فهرس الكتاب

مكتبة الإمام الصادق (ع)

 

 

2 ـ الحركة العباسيّة [النشأة والأساليب]

سبقت الإشارة الى النواة الاُولى التي دفعت ببني العبّاس إلى أن يطمعوا في الخلافة ويمنّوا أنفسهم بها.

وقد مرّ فيما ذكرنا[1] ان أبا هاشم كان من رجالات أهل البيت البارزين، وكان هشام بن عبدالملك يحذره; لوجود لياقات علمية وسياسية عنده تؤهله للقيادة ، فحاول هشام اغتياله . ولمّا أحس ابوهاشم بالمكيدة ضدّه احترز من ذلك فأوصى الى محمد بن علي بن عبدالله بن العبّاس بإدارة أتباعه في مقاومة الاُمويّين سنة ( 99 هـ ) وكانت هذه الوصية هي بذرة الطمع التي حركت محمدبن علي بن عبدالله بن العباس مما جعلته يشعر بأنه القائد والخليفة مستقبلاً.

وكانت الفرصة سانحة في ذلك الوقت بالتبليغ لشخصه، لذا شرع في بثّ الدعاة الى خراسان سرّاً لهذا الغرض واستمرّ بدعوته الى أن مات سنة ( 125 هـ ) وترك من بعده أولاده، وهم ابراهيم الإمام، والسفّاح، والمنصور[2]. ويبدو أنّ ابراهيم الإمام هو الذي كان يخطط لقيام دولة عبّاسية لأنّه الأكثر دهاءاً وحنكة وتخطيطاً من أخويه كما سيتضح ذلك .

نشط ابراهيم بالدعوة وأخذ يتحدّث بأهمية الثورة وإنقاذ المنكوبين، وشارك البسطاء من الناس آلامهم وأخذ يعطف على المظلومين ويلعن الظالمين. وانتشر دعاة ابراهيم في بلاد خراسان وكان لهم الأثر الكبير هناك وكان منهم زياد مولى همدان، وحرب بن قيس ، وسليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم وغيرهم، وقد تعرض الدعاة العباسيون للقتل في سبيل دعوتهم ومثّل ببعضهم وحُبس البعض الآخر[3] وكان في طليعة الدعاة نشاطاً وقوة ودهاء ابو مسلم الخراساني[4].

وتضمّن المنهج السياسي العباسي ـ لتضليل الاُمّة ـ عدة أساليب كانت منسجمة مع الواقع ومقبولة عند الناس; لذا لقيت الدعوة استجابة سريعة وانضم المحرومون والمضطهدون اليها.

ونشير الى بعض هذه الأساليب فيما يلي:

 

الاُسلوب الأوّل :

حرّك العباسيونالعواطف بقوّة وحاولوا اقناع الناس بأن الهدف من دعوتهم هو الانتصار لأهل البيت (عليهم السلام) الذين تعرّضوا للظلم والاضطهاد واريقت دماؤهم في سبيل الحق، وركّز العباسيون بين صفوف دعاتهم بأن الهدف المركزي من دعوتهم هو رجوع الخلافة المغتصبة الى اهلها. ولهذا تفاعل الناس مع شعار (الرضي من آل محمد) ووجدوا في هذا الشعار ضالّتهم.

وكان يعتقد الدعاة أن هذه الدعوة تنبئ بظهور عهد جديد يضمن لهم حقوقهم كما عرفوه من عدالة علي (عليه السلام) . وقد حقق هذا الشعار نجاحاً باهراً خصوصاً في البلاد التي كانت قد لاقت البؤس والحرمان وكانت تترقب ظهور الحق على يد أهل بيت النبوة.

وكانت ثقافتهم السياسية التي يروّج لها دعاتهم بين الناس تأتي على شكل تساؤلات، منها: «هل فيكم أحد يشك أن الله عزّ وجلّ بعث محمداً واصطفاه؟ فيقولون: لا ، فيقال: أفتشكّون أن الله أنزل عليه كتابه فيه حلاله وحرامه وشرائعه؟ فيقولون: لا ، فيقال: أفتظنون خلفه عند غير عترته وأهل بيته ؟ فيقولون: لا ، فيقال: أفتشكون أن أهل البيت هم معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله الذي علمه الله؟ فيقال: لا...[5].

