كان التشيع على عهد صاحب الشريعة الغرّاء وسمّى بعض الصحابة بالشيعة من ذلك اليوم، أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحذيفة وخزيمة وجابر وأبي سعيد الخدري وأبي أيوب وخالد بن سعيد بن العاص وقيس بن سعد وغيرهم(2).
والشيعة لغةً: - الأتباع والأنصار والأعوان، وأصله من المشايعة - المطاوعة والمتابعة، ولكن هذا اللفظ اختصَّ بمن يوالي عليّاً وأهل بيته عليهم السّلام(3).
وأوّل من نطق بلفظ الشيعة قاصداً به من يتولّى عليّاً والأئمة من بنيه هو صاحب الشريعة سيّد الأنبياء صلّى اللّه عليه وآله وقد جاءت عنه في ذلك عدَّة أحاديث(4).
______________________________
(2) الاستيعاب في أبي ذر، والدرجات الرفيعة للسيد علي خان في ترجمة سلمان، وروضات الجنّات نقلاً عن كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي، وشرح النَّهج: 4/225، وخطط الشام لمحمّد كرد علي: 5/251 - 256.
(3) القاموس ولسان العرب ونهاية ابن الأثير ومقدّمة ابن خلدون ص 138 إلى كثير غيرها.
(4) راجع في ذلك الصواعق بعد الآية الثامنة والآية العاشرة من الآيات الواردة في فضل اهل البيت، ونهاية ابن الأثير في قمح، والدرّ المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى: «إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك خير البريّة» إِلى نظائرها من الكتب.
{ 44 }
وأما فِرق الشيعة فهي كثيرة، وقد أنهتها بعض كتب المِلل والنِّحل إِلى أكثر ممّا نعرفه عنها، فذكرت فِرقاً كثيرة، ورجالاً تنسب الفِرق اليهم، أمثال الهشاميّة نسبة إِلى هشام بن الحكم، والزراريّة نسبة إِلى زرارة بن أعين، والشيطانيّة نسبة إِلى مؤمن الطاق محمّد بن النعمان الأحوال، واليونسيّة نسبة إِلى يونس بن عبد الرحمن، إِلى غيرها، والحقّ اننا من أهل البيت وأهل البيت أدرى بما فيه لا نعرف عيناً ولا أثراً لهذه الفِرق، ولا للبدع التي نسبت لهؤلاء الرجال.
وإِنَّ من نظر في كتب الحديث وكتب الرجال للشيعة عرف أن هؤلاء من خواصّ الأئمة الذين يعتمدون عليهم ويرجعون الشيعة اليهم، ولو كان لهم آراء ومذاهب لا يرتضيها الأئمة لسخطوا عليهم وأبعدوهم عنهم، ومن سبر ما جاء عنهم في الرجال الذين انتحلوا البدع لعلم أن هؤلاء برآء مما نسبوه اليهم، فإنهم برئوا من ابن سبأ ولعنوه وحذّروا من بدعه، وبرئوا من المغيرة بن سعيد حين صار يكذب على الباقر عليه السّلام ويدّعي الأباطيل، كما برئ الصادق عليه السّلام من أبي الخطّاب وجماعته، ومن أبي الجارود وكما قالوا في بني فضال: خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا، وكما برئ الحجّة المغيب من جماعة خلطوا في الدين وادَّعوا أنهم أبوابه، إِلى غير هؤلاء(1) ولو كان مثل هؤلاء الصفوة على مثل تلك الضلالات التي نسبت اليهم لكان نصيبهم من الأئمة نصيب غيرهم من الضالّين البراءة منهم والذمّ واللعن لهم.
نعم كانت للشيعة فِرق قبل عصر الصادق عليه السّلام وبعده وقد ذهبت ذهاب أمس الدابر، ولم يبق منها اليوم شيء معروف إِلا ثلاث فِرق:
______________________________
(1) انظر في ذلك كلّه غيبة الشيخ الطوسي طاب ثراه.
{ 45 }
1 - الإماميّة: وهم القائلون بإمامة الاثني عشر، وولادة الثاني عشر ووجوده اليوم حيّاً ويترقّبون كلّ حين ظهوره.
2 - الزيديّة: وهم الذين يرون إِمامة زيد وكلّ من قام بالسيف من بني فاطمة، وكان مجمعاً للخصال الحميدة.
3 - الاسماعيليّة: وهم الذين يجعلون الامامة بعد الصادق عليه السّلام في ابنه إسماعيل دون موسى وبنيه عليهم السّلام.
هذا ما بقي من فِرق الشيعة ظاهراً يُعرف منذ عهد بعيد حتّى الزمن الحاضر، وأما ما كان منهم في الزمن الماضي، فقد بحث عنه النوبختي في كتابه «فِرق الشيعة» وليس اليوم منها فرقة معروفة عدا ما ذكرناه.
والذي يهمّنا ذكره من بينها هو ما كان في أيام الصادق عليه السّلام وإن لم يبق اليوم منهم نافخ ضرمة.
الكيسانيّة: *
فمن فِرق الشيعة في عهد الصادق عليه السّلام (الكيسانيّة) وهم الذين قالوا بإمامة محمّد بن الحنفيّة، وقد اختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم، وهم ينتهون إِلى فِرق:
فِرقة قالت بأن محمّداً هو المهدي، وهو وصيّ أمير المؤمنين عليه السّلام وليس لأَحد من أهل بيته مخالفته، وأن مصالحة الحسن عليه السّلام لمعاوية كانت بإذنه، وخروج الحسين عليه السّلام أيضاً بإذنه، كما أن خروج المختار
______________________________
(*) اننا نستند على الكثير ممّا نذكره عن الكيسانيّة إِلى كتاب فِرق الشيعة، والمِلل والنِحل، والفَرق بين الفِرَق.
{ 46 }
طالباً بالثأر أيضاً بإذنه، وفرقة قالت بإمامته بعد أخويه الحسنين عليهما السّلام، وإِنه هو المهدي وبذلك سمّاه أبوه، وإِنه لم يمت ولا يموت ولا يجوز ذلك، ولكنه غاب ولا يُدرى أين هو، وسيرجع ويملك الأرض، ولا إِمام بعد غيبته إِلى رجوعه وهم أصحاب ابن كرب ويسمّون «الكربيّة».
وفرقة قالت: بأنه مقيم بجبال رضوى بين مكّة والمدينة، وهو عندهم الإمام المنتظر.
وفرقة قالت: بأنه مات والامام بعده ابنه عبد اللّه، ويكنّى أبا هاشم وهو أكبر ولده، واليه أوصى أبوه، وسميّت هذه الفرقة «الهاشميّة» بأبي هاشم، وهذه الفرقة قالت فيه كما قالت الفِرق الأُول في أبيه، بأنه المهدي وأنه حيّ لم يمت بل غلَوا فيه وقالوا إِنه يحيي الموتى، ولكن لمّا توفي أبو هاشم افترقت أصحابه إِلى فِرق.
وكان من الكيسانيّة رجال لهم ذكر ونباهة، منهم كثير عزّة وله بذلك شعر يروى.
وكان منهم السيد إسماعيل الحميري الشهير. وله أيضاً شعر يشهد بما نسبوه اليه، ولكنه عدل عن ذلك إِلى القول بإمامة الصادق عليه السّلام بعد أن ناظره الصادق وأقام الحجّة عليه، وله في العدول والذهاب إِلى إِمامة الصادق شعر مذكور.
ومنهم حيّان السرّاج، وقد دخل يوماً على الصادق عليه السّلام فقال له أبو عبد اللّه: يا حيّان ما يقول أصحابك في محمّد بن الحنفيّة ؟ قال: يقولون: إنه حيّ يرزق، فقال الصادق عليه السّلام: حدّثني أبي عليه السّلام: إِنه كان فيمن عاده في مرضه وفيمن غمضه وأدخله حفرته وزوَّج نساءه وقسّم ميراثه، فقال: يا أبا عبد اللّه إِنَّما مثل محمّد في هذه الأُمّة كمثل عيسى بن مريم شبّه أمره
{ 47 }
للناس، فقال الصادق عليه السّلام: شُبّه أمره على أوليائه أو على أعدائه ؟ قال: بل على أعدائه، فقال عليه السّلام: أتزعم أن أبا جعفر محمّد بن علي عليهما السّلام عدوّ عمّه محمّد بن الحنفيّة ؟ فقال: لا، ثمّ قال الصادق عليه السّلام: يا حيّان إِنكم صدفتم(1) عن آيات اللّه وقد قال تبارك وتعالى «سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون»(2).
