|
|
ولد الإمام محمد الباقر (عليه السلام) ـ في دار والده الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) بالمدينة المنورة يوم السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 83 هجرية ولدٌ سمّي جعفر، ولُقِّب بالصادق. وكان ضعيف البنية عند الولادة بحيث ظنت القابلة ألاّ أمل في حياة هذا الطفل طويلاً، ولكن هذا لا يحول دون طلب الجائزة والعطيّة لأن المولود ذكر. بادرت القابلة بالخروج من الحجرة لاخبار الأهل والأسرة بأن المولود ذكر، وهو بُشرى تُدخل في قلب الآباء في شبه الجزيرة العربية، وتشجعهم على تقديم العطايا ونصب الموائد، مهما كانت ظروفهم المادية. ولم ينس العرب بعد مرور 82 سنة على ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية عاداتهم الجاهلية في إيثار الولد على البنت، ولم يكن أحد يخفي فرحته عند مولد الولد وتفضيله إياه. فبحثت القابلة عن الولد، فلم تجده في الدار. ولكن قيل لها أن جد الطفل في الدار. فاستأذنت في الدخول على الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وزفت إليه البشرى. فسألها: هل أخبرت والده؟. قال: لا، لأنه غائب عن البيت. فأدرك زين العابدين (عليه السلام) رغبة القابلة في أن يشاهد المولود، وقال: لكنني لا احب أن تخرجوه من الحجرة خوفاً من البرد، ولكن أخبريني، هل الطفل يتمتع بصحة الجسم وكماله؟ لم تجروء القابلة على إبلاغ الإمام بأن الطفل ضعيف جداً، ولكنها قال: أن له عيني زرقاوين جميلتين. فقال الإمام زين العابدين: فعيناه إذن تشبهان عيني والدتي، رحمة الله عليها. كانت للسيدة شهربانو بنت يزدجرد الثالث آخر ملوك الامبراطورية الساسانية، وهي والدة الإمام زين العابدين، عينان زرقاوان، وها هو جعفر الصادق يرث حسب قانون مندل(1) لون عينيه من جدّته. وهناك رواية تقول أن كيهان بانو، وهي شقيقة شهر بانو بنت يزدجرد. وقعت في الأسر في فتح عاصمة الأكاسرة (المدائن)، حيث أتوا بها مع بقية الأسرى إلى المدينةن وكانت لها بدورها عينان زرقاوان. فإن صحت هذه الرواية، فالإمام الصادق قد ورث عينيه من أميرتين فارسيتين، لأن كيهان بانو بنت يزدجرد كانت جدة الإمام الصادق من ناحية الأم أيضاً. وكان الإمام علي (عليه السلام) قد عطف على الأسرى من الأسرة المالكة، وزوج شهر بانو بنت يزدجرد لابنه الحسين (عليه السلام)، وكذلك زوج كيهان بانو لمحمد ابن أبي بكر (الخليفة الأول)، والذي كان يحبه ويرعاه كأحد أبنائه، وقد ولاّه في ما بعد مصر، ولكنه قُتل في أثناء ولايته بتواطوء من معاوية بن أبي سفيان. وقد ولد لمحمد بن أبي بكر وكيهان بانو ولد سمي (القاسم)، وولدت للقاسم بنت سميت (أم فروة) تزوجها الغام محمد الباقر (عليه السلام)، فأنجبت له جعفراً الصادق (عليه السلام)، وبهذا ارتبط جعفر الصادق (عليه السلام) من ناحيتي الأب والأم بأميرتين فارسيتين كما سلف ذكره كما ارتبط بالخليفة أبي بكر من ناحيتين أيضاً. وكانت العادة المرعيّة بين أهل المدينة المنورة الذين هاجروا إليها من مكة المكرمة جلب المرضعات من عرب البادية. وعند مولد الصادق (عليه السلام)، كان قد مضى على بدء الهجرة النبوية 83 سنة، وقد نسي الناس من هم المهاجرون ومن هم الأنصار. ولكن المكيين لم ينسوا عادة تسليم الرضيع إلى المرضعة، وحاول بيت الإمام زين العابدين (عليه السلام) الاهتداء إلى مرضعة للمولود الجديد، لولا أن أم فروة (أمه) قبلت أن تقوم بنفسها بإرضاع الطفل ورعايته، لا سيما وهو ضعيف واهن، ولا يسع أمه أن تدعه تحت رحمة المرضعة، مهما أبدت نحوه من العطف والحنان. وفي كتب الشيعة مجموعة من الروايات عن أيام رضاعة جعفر الصادق (عليه السلام) وطفولته، منها ما تواترت روايته منسوباً إلى الرواة المختلفين، ومنها ما ذكر دون إيراد سند. ومن جملة الأخبار التي روُيت دون سند أن جعفراً الصادق (عليه السلام) ولد مختوناً، ومكتمل الأسنان، أما أن يكون جعفر الصادق (عليه السلام) ولد مختوناً فهذا أمر جائز، وربما اثبته الطب. أما أن يكون مولوداً بكامل أسنانه، فهي رواية تحتاج إلى وقفة وتأمل، لأنها لا تتفق مع علم البيولوجيا، وتتعارض مع طبيعة الطفل والرضاعة. إذ ثبت أن الطفل يهجر ثدي أمه متى نبتت اسنانه، ناهيك عن الألم الذي تحدثه الأسنان للأم عند الرضاعة. ومن هذه الروايات أن جعفراً الصادق (عليه السلام) ولد ذرب اللسان، وخرج إلى الدنيا يتكلم. وروي عن أبي هريرة انه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: سيولد من ولدي من اسمه جعفر ولقبه الصادق، ينطق لسانه بالحديث من يوم ولادته. ولكن هناك أحاديث منسوبة إلى أبي هريرة ولم تثبت صحتها، وإن كان أبو هريرة عرف بالصلاح، ولم يكن يختلق الأحاديث، كما انه صحب الرسول (صلى الله عليه وآله) فترة طويلة، وكان يحبه حباً عظيماً، ويقضي ساعات طويلة من وقته في حضرة الرسول (صلى الله عليه وآله). لذلك كان واضعوا الحديث ومختلقوه ينسبون كل حديث موضوع إلى أبي هريرة ليصادف من الناس قبولاً. على أن بعض هؤلاء المزوّرين ندم على فعلته، وأقر بالإثم الذي اقترفه(2). وقد يتفق بعض هذه الروايات مع رأي الشيعة في الإمام بأنه الطاهر النقّي من الزلات، وأن الله اختار الأئمة من بين العباد، وخصهم بخصائص دون غيرهم، وأن للإمام من القدرة في الصغر ما له في الكبر إلا أن الباحث او المؤرخ(3) مضطر إلى التماس الحقائق التاريخية، لأنها أدعى إلى التعويل عليها من روايات تدور حول الكرامات والمعجزات. نعرف من طفولة الصادق (عليه السلام) أموراً توحي بأن الأقدار آثرته برعايتها، وخصته بها دون غيره من الصبيان، وأن الدنيا لم تتهجم له في حداثته. وأول هذه الأمور أن الصادق (عليه السلام) الذي ولد ضعيف البنية هزيلاً وعانى من أمراض الرضاعة والطفولة عناءً شديداً، قد استقوى على هذه المتاعب التي كانت تحصد الأطفال، واشتد عوده وهو يستقبل الثالثة من عمره. والأمر الثاني هو أن جعفراً الصادق (عليه السلام) ولد لأسرة عريقة تتمتع باحترام الجميع، وأفرادها من أواسط الناس ماديّاً. والأمر الثالث هو أن أم فروة والدة الصادق كانت كغيرها من نساء بيت الخليفة الأول أبي بكر امرأة متعلمة مثقفة، وأن محمداً الباقر (عليه السلام) والد الصادق كان أعلم أهل عصره بلا منازع. أما الأمر الرابع فهو أن والد الصادق وجده عليهما السلام اهتما برعايته وتعليمه وتربيته من السنة الثانية. ويعترف علماء التربية في هذا العصر بأن أفضل سني تعليم الطفل هي ما بين الثانية والخامسة، لأن قوة الذاكرة لدى الطفل تكون في هذه الفترة أقوى منها في غيرها. ومن آراء علماء التربية أن الطفل بين الثانية والسادسة يستطيع أن يتعلم لغتين أخريين إلى جانب لغة الأم. ومن مؤديات القاعدة العامة أن يكون نصيب الطفل من التعليم في الأسرة المتعلمة والمثقفة أكثر، وحظه في ارتقاء المدارج العلمية أوفى من حظ غيره. كان الإمام الباقر (عليه