بهذه الإثارات العامّة التي لا تعيّن المصداق وتكتفي بالايحاء وتتّكئ على الغموض حصلوا على مكاسب جماهيرية هائلة حتى من غير المسلمين. وكان هذا الاسلوب يشكّل سرقة لجهود الائمة (عليهم السلام) حيث يوظّفونها لمصالحهم في الأوساط غير الواعية لطبيعة الصراع.

 

الاُسلوب الثاني :

ومن الأساليب الي سلكها الدعاة العباسيون ونفذوا من خلالها الى اوساط الاُمّة النبوءات الغيبية التي كانت تكشف عن احداث المستقبل، وكان لهذا الاسلوب الماكر الأثر الكبير في كسب البسطاء واندفاع المتحمسين للدعوة وانضمامهم اليها اعتقاداً منهم بصحة ما يدعون اليه، فمن تلك النبوءات الغيبية التي أشاعوها في ذلك الحين أنّ (ع) ابن (ع) سيقتل (م) ابن (م)، ثمّ تأولوا ان المراد بالأوّل هو عبدالله بن علي بن عبدالله بن العباس والثاني هو مروان بن محمد بن مروان، كما ادّعوا ايضاً حسب زعمهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يبشّر بدولة هاشمية على انه (صلى الله عليه وآله) قال لعمه العباس: إنها تكون في ولدك.

ومن تلك الدعايات التي كانت تريد اضفاء الشرعية على دعوتهم هو زعمهم بأن لديهم كتباً تؤكد انتقال الخلافة الى بني العباس لكن لا يجوز اخراجها وكشفها لكل الناس . وإنّما يطّلع عليها النقباء من خواصّهم. وهذا الاسلوب كان قد زاد الدعاة تقديساً لدعوتهم كما انها قد زادتهم اندفاعاً لها[6].

 

الاُسلوب الثالث :

واستخدموا اسلوباً لم يكن مألوفاً من قبل وهو في غاية من الدهاء السياسي حيث استطاعوا بواسطته أن يكسبوا الجولة ويوظفوا الجهود والقناعات المختلفة نحو هدف واحد وهو أنّهم كانوا يتشدّدون في اخفاء اسم الخليفة الذي يدعون اليه، من هنا التزموا بكتمان أمره ووعدوا الناس بأنّ الخليفة لا يمكن اظهار اسمه إلا بعد زوال سلطان الاُمويين حيث يعلق اسمه الذي تعرفه القوّاد والنقباء[7].

 

 

الاُسلوب الرابع :

ومن الأساليب التي استخدمها العباسيون في دعوتهم هو ـلبس السواد ـ حيث كانوا يرمزون به الى محاربة الظالمين وإظهار الحزن والتألّم لأهل البيت (عليهم السلام) والشهداء الذين لحقوا بهم.

وهكذا قامت الدعوة العباسية باسمهم للانتقام من الاُمويين وتركيزاً لهذا الشعارالذي كان له وقع بالغ في النفوس أرسل إبراهيم الإمام لواءً يُدعى الظل أو السحاب على رمح طويل، طوله ثلاثة عشر ذراعاً، وكتب الى أبي مسلم: أني قد بعثت اليك براية النصر[8] وقد تأوّلوا الظل أو السحاب فقالوا: إن السحاب يطبق الأرض وكما أن الأرض لا تخلو من الظل كذلك لا تخلو من خليفة عبّاسي[9]، وان ذلك يمثل لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله) لانهم ذكروا أن لواءه في حروبه وغزواته كان أسود .

وبعد أن حقّق العباسيون بدهاء ابراهيم الامام وأبيه من قبل وانصاره في خراسان تقدماً مشهوداً وكثرت انصارهم هناك وشكلوا مجاميع منظّمة تدعو لهم، وتأكدوا من نجاح اساليبهم في تضليل الناس وانها قد ترسّخت في نفوس دعاتهم، حينئذ تحركوا خطوة نحو منافسيهم الحقيقيين وهم أهل البيت(عليهم السلام) فإنهم الذين كان العباسيون يخشونهم أشد خشية; لأن دعوتهم لم تحقق أي نجاح إلا بواسطة الشعارات التي كانت باسم أهل البيت (عليهم السلام) إذ حالة عزل الخط العلوي وتجاهله في بداية الأمر سوف تحبط مخططاتهم بأجمعها، ومن هنا لجأ العباسيون الى عقد اجتماع موسع يضم الطرف العباسي والعلوي بهدف احتواء الخط العلوي وزجّه في المعترك السياسي والايحاء للجماهير الاسلامية بأن البيت العلوي وراء هذا النشاط الثوري.