وقال بريد العجلي(3): دخلت على الصادق عليه السّلام فقال لي: لو سبقت قليلاً لأدركت حيّان السرّاج، واشار إِلى موضع في البيت، فقال: كان ههنا جالساً، فذكر محمّد بن الحنفيّة وذكر حياته، وجعل يطريه ويقرضه، فقلت له: يا حيّان أليس تزعم ويزعمون، وتروي ويروون: لم يكن في بني إسرائيل شيء إِلا وهو في هذه الأُمّة مثله ؟ قال: بلى، فقلت: هل رأينا ورأيتم، وسمعنا وسمعتم بعالم مات على أعين الناس، فنكحت نساؤه وقسّمت أمواله، وهو حيّ لا يموت ؟ فقام ولم يردّ عليّ شيئاً(4).
والكيسانيّة من الفِرق البائدة، ولا نعرف اليوم قوماً ينتسبون اليها.
الزيديّة:
ومن الفِرق التي تنسب إِلى التشيّع (الزيديّة) نسبة الى زيد بن علي بن الحسين عليهما السّلام، لأنهم قالوا بإمامته.
______________________________
(1) أعرضتم.
(2) إِكمال الدين للصدوق طاب ثراه ص 22، ورجال الكشي ص 203، والآية في سورة الأنعام: 157.
(3) من أصحاب الصادق ومشاهير ثقاتهم.
(4) رجال الكشي في ترجمة حيّان ص 202.
{ 48 }
وزيد عليه السّلام ما ادّعى الامامة لنفسه بل ادَّعتها الناس له، وما دعاه للنهضة إِلا نصرة الحقّ وحرب الباطل، وزيد أجلّ شأناً من أن يطلب ما ليس له، ولو ظفر لعرف أين يضعها، وقد نسبت بعض الأحاديث ادّعاه الإمامة لنفسه، ولكن الوجه فيها جليّ، لأن الصادق عليه السّلام كان يخشى سطوة بني أُميّة، ولا يأمن من أن ينسبوا اليه خروج زيد، وإِن قيامه بأمر منه، فيؤخذ هو وأهله وشيعته بهذا الجرم، فكان يدفع ذلك الخطر بتلك النسبة، ولو كان زيد كما تذكره هذه الأحاديث لم يبكه قبل تكوينه جدّاه المصطفى والمرتضى عليهما وآلهما السّلام، ولم تبلغ بهما ذكريات ما يجري عليه مبلغاً عظيماً من الحزن والكآبة، كما هو الحال في آبائه عندما يذكرون مقتله وما يجري عليه بعد القتل.
وكفى في إِكبار نهضته وبراءته مما يُوصم به بكاء الصادق عليه السّلام عليه وتقسيمه الأموال في عائلات المقتولين معه، وتقريع من تخلّف عن نصرته، وتسميته الثائرين معه بالمؤمنين، والمحاربين له بالكافرين.
وكيف يكون قد طلب الامامة لنفسه والصادق عليه السّلام يقول: رحمه اللَّه أما أنه كان مؤمناً وكان عارفاً وكان عالماً وكان صدوقاً، أما أنه لو ظفر لوفى، أما أنه لو مَلَك لعرف كيف يضعها(1). ويقول: ولا تقولوا خرج زيد فإن زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إِلى نفسه، وإِنما دعاكم إِلى الرضا من آل محمّد صلّى اللّه عليه وآله(2) ولو ظفر(3) لوفى بما دعاكم اليه، وإنما خرج إِلى سلطان مجتمع لينقضه(4).
______________________________
(1) رجال الكشي في ترجمة السيّد الحميري ص 184.
(2) الرضا: كناية عن إِمام الوقت من أهل البيت وإِنما يكنّى عنه حذراً عليه من التصريح باسمه.
(3) ظهر: في نسخة.
(4) الوافي عن الكافي، كتاب الحجّة، باب أن زيد بن علي مرضي: 1/141.
{ 49 }
ويقول الرضا عليه السلام للمأمون: لا تقس أخي زيداً إِلى زيد بن علي عليهما السّلام فإنه كان من علماء آل محمّد صلّى اللّه عليه وآله غضب للّه عزّ وجلّ فجاهد أعداءه حتى قُتل في سبيله، إِلى أن يقول: إِن زيد بن علي عليه السّلام لم يدع ما ليس له بحق، وإنه كان أتقى للّه من ذلك، إنه قال: أدعوكم للرضا من آل محمّد صلّى اللّه عليه وآله(1).
ولم تكن هذه الصراحة من الرضا عليه السّلام إِلا لأن العهد عهد العبّاسيّين ويقول ابنه يحيى: رحم اللّه أبي كان أحد المتعبّدين قائماً ليله صائماً نهاره جاهد في سبيل اللّه حقّ جهاده، فقال عمير بن المتوكل البلخي: فقلت: يابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هكذا يكون الامام بهذه الصفة، فقال: يا عبد اللّه إِن أبي لم يكن بإمام، ولكن كان من السادة الكرام وزهّادهم، وكان من المجاهدين في سبيل اللّه، قال: قلت: يابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِن أباك قد ادعى الامامة لنفسه وخرج مجاهداً في سبيل اللّه، وقد جاء عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فيمن ادَّعى الامامة كاذباً، فقال: مه مه يا عبد اللّه إِن أبي كان أعقل من أن يدَّعي ما ليس له بحق، إِنما قال: أدعوكم إِلى الرضا من آل محمّد صلّى اللّه عليه وآله، عنى بذلك ابن عمّي جعفراً عليه السّلام، قال: قلت: فهو اليوم صاحب فقه، قال: نعم هو أفقه بني هاشم.(2)
وهذا الحديث كما كشف عن منزلة زيد الرفيعة في الدين والفضيلة وبطلان ما نسبوه اليه، فقد أثبت ليحيى مقاماً عليّاً في الورع والعلم والفقه.
والأحاديث عن نزاهة زيد عن تلك الدعوى وافرة جمّة، فهو أتقى وأنقى من
______________________________
(1) نفس المصدر.
(2) كفاية الأثر: 304.
{ 50 }
أن يلوّث نفسه الطاهرة بدعوى الامامة، وإِنّما ادَّعتها له بعض الناس بعد وفاته فعرفوا بالزيديّة لتلك المقالة.
والزيديّة فِرق يجمعها القول: بأن الامامة في أولاد فاطمة عليها السّلام ولم يجوّزوا ثبوت إِمامة في غيرهم، إِلا أنهم جوّزوا أن يكون كلّ فاطميّ عالم زاهد شجاع سخيّ خرج بالسيف إِماماً واجب الطّاعة سواء كان من أولاد الحسن عليه السّلام أو من أولاد الحسين عليه السّلام، ومن ثم قالت طائفة منهم بإمامة محمّد وإِبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن بن الحسن عليه السّلام(1) أحسب أن اشتراط الامامة في بني فاطمة إِنما كان منهم فيمن يكون إِماماً بعد زيد، لأن بعض الفِرق منهم رأت ثبوت الامامة للشيخين كما ستعرف.
البتريّة:
فمن فِرق الزيديّة (البتريّة) وهم أصحاب كثير النوى، والحسن بن صالح بن حي، وسالم بن أبي حفصة، والحكم بن عيينة، وسلمة بن كهيل، وأبي المقدام ثابت الحدّاد، وهم الذين دعوا إِلى ولاية علي عليه السّلام ثم خلطوها بولاية أبي بكر وعمر وأثبتوا لهما الامامة، وطعنوا في عثمان وطلحة والزبير وعائشة. وقيل: سمّوا بالبتريّة لأن زيد بن علي قال لهم عندما أخذوا يذكرون معتقداتهم: بترتم أمرنا بترَكم اللّه، وقيل: سمّوا بذلك لأنّهم منسوبون إِلى كثير النوى وكان أبتر اليد(2).
ولو صحَّت هذه النسبة لكان الأصح فيها أن يقال - الأبتريّة - لا البتريّة.
______________________________
(1) المِلل والنِّحل المطبوع في هامش الفصل: 1/159.
(2) منهج المقال للشيخ أبي علي الحائري في الألقاب.
{ 51 }
السليمانيّة:
ومنهم (السليمانيّة) نسبة إِلى سليمان بن جرير، وكانوا يرون إِمامة الشيخين، ولكن يطعنون في عثمان وطلحة والزبير وعائشة، وينسبونهم إِلى الكفر، ويرون أن الامامة شورى، وتنعقد بعقد رجلين من خيار الأُمّة، وأجازوا إِمامة المفضول مع وجود الأفضل وزعموا أَن الاُمّة تركت الأصلح في البيعة لما بايعوا أبا بكر وعمر، وتركوا عليّاً عليه السّلام لأن عليّاً كان أولى بالامامة منهما، إِلا أن الخطأ في بيعتهما لا يوجب كفراً ولا فسقاً(1).
