فهرس الكتاب

تدوين العلوم في عصر الصادق (عليه السلام)

طالعنا في العرض الموجز غزارة علم الإمام وتشعب معارفه، فكان يحق له ان يكون مهوى للانظار وملاذاً فريداً للباحثين، وعوناً للعارفين والموالين، مهما بعدت أوطانهم، فكانوا يأتونه من كل بقعة وأرض، ويتوجهون إليه من كل ناحية وصوب، يستحضرون الدواء والقرطاس ليكتبوا ما يمليه عليهم الإمام، وقد كثر من استقى منه العلم، حتى بلغ من عرف منهم أربعة آلاف أو يزيدون، فهو منعطف هام في تاريخ الشيعة العلمي. أما الذين أخذوا عنه العلم من غير الامامية، فكانوا يرون جلالته وسيادته وإمامته، وقد عدّوا أخذهم عنه منقبةً شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها(1). وفي (صواعق) ابن حجر، ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان.

ومما قاله النووي: (اتفقوا على إمامته (الصادق) وجلالته وسيادته).

قال عمرو بن أبي المقدام: (كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنه من سلالة النبيين)(2).

وهذا ابن أبي الحديد قد أرجع علم المذاهب الأربعة إليه في الفقه(3).

ولنفاسة العلم وشرفه حض على طلبه وإن كلف غالياً فقال: (اطلبوا العلم ولو بخوض المهج وشق اللجج)(4).

وحثهم على كتابة العلم ونشره، فقال (عليه السلام): (اكتبوا، فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا) ومما قاله لمفضل بن عمر: (اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن متَّ فورِّث كتبك بنيك، فإنه يأتي زمان هرج، ما يأنسون فيه إلا بكتبهم).

وقال (عليه السلام): (احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها)(5).

وكان من تأثير توجيهه هذا إن جمع شطر من الأحاديث التي رويت عنه وعن آبائه وأبنائه في الأخلاق والأدب والأحكام وحدها، فكانت الحصيلة أربعة كتب هي: (الكافي) و (من لا يحضره الفقيه) و (التهذيب) و (الاستبصار).

هذا بالاضافة إلى من ألف في مختلف العلوم من الطب والكيمياء والنجوم والفلك مما مر ذكره. فمن عصر الإمام الصادق (عليه السلام) ابتدأ الأليف ونشط التدوين عند الشيعة.

فهذا جابر بن حيّان يسجل تقريرات الإمام في خمسمائة رسالة وفي ألف ورقة(6). وهذا اسماعيل بن مهران بن أبي نصر السكوني وهذا أبو جعفر أحمد بن خالد البرقي، وهذا أحمد بن الحسين بن أبي الحسن الفلكي الطوسي، وهذا أبو النضر محمد بن مسعود العياشي التميمي، وهذا أبو علي الحسن بن فضال وغيرهم من أصحاب الصادق وابنه (عليه السلام)، لكل منهم تأليف وتدوين في الحديث والطب والفلك والكيمياء.

ويطالعنا الكتاب بالجوانب غير المعروفة من حياة الإمام (عليه السلام) العلمية التي لم تنل حقها من عناية كتّابنا الاسلاميين، اذ كان جلّ اهتمام علماء المسلمين من الشيعة والسنة منصرفاً ـ كما نعلم ـ إلى دراسة الفقه والتفسير والاخلاق، وكل ما روي عن الرسول الأعظم في ما يتعلق بأمور العبادة والروح. فهذه إذن دراسة علمية وافية لجوانب أخرى مجهولة لنا من مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)، وخاصة ما يتعلق منها بالعلوم التجريبية والنظرية كالطب والرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء ومبادئ علمية أخرى لم تظهر أهميتها إلا بعد عصر النهضة في أوربا مع ثورة الاختراعات الحديثة والاكتشافات العلمية المذهلة في هذه الميادين.

 

1 - تهذيب الأسماء واللغات، وشرح النهج لابين أبي الحديد: 1: 6. 

2 - تهذيب الأسماء واللغات: 1: 149 ـ 150. 

3 - شرح النهج 1: 6. 

4 - بحار الأنوار 46: 265. 

5 - المصدر السابق. 

6 - الفهرست 450 ـ 498.