|
|
رأينا في ما تقدم أن جعفراً الصادق (عليه السلام) انبرى وهو بعد تلميذ في مدرسة أبيه إلى انتقاد نظرية بطليموس الخاصة بدوران الشمس، وقال باستحالة دورانها في منطقة البروج وحول الأرض في وقت واحد، كما ذهب إلى ذلك بطليموس. كان هذا وهو لم يزل تلميذاً في مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام)، وسنرى في ما يلي كيف أن جعفراً الصادق تزعم مدرسة أبيه بعد وفاته، وأتى بآراء ونظريات جريئة جديدة، حتى ليصح لنا القول بأن الصادق (عليه السلام)، إن لم يكن هو الرائد المجدد في جميع العلوم فهو دون أدنى ريب في طليعة أولئك المجددين ولا سيما في علمي الهيئة والنجوم، وهما منطلق الإشعاع العلمي في أوروبا منذ سقوط القسطنطينية على يدي السلطان محمد الفاتح. ومن المسلم به أن العالم الإسلامي كان سابقاً على أوروبا بكثير من التأهب لاستقبال النهضة العلمية والفكرية وأن الإسلام قد تقبل الحقائق العلمية برحابة صدر، وحث على طلب العلم من جميع مصادره، أما أوروبا فكانت منذ القرون الوسطى وإلى القرن السابع عشر الميلادي غير متأهبة لتقبل الحقائق العلمية وهضمها. ومن الحقائق التي تعذر على أوربا هضمها حقيقة حركة الشمس ودوران الأرض حولها، ولم تعارض أوربا حقيقة علمية معارضتها لهذه الحقيقة، ولمسائل النجوم بصورة عامة. ولو أن أحداً تحدث في أوربا عن الماء أو التراب أو النار بما يتعارض مع المعتقدات الدينية السائدة، لتعرض لأشد المخاطر، شأنه في ذلك شأن من يتحدث عن النجوم دون مراعاة للمعتقدات القائمة. وكان جزاء الواحد منهم الحكم بهرطقته ثم سجنه وقتله لاجترائه على الحقائق الدينية المسلم بها. وهذا الموقف المتشدد أمام الأبحاث الفلكية في أوربا شبيه إلى حد كبير بمواقف اليونان والروم قديماً تجاه هذه المباحث. فمع ما عرف عن اليونان من أنها عاصمة العلم قديماً، نرى (بلينوس)(1) المؤرخ يسجل ملاحظة هامة تدل على الاتجاه السائد في الوسط العلمي في اليونان قديماً، إذ قال كان انكساغوراس(2) اليوناني ماضياً في تدريس علم الفلك الفارسي، فاتهم بالخيانة لليونان ونفي منها. ويبدو أن أقواماً كالإغريق وغيرهم كانوا يقفون مثل هذه المواقف المتشددة أمام الحقائق العلمية، لأن الناس كانوا يشاهدون حركات النجوم وتنقلاتها بأنفسهم فلا يخامر أحداً شك في أن ما يشاهده هو حقيقة واقعة. وكان الشرق أو الغرب آنذاك يطلع بآراء في المسائل العلمية تناقض سنن الطبيعة ومن ذلك مثلاً موضوع (الحركة) و(الوجود)، وهو موضوع أثار خلافات وتناقضات كثيرة. فقالت جماعة بأن الحركة وجدت أولاً ووجد العالم بعدها، بينما رأت جماعة أخرى أن العامل خلق أولاً ثم جاءت الحركة في أثره. وكذلك الشأن في موضوع الجسم والروح وأيهما سبق الآخر في الوجود، فقد اختلفت الآراء حول هذا الموضوع، وتناقضت أحياناً. ولكن لم يتعرض أحد من أصحاب هذه النظريات المتعارضة للاتهام أو للرمي بالزندقة والكفر، لأن هذه الموضوعات