عليه وآله) أو الإمام عنصر إلهي، وكان يقول أن الرسول والأئمة من ولده بشر مثل غيرهم، وإنما الرسول (صلى الله عليه وآله) يتميز عن الخلق بأن الله اختاره ليكون حاملاً للوحي ومبلغاً الرسالة، والأئمة أوصياؤه، وهم عباد لله مخلصون، ومن قال بوجود عنصر إلهي في الرسول (صلى الله عليه وآله) أو الأئمة واعتقد بذلك، فكأنه قد أشرك مع الله إلهاً آخر، فهو مشرك ونجس، فإن كان كلامه هذا مون اعتقاد وإيمان بذلك، وجب نهيه وردعه حتى لا ينحرف أحد أو يقع خلاف بين المسلمين. |
|
2ـ النهي عن المجابهة والخلاف والعزلة عن الناس |
|
الظاهرة الثانية من التفرقة والخلاف في المذاهب المسيحية، التي نتجت عن الناسوت واللاهوت(4) هي وضعية الصوامع في جبل آتوس الواقع في اليونان. ففي ولاية سلانيك اليونانية في الجانب الشرقي منها تقع ثلاث جزر: أولها شبه جزيرة أو جبل آتوس، وقد بنيت عليه عشرون صومعة من الدرجة الأولى واثنتا عشرة صومعة من الدرجة الثانية، ومائتان وأربع من الدرجة الثالثة، وأربع مائة وخمس وستون من الدرجة الرابعة(5). وكان جبل آتوس من أقدم الأزمنة في تاريخ المسيحية مأمناً للرهبان الأرثوذكس، ولمن طاوعته نفسه على الاعتكاف وترك الحياة الاجتماعية. وصوامع جبل آتوس كلها أرثوذكسية، وقد عني بها كثير من ملوك المسيحيين وأثريائهم، ووقفوا عليها الأملاك والأموال، ولكنها خسرت خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية كثيراً من موقوفاتها لأن معظم هذه الموقوفات كان في دول أوروبا الشرقية، وسكانها في غالبيتهم من المسيحيين الأرثوذكس. وفي روسيا صادرت الحكومة موقوفات صوامع (آتوس) بعد الحرب العالمية الأولى وإقامة النظام الشيوعي فيها، فلم تبق لهذه الصوامع إلا الموقوفات الواقعة في اليونان وتركيا وقسم من أوروبا. ومع كل ما فقدته صوامع آتوس من موقوفاتها في روسيا، فقد كانت تتمتع بوضع مالي مستقر متين، إذ ظل خمسة عشر ألف راهب معتكفين فيها، وكان يخدمهم ألف وسبعمائة شخص من غير الرهبان، يخيطون لهم الملابس ويصنعون الأحذية ويطبخون ويعدون الموائد. واليوم قل عدد الرهبان في صوامع آتوس، ولم يبق فيها إلا القليل. وكان من خصائص صوامع آتوس أنها بقيت محصورة على الناس وخاصة المرأة سواء أكانت شابة أم عجوزاً مهما تذرعت بالذرائع. وإذا حضرت الوفاة أحد الرهبان، لم يسمح لوالدته بأن تودعه الوداع الأخير داخل الصومعة، ولكن كان يسمح لها بحضور الجنازة ومراسم الدفن خارج الصومعة. وإلى قبيل الحرب العالمية الثانية، كانت الحياة في صوامع آتوس شبيهة إلى حد ما بحياة القرون المسيحية الأولى، ولكن تبدل الحال بعد دخول الكهرباء إلى الصوامع وإن بقي الرهبان في صوامع آتوس بعد انقضاء عشرين قرناً من ميلاد المسيح لا يهتمون بمجريات الأحداث خارج هذه الصوامع، ولا يقتنون أجهزة الراديو أو التليفزيون. قلنا أن صوامع الدرجة الأولى في هذا الجبل عددها عشرون صومعة، سبع عشرة منها تابعة للروم الأرثوذكس، أي لمذهب ديني واحد. ومع ذلك فلم تستطع تحقيق اتحاد أو اندماج في ما بينها بسبب الخلاف الناشب حول الناسوت واللاهوت، بل أن من المستحيل أن تجد صومعتين يونانيتين تتفقان في الرأي حول ناسوت المسيح ولاهوته، أي عنصره البشري وعنصره الإلهي. ويلاحظ هذا الخلاف نفسه في صوامع الدرجة الثانية وعددها اثنتا عشرة صومعة، ولأن هذه الصوامع ظلت منطوية على نفسها ومنقطعة عن العالم الخارجي طول أربعة عشر قرناً، فقد