ومن ههنا نستظهر أن ما ينسب إِلى الزيديّة من الدعوى بأن الامامة لا تثبت في غير أولاد فاطمة إِنما هو فيمن بعد زيد من القائمين بالسيف.
كما انّنا لا نعرف وجهاً في عدّ هاتين الفِرقتين في عداد فِرق الشيعة.
الجاروديّة:
ومنهم (الجاروديّة) نسبة إِلى زياد بن المنذر أبي الجارود السرحوب الأعمى الكوفي، وقد يسمّون السرحوبيّة، وقيل: إِن السرحوب اسم شيطان أعمى يسكن البحر فسمّي أبو الجارود به، وكان أبو الجارود من أصحاب الباقر والصادق عليهما السّلام، ولمّا خرج زيد تغيّر، وجاء عن الصادق عليه السّلام لعنه وتكذيبه وتكفيره ومعه كثير النوى وسالم بن أبي حفصة وجاء فيه أيضاً أعمى البصر أعمى القلب(2).
والجاروديّة يرون أن الناس قصّروا في طلب معرفة الامام لأنه كان
______________________________
(1) الفَرق بين الفِرَق: ص 23: والمِلل على الفصل: 1/164.
(2) انظر ترجمته في كتب الرجال.
{ 52 }
بإمكانهم معرفته، بل كفروا حين بايعوا أبا بكر، فهم لا يرون إِمامة الخلفاء الثلاثة، بل يرون كفرهم، حيث ادّعوا الامامة ولم يبايعوا عليّاً عليه السّلام(1).
الصالحيّة:
وقيل: إِن منهم (الصالحيّة) نسبة الى الحسن بن صالح، وقد عرفت انّهم من البتريّة، لأن الحسن هذا من رجال البتريّة، فلا وجه لعدّهم فِرقة مستقلّة، نعم هناك فروق طفيفة بينه وبين كثير النوى أوّل رجال البتريّة لا تستدعي أن تكون فرقته فرقة تباين البتريّة.
وقد ذكر الزيديّة النوبختي في كتابه - فِرق الشيعة - على غير هذا النهج، وزاد فيها: غير أننا رأينا أن ما سطّرناه أقرب إِلى ما ذكرته كتب المِلل والنِّحل، فراجع إن طلبت الاستيضاح.
الإسماعيليّة:
ومن فِرق الشيعة (الإسماعيليّة) وقد نشأ القول بإمامة إِسماعيل أيّام الصادق عليه السّلام، إلا أنه كان من بعضهم على سبيل الظنّ لأن الامامة في الاكبر وإسماعيل اكبر اخوته، مع ما كان عليه من الفضل، فلمّا مات أيّام أبيه انكشف لهم الخطأ.
وأما من بقي مصرّاً على إمامته فهم على فِرق، لأنَّهم بين من أنكر موته في حياة أبيه عليه السّلام، وقالوا: كان ذلك على وجه التلبيس من أبيه على الناس، لأنه خاف عليه فغيّبه عنهم، وزعموا أن إسماعيل لا يموت حتّى يملك
______________________________
(1) الفَرق بين الفِرَق: ص 22، والملل على هامش الفصل: 1/163.
{ 53 }
الأرض ويقوم بأمر الناس، وأنه هو القائم، لأن أباه أشار اليه بالامامة بعده، فلمّا ظهر موته علمنا أنه قد صدق، وأنه القائم لم يمت.
وبين مَن قال بموته وأن الامامة انتقلت الى ابنه محمّد، لأن الامامة لا تكون إلا في الأعقاب، ولا تكون في الاخوة إلا في الحسن والحسين عليهما السّلام فلما مات إسماعيل وجب أن يكون الامام بعد جعفر عليه السّلام محمد بن إسماعيل، ولا يجوز أن يكون أحد من اخوة إسماعيل هو الامام، كما لم يكن لمحمّد بن الحنفيّة حقّ مع علي بن الحسين عليهما السّلام، وأصحاب هذا القول يسمّون «المباركة» برئيس لم يسمّى المبارك.
وأمّا (الخطّابيّة) أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأسدي الأجدع فقد دخلوا في الفرقة التي قالت بإمامة محمّد بن إسماعيل بعد قتل أبي الخطّاب، وهم من الأصناف الغالية، وتشعّبوا على فِرق والقرامطة منهم(1).
وكان أبو الخطّاب من أصحاب الصادق عليه السّلام، ولمّا بلغ الصادق أنه يكذب عليه طرده وتبرَّأ منه ولعنه.
ثمّ أنه ادّعى النبوّة واُلوهيّة جعفر بن محمّد عليهما السّلام، وأنه مرسَل من قِبله، وظهرت منه ومن جماعته بدع وأهواء وإِباحات، ولمّا بلغ عيسى بن موسى عامل المنصور على الكوفة ما عليه أبو الخطّاب وجماعته وكانوا سبعين رجلاً مجتمعين في مسجد الكوفة حاربهم فقتلهم جميعاً، فلم يفلت منهم إِلا رجل واحد أصابته جراحات فعدَّ في القتلى فتخلّص، وحمل أبو الخطّاب أسيراً فقتله عيسى بن موسى على شاطئ الفرات، وصلبه مع جماعة منهم ثم أمر بإحراقهم فأُحرقوا، وبعث برؤوسهم إِلى المنصور فصلبها على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام، ثم
______________________________
(1) فِرَق الشيعة: ص 67، 76.
{ 54 }
أُحرقت(1).
الإماميّة:
ومن فِرق الشيعة (الإماميّة) ويعرفون بالجعفريّة نسبة إِلى جعفر بن محمّد عليهما السّلام، لأنه المذهب الذي ينسبون اليه، وسيأتي أنه كيف صادر مذهباً دون سائر الأئمة وكلّهم مذهب في الأحكام.
والإماميّة هم الذين يرون الامامة في الاثني عشر: علي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمّد بن علي، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمّد بن علي، وعلي بن محمّد، والحسن بن علي، وابنه المهدي المغيب الذي يترقّبون ظهوره كلّ حين صلوات اللّه عليهم أجمعين.
ويعتقدون أن إِمامتهم بالنصّ الصريح الجلي من النبي صلّى اللّه عليه وآله عن اللّه عزّ شأنه، وأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نصَّ على خلافة علي أمير المؤمنين وإِمامته كما نصَّ على اخوَّته ووصايته، وكان النصّ منه في مواطن عديدة، منها يوم الغدير، كما أنه صلّى اللّه عليه وآله أخبر بأسماء الخلفاء والأئمة الذين هم بعد أمير المؤمنين عليه السّلام واحداً بعد آخر، على نحو ما ذكرناه من أسمائهم، وأكّدوا ذلك النصَّ من بعضهم على بعض، فنصَّ علي على الحسن، والحسن على الحسين، والحسين على ابنه علي، وهكذا الأب على ابنه إِلى أن انتهت إِلى ابن الحسن المنتظر، كما أنهم يعتقدون حياته ووجوده بعد ولادته عام 255، ليلة النصف من شعبان، وأنه تغيب فرقاً من فراعنة عصره، وأنه هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً(2).
______________________________
(1) فِرَق الشيعة: ص 69.
(2) ذكر كثير من أهل السنّة الامام المهدي وأنه ابن الحسن العسكري واعترفوا بوجوده وأنه الموعود به، انظر مطالب السؤل، والحجّة لابن عرب، ولواقح الأنوار، والتذكرة، وشرح الدائرة، والفصول المهمّة، وفرائد السمطين، الى غيرها، بل ادّعى بعضهم مشاهدته والاجتماع به.
{ 55 }
ويعتقدون أيضاً في هؤلاء الأئمة أنهم معصومون عن الذنب وعن الخطأ والنسيان والغفلة كما في نبيّنا وجميع الأنبياء عليهم السلام وأن علمهم ليس باكتسابي وإنما هو إلهامي ووراثة من النبي صلّى اللّه عليه وآله يورثه الأب لابنه والأخ لأخيه كما في الحسن للحسين، ولمّا كان الرسول صلّى اللّه عليه وآله وارث علم الأنبياء والمرسلين، وعنده علم الأوّلين والآخرين، كان أمير المؤمنين واجداً لهذا العلم كلّه، لقوله صلّى اللّه عليه وآله: أنا مدينة العلم وعليّ بابها، ولغير ذلك من الأحاديث وآي الكتاب(1) وورث أولاده الأئمة هذا العلم جميعه.
ويعتقدون فيهم أيضاً أنهم عبيد للّه سبحانه مخلوقون له، مرزوقون منه ليس لهم تصرّف في شيء من أمر العباد من حياة أو موت، وعطاء أو منع وشيء سوى ذلك، إِلا باذن منه تعالى على حدّ ما كان عليه النبي صلّى اللّه عليه وآله في شأن الخليقة، وقد جاء في الكتاب عن عيسى عليه السّلام «ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه».