لم تكن محسوسة ملموسة أو مرئية للناس. فإن خالفت نظرية ما سنن الكون، لم يرم صاحبها بالكفر، أما إذا خالفت مبادئ الدين كالتوحيد أو النبوة، فالرمي بالزندقة هو المصير الحتمي. وقد ذهب العالم والفيلسوف اليوناني (انكسيمانس) (الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد) إلى أن الكرة الشمسية عنصر مذاب، وإنها أكبر من الكرة الأرضية، ولكننا نراها صغيرة لبعدها عنا، ولولا ذلك لما أنارت الأرض كلها، ولما شعرنا بحرارتها. وهذا الرأي، الذي طلع به هذا الفيلسوف في القرن السابع قبل الميلاد، شبيه إلى حد بعيد برأي العلماء في الشمس في القرن العشرين، إذ نعلم في يومنا هذا أن الشمس قرص محترق كالغاز. وقد انتقلت هذه النظرية من اليونان إلى بابل، ولكن أحداً لم يجرؤ على إبرازها خشية التفكير، لأن من عقيدة بابل أن الشمس هي مصباح الإله الأكبر لبابل، وهو يضيئها صباحاً ويطفئها ليلاً. فالرأي الذي ذهب إليه (انكسيمانس) كان معارضاً للعقيدة البابلية، وإن قال به أحد أو صدقه عد كافراً، ومنع من دخول معبد إله بابل الكبير، وحرمت عليه وظائف الدواوين الحكومية. ومما ذهب إليه (السيمانس) أيضاً أن نشأة الكون بدأت بالهواء، والهواء هو أصل جميع الموجودات والخلائق. وقد روى المؤرخ أومستيد(3) في كتابه (المسيح من الوجهة التاريخية) أن اثنين من علماء بابل قبلا نظرية (انكسيمانس) فطردا من العمل الحكومي، وضاقت بهما الحال حتى اضطرا إلى النزوح من بابل. وهناك فيلسوف يوناني آخر، هو (انكسيماندس)(4) كانت له نظرية في نشأة الكون تختلف بدورها عن عقيدة البابليين، ومؤداها أن العالم كان في البدء لا متناهياً في المكان ولا متناهياً في الزمان، بحيث لا يستطاع وصفه على وجه التحديد، ثم أخذت أشياء وأجزاء من هذا اللامتناهي تتجمع وتتراكم، فنشأ الجرم ثم الأجسام. وأضاف (انكسيماندس) أن تراكم الأجزاء لم يتم بنسبة واحدة، فمنها ما تراكم بكثافة فتكونت المواد الصلبة كالحجارة، ومنها ما تراكم بليونة فتكون الشجر والنبات والحيوان والإنسان. ولئن عاش هذا الفيلسوف في القرن السادس قبل الميلاد، فإن آراءه تتفق مع آراء العلماء في القرن العشرين هذا الذي نعيش فيه. فنظريات علماء الفيزياء في عصرنا الحاضر شبيهة إلى حد بعيد بنظرية انكسيماندس، ولو سئل علماؤنا عن نشأة الكون لقالوا أنه بدأ بالهيدروجين، وإن سئلوا: مم وجد الهيدروجين، لجاء جوابهم مشابهاً لنظرية (انكسيماندس) ولكن لا يسع أحداً منهم أن يوضح لنا ما هو هذا الشيء اللامحدود واللامتناهي الذي خلق منه الهيدروجين لأن هذا الشيء وإن تعذر وصفه أو تحديده فهو موجود وهو يولد الهيدروجين ويوجده، ولئن وجد هذا الشيء في منظومتنا الشمسية وتوابعها، فهو موجود أيضاً في منظومات فلكية أخرى. ومن هنا يصح القول إنه بعد انقضاء 26 قرناً على النظرية الفيزيائية التي طلع بها فيلسوف القرن السادس قبل الميلاد (انكسيماندس) ومع التقدم المدهش الذي أحرزه