السلام) والد الصادق (عليه السلام) باعتراف الجميع، أعظم العلماء في عصره، وكان جدُّه زين العابدين(عليه السلام) أيضاً من أكابر العلماء والزّهاد، وقد ذكر ابن النديم في كتابه (الفهرست) بعض مؤلفاته التي لدينا جزء منها. وقد حظى جعفر الصادق باهتمام والده وجدّه ووالدته (أم فروة)، فعكفوا جميعاً على تعليمه دون غيره من إخوته، ولعل السبب في ذلك أن جعفراً (عليه السلام) كان قوّي الذاكرة وكان مقبلاً على العلم. وفي رأي الشيعة أن قوة الذاكرة لدى الصادق (عليه السلام) وعمق ادراكه كانا من الصفات والخصائص التي منحها الله إياه لإمامته، ولو بحثنا في الشرق او في الغرب، لوقعنا على أطفال آخرين يتمتعون بدورهم بقوة الذاكرة والإدراك، ولكن دون أن يكونوا أئمة، ومن هذا القبيل مثلاً ابن سينا، وأبو العلاء المعري من الشرق، وثاسيت(4) في الغرب، فقد كانوا يتمتعون بذاكرة قوية تسجل كل ما سمعوه او قرأوه مرة واحدة، فلا ينسونه. إن المقابلة التي زفت بشرى ميلاد جعفر الصادق (عليه السلام) إلى جدّه زين العابدين (عليه السلام) كانت سعيدة الحظ، لأن ميلاد الولد في أسرة من الأشراف كان يعتبر حدثاً هاماً. وقد نظمت الأراجيز فرحاً بالمولود، منها هذه الأرجوز: (أبشروا حبابا * قدّه طال نما * وجهه بدر السماء) وقد حفظها جعفر الصادق (عليه السلام) وهو في الثانية من عمره. وكان جعفر يلعب مع بقية الصبيان لعبة الأسياف مستعيناً بسيف صغير، وهي لعبة متداولة عند العرب صغاراً كانوا أم كباراً. وكانت دار الحسين بن علي (عليه السلام) جدّ جعفر الصادق (عليه السلام) التي ولد فيها الصادق (عليه السلام) تقع إلى جوار مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولكنها هدمت فيما بعد لتوسيع المسجد، واستخدم الذي دُفع فيها من بيت المال في شراء أرض في المسقى حيث بنيت دار أخرى بأيدي معماريين من الفرس شأنها شأن بيوت الأشراف في مكة والمدينة، وكان صحن الدار يتسع لجعفر الصادق (عليه السلام) وغيره من الصبيان حيث يلعبون ويمرحون. |
|
دراساته الأولى |
|
لدينا روايتان مختلفتان عن بدء دراسة جعفر الصادق (عليه السلام)، تقول الأولى إنه بدأ الدراسة برعاية والده وهو في الثالثة من عمره، في حين أن الرواية الثانية تشير إلى أن بداية الدراسة كانت من السنة الخامسة. يقول محمد بن أبي رندفة، وهو من مؤرخي المغرب الإسلامي (ولد 451هـ وتوفي 520هـ) في كتابه (الاختصار): أن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان يحضر درس والده محمد الباقر وهو في سن العاشرة. وهذه رواية مقبولة معقولة. ولا ريب في أن محمداً الباقر (عليه السلام) كان يعلّم ابنه جعفراً أشياء كثيرة قبل هذا الموعد ولكن لعله وهو في العاشرة من عمره انضم إلى حلقات درس الوالد، الذي كان مجمعاً ومدرسة علمية للطلبة والباحثين. |
|
الدراسة في هذه الفترة |
|
مع كل ما ورد في أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) وخطب الإمام علي (عليه السلام) من توصيات تدعو إلى طلب العلم ولو في الصين، كانت الرغبة في التعليم ضئيلة جداً آنذاك، وذلك بسبب الأسلوب المتبع في التعليم، فضلاً عن أن العرف المتبع في ذلك الوقت هو الاعتماد أساساً على الاستضهار والحفظ. فلّما جاء جعفر الصادق (عليه السلام)، وانبرى بنفسه للنهوض بمهمة التعليم والإفادة، غير الأسلوب الدارج في التعليم، وحوّله من الحفظ والاستظهار إلى البحث والاستقراء. وكانت دروس الإمام محمد الباقر (عليه السلام) تنعقد في رحاب المسجد الذي بناه الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) والذي اتسع فيما بعد في عهد الخلفاء. أما المواد التي كانت تدرس في مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) فهي شيء من التاريخ، وعلم النحو، وعلم الرجال والسنة أو الفقه، الأدب المنظوم ولكن دون اهتمام بالنثر أو الخطب أو النصوص الأدبية، ولا بد من الإشارة إلى أن العرب، في عهد الإمام الباقر (عليه السلام)، كانوا يفتقرون إلى الأدب المنثور، ما عدا ما رُوي من خطب قصار العهد الجاهلي، وما روي عن الإمام علي (عليه السلام) من الخطب والرسائل. ولم يكن لدى الطلبة في مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) كتاب معيّن مقرر، ولا كان لدى الإمام نفسه كتاب أو مؤلّف خاص للتدريس، فكانت الدروس تلقى على الطلبة ارتجالاً وسليقةً، فإن كان الطالب متميّزاً بذاكرة قوية، كان حظه من الاستفادة من درس الإمام أوفر، وإن كان غير ذلك، اقتصر على كتابة الدرس على لوحة تمكّنه من استعادة فحواه في المدرسة أو البيت، وربّما دوّن موجزاً له على الجلد أو الورق الذي كان نادراً عزيزاً ليبقى مسجلاً محفوظاً. وكان اللوح يهيئ للطالب الاحتفاظ بالدرس لفترة قصيرة معيّنة ولا يلبث أن يمحي، ليكتب عليه من جديد. والطلبة في عصرنا هذا يتصورون أن دراسة المواد العلمية من غير كتاب أو نص مكتوب أمر مستحيل، في حين ان الدراسة في الماضي البعيد سواء في الشرق أو في الغرب كانت مركزّة على المشافهة دون الكتاب، فكان الطالب يسعى إلى استظهار درس استاذه، فإن كان قليل الثقة في ذاكرته، استعان على ذلك بكتابة. |
|
الدرس في منزله |
|
ونلاحظ اليوم أيضاً أن من الأساتذة من يثق في ذاكرته ويلقي المحاضرة دون مراجعة مذكرات أوكتاب، فقد تمكن البعض من مادتهم وتعمقوا فيها وهان عليهم أن يرتجلوا الحديث دون لجلجة أو تلعثم أو توقف. ولم تتوسع مدرسة الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في تدريس العلوم، ما عدا علوم الأدب. أما التاريخ، فاقتصر على ما ورد في القرآن الكريم والتوراة، ولم تكن الترجمة قد ازدهرت بعد، ولا كانت كتب اليونان وفارس قد نُقلت بعد إلى اللغة العربية، ولا كان المسلمون قد عرفوا بعد تاريخ أوربا والعالم. وكان الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يحضر مجالس والده، ويتابعها بذكائه الوقّاد، ويأخذ عنه الدروس ويحفظها في سهولة ويسر. وتقول الشيعة أن الإمام محمداً الباقر (عليه السلام) سُمّي باقراً لأنه كان يبقر العلم، أي يشقّه ويوسعه(5). وأظن انه سمّي باقراً لنه عمد في القرن الأول من الهجرة، وفي السنوات العشر الأخيرة منه على وجه التحديد إلى إدخال دراسة الجغرافيا وسائر العلوم الغربية عن ذلك المجتمع إلى مدرسته، إلى جانب دراسة الأدب والفقه، وكان جعفر الصادق (عليه السلام) وقتئذ في السابعة عشرة أو العشرين من عمره. ويعتقد البعض أن علم الجغرافيا دخل إلى شبه الجزيرة العربية عن طريق ترجمة الكتب السريانية، في حين أن العرب عرفوا هذا العلم عم طريق مصر، ووقفوا في رحلاتهم إلى مصر على جغرافيا بطليموس، وجاء جعفر الصادق (عليه السلام) فأدخل تدريس هذه المادة في مدرسته في وقت لاحق. ولبطليموس هذا دراسة في علم الهيئة (الفلك)، فضلاً عن دراسته عن الجغرافيا، وسنرى في ما بعد أن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان ذا ضلع في علم النجوم، ولعله أخذ هذه العلوم جميعاً عن مدرسة أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) وعن كتب بطليموس المصري(6). والحقيقة أن العرب عرفوا الصور الفلكية والنجوم، ووضعوا لها أسماء وتعاريف قبل أن يتصل بهم أمر بطليموس وجغرافيته وهيئته. ولكننا لا نعرف على وجه التحديد متى وضعت تلك الأسماء، ومن هو واضعها؟ وإن كان من المؤكد أن العرب كانوا قبل دخولهم مصر ومعاشرتهم للقبط ووقوفهم على كتب بطليموس، يعرفون المنظومة الفلكية، كما كانت لديهم أسماء عربية للنجوم. فليس صحيحاً إذن أن يكون جعفراً الصادق (عليه السلام) تعلم النجوم وأخذ علومها عم كتب بطليموس، ولكن الجائز إنه استعان بكتب بطليموس في دراسته للنجوم والفلك في مدرسة والده الإمام الباقر (عليه السلام) بجانب العلوم الأخرى. والمعروف أن الإمام الباقر (عليه السلام) أدخل في مدرسته دراسات عن الجغرافيا وغيرها من العلوم إلى جانب علوم زمانه. ولئن كنا نفتقر إلى سند تاريخي(7) يعزز هذا الرأي، فهناك من الشواهد والقرائن ما يؤكد هذا الرأي ويسانده. فمن المستبعد مثلاً أن يُلقّب الإمام محمد بن علي (عليه السلام) في عصره بالباقر لمجرد أنه أدخل دراسة علم الجغرافيا والهيئة في مدرسته آنذاك، ولكن الذي لا يكاد يعتوره شك، هو أن الباقر (عليه السلام) اكتشف بنفسه علوماً غريبة عن مجتمعه، أو لعله أحاط بها، ثمَّ قام بتدريسها والترويج لها في مدرسته، فكان ذلك سبباً في تلقيبه بالباقر(8). ومن القرائن أيضاً أن الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام) عندما انبرى لمنصب التدريس والإفادة في مدرسة والده الإمام الباقر (عليه السلام) كان يدرّس بالاضافة إلى الجغرافيا والهيئة علوم الفيزياء والفلسفة الاغريقية، ومن الواضح بأن الفيزياء والفلسفة والعلوم الاغريقية الأخرى لم تكن في زمان الإمام الصادق قد نقلت بعد إلى اللغة العربية، وأن حركة النقل والترجمة بدأت ونشطت في وقتٍ تالٍ، وقام المترجمون بعد عصره (عليه السلام) بنقل تلك الكتب والمؤلفات من الفارسية والسريانية إلى اللغة العربية دون أن تكون لديهم في البداية معرفة دقيقة بالمصطلحات الفلسفية الاغريقية. فأقوى الظنون أنه تعلم هذه العلوم بمدرسة والده الإمام الباقر (عليه السلام) فتمكن منها بنبوغه وذكائه، وتعمق في مباحثها ودراساتها، وصارت له فيها نظرات صائبة، ولو لم يأخذ هذه العوم عن أبيه، لما كان مستطاعاً عقلاً أن يقوم بتدريسها في وقت لم تكن هذه العلوم قد نُقلت فيه بعد من لغاتها الأصلية إلى العربية. والشيعة ترى أن احاطة الإمام بهذه العلوم تنبع عن علم الهي لدني(9)، وتعتقد أن الشعور الداخلي في كل انسان هو على النقيض من الشعور الظاهري، كنز للمعرفة ومدخر للعلوم والمعارف البشرية في العالم. ولهذه النظرية في عصرنا الحاضر ما يعززها من مكتشفات العلوم، فقد انتهى علم البيولوجيا الحديث إلى أن مجموعات الخلايا التي يتكون منها جسم الانسان تدَّخر في داخلها من المعارف والمشاعر الخاصة بها ما قد تحصّل منذ بدء الخليقة وإلى هذا اليوم. وفي رأي الشيعة أنَّ من اختاره الله نبيّاً أو جعله إماماً، يزال الحائل أو الستار الموجود بين شعوره الظاهري وشعوره الباطني، ولأنَّ النبي أو الإمام متمكن من الشعور الباطني، فهو يستفيد من المعرفة والمعلومات التي تتعلّق بالانسان أو غير الانسان في دنياه هذه أو في العالم المحيط به. وفي ضوء هذا الرأي تفسِّر الشيعة بعثة النبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) رسول الاسلام بأنها كانت من هذا النمط. بمعنى أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وفي ليلة البعثة وفي غار حراء بجبل قرب مكة، نزل عليه جبريل (عليه السلام) وخاطبه بقوله: اقرأ، فرد عليه الرسول (صلى الله عليه وآله): ما أنا بقارئ، فقال له جبريل (عليه السلام) مرة ثانية جادّاً: اقرأ، فأزيل الحائل بين شعوره الظاهري وشعوره الباطني، وفي لحظة واحدة علم القراءة وأحاط بكل علوم الانسان. والشيعة ترى أن للشعور الباطني مرحلتين هما الشعور الباطني الاعتيادي والشعور الباطني النهائي أو العالي، وترى أن الانسان في منامه يرتبط بشعوره الباطني الاعتيادي، وأن ما يراه في المنام من الرؤيا هو عن طريق الشعور الباطني الاعتيادي، أما النبي أو الإمام فيحيط بكل معرفة وعلم عن طريق الشعور الباطني النهائي (العالي)، وفي ليلة البعثة، ارتبط الرسول (صلى الله عليه وآله) وفي لحظة واحدة بشعوره الباطني النهائي. وعلى أساس هذه العقيدة أو الرأي تذهب الشيعة إلى ان علم الصادق (عليه السلام) علم لدني، أي أنه نابع من ينبوع الشعور الباطني النهائي. والشيعة يسلمون بهذه العقيدة ولا يجادلون فيها أو يناقشون، أما الباحث أو المؤرخ فيبحث عن الدلائل المادية، والشواهد التاريخية التي تفسر له كيف أن رجلاً كجعفر الصادق، لم يخرج من شبه الجزيرة العربية طوال أيام دراسته وشبابه(10)، وقد درّس الفلسفة والفيزياء والكيمياء وعلّمها، وكلها علوم لم يعهد أحد بتدريسها في شبه الجزيرة العربية إلى ذلك التاريخ. وأغلب الظن أن هذه العلوم كغيرها من علوم الجغرافيا والهيئة انتقلت إلى العرب عن طريق القبط، وتدوول تدريسها في مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام)، وتوسع الإمام بنفسه مباحثها وفروعها. وفي سنة 86 للهجرة، وكان جعفر الصادق في الثالثة من عمره، توفي عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، وخلفه ابنه الوليد بن عبد الملك. وكان أول حكم صدر عنه عزل هشام بن اسماعيل والي المدينة المنورة، وتولية عمر بن عبد العزيز(11)، الذي كان يبلغ من العمر الرابعة والعشرين، وكان يتمتع بصباحة المنظر والوجه، حاكماً ووالياً على المدينة (المنورة) مكانه. وكان مقر الخليفة في ذلك الوقت مدينة دمشق في الشام، وكانت التشريفات والمراسيم الملكية البيزنطية تحكم القصر الأموي، وكان الوالي الوافد يقيم قصراً أو داراً في مقر ولايته (في أي من المدن الإسلامية يلي أمرها) ويطبق فيه مراسم دار الخلافة في الشام وتشريفاتها، وكان الحكام يعيشون بالتشريفات والمظاهر الملكية. وكان هشام بن اسماعيل (الوالي المعزول) في المدينة يقلّد حياة الخليفة الأموي في الترف والمظاهر، ولكن الوالي الجديد عمراً ابن عبد العزيز وصل إلى المدينة المنورة دون تشريفات، واتجه إلى مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فور وصوله ليلتقي بالإمام الباقر (عليه السلام)، وكانت دروس الإمام تنعقد بالمسجد النبوي، فسلّم على الإمام الباقر(عليه السلام) قائلاً: كنت أعلم أنك في مثل هذا المكان في مثل هذا الوقت، وكان أجدر بي أن آتي إلى دارك، لولا حرصي وشوقي للقائك والاستماع إلى حديثك، وأود أن أقول أنني سأنفذ أوامرك وطلباتك، فَمُرْ بما تشاء تُجَبْ. ولا