واستدلّوا على ذلك كلّه بالبراهين العقليّة، وبالأخبار والآثار، وقد يأتي شيء من هذا طيّ هذا السفر.
كما استدلّوا على النصّ عليهم بالخصوص، بالوارد عن النبي صلّى اللّه عليه وآله من طرق الفريقين من قوله صلّى اللّه عليه وآله: الأئمة من قريش وانهم
______________________________
(1) كتبت رسالة عن حديث الثقلين ودلالته على عصمة الأئمة وعلمهم بكلّ شيء، وقد أخرجتها المطابع، ورسالة في علم الامام وكيفيّته وعسى أن نتوفّق لطبعها.
{ 56 }
اثنا عشر(1) وانهم من ولد عليّ وفاطمة عليهما السّلام، وتسميتهم بأسمائهم واحداً بعد آخر.(2)
هذا فضلاً عن الاستدلال على الامامة باللطف، وانحصارها فيهم لو كان ثمّة إمام تجب إِمامته وطاعته ومعرفته.
والاماميّة ترجع إِلى هؤلاء الأئمة في أحكام الدين، فما ثبت عن النبي أو عنهم أخذوا به، وما اختلفت فيه الأخبار أعملوا فيه قواعد التعادل والتراجيح، حسبما هو مقرّر عندهم في اُصول الفقه.
وعندهم من الأدلّة على الأحكام غير الكتاب والسنّة الاجماع وحكم العقل القطعي، وعند فقدان الأدلّة الأربعة يرجعون إِلى الاُصول العملية، حسبما تقتضيه المقامات وهي قواعد فقهيّة عامّة تثبت بالأدلّة.
ويرون أن الأحاديث المرويّة عنهم من السنّة، لأنهم حملة علم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وحفّاظ شريعته، فما عندهم فهو عن الرسول صلّى اللّه عليه وآله لا عن اجتهاد ورأي منهم، والسنّة أحد الأدلّة الأربعة في استنباط الأحكام الفرعيّة، والأدلّة الأربعة كما أشرنا اليها: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والعقل، والبيان عن حجّيّتها وكيفيّة الرجوع اليها مذكور في كتب اُصول الفقه.
وأمّا اعتقادهم في اللّه تعالى شأنه، فهو أنّه سبحانه شيء لا كالأشياء ليس بجسم ولا صورة، ولا تقع عليه الرؤية في الدنيا ولا الآخرة، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وأن صفاته عين ذاته، وأنّه تعالى عادل لا يظلم أحداً من عبادة لقبح الظلم بحكم العقل، وأنّه خلق الأشياء لا من شيء.
______________________________
(1) مسلم من صحيح جابر، ومسند أحمد: 5/89 و2/29 و128، والصواعق: الفصل الثالث من الباب الأول، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 5، إِلى غيرهم.
(2) ينابيع المودّة: ص 427 و430 و442، وكفاية الأثر، والمقتضب والكنز وغيرها.
{ 57 }
وأمّا اعتقادهم في نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وآله فهو أنّه معصوم من الخطأ والزلل والنسيان والغفلة والذنوب الكبائر والصغائر، وأنّه ما ارتكب شيئاً منها قبل النبوّة ولا بعدها، وأنه مرسل إِلى العالم كلّه وهكذا اعتقادهم في الرسل والأنبياء من جهة العصمة.
ويرون أن الامامة من الاُصول ويجب إِثباتها بالأدلّة العقليّة عدا النصوص النقليّة، ومن البراهين العقليّة قاعدة اللطف.
وأمّا المعاد فيعتقدون فيه أن اللّه جلّ اسمه يعيد الناس للحساب بتلك الأجسام التي كانت في الدنيا، وهي التي تنعّم في الجنان، أو تعذّب في النيران.
وأمّا أفعال العباد فيعتقدون أنها أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض أي أنّ اللّه تعالى لم يجبر الخلق على أفعالهم حتى يكون قد ظلمهم في عقابهم على المعاصي، بل لهم القدرة والاختيار فيما يفعلون، ولا فوّض اللّه اليهم خلق أفعالهم حتى يكون قد خرج من سلطان قدرته على عباده، بل له الحكم والأمر وهو قادر على كلّ شيء ومحيط بالعباد.
وربّما يهيّئ اللّه تعالى للعبد أسباب الطاعة والهداية، كما يصدّ عنه أسباب العصيان والضلالة، لطفاً منه بعبده، وهذا ما نسمّيه بالتوفيق.
وهذا بعض ما تعتقده الاماميّة في الوجود والوحدانيّة، والصفات، وفي النبوّة والامامة والمعاد، وفي أفعال العباد.
وذكرنا لذلك كان استطراداً على سبيل الايجاز، واستيفاء الكلام على هذه المعتقدات في كتب الكلام والاعتقاد.
والإماميّة اليوم هم السواد الأعظم من الشيعة في جميع الأقطار الاسلاميّة وكتبهم في العلوم كافّة من أوّل يوم ابتدأ فيه التأليف حتّى اليوم مبثوثة بين
{ 58 }
الاُمم يقرأها الحاضر والبادي، والعالم والجاهل.
وليس اليوم غير الاماميّة، والزيديّة، والاسماعيليّة، فرقة ظاهرة تعرف اللّهمّ سوى بعض الفِرق الغالية التي تنتمي إِلى التشيّع.
ولمّا كان كلامنا عن الفِرق التي كانت في عهد الصادق عليه السّلام أهملنا عن بعض الفِرق التي حدثت بعد الصادق عليه السّلام أمثال الفطحيّة والناووسيّة والواقفيّة.
ظهرت هذه الفِرقة يوم صفّين بخدعة ابن العاص، حين أشار على معاوية - وقد عجز عن المناهضة - برفع المصاحف، والدعوة لتحكيمها، فلمّا رفعوها مرقت طائفة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام وقالوا هؤلاء يدعوننا إِلى كتاب اللّه وأنت تدعوننا إِلى السيف، فعذلهم عن ذلك، وحاول رجوعهم عن الاغترار بهذه الخدعة، وقال لهم ويحَكُم أنا أعلم بكتاب اللّه، فلم ينفع معهم عذل وردع، ولا إِقامة حجّة وبرهان، بل قالوا لترجعن مالكاً عن قتال المسلمين، أو لنفعلنّ بك كما فعلنا بعثمان، فاضطر إِلى ارجاع مالك بعد أن هزم الجمع وولّوا الدبر، فحملوه على التحكيم، فأراد أن يبعث عبد اللّه بن عباس فأبوا إلا أن يبعث أبا موسى الأشعري، فلمّا كان التحكيم قالت الخوارج: لِمَ حكمت في دين اللّه الرجال ؟ لا حكم إِلا للّه، فمن هنا سمّوا (المحكّمة) وبعد أن رجع أمير المؤمنين من صفّين وهم مصرّون على المروق والعصيان اجتمعوا بحروراء قرب الكوفة فسمّوا (الحروريّة).
وكان آخر أمرهم أن قتل أمير المؤمنين بالنهروان من أصرَّ منهم على المروق، بعد أن أقام عليهم الحجج، وقطع المعاذير، وبعد أن عاثوا في الأرض فساداً،
{ 59 }
وقتلوا خباباً أحد خيار الصحابة، وبقروا بطون الحبالى.
ولم يستأصل تلك الروح استئصالهم بالنهروان، وما زال في كلّ عصر وزمن قوم على ذلك الرأي والمروق، وقد أزعجوا الملوك والولاة في تلكم الأعصر، وكلّما فني قوم منهم نبغ آخرون، وكانت الناس منهم على رهبة ووَجَل لما يلاقونه منهم من الفتك الذريع والعمل الفظيع، والقسوة وانتهاك الحرمة، وكانوا يحاربون الملوك والولاة عن عقيدة واطمئنان، فمن ثمّ تجدهم يستبسلون ويحاربون بشجاعة ورباطة جأش، فلا تقف الناس لهم وإن كانوا أضعافهم، إِذ لا يحملون عقيدة يناهضون بها تلك العقيدة، ولكنهم إِذا عرفوا من أنفسهم الضعف قوّضوا ليلاً وبعدوا شاحطين، ومن ذاك لا تسلم بلدة من وبالهم وسوء أعمالهم.
وكان لهم ظاهر نسك وعبادة، وما زالوا يستميلون الهمج الرعاع بتلك المظاهر الصالحة، ودعوى الخروج على سلطان الباطل، والدعوة للعمل بالكتاب والسنّة، وإن ناقضوا تلك المظاهر والدعاية بشدة الوطأة والعيث فساداً، إِلا أن السذّج من الناس ربما انخدعوا بظاهرة النسك والصلاح، وقد خدعوا بهاتيك الظواهر الجميلة بعض أهل الكتاب ومن لا يعتقد صحّة دين الاسلام، فضمّوهم اليهم، وكاثروا بهم.