أجرت التلفزة الفرنسية أخيراً مسابقة حول المعلومات العامة شارك فيها عدد من العلماء، فلم يستطع أحد منهم أن يسمي خمساً من صوامع آتوس، فكيف بأسماء جميع صوامع الدرجة الأولى والثانية. وقد بنيت أول صومعة أرثوذكسية في القرن السادس الميلادي في جبل آتوس، وكانت تابعة للروم الأرثوذكس، وكان اختيار جبل آتوس لأسباب منها أنه بعيد عن العمران، وأنه جبل صخري شديد الانحدار يشرف على البحر فاختير لأنه أليق مكان لمن يريد الانقطاع عن الناس والمجتمع. ثم بنيت صوامع أخرى بعضها حول بعض للمسيحيين الأرثوذكس وكانت الصومعة العشرون من الطبقة الأولى للأرثوذكس الروس وبنيت في القرن الثامن عشر الميلادي. واليوم، وبعد انقضاء أربعة عشر قرناً على تأسيس أول الصوامع في آتوس، لم تنته الخلافات حول الناسوت واللاهوت، بل لعلها قد زادت. وقد روي أن السلطان محمد الملقب بالفاتح عندما حاصر القسطنطينية، لم يستنجد به أحد من الرهبان لإنقاذ الكنيسة، بل أن الرهبان لم يجتمعوا حتى ولا مرة واحدة للدفاع عن عاصمة البيزنطيين (رومية الصغرى) فيما انصبت اجتماعاتهم على مناقشة اللاهوت والناسوت. وكل الخلافات التي دارت بين المسيحيين في صوامع آتوس، كان محورها الخلاف حول الناسوت واللاهوت. وهناك أمرا آخر أيضاً دفع بالإمام الصادق (عليه السلام) إلى اتخاذ موقف واضح حازم للحيلولة دون سقوط الشيعة وزوالها، ألا وهو موضوع العزلة عن المجتمع أو حياة الرهبانية، وقد ظهر لدى المسلمين منذ القرن الثاني الهجري ميل إلى الاعتكاف عن الدنيا والزهد في ملذاتها، وظهرت فرق كثيرة عند المسلمين يدعو بعضها إلى الرهبانية، وترك الدنيا، وكانوا يختلفون حول ما الذي يتعين على العارف أو الزاهد أن يفعله، فمنهم من قال أن الصلاة هي أفضل عبادة للمعتكف، ومنهم من قال بالصوم لما فيه من حرمان النفس عما تشتهيه، ومنهم من رأى للمعتكف أو المتعبد أن يفكر في الله، ومنهم من قال (الذكر) أي أن يذكر الله. ولم تهتم الفرق الصوفية التي حبذت الاعتكاف والزهد بأمور المعيشة الخاصة بأتباعها. والشيعة بدورها اندفعت في هذا الاتجاه، أي الزهد أو الاعتكاف، وكان من أهم الأسباب في هذا عداء الحكام للأئمة وأتباعهم وشيعتهم وملاحقتهم لهم. وكان موقف الصادق (عليه السلام) من هذه الظاهرة واضحاً وحازماً، إذ نهى عن العزلة وترك الحياة الاجتماعية نهياً باتاً، كما نهى كذلك عن تأليه الرسول (صلى الله عليه وآله) أو الأئمة (عليه السلام) أو الشطط في تقديرهم. وكان بنو أمية ومن بعدهم العباسيون يتطيرون من حركات الشيعة وتطلعاتهم، فجنحت الدولة إلى تحبيذ انزوائهم واعتكافهم اعتقاداً منها بأن انطوائهم على ذواتهم يمنع الناس من الاتصال بهم، فيخفت صوتهم وتنسى دعوتهم. وكان الصادق (عليه السلام) يرى هذه المخاطر جميعاً، بل لقد رأى بنفسه كيف عاداه الأمويون هم والعباسيون من بعدهم الذين ساروا على نفس النهج بل أشده وكان يردد: لا رهبانية في الإسلام. وهو نفسه كان يعمل في مزرعة له بالمدينة(6) وكان جاهداً في منع هذه التيار تفادياً لانهيار الشيعة وزوالها. وقد تعلم تلامذة الصادق (عليه السلام) في مدرسته عن تاريخ المسيحية مسألة عامة أخرى، فقد قال لهم الصادق (عليه السلام) إن القس (نسطوريوس) الذي عاش قبل نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) بمائة وثلاث وتسعين سنة (أي في سنة 429م) فيالقسطنطينية ساق رأياً عن وجود المسيح (عليه السلام) يختلف