بد من الإشارة إلى أن العلويين (أولاد الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) كانوا يعيشون في المدينة المنورة دون غيرها من المدن الإسلامية. والمدينة المنورة، وهي التي اشتهرت بأنها مدينة النبي (صلى الله عليه وآله)، كانت مسقط رأس الإمامين، وبها من أهلها ومحبيها الجمع الكثير، بحيث لم يجرؤ الوالي أو الحاكم الأموي على إيذائهما أو منعهما من الحديث أو التدريس، ذكرنا هذا حتى يعلم القارئ كيف كان الإمام الباقر (عليه السلام) يلقي دروسه بحرية وعلى مرأى من الناس، مع وجود حاكم أموي كهشام بن اسماعيل. وقد عزم الوليد بن عبد الملك في السنة الثالثة لحكمه، أي في سنة 88 هجرية، على أن يوسّع مسجد النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان هذا الجامع قد بُني على يد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وتاريخ بنائه معروف لا يحتاج إلى التكرار. وكان المسجد قد وُسِّع قبل هذا التاريخ مرة دون هدم بيوت زوجات الرسول(صلى الله عليه وآله) التي بقيت بمبانيها في المسجد. وكان بعض زوجات الرسول (صلى الله عليه وآله) قد ابتعن بيوتاً غيرها، وانتقلن إلى البيوت الحديثة بمساعدة الخلفاء الراشدين، بينما آثر البعض الآخر حياة التقشف، وبقين في البيوت الصغيرة بداخل الحرم النبوي الشريف. وفي سنة 88 هجرية، انتقلت آخر زوجات الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى رحمة الله، فخلا المسجد منهن نهائياً. وأمر الخليفة الأموي واليه في المدينة آنذاك (عمراً بن عبد العزيز) بأن يهدم بيوت زوجات الرسول (صلى الله عليه وآله)، ويضم إلى المسجد البيوت المجاورة حتى تتسع رقعة المسجد إلى مائتي ذراع طولاً ومائتين عرضاً (أي ما مساحته أربعون ألف ذراع). وقد أمر عمر بن عبد العزيز معمارياً فارسياً بأن يخطط لتوسيع المسجد، بحيث لا يحول البناء دون مواصلة الإمام الباقر (عليه السلام) إلقاء درسه وبحثه، وقال له: إنني أحب هذا الرجل، ولا أريد أن يلحقه أذى من عمّالك وصنايعك أثناء عملهم. وعندما بدأ العمل في توسيع المسجد النبوي، كان جعفر الصادق (عليه السلام) قد بلغ الثامنة، أو الخامسة (لاختلاف الرواية حول مولده، كما اسلفنا) فطلب من أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) السماح له بالعمل والمشاركة مع الصناع في بناء المسجد. فقال له أبوه (عليه السلام): إنك طفل لا تُطيق مثل هذا العمل. فقال الصادق (عليه السلام): إنني أحب أن أشارك في بناء المسجد كجدي رسول الله (صلى الله عليه وآله). فلم يسعه إلا الموافقة على اشتراكه في العمل. ويرى البعض أن رغبة الصادق (عليه السلام) في المشاركة في بناء المسجد إنما انبعثت عن رغبة كل طفل في اللعب بالماء والطين، ولكن الواقع أن رغبته كانت تختلف عن رغبة الأطفال الآخرين في اللعب، بالنظر إلى ما كان يبذله من جهد كبير بالنسبة لجسمه الصغير، وكان يأبى تلبية دعوة الأطفال الذين هم في مثل سنّه للعب في شارع المسقى أثناء عمله في المسجد، وإن كان قد شارك أطفالاً في مثل عمره بعض اللعب المتداولة في المدينة المنورة آنذاك. ولعب الأطفال تتشابه في العالم كله، ولكن كانت في المدينة المنورة لعبتان متداولتان، تختلفان عن لعب الأطفال في العالم. أما اللعبة الأولى، فهي لعبة يراد منها شحذ الذهن وأعمال الفكر لحل اللغز واكتشاف المجهول. ومن مؤدى هذه اللعبة أن يجلس جعفر الصادق (عليه السلام) في مكان الأستاذ. والأطفال من حوله ملتفون، ثمَّ يلقي عليهم أسئلة عن خصائص شيء ما وأوصافه، ويطلب منهم الاستدلال بذكائهم على هذا الشيء، ومن ذلك مثلاً أنه كان يسألهم: ما اسم الفاكهة التي تنبت في منطقة كذا ولونها كذا وطعمها كذا وتقطف في فصل كذا؟ (وبديهي أن الأمثلة التي نسوقها هنا تختلف عمّا كان يطرحه (عليه السلام) فعلاً من الأسئلة على الأطفال). وكان على الأطفال الجالسين كالتلامذة من حول الصادق (عليه السلام) أن يحلّوا اللغز، ومن سَبَقَ إلى حلّه، اتخذ مكان الأستاذ، وأخذ على عاتقه أن يطرح الأسئلة على الآخرين، ولكن الصادق لم يكن يطيل مجلسه في موضع التلاميذ، إذ أنه سرعان ما كان يحل اللغز مرةً وأخرى، ويعود بذلك إلى مكانه العتيد كاستاذ. وكان جعفر الصادق (عليه السلام) قد تلقى أدبه وتربيته في أسرة من أشراف المدينة، ولم يكن الأطفال الآخرون في شارع المسقى من نفس المستوى أو من نفس التربية والتعليم، ولم يكن أحد منهم ينعم برعاية والد وجد ووالدة كالرعاية التي نعم بها جعفر الصادق. ومعروف أن للأسرة تأثيراً عميقاً في تربية الأولاد وتوجيه الطفل. وبسبب اختلاف أساليب التربية، ينشأ الاطفال مختلفين في الطباع والعادات حتى وإن تجاوروا في المسكن أو كانوا من اسرتين متقاربتين. ومن آثار التربية في نفس جعفر الصادق أنه (عليه السلام) كان لا يقول إلا صدقاً، ولعله ورث هذا عن أسرته، أو تلقاه منها بفضل التنشئة والتربية. ولم يكن الصادق يجيز الكذب، حتى وإن أنجاه ذلك عن عواقب وخيمة. أما أترابه من الأطفال، فإن كثرتهم الكاثرة لم تكن على هذه الشاكلة من حيث التربية الأصلية، وما أكثر ما كانوا يكذبون إذا رأوا في ذلك مصلحة أو منفعة. وعندما كان أحد من هؤلاء الأطفال يقعد مقعد الأستاذ في هذه اللعبة، ثمَّ يشرع في طرح الأسئلة الملغزة على زملائه، كان الصادق يجيب إجابة صحيحة بعد سؤال أو اثنين، ولكن الطفل الجالس في مكان الأستاذ، حرصاً منه على الاحتفاظ بهذه الرئاسة، كان يزعم بأن رد الصادق بعيد عن الصواب، وهو أمر كان الصادق يتألم منه تألماً شديداً يحدوه اياناً إلى اعتزال اللعبة، وبغيابه تفقد اللعبة جديتها وطرافتها، فيوافيه الأطفال معتذرين طالبين عودته إليهم.وعندئذ يقبل عذرهم مشترطاً الا يكذب أحد منهم. أما اللعبة الثانية فهي لعبة خاصة بالمدينة المنورة، وإن عرفت في غيرها، ومن مؤادها أن الأطفال كانوا يختارون من بينهم أستاذ وعدداً من التلاميذ، ثمَّ يأخذون كلمة (معينة) على وزن معين، مثل كلمة (الشراعية)، وكان على التلميذ أن يُعيد هذه الكلمة ويكررها كلما سئل. ورغبة من الأستاذ في اختبار مقدرة التلميذ على الحفظ، كان يسوق على مسامعه الفاظاً على وزن الكلمة المنتقاة، مثل الدراعية والذراعية والصناعية والكفائية والزراعية وما إلى ذلك، فيردد الطالب الكلمة المنتقاة، أي (الشراعية) في كل مرة، ولم يشترط أن تكون للكلمات الجارية على وزن الشراعية أي دلالة أو معنى، لأن الهدف من هذه اللعبة هو محاولة إيقاع التلميذ في خطاً بذكره لفظة وزنها مخالف لوزن الكلمة (الشراعية)، وفي هذه الحال يخرج التلميذ من اللعبة، ويحل محله آخر. وهاتان اللعبتان كانتا تفرضان على الأطفال الجلوس والتحدث، بينما تتطلب الألعاب الصبيانية الأخرى حركات بدنية أو مسابقات في العدو، وكان جعفر الصادق يشارك في هذه الألعاب أيضاً. وفي سنة 60 هجرية، انتشر مرض الجدري في المدينة