وقد ضعفت بعد ذلك شوكتهم، وهدرت شقاشقهم، واستراح الناس منهم برهة من الزمن، ولكن ظهر لهم شأن أيّام الصادق عليه السّلام فإنَّ أحد رؤسائهم عبد اللّه بن يحيى الكندي - الملقّب بطالب الحق - نهض في حضرموت بعد ما استشار الأباضيّة في البصرة وأوجبوا عليه النهوض، وشخص اليه منهم أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي وبلخ بن عقبة المسعودي في رجال من الأباضيّة، وقد بايعه ألفان وبهم ظهر، ولمّا كثر جمعه توجّه إِلى صنعاء وكتب
{ 60 }
بذلك إِلى من بها من الخوارج، فجرت بينه وبين عاملها حروب انتصر فيها عبد اللّه واستولى على خزائن الأموال، ثم استولى على اليمن، فلمّا كان وقت الحجّ وجّه أبا حمزة وبلخاً وأبرهة بن الصباح إِلى مكّة والأمير عليهم أبو حمزة في ألف، وأمره أن يقيم بمكّة إِذا صدر النّاس، ويوجّه بلخاً إِلى الشام، فدخلوا مكّة يوم التروية وعليها وعلى المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك في خلافة مروان الحمار، فكره عبد الواحد قتالهم وفزع الناس منهم فراسلهم عبد الواحد في ألا يعطّلوا على النّاس حجّهم، وأنهم جميعاً آمنون بعضهم من بعض حتّى ينفر الناس النفر الأخير، فلمّا كان النفر الأخير نفَرَ عبد الواحد وترك مكّة لأبي حمزة من غير قتال، ولمّا دخل عبد الواحد المدينة جهّز له جيشاً منها فالتقوا بقديد فكانت الدبرة على جيش المدينة والنصرة للشراة، فبلغ قتلى أهل المدينة ألفين ومائتين وثلاثين رجلاً ثم دخل بلخ المدينة بغير حرب، ورحل عبد الواحد إِلى الشام فجهّز مروان لهم جيشاً عدده أربعة آلاف في فرسان عسكره ووجوههم، ومعهم العدّة الوافرة، وعليه عبد الملك بن عطية السعدي، فلمّا بلغ الشراة توجّه جند الشام اليهم خفوا اليه في ستمائة وعليهم بلخ بن عقبة المسعودي فالتقوا بوادي القرى لأيام خلت من جمادى الاُولى سنة ثلاثين ومائة فتواقفوا ثمّ كانت الدبرة على الخوارج فقتل بلخ والشراة ولم يبق منهم إِلا ثلاثون، فهربوا إِلى المدينة، وكان على المدينة المفضل الأزدي، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب الناس لحرب الشراة بالمدينة فلم يجبه أحد، واجتمع عليه البربر والزنوج وأهل السوق، فقاتل بهم الشراة فقتل المفضل وعامّة أصحابه وهرب الباقون، فأقبل ابن عطيّة إِلى المدينة وأقام بها شهراً، وأبو حمزة بمكّة، ثمّ توجّه إليه إِلى مكّة فوقعت بينهما حرب شعواء قتلت فيها الشراة قتلاً ذريعاً وقتل أبو حمزة وأبرهة بن الصباح وأسر منهم أربعمائة ثم قتلوا كلّهم، وصلب ابن عطيّة
{ 61 }
أبا حمزة وأبرهة وعلي بن الحصين على شُعب الخيف، إِلى أن أفضى الأمر إِلى العبّاسيّين فأنزلوا أيام السفاح، ثمّ أن ابن عطيّة خرج الى الطائف وقد بلغ عبد اللّه بن يحيى طالب الحقّ وهو بصنعاء ما آل اليه أمر أبي حمزة وجماعته فتوجّه الى حرب ابن عطيّة، فشخص ابن عطيّة اليه، ولمّا التقوا قتل من الفريقين جمع كبير، وترجّل عبد اللّه في ألف مقاتل، فقاتلوا حتّى قتلوا كلّهم وقتل عبد اللّه، وبعث ابن عطيّة رأسه الى مروان، ثمّ أقام ابن عطيّة بحضرموت بعد ظفره بالخوارج، فأتاه كتاب مروان بالتعجيل الى مكّة ليحجّ بالناس، فشخّص الى مكّة متعجّلاً مخفّفاً في تسعة عشر فارساً، فندم مروان وقال: قتلت ابن عطيّة سوف يخرج متعجّلاً مخفّفاً من اليمن ليدرك الحجّ فيقتله الخوارج، فكان كما قال، فإنه صادفه جماعة متلفّقة من الخوارج وغيرهم فعرفه الخوارج فحملوا عليه وقتلوه(1).
ثمّ لم يكن الخروج بعد هذا إِلا عقيدة ورأياً من دون أن يكون لهم شأن في محاربة الملوك، وما زال حتّى اليوم منهم اُناس على ذلك المروق، ومنهم قوم في عمان، ولكن لا شأن لهم يرعى ولا سطوة تهاب.
والخوارج هم المارقون الذين أنبأ النبي صلّى اللّه عليه وآله أمير المؤمنين عليه السّلام بأنه سيحاربهم ويظفر بهم.
وكانوا فِرقاً كثيرة يجمعها القول بتكفير علي وعثمان والحَكَمين وأصحاب الجمل وكلّ من رضي بتحكيم الحَكَمين، وتكفير مرتكبي الذنوب، ووجوب الخروج على الامام الجائر، كما حكاه في (الفَرق بين الفِرَق) عن الكعبي ص 55.
______________________________
(1) انظر شرح النّهج: 1/455 - 463 تجد تفصيل ما أوجزناه.
{ 62 }
لكن حكي عن أبي الحسن الأشعري إِنكار إِجماعهم على تكفير مرتكبي الذنوب، ونقل عنهم تفصيلاً في ذلك، وانتهوا في التفريع على هذا الأصل الى فِرق كثيرة، ولكن أخنى عليها الدهر، والموجودون اليوم منهم في عمان من الأباضيّة، على ما يظهر منهم ويسمع عنهم.
الغلاة ومن خرج عن الاسلام ببعض العقائد:
قد ذكرنا في بدء هذا الفصل أن اُصول الفِرق الاسلاميّة أربعة، ومنها تتفرّع الفِرق جميعاً، وأن فِرق الغلاة من فروع تلك الاُصول، فلا تجد أصلاً إلا وله بعض الفروع الغالية.
وهكذا الشأن فيمن ينتحل شيئاً كالتناسخ والحلول والتشبيه أو غير ذلك ممّا يرجع الى الكفر عند فِرق المسلمين، ولكن التهجّم عليهم بالكفر لما ينسب اليهم من الاعتقاد ليس بالأمر السهل، فإن تكفير من يعترف بالشهادتين لا ينبغي أن يقدم عليه من له حريجة في الدين، دون أن يعتمد على ركن وثيق ومادمنا في فسحة من ذلك فلا نلج هذا الباب، ولا نلقي بأنفسنا من شاهق ثمّ نفحص عن سلّم النجاة، ولا سيّما أن تلك الفِرق التي رميت بالخروج عن ربقة الاسلام الصحيح بانتحالها بعض العقائد الباطلة قد أصبحت في خبر كان، ولم يبق منها إِلا شواذ لا مقام لهم يلحظ بين أبناء الاسلام، ولا يخاف من تسرّب معتقداتهم الفاسدة بل أصبحوا يتكتّمون فيما يعتقدون حذراً من سطوة بني الدين في الحجج والبراهين وإبطال ما يدينون به أو نبزهم بالكفر والمروق عن الاسلام.
والحذر من سراية ذلك الداء الى أرباب الجهل أهمّ ما كان لدى الأوائل ممّن قاوم تلك البدع والضلالات بكلّ ذريعة، ونحن اليوم في أمان من الانخداع
{ 63 }
بضلالات فِرقهم الحاضرة، فكيف ببدع هاتيك الفِرق البائدة التي أصبحت دائرة العين والأثر.