وكان إبراهيم الإمام يعلم وعشيرته من بني العباس ، بأن الصادق(عليه السلام) يدرك جيداً على ماذا تسير الاُمور وما هو الهدف من هذا التخطيط ، وليس بمقدورهم احتواء الامام وتوظيف جهده وزجّه ضمن مخططهم وسوف لن يستجيب فيما لو دعي للحضور في الاجتماع المزمع عقده ، لذا عمدوا إلى شقّ الصفّ العلوي وإغراء آل الحسن بأن تكون الخلافة لهم .

اجتماع الأبواء

وكان الهدف من عقد هذا الاجتماع الصوري بالاضافة إلى الهدف الذي ذكر أعلاه تهيئة الأجواء الودية وإشاعة روح المحبّة والوئام بينهم وبين العلويين وتطميناً لخواطرهم وعلى أقل تقدير جعلهم محايدين في هذا الصراع،ليتمّ لهم ما يهدفون إليه ويحشدوا ما استطاعوا من قوة لصالحهم.

من هنا اجتمعوا في منطقة الابواءـ التي تقع بين مكة والمدينة ـ ودعوا كبار العلويين والعباسيين، فحضر كل من إبراهيم الإمام والسفاح والمنصور وصالح ابن علي وعبد الله بن الحسن وابناه محمد ذي النفس الزكية وإبراهيم وغيرهم.

وقام صالح بن علي خطيباً فقال :قد علمتم أنكم الذين تمدّ الناس أعينهم إليهم ، وقد جمعكم الله في هذا الموضع ، فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه إياها من أنفسكم وتواثقوا على ذلك حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين.

ثم قام عبد الله بن الحسن فحمد الله واثنى عليه ثم قال : قد علمتم أن ابني هذا هو المهدي فهلمّوا لنبايعه .

فقال أبو جعفر المنصور : لأي شيء تخدعون أنفسكم؟ والله لقد علمتم ما الناس إلىأحد أصور[10] أعناقاً ، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى ـ يريد به محمد بن عبد الله ـ ، قالوا قد ـ والله ـ صدقت إن هذا لهو الذي نعلم. فبايعوا جميعاً محمّداً ، ومسح على يده كل من إبراهيم الإمام والسفّاح والمنصور وكل من حضر الاجتماع[11].

وبعد أن أنهى مؤتمرهم أعماله بتعيين : محمد بن عبد الله بن الحسن خليفة للمسلمين، أرسلوا إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فجاء الإمام وقال : «لماذا اجتمعتم ؟ قالوا: ان نبايع محمد بن عبد الله ، فهو المهدي».

قال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) : لا تفعلوا فإنّ الأمر لم يأت بعد ، وهو ليس بالمهديّ، فقال عبد الله ـ رداً على الإمام (عليه السلام)ـ : يحملك على هذا الحسد لابني ! فأجابه الإمام (عليه السلام) : والله لا يحملني ذلك ولكن هذا وإخوته وأبناءهم دونكم وضرب بيده على ظهر أبي العباس ، ثم قال لعبد الله : ما هي إليك ولا إلى ابنيك ، ولكنها لبني العباس ، وان ابنيك لمقتولان ، ثم نهض (عليه السلام) وقال : إنّ صاحب الرداء الأصفر ـ يقصد بذلك أبا جعفر ـ يقتله .

قال عبد العزيز: والله ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتله. وانفضّ القوم، فقال أبو جعفر المنصور للإمام جعفر الصادق(عليه السلام) : تتمّ الخلافة لي ؟ فقال: نعم أقوله حقّاً»[12] .

 

[1] راجع البحث الذي مرّ تحت عنوان (بداية الانفلات) في الصفحة 82 من هذا الكتاب .

[2] الآداب السلطانية : 127.

[3] تاريخ ابن الساعي : 3.

[4] تاريخ اليعقوبي: 2/340 ـ 344 .

[5] الكامل لابن الأثير: 5/362.

[6] الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر: 2/309 .

[7] الإمام الصادق والمذاهب الاربعة : 2 / 309 .

[8] الطبري : 9 / 82 .

[9] الطبري : 9 / 85والكامل لابن الاثير : 5 / 170 .

[10] أصور: أميل .

[11] مقاتل الطالبيين : 256، واعلام الورى : 1/527، وكشف الغمة: 2/386 .

[12] مقاتل الطالبيين : 256، الخرائج والجرائح : 2 / 765 ، وعنه في بحار الأنوار : 47 / 120 : 256 .