المنورة، فأصاب من أصاب من الأطفال، وكان الصادق في السابعة أو العاشرة من عمره (على اختلاف الرواية)، فقررت أم فروة الابتعاد عن المدينة المنورة بطفلها احترازاً من الأوبئة، وسافرت ومعها جعفر الصادق إلى الطنفسة(12) وهي من القرى الريفية القريبة من المدينة. ومعروف أن أسماء كثير من المدن والقرى مأخوذة من أسماء منتجاتها الصناعية أو غلّتها الزراعية، الظاهر أن قرية الطنفسة اشتهرت بصنع نوع من الحصير الجميل من الألياف النباتية، فاشتهر الموضع باسم هذا المنتج وهو (الطنفسة). وقد تغير اليوم اسم هذه المدينة أو استبدل به اسم آخر، كما هو الشأن بالنسبة لأسماء المدن الإسلامية في القرنين الأول والثاني، كيثرب مثلاً التي سميت بالمدينة المنورة. واستقرت أم فروة مع أبنائها في الطنفسة نأيا بهم عن اخطار هذا المرض الساري، ومع ذلك أصيبت هي به دون أن تشعر في بادئ الأمر إلى أن ظهرت أعراض المرض على جلدها. فتنبهت بذكائها وثقافتها إلى خطورة الموقف، وعوضاً عن الاهتمام بعلاج نفسها، طلبت إبعاد الأطفال عنها إلى مكان آخر بعيداً عن هذا الموضع، فأخذوهم إلى قرية أخرى والأم تصارع آلام المرض وسريانه في جسمها. فاضطر الإمام محمد الباقر (عليه السلام)، بعد وقوفه على النبأ، أن يكف عن درسه بعض الوقت ويقرر الذهاب إلى الطنفسة، وكعادة الهاشميين عند الملمات والأخطار، زار قبر جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسجد الشريف، داعياً الله لإنقاذ زوجته من هذا المرض. فلما رأت أم فروة زوجها الحنون، خافت عليه من العدوى وقالت له: أو ما تعلم أن هذا المرض مُعْدٍ، وأن السلامة تقضي بعد لقاء المصابين به؟ فقال الإمام الباقر (عليه السلام): لقد دعوت الله عز وجل عند قبر جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينجيك من هذا المرض، وإنني لواثق من أن جدي لا يردني، وهو سيقضي لي حاجتي ومطلبي، فثقي بأنك ستشفين من هذا المرض، وأنا أيضاً مصون منه إن شاء الله. وقد تحقق ما قاله الإمام الباقر (عليه السلام)، وشفيت أم فروة، وزال عنها المرض الوبيل، بل أن هذا المرض لم يخلّف فيها أي آثار سيئة، مع أن هذا نادر الحدوث، ومن خصائص هذا المرض أنه لا يصيب الكبار في السن إلا نادراً، فإن أصابهم، فقل من ينجو منه. وفي رأي الشيعة أن الإمام يتمتع بقدرة غيبية غير محدودة، وأن أم فروة شُفيت من المرض لزيارة الإمام ودعائه لها، أي أنها شفيت بقدرة الإمامة، وهذا رأي لا يسع المؤرخ تقبله على علاته خاصة وأن الأطباء كانوا آنذاك عاجزين عن معالجة هذا المرض، وشفاؤها منه هو حالة استثنائية. عادت أم فروة إلى المدينة المنورة بمفردها بعد شفائها، ولم تستصحب أولادها معها لأن المرض كان ما زال متفشياً هناك. |
|
جعفر الصادق في مدرسة الإمام الباقر |
|
منذ سنة 90 هجرية وجعفر الصادق (عليه السلام) يحضر درس أبيه الإمام الباقر (عليه السلام)، والمؤرخون متفقون على أن جعفراً الصادق (عليه السلام) يحضر درس ابية (الدروس العامة) وهو في العاشرة من عمره. وكانت دروس الإمام الباقر (عليه السلام) في مدرسته تعتبر آخر مرحلة من مراحل الدراسة، أو هي قبيل الدراسات المتقدمة في مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله). وكان معظم طلابه من الفقهاء والعلماء أو الباحثين. فمن سديد الرأي أن نقول إن جعفراً الصادق (عليه السلام) بدأ دراساته العليا من العاشرة، وهو أمر غير مستبعد بالنسبة لمن كان كالصادق (عليه السلام) قوة ذاكرة وذكاء. والمعروف في الغرب أن كثيراً من مشاهير العلماء بدأوا دراساتهم الجامعية في سن المبكرة. وقد أشرنا في ما مر إلى المواد والدروس التي كان الإمام الباقر (عليه السلام) يدرسها في مدرسته، وعندما حضر جعفر الصادق (عليه السلام) درس والده لأول مرة، بدأ الإمام الباقر يدّرس جغرافية بطليموس، وفي هذه الجلسة سمع الصادق (عليه السلام) للمرة الأولى عن كتاب المجسطي لبطليموس، وعن رأي هذا العملاق الجغرافي في شأن كروية الأرض، وهو الرأي قال به بطليموس في القرن الثاني الميلادي. ويعتقد البعض أن كربرنيكوس المنجم البولوني الشهير الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي هو الذي اكتشف نظرية كروية الأرض(13)، ولكن الواقع أن معظم المنجمين والعلماء في مصر القديمة أيام الفراعنة قد قالوا بكروية الأرض. وفي مكتبة الفاتيكان بروما مخطوطات علمية يرجع تاريخ تأليفها إلى أكثر من ألف سنة تناولت موضوع كروية الأرض، بالإضافة إلى أن كريستوف كولمبس(14) بدأ رحلته البحرية (استناداً إلى نظرية كروية الأرض) ووجهته الوصول إلى جزر الأعشاب الطبية في الشرق عن طريق الغرب، وذلك قبل أن يدعو كوبرنيكوس إلى نظرية كروية الأرض ودورانها حول الشمس، وقبل أن يدوّن هذه النظرية. وقبل ذلك أيضاً، بدأ ماجلاّن البرتغالي رحلته البحرية ليطوف حول العالم ويعود إلى إسبانيا بعد ثلاث سنين. وقد ضم في رحلته البحرية هذه عدداً من البّحارة بمساعدة ملك إسبانيا، الذي كان يعمل في خدمة بلاطه، ولكن الحظ لم يواته، وقتل في إحدى الجزر الفلبينية، بينما أتم زملاؤه الرحلة. وعادوا إلى إسبانيا بعد سفر طويل حققوا فيه نظرية كروية الأرض(15) بصورة عملية. فالقول بكروية الأرض كان سابقاً إذن على نظرية كوبرنيكوس، بل قد دعا إليه المصريون والأغريق القدماء، وأكده بطليموس في كتابه المجسطي(16)، ولكن بطليموس كان يقول بأن الأرض هي مركز العالم، وأن الشمس والقمر والنجوم الأخرى تدور حولها، في حين أن كوبر نيكرس يقول أن الأرض كروية، وإنها تدور حول الشمس وحول نفسها، وإن المشس هي مركز العالم. واتفق في سنة 91 هـ، وجعفر الصادق (عليه السلام) مازال طالباً في مدرسة أبيه، أن حدث حدثان كان لهما أثر كبير في الإبانه عن مواهبه وقدراته العلمية. أولهما أن محمداً بن فتى، هو من تلامذة الإمام الباقر (عليه السلام)، عاد من مصر حاملاً معه هدية إلى الإمام الباقر (عليه السلام) قوامها كرة أرضية مصغّرة مصنوعة من دقيق الخشب. وكان صنّاع مصر يستخدمون نشارة الخشب أو الخشب نفسه في صنع كثير من التماثيل والنماذج الزخرفيه التي تنقل إلى خارج مصر لتقدم كهدايا أو تذكارات. وكانت الكرة الأرضية المصغرة التي حملها محمد بن فتى من مصر، مركّبة على قاعدة مستديرة في سمائها مجموعة من النجوم كما تصورها بطليموس في كتابه (المجسطي) في القرن الثاني الميلادي. وكان بطليموس قد قسّم النجوم التي تُرى بالعين المجردة إلى ثمان وأربعين صورة، وكان هذاهو التقسيم الشائع لدى علماء الفلك قبل بطليموسن غير أنه أتّمه ووضحه. أما المجموعات الفلكية الثابتة ـ حسب رأي بطليموس ـ فهي ثمان وأربعون، ولكل منها صورتها الخاصة وشكلها المعيّن. وقد صور هذه المجموعات حول الكرة، ودوّن عليها اسماءها باللغة المصرية القديمة. وصوّر على الكرة نفسها اثنتي عشرة مجموعة من النجوم، من برج الحمل حتى برج الحوت، على