عن الآراء السابقة، فأحدث شقاقاً وخلافاً بين المسيحيين. فقد ذهب نسطوريوس إلى أن للمسيح (عليه السلام) الماهية والفطرة البشرية ككل إنسان، وليس في وجوده أي عنصر إلهي، ولكن الله ينزل ويقيم فيه كما ينزل المسافر ويقيم في محط سفره، أو كما يزور المؤمن الكنيسة ثم يذهب عنها. وبعدما شاعت هذه النظرية في القسطنطينية والمنطقة، ثارت عليها المذاهب المسيحية القائلة بأن لله حلولاً في جسد المسيح (عليه السلام)، وإن فيه عنصراً إلهياً، ونقموا على (نسطوريوس) واتهموه بالزندقة والكفر وحكموا عليه بالقتل. ومع ذلك شاعت نظرية نسطوريوس حول المسيح (عليه السلام)، وانتشرت في كل مكان، وهي النظرية القائلة إن للمسيح ماهية البشر، وإن الله أشرق في جسده بوجوده وأنواره. وحمل هذا المذهب اسم نسطوريوس، فصار يعرف بمذهب النساطرة، وكانت المذاهب الأخرى، ما اعتقد منها بحلول الله في جسد المسيح، وما اعتقد بأن قوام المسيح عنصران أحدهما بشري والآخر إلهي، ترى في النسطورية هرطقة وكفراً. وكان الصادق (عليه السلام) يقول لتلاميذه إن المسيحيين في الحبشة يعتقدون بأن المسيح والله متحدان، وأن العنصر البشري في المسيح قد ذاب وفني في الله. وهم يشبهون ذلك بقطرة الماء إذ تذوب في البحر، أو بذرة الشمع إذ تنصهر في النار الحامية الموقدة. ومن العادات المسيحية الأخرى التي انتقلت إلى المسلمين الرهبانية والنسك، أي اعتزال الدنيا بعيداً عن الجماعة والأسرة، وذهب بعض المسلمين إلى حد الامتناع عن الزواج وعن الملذات المشروعة اقتداءً بالرهبان، قائلين إن هذا ادعى إلى التزكية وطاعة الله. وكان أول اتصال تم بين المسلمين والمسيحيين هو اتصالهم بأتباع المذهب الأرثوذكسي، لا الكاثوليكي ولا سواه. فلما اتصلوا بالمذاهب الأخرى، ولا سيما الكثلكة، وجدوا أن القساوسة من كاثوليك ولاتين يأبون الزواج، سواء عملوا في الكنيسة أو اختاروا الرهبنة والإقامة في الأديرة والصوامع، في حين أن قساوسة الأرثوذكس في أنطاكية كانوا يجيزون الزواج. وظهرت هذه العادة عند بعض الزهاد والمنشقين من المسلمين، فنهاهم الصادق (عليه السلام) عنها، وأمر أتباعه وتلامذته باتباع السنة الإسلامية في الزواج، قائلاً إن الامتناع عن الزواج ينافي سنة الله التي خلق الناس عليها، كما أنه يضر بالمسلم معنوياً وجسدياً، ثم إن العزلة والزهد في حياة الجماعة تنتهي بإقلال عدد المسلمين، في حين أن الكفار يتزايد عددهم يوماً بعد يوم بسبب تزاوجهم، فعلى المسلم أن يتزوج، وأن يستزيد من الأولاد ليكثر عدد المسلمين. نهى الصادق (عليه السلام) عن العزلة والزهد، فكان مصير هذه العادة الزوال بعدما شاع أمرها بين المسلمين، وإن كانت قد عاودت الظهور في القرنين الثالث والرابع الهجريين عند بعض العرفاء والصوفية، وأسماء المرموقين منهم معروفة مشهورة. وإلى القرن التاسع عشر الميلادي لم يكن أحد يعرف الحكمة الصحية الكامنة وراء نهي الإمام الصادق (عليه السلام) عن العزلة والزهد، إذ كان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت أن النهي مقصود لدفع الأضرار المعنوية للعزلة، أو لأنها تخالف الشريعة الإسلامية، أما الجانب الصحي لنهي الإمام فقد كان خافياً، حتى أثبت الطب الحديث في القرن التاسع عشر أن الامتناع عن الزواج يؤدي إلى خلل شديد في الجهاز العصبي للإنسان رجلاً كان أو امرأة كما يسبب مضاعفات أخرى في الغدد الداخلية وفي وظائف الجوارح والأعضاء.
