فهرس الكتاب

الخليفة الأموي ومدرسة الإمام الباقر (عليه السلام)

أشرنا إلى انه قد وقع للصادق في سنة 91 هجرية حدثان هامان كانا من الأهمية بمكان، الأول وصول نموذج الكرة الجغرافية من مصر، أما الثاني فكان قيام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك برحلة إلى الحجاز، وزيارته للمدينة المنورة.

وكانت رحلة الخليفة من عاصمة الأمويين في الشام إلى الحجاز، من قبيل الزيارات الرسمية التي تقترن بالتشريفات والأبهة والمراسم الملكية المنقولة عن التشريفات الامبراطورية البيزنطية (بلاد الروم الشرقية). ومن مقتضى هذه التشريفات أن تسبق الخليفة طلائع من الحرس والخدم، ليهيئوا له أسباب الراحة في كل منزل وموقع.

خرج والي المدينة عمر بن عبد العزيز مسافة خمسين فرسخاً ليستقبل الخليفة بعدما أعد أوسع بيوت المدينة ودورها لنزول الخليفة وحاشيته.

ووصل الوليد بن عبد الملك إلى المدينة، وأذن للناس بالدخول عليه في اليوم التالي، وكان عمر بن عبد العزيز يحثّ الاشراف والتابعين من الصحابة على أن يكونوا في مقدمة الزائرين والمرحّبين بالخليفة، وكان يعلم أن الإمام الباقر (عليه السلام) ليس ممّن يسعى إلى الخلفاء والملوك، فتدارك الأمر، وجاء بنفسه إلى الإمام الباقر (عليه السلام) وسأله: هل تزور الخليفة غداً؟

فرد عليه الإمام بالنفي.

فلم يستفسر عمر بن عبد العزيز عن سبب ذلك، لأنه كان يعلم أن الإمام الباقر (عليه السلام) لا يرى للخليفة بيعة في عنقه، ولا ولاء أو حباً في قلبه يدعوه إلى زيارته.

ولكنه قال للإمام الباقر (عليه السلام): إن هذه المدينة مدينة جدك، والزائر لها أينما نزل نزل بدارك، وهو ضيف عليك، وهذا هو الوليد بن عبد الملك إن لم يكن خليفة فهو مسلم زائر نزل بدارك. أوَمَا تكرّمه؟

فأجاب الباقر (عليه السلام): من نزل علينا كزائر وضيف وجب حقه علينا، ولكن وليد بن عبد الملك نزل هنا. ويرى نفسه صاحب الحق والخلافة، فهو إذن صاحب الدار وليس ضيفاً علينا.

فقال عمر بن عبد العزيز: إنني أعلم سبب امتناعك عن لقاء الوليد، حتى لا يقول الناس إنك بايعته واعطيته يدك.

فوافقه الإمام الباقر (عليه السلام) على قوله.

وعاد عمر بن عبد العزيز يقول: إن جدك بايع على غير رغبة الخليفة الأموي، وكانت في تلك البيعة مصلحة للمسلمين، فزيارتك للوليد غداً ليست بيعة، وإنما هي لمنع الفساد ومصلحة المسلمين، وامتناعك عن زيارته سيجلب عليّ المشاكل.

قال الإمام الباقر (عليه السلام): وكيف يكون ذلك؟

قال عمر بن عبد العزيز: أنت تعلم أن للوليد أعيناً في كل مكان يخبرونه عن كل ما يجري (وكان للدولة الأموية ـ بالفعل ـ جهاز للأمن أسسه معاوية بن أبي سفيان لأول مرة في التاريخ الاسلامي، واستمر نشاطه مع الخلافة)، والخليفة يعلم ما أكنُّ لك من ودٍ واحترام، فإذا امتنعت عن لقائه، فقد يظن أن هذا من صنعي أنا، وسيقول لولا احترامك له ما حدث هذا، وقد ينتهي الأمر بعزلي من منصبي ومسؤوليتي هذه، وأنا أحب أن أحظى بلقائك والاستماع إلى حديثك دوماً.

فقال الإمام الباقر (عليه السلام): ما كان ذلك غروراً أو كبرياء مني، ولكني آثرت العزلة على مخالطة السلاطين، وما دام الأمر كما تقول، فسآتيه غداً لأمنع الغدر عن المسلم.

ففرح عمر بن عبد العزيز عندئذ، واستأذن الإمام في أن يخبر الخليفة بذلك، فأذن له.

وفي اليوم التالي دخل الإمام الباقر (عليه السلام) على الوليد بن عبد الملك.