شبه الإلحاد:
إتما الحذر اليوم من سراية شبه الإلحاد، وشكوك عبدة الدهر وأبناء الطبيعة الذين تسول لهم أنفسهم التخلّص من قيود الدين بكلّ وسيلة، تلك القيود التي تجعل الانسان في صفوف الملائكة والروحيّين، وتخرجه عن الوحشيّة الكاسرة، والشهوات الفاتكة، كما تجعله في أمان من اعتداء أحد على أثمن ما يجده في هذه الحياة: النفس والعرض والمال، كما تجعل الناس في أمان منه على نفائسهم تلك، وتلك الحرّية التي ينشدونها، والتي خرجوا بها عن ربقة أهل العقول والعفاف الى أسراب الوحوش وأرباب الخلاعة والدعارة هي التي خدعت بعض الشباب، وجعلته يقع في تلك الفخاخ، وتصيده هاتيك الشباك، والشباب سريع الانجذاب الى الشهوات ونزع القيود المزعومة، من دون أن يرجع الى رشده ويحكّم قبل الانخداع عقله.
* * *
إن المسلمين على مذاهب في الإمامة بعد أن أجمعوا على وجوبها، باعتبار أنّ الإمام هو الجامع لشتاتها، والهادي لضلالها، والناهض بها لنشر أعلام الشريعة، وبثّ روح تعاليمها الحيّة.
ومن سياسة صاحب الشريعة وبدائع حكمة أمره بمعرفة الإمام، حتّى أنه جعل «من مات ولم يعرف إِمام زمانه ميتاً على الجاهلية»(1)، كأن لم يدخل في ربقة الاسلام.
فهذا الفرض لو عمل به المسلمون، وقاموا بما يحتّمه الواجب من معرفته والاستماع لقوله بعد الوصول اليه لأصبحوا جيشاً واحداً وقائدهم الإمام، فلا يبقى عند ذاك امرؤ مسلم يجعل أحكام الدين، أو يعلمها ولا يعمل بها، ولا يبقى بلد في العالم لم تخفق عليه بنود الاسلام.
كانت الخلافة والإمامة ميداناً للسباق، لا يقبض على ناصيتها إِلا من حاز قصب السبق، ولو بالدماء المراقة، والحرمات المنتهكة، بل حتّى لو كان الخليفة نفسه بعد استلامه زمام الحكم ماجناً خليعاً لا يبالي بما فعل.
______________________________
(1) هكذا الحديث في أصل الكتاب ولم نعثر عليه في الكتب الموجودة، والذي عثرنا عليه هو هذا النص «من مات بغير إمام مات ميتةً جاهلية» كنز العمال: 1/103.
{ 65 }
غير أن الشيعة الإمامية كانت من العهد الأوّل لا تقيم وزناً لمثل هذه الخلافة ولا تعترف بمثل هذه الإمامة، بل ترى أن الخليفة والإمام من كان جامعاً لصفات الكمال كلّها، عارياً عن خصال النقص جميعاً، عاملاً بأوامر الشريعة في السرّ والعلن آمراً بها، مرتدعاً عن نواهيها فيما ظهر وبطن ناهياً عنها، منصوصاً عليه من صاحب الشريعة، أو من الإمام قبله أمراً من اللّه سبحانه، لأنه تعالى أنظر لعباده، وأبصر بمن يصلح لهذا المنصب الخطير.
ولا ترى الإمام من قام بالناس بل الإمام من قامت الدلالة عليه، ودلّت الاشارة اليه، وإِن قعد الناس عن اتباعه، بل وإِن قاموا في وجهه صدّاً له عن أدائه فروض إِمامته وواجبات زعامته.
وإِن قعودهم عن طاعته أو قيامهم في معارضته لا تخدش في كفايته للنهوض بأعباء الإمامة، بل حظّهم اخطأوه وسبيل هدى أضاعوه.
فالإمام - على ما تراه الإماميّة - هو الحامل لأعباء الإمامة قام أو قعد، نطق أو سكت، تقدّم للسباق أو تأخّر، لأن إِمامته ليست باللباس المستعار يلبسه إِن استلبه من غيره، ويتعرّى عنه إِن استلبوه منه.
ولمّا كان الإمام هو الحجّة البالغة، وجب عليه إِعلام الناس بإمامته وإِقامة الأدلّة عليها عند الحاجة الماسّة، كما وجب على الاُمّة معرفته وطاعته إِذا عرفوه.
وأما إِقامته الدلالة على إمامته فبالتصريح مرّة وبالتلويح اُخرى، وكفى في الدلالة أن يدلي بالكرامات والمعجزات، ويبدي من العلم ما يعجز الناس عن الحصول على مثله، إِلا أن تحجز السيوف دون بيانه، ولكن أعماله وسجاياه ناطقة بمقامه وإِن صمت لسانه.
والإمامة من الأبحاث التي مازالت موضع الجدل والخصام بين المسلمين من
{ 66 }
يوم مضى صاحب الدعوة الاسلاميّة، قلماً ولساناً، وسيفاً وسناناً، وإنما تبتني اُسسها اليوم على أنقاض الماضي، وهي اليوم وغداً كما كانت أمس الفارق بين الفِرق، مع وحدتهم في النبي والكتاب والقبلة، وفي الفِرق اليوم وأمس من ذوي العقول الراجحة والآراء السديدة رجال بإمكانها أن يجمعوها تحت لواء واحد، كاشفين لهم الستار عمّا حدا بالامامة إِلى التخالف والتنابز، ويعرّفوها فوائد الاُلفة، وينذروها سوء الفرقة، ويلمسوها ما أنزله ذلك الخصام بالاسلام من الويلات والتدمير والشتات.
ولمّا كانت الامامة هي المفترق للطرق، وجب أن يكون عندها اجتماع ذلك الافتراق، فلو عرف الناس اليوم حقيقة الامامة ومَن الامام، لأوشك أن يهبّ ولو بعضهم إِلى وحدة عندها مجتمع الفِرق، ولمّ الشتات، في هذه الساعة العصيبة التي سادت فيها الفوضويّة وانشقاق الكلمة.
وإِنّي لاُحاول أن أرمز إِلى بعض ما يجب في الامام، وإن ذهبت كلمتي أدراج الرياح، لا تسترعي انتباه غافل، ولا هبة يقظان، ولا يغيظني ذلك مادام القصد صحيحاً والغاية غالية، وهي طلب مراضيه سبحانه.
أقول: إِن النظام الذي جاء به خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه وآله نظام عامّ يجمع بين السيرتين، سيرة المرء مع الخالق، وسيرته مع المخلوق، وإِنَّ مَن جاء بهذا النظام وجب أن يكون قديراً على تطبيقه وتنفيذه حتّى لو ثنيت له الوسادة، فانبسطت دعوته على المعمورة جمعاء، وخيّمت شريعته على العالم كلّه، فالنبي عند تطبيق شريعته وتنفيذها يكون ذا سلطتين زمنيّة وروحيّة، ولّما دعاه اللّه اليه، انتبهت الاُمّة إِلى الضرورة التي دعته إِلى عقد الامامة في حياته، فرأوا أن القيام بوظائف صاحب الدعوة حتمّي ولا يقوم بها إِلا إِمام تكون له الزعامة العامّة على الاُمّة الاسلاميّة كلّها وتكون له السلطتان اللتان كانتا للرسول
{ 67 }
الأمين صلّى اللّه عليه وآله وإِلا بقي ذلك النظام الكافل للسعادتين بلا تنفيذ، فلا تتمّ الفوائد من تلك الجهود التي قاساها صاحب الرسالة.
فلمّا كانت الامامة على الاُمّة واجبة بحكم الضرورة، فمَن الأليَق بتلك الوظيفة الكبرى ؟ أترى الأليَق بها من هو كصاحب الرسالة وصورة حاكية له في العلم والعمل، مهديّ في نفسه هاد لغيره، يقوم بالحجّة فيقطع الحجج، لا يعتري برهانه وهن، ولا حجّته فلل، إِن طلب الناس منه المعجز في الفعل والقول استطاع الإتيان به من غير مطل وعناء، وإِن احتيج لقطع العذر من المسترشد أو المتعنّد على المجيء بالكرامة الباهرة قوي عليها من دون كدّ وجهد، يعلم كلّ ما جاء به صاحب الشريعة عاملاً به، يعرف القرآن تنزيله وتأويله، مرتدياً بجميل الخصال لا تفرّ عنه منها واحدة، بل هو أفضل في كلّ خصلة من الناس كافة، عارياً عن ذميم الصفات لا يرتدي منها واحدة ولو لحظة، وجملة القول أنه المثال الصادق للرسول في جميع ملكاته وصفاته وخصاله وفعاله.
أو الأليَق بها مَن لا يعرف هذه الخلال ولا تعرفه، أو يتقمّص ببعضٍ ويتعرّى عن بعض، لا ريب في أنك سوف تقول: إِن الأوّل أليَق وأحقّ بهذا المنصب الرفيع، وهل يقدم بصير على القول بأحقّيّة الثاني.