|
|
1 - الآية 110 من سورة الكهف. 2 - ظهرت فرقة دينية في الكوفة أيام خالد القسري، انشقت على زيد بن علي ابن الحسين (عليه السلام)، وأخذت تدعو إلى الإمام محمد الباقر (عليه السلام) وبعده إلى ابنه جعفر الصادق (عليه السلام) علىأنهما الإمامان. وكانت دعوتها هذه يعتريها شيء من الغموض وتثير الشبهة. فقد جاء في تاريخ الطبري ما يلي: (خرج مغيرة بن سعيد الرجل العجوز، وكان يقال إنه ساحر، ومعه سبعة من الموالي، ينادون ويصيحون: لبيك جعفر. وذلك في أيام خالد القسري، فأمر لهم، فلما أتى بهم موثقين إليه أمر بإحراقهم بطريقة هي الغاية في القسوة (الطبري: ج2 ص1620) وجاء في الأغاني: إن بعض مجانين الشيعة ثاروا في ولاية خالد القسري، وكانوا يصيحون: (لبيك جعفر) (الأغاني ج15 ص121 ج19 ص58). ومهما تكن أسباب هذه الصيحة أو دواعيها، فهي تتضمن تأليه الإمام، وهو كفر وشرك. وكان موقف الإمام صارماً وصريحاً في هذا الأمر. عن زيد النرسي قال: لما ظهر أبو الخطاب بالكوفة وادعى في أبي عبد الله (عليه السلام) ما ادعاه، دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) ومعي عبيدة بن زرارة، فقلت له: جعلت فداك، لقد ادعى أبو الخطاب وأصحابه فيك أمراً عظيماً، إنه لبى (بلبيك جعفر)، لبيك معراج. وزعم أصحابه أن أبا الخطاب أسرى به إليك، فلما هبط إلى الأرض دعا إليك، ولذا لبى بك. قال: فرأيت أبا عبد الله (عليه السلام) قد أرسل دمعته من حماليق عينيه وهو يقول: يا رب برئت إليك مما ادعى في الأجدع عبد بني أسد، خشع لك شعري وبشري، عبد لك ابن عبدك، خاضع ذليل، ثم أطرق ساعة في الأرض كأنه يناجي شيئاَ، ثم رفع رأسه وهو يقول: أجل أجل عبد خاضع خاشع ذليل لربه، صاغر راغم من ربه، خائف وجل، لي والله رب أعبده لا أشرك به شيئاَ، ما له أخزاه الله وأرغبه ولا آمن روعته يوم القيامة، ما كانت تلبية الأنبياء هكذا، ولا تلبيتي ولا تلبية الرسل، إنما لبيك بلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، ثم قمنا من عنده فقال: يا زيد، إنما قلت لك هذا لأستقر في قبري يا زيد. (البحار ج47 ص378). وحسب (الكافي): أرسل الإمام بمنشور إلى شيعته في العراق هذا نصه: عن اسحاق بن يعقوب قال: ورد التوقيع على يد محمد بن عثمان العمري: (وأما أبو الخطاب محمد بن أبي زينبة الأجدع ملعون وأصحابه ملعونون، فلا تجالس أهل مقالتهم، فإني منهم بريء، وآبائي منهم براء). (الكافي ص263ـ 264). 3 - يبدو أن قصة المغالاة في تعظيم الأئمة بين بعض الشيعة من العرب والموالي اتخذت أبعاداً أوسع وأخطر، ودفعت بالإمام الصادق (عليه السلام) إلى أن يتخذ موقفاً حازماً من هؤلاء المتطرفين والمغالين، وأن يوضح بكل صراحة ما للإمام وما عليه. جاء في (المناقب): عن المفضل بن عمر قال: كنت أنا وخالد الجوان ونجم الحطيم وسليمان بن خالد على باب الصادق (عليه السلام) فتكلمنا فيما يتكلم فيه أهل الغلو، فخرج علينا الصادق (عليه السلام) بلا حذاء ولا رداء وهو ينتفض ويقول: يا خالد يا مفضل يا سليمان يا نجم، لا (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) (سورة الأنبياء الآية 27 كتاب المناقب ج3 ص347). وعن