هيئة حزام يطوّق الكرة. وكانت صورة الشمس تقع خلف الكرة بحيث تكشف عن دورانها حول الأرض، ومن على منطقة البروج مرة كل سنة. وصوّر على الكرة أيضاً القمر والسيّارات الأخرى وهي تدور حول الأرض. كانت هذه الكرة أول نموذج مصغّر للكرة الأرضية والسيّارات الخرى يراه جعفر الصادق (عليه السلام)، ومع أنه كان آنذاك في الحادية عشرة من عمره ليس إلا، فقد انتبه بذكائه الوقّاد إلى الخطأ الكبير الذي وقع فيه بطليموس. وفي هذا قال: إذا كانت الشمس تدور حول الأرض، وتنتقل من برج إلى آخر في ثلاثين يوماً لتتم دورتها مرة كل سنة، فما هو السر إذن في غياب الشمس كل ليلة لتظهر في اليوم الثاني؟. وإذا كانت الشمس تستقر في كل برج شهراً واحداً، فلابد إذن أن نراها بصورة مستمرة، فلا تغيب عنا كل مساء. كان نقد جعفر الصادق (عليه السلام) نقداً علمياً دقيقاً، فقام بتخطئة بطليموس في رأيه القائل بوجود حركتين للشمس، حركة في البروج الإثني عشر حول الأرض مرة كل سنة، وحركة حول الأرض مرة في كل يوم وليلة، ومن هنا نرى الشمس، حسب رأي بطليموس، تغيب عنا كل ليلة في المغرب لتظهر صباحاً من المشرق، وهي حركة يومية نسبها إلى الشمس. ورأى الصادق (عليه السلام) أن هناك استحالة في التقاء هاتين الحركتين في آن واحد، لأن الشمس إذ تسير في منطقة البروج لا يسعها أن تترك هذا المسار لتدور حول الأرض مرة في كل يوم. وفي ذلك الوقت، كان قد مرّ على وفاة بطليموس 560 سنة، ولم يكن احد قد تنبه في هذه الفترة الطويلة إلى هذا المشكل، ولا كان أحد ليجروء على انتقاد رأي بطليموس أو تخطئته. ولم يكن رأي بطليموس رأياً يمتنع على النقد أو المناقشة، كما كان شأن الآراء الفلسفية الدينية إذ ذاك، ولكننا نعتقد أنه كان هناك سببان أساسيان وراء انتشار هذا الرأي وذيوعه دون نقد أو اعتراض. الأول: ما كان يتمتع به الأستاذ في القديم من منزلة عليا واحترام كبير، مما كان يورث التلاميذ اعتقاداً بأن الأستاذ على حق دائماً في كل ما يذهب إليه ويقول به من آراء. والسبب الثاني هو قلة حفاوة الطلبة بالمسائل العلمية المعقدة التي تحتاج إلى إمعان الفكر وإجراء التجارب العملية. ومن الغريب أن جامعات الغرب لم تطرح بدورها رأي بطليموس على بساط البحث والنقد، شأنها شأن الجامعات والمدارس العلمية في الشرق. وكان جعفر الصادق أول من التفت إلى الخطأ أو الفساد في هذه النظرية وهو آنذاك في سن مبكرة يدرس في مدرسة الإمام محمد الباقر (عليه السلام). ومن هذا اليوم بدأ جعفر الصادق يفكر في مكمن الخطأ في نظرية بطليموسن وكيف أن الشمس تغيب في كل ليلة وفي نفس الوقت تقول أنها تدور حول الأرض في منطقة البروج لتكمل الرحلة في سنة كاملة. أشرنا قبلاً إلى أن مدرسة الإمام محمد الباقر (عليه السلام) كانت تدرس علوم الجغرافيا والهندسة إلى جانب الفقه والتفسير،وأن الإمام الباقر (عليه السلام) كان يقوم بنفسه بتدريس هذه المواد العلمية، ويبدو أن عملي الهندسة والهيئة وصلا إلى المدينة المنورة عن طريق أقباط مصر، وأن الإمام الباقر (عليه السلام) كان واقفاً على القواعد الهندسية التي وضعها اقليدس اليوناني، لأن اقليدس عاش في القرن الثالث قبل الميلاد وكان يقول بكرويّة الارض، ورغم براعة اقليدس في الهندسة، فقد أخفق في تحديد حجم الكرة الأرضية أو مساحتها. وكان الاعتقاد السائد وفقاً للأساطير اليونانية القديمة، وقبل تدوين تاريخ اليونان العتيقة لالقاء الضوء على التفكير الإغريقي حول توالي الليل والنهار، أن هناك آلافاً من الأجرام الشمسية، وأن الشمس التي تغيب ليلاً تغوص في وادٍ مجهول لتشرق في مكانها شمس أخرى في اليوم التالي، وأن شمس هذا اليوم تختلف عن الشمس التي غابت في الليلة الفائتة، ومن مؤدى رأي الإغريق القدماء ـ بذلك ـ أن لكل يوم شمساً مستقلة تشرق من المشرق، خلاف الشمس التي غربت في اليوم السابق، وأن زيوس (Zeus) رب الآلهة (ويقال له في اللاتينية جوبيتر(17) Jupiter ) يملك كثيراً من الأنوار والمصابيح التي يطلق منها في كل فجر مصباحاً يسبح في السماء ليضيء الأرض ويدفئها، ومتى استنفذ وقود المصباح، أو صارت النار رماداً، حل الغروب، أمات المصابيح والانوار المستهلكة، فتسقط في مكان مجهول لا سبيل إلى الاهتداء إليه. وثمة سؤال هو: هل كان زيوس (رب الآلهة) يُعيد تزويد المصابيح بالوقود ليطلقها من جديد إلى السماء مرة أخرى؟ لم يكن الرد على هذا السؤال مؤكداً، إذ أن البعض كان يعتقد بأن لزيوس مثل هذه القدرة بل أكثر، في حين أن البعض الآخر كان يرى أن شمس كل يوم غير اليوم السابق. وكان الاغريق في القديم يفسّرون المسائل الفلكية في ضوء ما يقرره (زيوس) العالم، وما ينسبه إليه. وابتداء من مطلع القرن الخامس قبل الميلاد، الذي يعتبر عصر النهضة العلمية في اليونان، وتحت ايدينا التاريخ العلمي لهذه الفترة، اخذ اهتمام اليونان بمسائل الفلك يتضاءل، وظهرت الفلسفة وعلوم الاجتماع على المسرح، واستأثرنا باهتمام معظم علماء اليونان، فاهتم سقراط وأفلاطون وأرسطو، وهم من أشهر فلاسفة اليونان، بعلوم الاجتماع والفلسفة دون سواها مكن أبواب المعرفة، وإن كان أرسطو اهتم بالفيزياء والأرصاد الجوية والفلك، وألّف في هذه العلوم، ولكن معظم اهتمامه انصب على الفلسفة أيضاً، واشتهرت مدرسته بالفلسفة المشائية، وقد عالجت موضوعات علم الاجتماع ايضاً. في مثل هذا المجتمع، ظهرت محاولات أخرى من بعض علماء الفلك والنجوم، منهم اقليدس الذي كان رياضياً مهندساً أكثر منه منجماً أو فلكياً، وهو الذي فنَّد الرأي القائل بأن زيوس هو الذي يرسل في فجر كلّ يوم شمساً إلى السماء لتذوب ويخبو ضياؤها عند الغروب. وقد عاش اقليدس أربعة قرون ونصف قرن قبل بطليموس في الاسكندرية، وكان يرى أن الشمس التي تغرب عن أعيننا عند الغروب هي نفسها التي تشرق مرة أخرى في فجر اليوم التالي، وذلك لأنها تدور حول الأرض الكروية في كل يوم وليلة. وقد اكتشف هذا الرأي من مؤلفات اقليدس بعد موته بسنين، والغريب في الأمر، أن اقليدس لم يجرؤ على ابراز هذه النظرية طيلة حياته، مع أن عصره أي القرن الثال ث قبل الميلاد، كان عصر العلم وعصر انطلاقة حركة البحث العلمي والتحقيق. وكان (بيرون)(18)، المعاصر لإقليدس (في اليونان) يناقش آراء أرسطو وأفلاطون ويعارضها، بل ينفي وجود آلهة للإغريق قائلاً إن ذلك خرافة، مع العلم بأن هذا الموقف كان معارضة منه للمذهب الرسمي في اليونان. ولكن بيرون كان يعيش في مدينة (أليس). وقضى حياته في غير الاسكندرية، وتوفي سنة 270 ق.