فقام الخليفة من مكانه وأجلسه بجانبه، وهذا تعبير عن الاحترام الفائق عند العرب، وخاصة لرؤساء القبائل والأشراف، والإمام الباقر (عليه السلام) كان زعيم بني هاشم، وسيد قريش في زمانه، وكان الخليفة الأموي يعترف بعلمه وتقواه، وكان خلفاء بني أمية يتظاهرون بحبّ العلماء واحترامهم، فجرى حديث ودّي بين الخليفة والإمام الباقر (عليه السلام).

وسأل الوليد الإمام الباقر (عليه السلام) عما يملك في المدينة؟.

فأجاب: ان لي مزرعة يكفيني وأهلي زرعها، ولم يبق لي ما يمكن بيعه.

قال الوليد: إن شئت أعطيناك أرضاً ومزرعة في أية بقعة من الدولة الاسلامية الشاسعة لتعيش مع أبنائك وأهلك وذويك في يسر وراحة.

فأجابه الإمام الباقر (عليه السلام): إن هذه المزرعة تكفيني وأهلي، وإن أولادي سوف يعملون، وإن الله يرزقنا جميعاً، ثمَّ قام من مجلسه وودّع الخليفة وخرج.

كان الغرض من زيارة الوليد للمدينة المنورة هو تفقد ما أنجز في توسيع مسجد النبي (صلى الله عليه وآله)، ومتابعة أعمال الترميم والتوسيع بنفسه.

وكانت مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) وحلقات دروسه تنعقد في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً، ودخل الوليد المسجد النبوي، فشاهد ما أنجز من أعمال التعمير والتوسيع، فسره ذلك، ثمَّ أتى إلى رواق الإمام الباقر (عليه السلام)، وسلم على الإمام، فتوقف الإمام (عليه السلام) عن التدريس، ولكن الوليد طلب منه المضي فيه، وكان موضوع الدرس الجغرافيا، فاستمع الخليفة إلى حديث الإمام، وكان غريباً على مسمعه.

فسأل الإمام؟ ما هذا العلم.

فأجابه: إنه علم حديث يتحدث عن الأرض والسماء والشمس والنجوم، فوقع نظر الخليفة على جعفر الصادق (عليه السلام) بين الحاضرين، ولم يكن قد رآه من قبل، فسأل عمّن يكون هذا الصبي بين الرجال؟

فقال عمر بن عبد العزيز: هو جعفر بن محمد الباقر (عليه السلام).

فأعجبه ذلك، وسأل: وهل هو قادر على فهم الدرس واستيعابه؟.

فقال عمر بن عبد العزيز: إنه أذكى من يحضر درس الإمام، وهو أكثرهم سؤالاً ونقاشاً.

فاستدعاه الوليد وسأله: ما اسمك؟

قال: اسمي جعفر.

فسأله الخليفة: أتعلم من كان صاحب المنطق؟

أجاب جعفر: كان أرسطو ملقبّاً بصاحب المنطق، لقّبه إياه تلامذته وأتباعه.

قال الخليفة: ومن صاحب المعز؟

قال جعفر: ليس هذا اسماً لأحد، ولكنه اسم لمجموعة من النجوم، وتسمى أيضاً (ذو الأعنة)(1).

فاستولت الحيرة على الخليفة، وعاد يسأله: هل تعلم من صاحب السواك؟.

أجاب جعفر: هو لقب عبد الله بن مسعود صاحب جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فقال الوليد: مرحباً ومرحباً بك، وخاطب الإمام الباقر (عليه السلام) قائلاً: إن ولدك هذا سيكون علاّمة عصره.

وصدق الوليد، وتحقق ما توسم في جعفر الصادق (عليه السلام)، لأنه أصبح من أعلم العلماء، بل أعلمهم على الاطلاق.

وكان الصاحب بن عباد المتوفي سنة 375 هـ للهجرة يقول: لم يظهر في الاسلام بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) شخصية علمية بعظمة جعفر الصادق (عليه السلام)، ومن كان كالصاحب بن عباد علماً ومنزلة سياسية لا يقول إلا حقاً، ولا يجامل في حكمه ورأيه، فهو وزير البويهيين والشخصية العلمية الفريدة في عصره، وكانت مكتبته في مدينة (الري) تضم ما يزيد على مائة ألف كتاب.

 

1 - هذه مجموعة من النجوم تسمى في مصطلح علم النجوم الحديث (أوريكا) أو أوريجا.