الإنسان في عصرنا الحالي، ولا سيما في ميادين الفيزياء والفيزياء الفلكية، فإن معارفنا عن نشأة الكون من خلال علم الفيزياء لم تتقدم خطوة واحدة على معارف القرن السادس قبل الميلاد. وبفضل الفيزياء، عرفنا أن ذرة الهيدروجين هي أخف ذرات العناصر في هذا الكون، وإن لها (الكتروناً) واحداً و(بروتوناً) واحداً، وأن هذا الالكترون يدور في فلك حول البروتون. وحتى هذا اليوم ليس هناك مسلمة فيزيائية أو علمية توضح لنا كيف جاء إلى الوجود هذا الشيء الذي لا يوصف، والذي وصف باللانهاية، وما الذي بدله إلى الكترون وبروتون عند نشأة الكون؟ وبعبارة أخرى، إن القانون العلمي لهذا التغيير والتبديل لم يكتشف حتى الآن ولا نعرف أيهما وجد أولاً: البروتون أو الالكترون، وهل أولهما هو الذي يحتوي على قوة الجذب الكهربائي وثانيهما: هو المحتوي على قوة الطرد الكهربائي، وهو ما يسمى في المصطلح العلمي بالقوة (+) والقوة (-)؟ أو أن هذين العنصرين وجدا معاً؟ وكيف وجدا من الشيء الذي لا يوصف؟ ووصلت نظرية (انكسيماندس) إلى بابل، كما وصلت من قبل نظرية سلفه اليوناني (انكسيمانس) فلقيت قبولاً وتأييداً من البعض دون أن توجه إلى أي منهم تهمة الفكر، ودون أن يطرد أحد من عمله الحكومي نتيجة لقبوله هذه النظرية. وعلة ذلك أن أحداً في بابل لم ير بأم عينيه ما يثبت أو يدحض نظرية (انكسيماندس) ولا عرف أحد كيف نشأ الكون، ولكن هؤلاء القوم كانوا يرون بأم العينين شروق الشمس كل صباح وغيابها كل مساء، فكان عسيراً عليهم قبول نظرية (انكسيماندس) القائلة إن الشمس كرة أكبر من الكرة الأرضية، وأنها كتلة ذائبة من الأشعة التي لا ينطفئ لهيبها، وإنما كانوا يرون الشمس تشرق في الصباح وتغيب أو تنطفئ ـفي رأيهمـ في المساء فكانوا يعتقدون أن إله بابل يضيء هذا المصباح في النهار ويطفئه في الليل. وأما (انكساغوراس)، الذي طرد من اليونان، فكان ذنبه أنه بدأ بتدريس التقويم الفارسي وترويجه في اليونان، وهو التقويم الشمسي الذي يعتبر السنة 365 يوماً وبضع ساعات، وقد سجل أسامي أشهر السنة الفارسية في كتيبة على سفح جبل بيستون في غرب إيران، ولا توجد من عهد الأكمينيين كتيبة بهذا التفصيل في كل أرض فارس، فقد كتبت هذه الكتيبة بثلاث لغات هي البهلوية الأكمينية، والبابلية، والعيلامية. وقد سجل التاريخ أن المصريين القدماء وضعوا بدورهم تقويماً، وكانوا يعتبرون السنة 365 يوماً قبل ميلاد المسيح (عليه السلام) بألفي سنة، ولكننا لا نعرف هل سبق البابليون المصريين في وضع التقويم ومعرفة أيام السنة أم لا؟. ولا يستبعد أن يكون علم الفلك قد انتقل من قوم إلى قوم كغيره من العلوم، وأن هناك أقواماً أبيدوا بقعل كارثة طبيعية، كما قال أفلاطون. وعلى كل حال، فعندما بدأ الإمام الصادق (عليه السلام) يلقي دروسه على تلامذته في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، لم تكن معارف البشر عن الشمس تتجاوز ما أسلفنا إيراده، وكان