م. وكانت المدن اليونانية في ذلك الوقت شبه مستقلة، يحكمها حكام وامراء يختلفون من حيث منهج التفكير وأسلوب الحكم والنظرة إلى الحياة والكون وما إلى ذلك. عاش اقليدس في الاسكندرية أيام حكم بطليموس الأول، وهو مؤسس أسرة البطالسة ورأسها وكان ينادي بحرية الرأي ويحترم العلماء ما دامو لا يعترضون لموضوع الآلهة ونقد الدين، وهو الذي أسس مكتبة الاسكندرية الشهيرة التي ذاع صيتها فيما بعد. وكان من توجيهات بطليموس الأول ألا تتعرض المباحث العلمية للمسائل الدينية، فإن تعرضت نظرية علمية مع رأي ديني، وجب على العالم التراجع، فلا يتصدى للعقيدة والرأي الديني. لهذا فقد تعذر على اقليدس في حياته ان يعارض العقيدة الدينية القائلة بأن زيوس يرسل شمساً في اشراقة كل يوم إلى السماء، وأن يصحح هذه العقيدة بقوله بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض، وقد عثر على هذا الرأي مدوّناً في مذكرات اقليدس ومؤلفاته بعد وفاته. ولمّا جاء العالم الجغرافي بطليموس بعد حوالي قرن من اقليدس، أخرج هذه النظرية إلى النور، ولا يستبعد أن يكون نقلها عن مؤلفات اقليدس ومذكراته الموجودة في مكتبة الاسكندرية، فقام بتدوينها واعلانها حتى اقترنت هذه النظرية باسمه. أما (بيرون) اليوناني، الذي كان ينفي وجود آلهة الاغريق، فلم يتحدث عن توالي الليل والنهار أبداً، ولكنه اشتهر في تاريخ العلوم الاغريقية بأنه (أبو الشكاكين) لمعارضته للعقائد الدينية وتفنيده لها، وكان من مذهبه أننا نفتقر إلى دليل علمي دقيق يهدينا إلى معرفة كنه الوجود، وكان يقول إن الآراء والنظريات الفلسفية المتعلقة بالوجود يتعارض بعضها مع البعض الآخر، أو يمكن الردّ عليها بآراء ونظريات أخرى(19). وللمثال ففي كل سنة تتساقط على الأرض ملايين من ثمرات التفاح الناضجة على مرأى من الآلاف ومسمع، ومع ذلك لم يخطر ببال أحد أن يسأل عن سبب سقوطها، ولِمَ لا تطير في الهواء. أو تنحرف شرقاً أو غرباً، أو تقع في مكان آخر خلاف الأرض. وظل هذا التساؤل غائباً، إلى أن جاء نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي واكتشف قانون جاذبية الأرض عندما سقطت تفاحة على رأسه. صحيح أنه كان هناك الآلاف من العلماء والفلاسفة في الشرق والغرب، الذين اتيح لهم في مطلع القرن الثامن الميلادي أن يقفوا على نظرية بطليموس بشأن دوران الشمس حول الأرض، ولكن أحداً منهم لم يسأل عن الشمس، وكيف أنها تدور حول الأرض في منطقة البروج، ثمَّ تترك هذا المسار (في منطقة البروج) لتدور في نهار وليل حول الأرض أيضاً. وكانت مدينة الاسكندرية الواقعة شمال مصر مركزاً للفلسفة والعلوم منذ أن أسست فيها المكتبة الشهيرة على يدي رأس أسرة البطالسة (بطليموس الأول)، وظلت تتمتع بهذه المنزلة إلى يوم سقوطها في أيدي الجيش العربي عند الفتح الإسلامي وعند إحراق مكتبتها(20)، أي ما يقرب من تسعمائة عام. وقد اشتهر علماء مدرسة الاسكندرية بآرائهم الفلسفية، وكانوا على قدر وافر من النشاط والعمل العلمي الدائب، ومع ذلك فلم ينبر أحد من المفكرين والعلماء في هذه المدرسة العلمية لمناقشة نظرية بطليموس بشأن دوران الشمس في منطقة البروج. ودورانها في نفس الوقت حول الأرض مرة في كل يوم وليلة، كما لم يتنبه أحد إلى إفساد هذا الرأي، إلى أن جعفر الصادق (عليه السلام) وتنبه إلى استحالة اجتماع هاتين الحركتين معاً، مع أنه كان آنذاك في مطلع شبابه، وكان يعيش في مدينة بعيدة عن الاسكندرية وليست مركزاً علمياً مشهوراً مثلها، وما ذلك إلاّ لأن هذا الشاب اليافع كان ذا عقلية علمية تفوق بكثير العقليات التي وجدت في مدرسة الاسكندرية والتي عاشت في قرون متوالية بعد ذلك. ولم يكن لجعفر الصادق (عليه السلام) اهتمام في أيامه هذه بالشؤون الاقتصادية، ولا عقلية تجارية أو مالية، وهذا أمر طبيعي بالنسبة للصبية في مثل سنِّه، إذ أنهم لا يتحملون تبعة كسب القوت ولا يعولون أسرهم، ولكنه (عليه السلام) كان يملك القدرة على التفكير السليم، وكانت له عقلية علمية منظمة فذة تساعد على اكتناه الأمور والوصول إلى النتائج الصحيحة في أبحاث العلوم، ولا سيما أبحاث النجوم والفلك التي قصرت عن إدراكها عقليات غيره من معاصريه. وعندما أعلن جعفر الصادق (عليه السلام) عن رأيه في استحالة اجتماع حركتي الشمس (1ـ في منطقة البروج و 2ـ حول الأرض) لم تستطع العقلية العلمية لغيره من معاصريه أن تدرك أهمية هذا الرأي وتستوعب حقيقة مداه، لأن هذه العقلية كانت من الضعف بحيث استعصي عليها هذا الفهم، وتعذر عليها بالتالي ان تولي آراء الصادق ما هي أهل له وجديرة من الاهتمام والعناية. وهذا هو حال كل عبقري أو مفكر يرتفع بتفكيره الوسط الذي يعيش فيه، فهو يرى الأمور بعين ومنظار يختلفان عن مقاييس رؤية عامة الناس لها، وهي رؤية لا تتجاوز الأمور المحسوسة والحاجات اليومية الدارجة. فمثلاً هذا التقدم الذي أحرزه الطيران في عصرنا هذا، والرحلات الفضائية أو المكوكية التي يسرت على الانسان ان يضع قدميه لأول مرة على سطح القمر، لا ريب في أنه يعود الفضل فيها إلى نظرية نيوتن الخاصة بجاذبية الأرض. والغريب ان اكتشاف نيوتن لقانون جاذبية الأرض، الذي هو قطعاً من أهم القوانين الطبيعية التي اهتدى إليها الانسان، لم يصادف من عامة الناس في عصره اهتماماً يُذكر، بل ان جريدة (الديلي نيوز)، وهي أولى الصحف البريطانية في ذلك الوقت، وكانت تصدر اسبوعيا، لم تحفل بنشر نبأ هذا الكشف العلمي في حينه، وطبيعي أن الصحف الاْخرى لم تهتم بدورها بهذا الكشف، ولم تورد النباْ إلا بعد ثلاث سنين اْو أربع، هذا في الوقت الذي كانت فيه هذه الصحف مشغولة بانباء السرقات وجرائم النهب و السلب والقتل والاحداث اليومية، لاْن في عرفها أن لهذه الاخبار ـ دون غيرها ـ أهمية قصوى للقراء لارتباطها بحياة الناس. أما العلماء والباحثون الذين وقفوا على هذا الكشف العلمي، فلم يشروا اليه لكونهم لم يشتركوا في الاهتداء الى ناموس الجاذبية، ولأن الحسد هو من طبيعة البشر، ولكن العالم عرف هذه النظرية العلمية في ما بعد، واهتمت بها بريطانيا، وكرّمت صاحبها نيوتن بمنحة لقب سر (Sir). فإذا كان القوم في القرن السابع عشر لم يهتموا في الغرب باكتشاف نيوتن لناموس الجاذبية، فلا عجب أن يكون أهل المدينة المنورة في القرن الثامن قد نظروا بقلة اهتمام الى ما كشف عنه جعفر الصادق (عليه السلام)، ولكن الفرق بين عامة الناس في المجتمع البريطاني في القرن السابع عشر و بين الذين كانوا يحضرون مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) في القرن الثامن، فرق شاسع، إذ أن رواد مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) كانوا من العلماء و الباحثين، و لم يكون مقبولا منهم أن يمرّوا بالمسائل العلمية دون التفات و اهتمام، فإن كان قد فاتهم من قبل أن يهتدوا إلى ما اهتدى اليه جعفر الصادق (عليه السلام) من استحالة الجمع بين حركتي الشمس (في دائرة البروج ودورانها حول الأرض)، وهو الرأى الذى ذهب اليه بطليموس، فقد كان منتظرا منهم أن يستقبلوا رأى الصادق (عليه السلام) بالاهتمام و المدارسة، وأن يبحثوا عن سبب آخر لتعاقب الليل و النهار، ولكن تفكيرهم العلمي كان محدودا جدا، ولم يسعهم مناقشة هذه النظرية مع منشئها جعفر الصادق (عليه السلام) نفسه. ولعل من أسباب تقاعسهم أن جعفراً الصادق (عليه السلام) كان في ذلك الوقت طرى العود، و عمره لا يزيد على اثني عشر ربيعا، بينما أصحاب الامام الباقر (عليه السلام) و طلاب مدرسته كانوا في غالبيتهم رجالا متوسطي العمر أو متقدمين في السن، ولعل هؤلاء كانوا يرون في أقوال الصادق (عليه السلام) كلام صبية، ولو أنهم دققوا النظر فيها، لا ستبان لهم وجه الحقيقة ناصعا مجلوّا. لقد كان جعفر الصادق (عليه السلام) يرى حول الأرض دائرة واسعة مقسمة الى اثنى عشر برجا، وكان يرى صورة الشمس و هي تدور في هذه الدائرة من برج إلى برج، فسأل نفسه قائلا: إذا كان لا بد للشمس أن تدور في هذه الدائرة مرة واحدة كل سنة، فكيف لها أن تغادرهذه الدائرة لتدور حول الأرض مرة واحدة كل نهار و مساء؟ ان اجتماع هاتين الحركتين معا غير مستطاع عقلاً. و قد تكون هذه النظرية واضحة ومفهومة للناس جميعا في يومنا هذا ولكنها لم تكون واضحة أو مفهومة لطلاب مدرسة الباقر (عليه السلام) فكيف لعامة الناس آنذاك؟ وفي القرن السابع عشر الميلادي وحين نادى كوبرنيكوس البولوني بنظرية دوران الأرض حول الشمس، لم تصادف هذه النظرية اهتماما أو قبول في مجتمعه بدوره، بل ان الموت كان يترصد له لدعوته الى رأي مخالف للعقيدة الدينية القائمة عندئذ ولم تنقذه منه إلا أنه كان يعيش في بولونيا، وليس في روما أو المانيا أو في اسبانيا مثلا حيث كانت محاكم التفتيش العقائدية Inquisition تلاحق الخارجين على الدين والمعارضين والمناوئين للمسيحيين للمتشددين المسيحيين (التوركفادا) Turquevada، وتحكم عليهم في الأغلب بالسجن أو التعذيب حتى في أتفه مسائل الخلاف، وقد كانت نظرية كوبر نيكوس هذه دخيلة على التفكير المسيحي السائد، لقوله بأن الأرض وسيارات أخرى هي التي تدور حول الشمس، وهو ما يكون جزاء صاحبها الإعدام بلا ريب، ولقد سبق لهذه المحاكم أن عاقبت جاليليو Galillee وحرمته من مزاولة الطقوس الدينية وطردته من الكنيسة. ولكن بولونيا كانت خارجة عن دائرة نفوذ هذه المحاكم ولذلك أبدى كوبر نيكوس رأيه هذا في دوران الأرض حول الشمس، دون أن يمسه أذى هذه المحاكم وعقابها المنتظر، في حين أن جاليليو، الذي اخترع منظار المراصد (التلسكوب) وبرهن على رأي (كوبر نيكوس) علميا وعملياً، لم يستطع النجاة من سطوة هذه المحاكم القاسية، فألقي القبض عليه، وأودع السجن، وكان من المنتظر أن يحكم بإحراقه لولا تدخل بعض أصحاب النفوذ وحمايتهم له، مع أنه ورغم تدخل هؤلاء السياسيين أو أصحاب السلطة، فإن المحكمة لم تفرج عنه بل فرضت عليه أن يسحب قوله بأن الأرض تدور حول الشمس وأن يتوب عن هذه الهرطقات، ويتعهد بعدم تكرار مثل هذا القول من أقوال الكفار والملاحدة. وبين أيدينا رسالة جاليليو في التوبة وطلب العفو والاعتذار، وهي تثبت أن نظرية دوران الأرض حول الشمس لم تكن من ابتداع جاليليو بل نقلها عن كوبر نيكوس البولوني.
|
|
1 - يوحنا مندل (MENDEL) ولد عام 1822 وتوفي عام 1884، وهو راهب وعالم نباتي نمسوي، قام بإجراء تجارب على الصفات المتوارثة في النيات والحيوان، واستنبط ناموس الوراثة المعروف باسمه (المترجم). 2 - كان هذا الرأي المؤلف في أبي هريرة. وأما آراء المسلمين في الموضوع فيرجع إليها في كتاب (شيخ المضيرة أبو هريرة) للشيخ محمود أبو رية، طبع دار المعارف، القاهرة/ 1325هـ. 3 - وخاصة إذا كان ممن لا يدينون بدين سماوي أو إيمان يتيح لهم الاعتراف بخوارق العادات هذه. 4 - ثاسيت مؤرخ رومي ولد سنة 55 ميلادية وتوفي 118م، ولف ما لايقل عن مائتي كتاب، بقي منها ثلاثة: أ ـ جرمانيا: وهو تاريخ الشعوب الألمانية في مجلد واحد. ب ـ كتاب التاريخ في أربعة مجلدات. ج ـ تقويم الرزنامج في اثني عشر مجلداً. 5 - عن الطالقاني، عن الجلودي عن المغيرة بن محمد عن رجاء بن سلمة عن عمرو بن شمر قال: سألت جابراً الجعفري فقلت له: ولمَ سمي باقراً؟ قال: لأنه بقر العلم بقراً، أي شقه شقاً، وأظهره اظهاراً. 1 - علل الشرايع ج1 ص233. 2 - معاني الأخبار ص 65. 3 - عيون أخبار الرضا ج2 ص56. 4 - بحار الأنوار ج48 ص 221 (المترجم). 6 - عند الشيعة أن الأئمة (عليهم السلام) لا يأخذون العلوم عن أحد ولا يدرسون عند أحد لكون علمهم لديناً إلهياً في مصدره كما سبق. 7 - عدا كتب الأحاديث والأخبار عن آل البيت (عليهم السلام). 8 - ترى الشيعة ألقاب الأئمة (عليهم السلام) من عند الرسول (صلى الله عليه وآله) بالوحي الالهي وقد مرّ بك أن أبا هريرة روى عن الرسول (صلى الله عليه وآله) حديثاً. 9 - كما وردنا في حاشية سابقة. 10 - ولكنه خرج إلى العراق بعد ما تولى الامامة، عدة مرات (المترجم). وأيضاً إلى الشام مع أبيه (عليه السلام) زمن الوليد بن عبد الملك حين طلب الامام الباقر (عليه السلام) من المدينة امنورة، وقصة ذهاب الامامين الباقر والصادق (عليه السلام) إلى الشام والمناظرات بينهما وبين العاقب أو الجاثليق (رئيس النصارى) مشهورة ومذكورة في عدد من كتب الروايات والأخبار... 11 - عمر بن عبد العزيز بن مروان (61 ـ 101هـ) ابن عم الوليد بن الملك وواليه على المدينة. تولى الخلافة بعد ذلك (99هـ) واشتهر بتقواه وتمسكه بالسنة. انصرف إلى الإصلاح الداخلي والمالي، وأظهر تسامحاً مع العلويين، فنهى عن سب علي (عليه السلام) على المنابر. كما كان متسامحاً مع النصارى والموالي. (المترجم). 12 - الطنفسة، ج طنافس: البساط، الحصير، الثوب (فارسية)، القاموس. 13 - كربرنيكس (Copernic) فلكي بولوني ولد عام 1472م وتوفي 1543م. وقد أقام البرهان على دوران الكرة الأرضية حول نفسها وحول الشمس. 14 ـ كريستوف كولمبوس (C. Colombos) 1451م ـ 1506م بحار رائد، ولد في جنوب إيطاليا وتوفي باسبانيا وهو مكتشف أمريكا. أبحر من بالوس في 3 آب 1492 ووجهته بلاد الهند عن طريق الغرب، وفصل إلى شواطئ سان سالفادور (أمريكا الجنوبية) في 12 تشرين الأول 1492 (المترجم). 15 - فردنان دي ماجلان (Magellan) (1480 ـ 1521م) رائد برتغالي، اكتشف المضيق المعروف باسمه في عام 1520م وقام بأول رحلة حول العالم، ولكنه قتل في إحدى جزر الفلبين (المترجم). 16 - بطليموس القلوذي (بطولوميوس كلوذيوس) صاحب (المجسطي) أشهر كتب الفلك في العصور الأولى، ثمَّ أقليدس صاحب كتاب الهندسة المشهور (المترجم). 17 - يقابلها بالعربية لفظ (المشتري) Jupiter... . 18 - هو رئيس الشكاكين من الفلاسفة. 19 - وعليه فيعين الشك في هذه الآراء والنظريات كلها جملة واحدة... 20 - قضية احراق مكتبة الاسكندرية أو مكتبة جنديسابور بأيدي جيوش الفتح الاسلامي هي: من القضايا الملفقة ضد المسلمين، ولا دليل عليها في أي مرجع تاريخي يعتد به، وأما ما قيل من أن الخليفة عمر بن الخطاب قال لقائد جيوش المسلمين في أرض فارس عندما سأله عما ينبغي عمله بالنسبة للمكتبة: (احرقوها، كفانا كتاب الله)، فرواية ضعيفة. (المترجم). |