ولكني أحسبك تقول: إِن الشأن كلّه في إِثبات أمرين في هذا الباب الأول وجوب نصب إمام على هاتيك السجايا والمزايا، الثاني وجوده جامعاً لهذه الخلال والخصال في الاُمّة الاسلاميّة، ولو ثبت لدينا أن الامام يجب أن يجمع هذه الصفات، وأنه يوجد في الاُمّة ذلك الجامع، لكان التخلّف عن القول بإمامته، لأوامره عناداً محضاً لا يرتضيه ذو دين وبصيرة.
فأقول: إِني سأثبت لك هذين الأمرين، راجياً أن تكون ممّن ألقى السمع
{ 68 }
وهو شهيد.
أمّا الدليل على الأول فموجزه: إن النبي صلّى اللّه عليه وآله كان عليماً بما صدع به، لا يجهل ما يُسأل عنه، شريعته واحدة ليس فيها اختلاف، وخالدة إِلى يوم البعث، حلال محمّد حلال إِلى يوم القيامة وحرامه حرام إِلى يوم القيامة، فلو ألقى الحبل على الغارب للاُمّة في ارتياد الامام القائم بوظائفه لألفينا الاُمّة جاهلة بأحكام الشريعة لا تعرف الحرام من الحلال، ولا الحلال من الحرام إِذ ليس لديها حكم فصل في علم الشريعة ترجع إِلى قوله، وحاكم عدل في إِمضاء الحدود تخضع لأمره، فتتشعّب لذلك إِلى مذاهب ونحل، وكلّ يقوم بالحجّة على صحّة رأيه ويقيم الأدلّة على صدق عقيدته كما كان ذلك كلّه حين اختار بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم إِماماً وخليفة اختاروا خلفاء لا يعلمون جميع ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وآله ويجهلون كثيراً ممّا يُسألون عنه، ولمّا كانوا بعد الاختيار لهم هم الحكم الفصل والحاكم العدل، ولمّا لم يجد الناس عند هؤلاء القائمين بالأمر مطلوبهم في الحكومة والأحكام صار كلّ يبدي مذاهبه وآراءه، وليس عند أحد حجّة قاهرة، وبرهان نيّر يصدع به شبه تلك المذاهب، وشكوك هذه الآراء، وتعارضت النِّحل، وكلّ ينسب ما لديه إِلى الشريعة، وما عنده إِلى الدين، فأين الحلال والحرام اللذان لا يتبدّلان إِلى الساعة الأخيرة من هذا الوجود، وأين الشريعة الواحدة الخالدة عمر الدهر، وقد أصبح في الاسلام بعد نبيّه مشرّعون وشرائع، وأديان ومذاهب.
ولمّا كان هذا التبديل والتحريف طارئاً عن اختيار الناس لمن لا يعلم جميع ما جاء في الشريعة ليكون العالم والحاكم في ساعة واحدة، يقطع حجج المتأوّلين وألسنة المتقوّلين بالبرهان مرّة وحدود الشفار اُخرى فلا تخالفه الناس بعد ذاك ولا تختلف في الآراء والأهواء، وجب على الاُمّة أن تختار لها إِماماً
{ 69 }
عالماً بكلّ ما جاءت به الشريعة الأحمديّة، عاملاً في تنفيذ علمه، عنده علم ما يُسأل عنه ولديه الحجّة على إِزالة الأوهام والأباطيل والجهالات والأضاليل، لتبقى الشريعة الغرّاء على ما صدع بها الرسول صلّى اللّه عليه وآله أبد الدهر وحلاله وحرامه لا يتبدّلان مدى العمر، فلا شرائع ولا مشرّعين ولا مذاهب ولا أديان.
ولكن أين للاُمّة اختيار ذلك الحاكم العالم ؟ ومن أين تعرفه ؟ ولو عرفته فمن أين له اتفاق الكلمة عليه، والناس مختلفو النزعات متباينو الأغراض ؟
فوجب عليه تعالى أن ينصب لهم هذا الامام، ويعرّفهم بواسطة الرسول ذلك الخلف العادل، والعالم العامل، لأن اللّه سبحانه أنظر لعباده، وأدرى بمن يليق لهذا المنصب الخطير، والمقام العظيم.
فاذا كان نصب الامام واجباً عليه تعالى استحال في العقول أن يهمل سبحانه الواجب فيما يصلح عباده، ويهدي خليقته، كما يستحيل على الرسول أن يترك التبليغ عنه تعالى بنصب هذا الامام، ولو جاز عليه ترك هذا الواجب لجاز عليه غيره.
فمتى وجب الرسول وجب الامام، ومتى بعث اللّه رسولاً نصب الامام، فلا رسول بلا إِمام، ولا شريعة بغير تفسير وتنفيذ.
وأمّا الدليل على الثاني وهو وجود هذا الامام فالأمر فيه سهل بعد ما تقدّم، لأنا إِذا اعتقدنا بوجوب نصب الامام على تلك الصفات وأنه قد نصبه اللّه تعالى لخلقه اعتقدنا أنه تعالى لا يجعله مجهول الاسم والنسب ويعسر على الاُمّة معرفته، ولا نعرف في الاُمّة أئمة ادّعي فيهم ذلك وادّعوها لأنفسهم غير علي وبنيه عليهم السّلام، فلو لم يكونوا هم الأئمة لكانت الامامة وذلك الوجوب لغواً.
فلم يبق إذن إِلا أن نعرف عنهم أنهم اولئك العلماء الذين لا يجهلون،
{ 70 }
والعدولالذين لا يجورون، أمّا العدل فلم يحكم منهم أحد غير أمير المؤمنين وشأنه لا يحتاج إِلى ايضاح، وأمّا العلم فآثارهم ناطقة به فتتبع تجد صدق ما قيل ويقال وهذا الكتاب بين يديك رشحة من ذلك العلم الغمر(1).
* * *
______________________________
(1) إِن شئت المزيد في بحث الإمامة فارجع إِلى رسالتنا المطبوعة «الشيعة والإمامة».
حقّاً على الكاتب أن يعطي صورة إجمالية للمترجم له قبل أن يتغلغل في أعماق الترجمة، لئلا يكون غريباً عن القارئ عند قراءته لكل فصل من حياته.
وهنا رأيتُ أن أنقل شطراً من آراء العلماء في كلماتهم عن الصادق جعفر عليه السّلام، لأنها تعبّر عن آراء أجيال في هذه الشخصيّة الكريمة، واليك شيئاً منها:
فهذا الذهبي(1) في ميزان الاعتدال (1: 192) يقول عند ذكره للامام: «جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي أبو عبد اللّه أحد الأئمة الأعلام برّ صادق كبير الشأن».
وممّا قاله النووي(2) في تهذيب الأسماء واللغات (1: 149 - 150): «روى عنه محمّد بن إسحاق، ويحيى الأنصاري، ومالك، والسفيانيان، وابن جريح، وشعبة، ويحيى القطّان، وآخرون، واتفقوا على إِمامته وجلالته وسيادته، قال عمرو بن أبي المقدام: كنت إِذا نظرت إِلى جعفر بن محمّد علمت أنه من سلالة النبيّين».
______________________________
(1) الحافظ المحدّث شمس الدين أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد بن عثمان الدمشقي المولود عام 673، والمتوفى عام 748.
(2) الحافظ أبو زكريا محيي الدين بن شرف الدين المتوفى عام 676.
{ 72 }
وابن خلكان(1) يقول: «أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الاماميّة، وكان من سادات أهل البيت، ولقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وفضله أشهر من أن يذكر». وقال: «وكان تلميذه أبو موسى جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي(2) قد الّف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة، وقال: ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر، وجدّه زين العابدين، وعمّ جدّه الحسن بن علي عليهم السّلام، فللّه درُّه من قبر ما أكرمه وأشرفه».
والشبلنجي(3) في نور الأبصار ص 131 يقول: «ومناقبه كثيرة تكاد تفوت حدّ الحاسب، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب» وقال: وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب: وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق ابن محمّد الباقر، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله:
لقد عجبوا لآل البيت لما***أتاهم علمهم في جلد جفر
فمرآة المنجم وهي صغرى***تريه كلّ عامرة وقفر
وقال محمّد الصبّان(4) في كتابه إِسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور
______________________________
(1) أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان ولد بمدينة اربل قرب الموصل وانتقل إِلى الموصل وسافر إِلى حلب ودخل الديار المصرية وناب في القضاء عن السخاوي، ثم ولّي القضاء بالشام عشر سنين وتوفي بدمشق عام 681، ترجم له في طبقات الشافعيّة: 5/14، وفي فوات الوفيّات: 1/55، والسيوطي في حسن المحاضرة: 1/267، ومعجم المطبوعات: 1/98 وغيرها.