كل صاحب رأي أو نظرية جديدة في العالم الغربي في ذلك الحين معرضاً لخطر التكفير والزندقة، ولا سيما إذا تعارضت نظريته مع العقيدة السائدة، أما الوضع في العالم الإسلامي فكان مختلفاً عن ذلك، إذ أن البحث حول الشمس والأرض وحركاتها كان يدور بحرية كاملة دون خوف من توجيه تهمة الارتداد أو التفكير إلى أي باحث. فلما قال الصادق (عليه السلام) أن الأرض تدور، وأن توالي الليل والنهار يحدث بفعل دورانها، لم يرمه أحد بتهمة ما. وقد رأينا في ما سبق أن اقليدس اليوناني هو أول من تعرض لنظرية حركة الأرض، ولكنه لم ينتبه إلى أن الأرض تدور حول نفسها، وإنما قال أن الأرض تدور حول الشمس، وأياً كان الأمر، فإن النظرية التي ابتدعها اقليدس تقيم البرهان على نبوغه وعلى قدرته على التفكير العلمي الجاد. أما كروية الأرض، فقد اهتم الإنسان بموضوعها قبل ميلاد المسيح بألف سنة، وكان قدماء المصريين يقولون بكروية الأرض، وقد انتقل هذا الرأي منهم إلى العرب، وقام الجغرافي العربي الشريف الإدريسي(5) برسم خرائط جغرافية تثبت رأيه في كروية الأرض. ولكن العلماء الذين سبقوا الصادق (عليه السلام) لم يقل منهم أحد بأن الكرة الأرضية تدور حول الشمس، فكان الصادق (عليه السلام) أسبق العلماء إلى إيراد هذه النظرية العلمية الهامة، وقد اهتدى إليها بفضل ما وهبه الله من قدرة عقلية فائقة ونبوغ خارق قليل النظير، واستطاع جعفر الصادق (عليه السلام) بتفكيره العقلي المجرد، ودون استعانة بأي أجهزة علمية، أن يثبت ما كان الناس يرون خلافه في الواقع آنذاك.
|
|
1 - كانيوس بلي نيوس زكوندوس عالم ومؤرخ يوناني ولد في بلاد الروم عام 23 بعد الميلاد وتوفي بها عام 79م. خلف كتباً ومؤلفات منها: التاريخ العام، وتاريخ العلوم الطبيعية في سبع مجلدات وهو يعد من الكتب الهامة في تاريخ العلوم الطبيعية. 2 - انكساغوراس العالم والفيلسوف اليوناني ولد قبل المسيح بحوالي 500 سنة وتوفي سنة 423 قبل الميلاد. كان يقول بأن الأشياء كلها خلقت من أصل (نوس) أي العقل، وأن النوس أوجد الحركة وأوجد الذرات ووضعها في الأجسام. 3 - أومستيد عالم ومؤرخ أمريكي، وكان أستاذاً لتاريخ إيران في معهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاغو، وله مؤلف نفيس بعنوان (تاريخ الإمبراطورية الإيرانية) توفي عام 1945م. 4 - انكسيماندس فيلسوف يوناني ولد سنة 611 قبل الميلاد وتوفي سنة 547 ق.م. 5 - الأدريسي أبو عبد الله المعروف بالشريف وهو من أحفاد إدريس الحسيني (461ـ 561 هـ 1100ـ 1165م) رحالة ولد في سبته ودرس في قرطبة، وبرع في علم الهيئة والجغرافيا والطب والحكمة والشعر، وطاف ببلاد الروم واليونان ومصر والمغرب وفرنسا وجزيرة بريطانيا، ودعاه روجيه الثاني ملك النورمانديين إلى زيارة صقلية، فرسم له الإدريسي هناك ما عاينه من البلدان على كرة من الفضة. من مؤلفاته (نزهة المشتاق في احتراق الآفاق) و(الجامع لصفات أشتات النبات). |