صالح بن سهل قال: كنت أقول في الصادق (عليه السلام) ما تقوله الغلاة، فنظر إلي فقال: ويحك يا صالح، أنا والله عبيد مخلوقون، لنا رب نعبده، وإن لم نعبده، عذبنا (المصدر السابق). والحديث الآتي يوضح مدى الغلو عند هؤلاء المتطرفين: عن أحمد بن محمد الأهوازي عن الحسين بن بردة عن جعفر بن بشير الخراز عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسماعيل ضع لي في المتوضأ ماء. قال فقمت فوضعت له. فقال: فدخل، قال: فقلت في نفسي أنا أقول فيه كذا وكذا ويدخل المتوضأ يتوضأ، قال: فلم يلبث أن خرج فقال: يا إسماعيل لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم، فلن تبلغوا. قال إسماعيل: وكنت أقول أنه وأقول وأقول.. (بصائر الدرجات ج5 الباب العاشر ص63 و بحار الأنوار ج47 ص68). وأضاف المجلسي (إنه) أي انه الرب تعالى عن ذلك، و(أقول وأقول معناه) (أني لم أرجع بعد عن هذا القول أو المعنى، وإني كنت مصراً على هذا القول). والحديث الآتي يبين أيضاً بكل وضوح مدى المغالاة، وكيف نهى الإمام الصادق (عليه السلام) عنها. روي عن الحسن بن سعيد عن عبد العزيز قال: كنت أقول بالربوبية فيهم. فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: يا عبد العزيز ضع ماء أتوضأ، ففعلت، فلما دخل يتوضأ قلت عند نفسي هذا الذي قلت فيه ما قلت يتوضأ؟ فلما خرج قال: يا عبد العزيز، لا تحمل على البناء فوق ما يطيق فيهدم، فو الله أنا عبيد مخلوقون (الخرائج والجرائح ص234). وعن سليمان بن خالد قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام وهو يكتب كتباً إلى بغداد وأنا أريد أن أودعه، فقال: تجيء إلى بغداد؟ قلت: بلى. قال: تعين مولاي هذا بدفع كتبه. ففكرت وأنا في صحن الدار أمشي، فقلت: هذا حجة الله على خلقه يكتب إلى أبي أيوب الجزري وفلان وفلان يسألهم حوائجه؟ فلما صرنا إلى باب الدار صاح بي، يا سليمان، ارجع أنت وحدك، فرجعت فقال: كتبت إليهم لأخبرهم أني عبد ولي إليهم حاجة (بحار الأنوار ج47 ص107). 4 - الناسوت: الفطرة أو الطبيعة البشرية. واللاهوت: العنصر الغيبي أو الإلهي. 5 - الصومعة وجمعها صوامع: الدير في الجبل أو المكان المرتفع يلجأ إليه الراهب للعبادة والانفراد. وقد انقسمت الصومعة عند الفرنسيين وفي فرنسا إلى درجات أو طبقات وهي الأولى: مانوستر (monastere) الثانية: كووان (couvent) الثالثة: اسكيت (squite) الرابعة: هرميتاج (hermitage) والصومعة يسكنها الراهب وهو الذي حرم على نفسه الزواج، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون). (سورة الحديد الآية 27). وفي دائرة المعارف لمحمد فريد وجدي: الرهبنة ليست أصلاً من أصول المسيحية الأولى، ولم تنشأ إلا بعد القرن الثالث، لما ظهر الإمبراطور الروماني ديسيوس، واضطهد المسيحيين، واضطر بعضهم للهرب إلى الجبال والمكث بالصوامع. وفي دائرة المعارف الفرنسية (لاروس) عن القس تيرتوليان (160ـ 240م): إننا لسنا من البراهمة، ولا من معتزلة الهنود، فلا نعتزل الناس إلى الغابات، بل نساكنكم هذه الدنيا. وفي الوقت نفسه نشأ ميل في المسيحيين إلى حياة الاعتزال، ثم طرأت صنوف الاحشيشان والتقشف التي اختارها المسيحيون طلباً للزلفى من ربهم. واعتبروا الرهبانية حالة من الكمال الإنساني، فرفضوا الزواج والحياة البيتية حباً لله. ثم دارت الدائرة، ولم يرع الرهبان حق الرهبنة وفي القرن الحادي عشر كان الرهبان الشرقيون الذين آلوا على أنفسهم أن يعيشوا بلا زواج لا يجسرون على أن يدخلوا إلى بيوتهم الإناث من الحيوانات خشية أن يكون في ذلك خطر على أرواحهم، ومع هذا، لا يخفى اليوم أنهم لم يفوا بما تعهدوا به من العفاف بين رجال الدين من الجنسين في القرون الوسطى. فقد قال (دوبوتر) بعد أن زار الأديرة في النمسا وفي الممالك الأخرى التابعة للملك فرديناند الأول سنة 1563م، إنه رأى مائة وعشرين ديراً تحتوي على 436 راهباً و160 راهبة و199 سرية و155 امرأة متزوجة و443 طفلاً. وقال إنه يخشى أن يتكلم عن راهبات زمانه لئلا يظن أنه يتكلم بإسهاب عن مجون محلات الفسق والعهر لبنات الهوى بدل أن يتكلم عن ديار الطهر التي تعيش فيهل العذارى الناذرات أنفسهن لعبادة الله. لأن الأديرة الدينية لم تعد معابد مخصصة لعبادة الله بل صارت بيوت دعارة للشبان الذين لا هم لهم إلا قضاء شهواتهم البهيمية. وقال: ليست هذه الأمور من الحالات الفردية ولا الخاصة بزمن دون زمن، ففي الأزمنة القديمة لام القديس (سيريابن) والقديس (بازيل) عذارى زمانهما اللاتي وقفن حياتهن لله على ما ظهر من عدم عفتهن. ورأى (جان كريزوستوم) أنه لا يكفي قتل الراهبة التي تفرط في عفتها بل ينبغي أن تشطر شطرين أو تدفن حية مع شريكها في الإثم. وقالت دائرة المعارف: أما الأديرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر فلا يخفى ما هي عليه من قصور من الوجهة الأدبية. وتاريخ دير (دورياك) الذي تكلم عنه المسيو (دولور) في تاريخ باريس سنة 1822م يعطي فكرة عن الأديرة الفرنسية في القرن السادس عشر. وفي الآية الكريمة إشارة إلى هذه كلها: (فما رعوها حق رعايتها). 6 - في (الكافي) في باب (مكارم سيره ومحاسن أخلاقه) (عليه السلام) ثلاثة أحاديث تبين سيرة الإمام ومنهاجه في الحياة. 1ـ عن سهل عن الدهقان عن درست عن عبد الأعلى مولى آل سالم قال: استقبلت أبا عبد الله (عليه السلام) في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحر. فقلت: جعلت فداك. حالك عند الله عز وجل وقرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال: يا عبد الأعلى، خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك (الكافي ج5 ص74). 2 ـ عن أبي عمر الشيباني قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له، والعرق يتصاب عن ظهره فقلت: جعلت فداك، أعطني أكفك. فقال: إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة (الكافي ج5 ص77). 3 ـ عن حماد بن عثمان قال: حضرت أبا عبد الله (عليه السلام) وقال له رجل: أصلحك الله، ذكرت أن علياً بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك التباس الجديد؟ فقال له: إن علياً بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، ولو لبس اليوم مثل ذلك شهر به. فخير لباس كل زمان لباس أهله... (الكافي ج6 ص444 وبحار الأنوار ج47 ص55). |