(2) سوف نشير في حياته العلميّة إِلى علم الصادق عليه السّلام بالكيمياء وأخذ جابر عنه وشيء من حياة جابر.
(3) مؤمن بن حسن مؤمن المصري. وشبلنج قرية من قرى مصر، اشتغل في طلب العلوم في الجامع الأزهر ولد في نيف و1250 ولم تذكر وفاته.
(4) محمّد بن علي الصبّان الشافعي الحنفي ولد بمصر، ترجم له في معجم المطبوعات: 2/1194.
{ 74 }
الأبصار ص 208: «وأمّا جعفر الصادق فكان إِماماً نبيلاً. وقال: وكان مجاب الدعوة إِذا سأل اللّه شيئاً لا يتمّ قوله إِلا وهو بين يديه».
والشعراني(1) في لواقح الأنوار يقول: «وكان سلام اللّه عليه اذا احتاج الى شيء قال: يا ربّاه أنا أحتاج الى كذا، فما يستتمّ دعاؤه إِلا وذلك الشيء بجنبه موضوع».
وسبط ابن الجوزي(2) في تذكرة خواصّ الاُمّة ص 192 يقول: «قال علماء السير: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة» وقال: «ومن مكارم أخلاقه ما ذكره الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار عن الشقراني مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: خرج العطاء أيام المنصور ومالي شفيع، فوقفت على الباب متحيّراً وإِذا بجعفر بن محمّد قد أقبل فذكرت له حاجتي، فدخل وخرج واذا بعطائي في كمّه فناولني إِيّاه، وقال: إِن الحسن من كلّ أحد حسن وأنه منك أحسن لمكانك منّا، وأن القبيح من كلّ أحد قبيح وأنه منك أقبح لمكانك منّا، وإِنما قال له جعفر ذلك لأن الشقراني كان يشرب الشراب، فمن مكارم أخلاق جعفر أنه رحّب به وقضى له حاجته مع علمه بحاله، ووعظه على وجه التعريض، وهذا من أخلاق الأنبياء».
ومحمّد بن طلحة(3) في مطالب السؤل ص 81 يقول: «وهو من عظماء أهل البيت وساداتهم ذو علوم جمّة، وعبادة موفرة، وأوراد متواصلة، وزهادة
______________________________
(1) أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني دخل القاهرة عام 911 وبها توفى، ترجم له في معجم المطبوعات: 1/1126.
(2) أبو مظفر شمس الدين يوسف بن قزغلي الواعظ الشهير الحنفي المولود عام 582 أو 581 والمتوفى عام 654 في 21 ذي الحجّة.
(3) كمال الدين الشافعي المتوفى عام 654.
{ 74 }
بيّنة، وتلاوة كثيرة، يتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه، ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات، بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تذكّر الآخرة، واستماع حديثه يزهد في الدنيا، والاقتداء بهديه يورث الجنّة، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرّيّة الرسالة. وقال: وأمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوت عدد الحاصر، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتّى أنه من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها والعلوم التي تقصر الأفهام عن الاحاطة بحكمها، تضاف اليه، وتروى عنه».
وفي صواعق ابن حجر(1): «ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان».
وفي ينابيع المودّة(2) طبع اسلامبول ص 380 «ومن أئمة أهل البيت أبو عبد اللّه جعفر الصادق» وقال: «وكان من سادات أهل البيت» وقال: «وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السالمي في طبقات المشايخ الصوفيّة: جعفر الصادق فاق جميع أقرانه من أهل البيت، وهو ذو علم غزير، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تامّ في الشهوات، وأدب كامل في الحكمة».
واليك ما يقوله الحافظ أبو نعيم(3) في حلية الأولياء (3: 192): «ومنهم الامام الناطق والزمام السابق، أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق أقبل على العبادة
______________________________
(1) المحدّث شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي نزيل مكّة.
(2) هي للشيخ سليمان بن إِبراهيم المعروف بخواجه كلان، وكان فراغه من تأليفها تاسع شهر رمضان عام 1291.
(3) أحمد بن عبد اللّه الاصبهاني المتوفى عام 430.
{ 75 }
والخضوع: وآثر العزلة والخشوع، ونهى(1) عن الرياسة والجموع» ثم روى عن عمرو بن أبي المقدام كلامه السابق، وروى عن الهياج بن بسطام(2) قوله: «وكان جعفر بن محمّد يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء».
ويقول ابن الصبّاغ المالكي(3) في الفصول المهمّة: «كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه، والقائم بالامامة من بعده برز على جماعته بالفضل وكان أنبههم ذكراً، وأجلّهم قدراً، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته وذكره في سائر البلدان»، وقال في اُخريات كلامه: «مناقب أبي عبد اللّه جعفر الصادق فاضلة، وصفاته في الشرف كاملة، وشرفه على جهات الأيام سائلة، وأندية المجد والعزّ بمفاخره ومآثره آهلة».
وهذا السويدي(4) في سبائك الذهب ص 72 يقول: «كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه، نقل عنه من العلوم ما لم ينقل عن غيره، وكان إِماماً في الحديث» وقال: «ومناقبه كثيرة».
وفي عمدة الطالب(5) ص 184: «ويقال له عمود الشرف، ومناقبه متواترة بين الأنام، مشهورة بين الخاصّ والعامّ، وقصده المنصور الدوانيقي بالقتل مراراً فعصمه اللّه منه».
______________________________
(1) هكذا في الأصل وفي كشف الغمّة عن الحلية «ولها» وكلّ منهما يناسب المقام.
(2) التميمي الحنظلي الهروي رحل إِلى العراق وسمع علماء عصره ودخل بغداد وحدّث بها، مات عام 177، ترجم له الخطيب البغدادي: 14/80.
(3) نور الدين علي بن محمّد بن الصبّاغ المالكي المولود عام 784 والمتوفى عام 855، ترجم له السخاوي في الضوء اللامع: 5/283 وذكر مشايخه وكتابه الفصول المهمّة في معرفة الأئمة وهم اثنا عشر.
(4) محمّد أمين البغدادي، وآل السويدي من البيوتات الرفيعة في بغداد حتّى اليوم وهو من رجال القرن الماضي، وفرغ من كتابه في شوّال عام 1229.
(5) للنسّابة الشهير جمال الدين أحمد بن علي الداودي الحسني المتوفى عام 828.
{ 76 }
والشهرستاني(1) في المِلل والنِّحل: «وهو ذو علم غزير في الدين والأدب، كامل في الحكمة، وزهد بالغ وورع تامّ في الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين اليه، ويفيض على الموالين أسرار العلوم، ثم دخل العراق وأقام بها مدّة ما تعرَّض للامامة قط(2) ولا نازع أحداً في الخلافة، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلّى إِلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط، وقيل من آنس باللّه توحّش عن الناس، ومن استأنس بغير اللّه نهبه الوسواس».
واليافعي(3) في مرآن الجنان ( 1: 304) فيمن توفي عام 148، يقول: «وفيها توفي الامام السيد الجليل سلالة النبوّة ومعدن الفتوّة، أبو عبد اللّه جعفر الصادق، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر، وجدّه زين العابدين وعمّ جده الحسن بن علي رضوان اللّه عليهم أجمعين، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام اُولي المناقب، وإِنما لقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، وقد الّف تلميذه جابر بن حيّان الصوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة».
والصدوق طاب ثراه(4) يروي في أماليه المجلس ال 42 عن سليمان بن داود
______________________________
(1) أبو الفتح محمّد بن أبي القاسم كان فقيهاً متكلّماً على مذهب الأشعري، دخل بغداد عام 510 وأقام بها ثلاث سنين وكانت ولادته بشهرستان وبها توفي عام 548، ترجم له في الوفيّات ومعجم الاُدباء وطبقات السبكي وروضات الجنّات ومفتاح السعادة وغيرها.
(2) يراد من الامامة هنا الامامة التي يعقدها الناس، وإِلا فهو إِمام اجتمع عليه الناس أو تفرّقوا، تعرّض للأمر أو صفح.
(3) أبو محمّد عبد اللّه بن سعد بن علي بن سليمان عفيف الدين اليافعي اليماني نزيل الحرمين المتوفى عام 768.
(4) محمّد بن علي بن بابويه القميّ المحدّث الجليل صاحب التآليف القيمّة الكثيرة البالغة نحواً من 300 مؤلّف، وقد ورد بغداد عام 352 وسمع منه شيوخ الطائفة على حداثة سنّه، ومات بالري عام 381.
{ 77 }
المنقري(1) عن حفض بن غياث(2) انه كان إِذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد عليه السلام قال: «حدّثني خير الجعافرة».
وروى الصدوق أيضاً فيه مسنداً عن علي بن غراب(3) انه كان إِذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد قال: «حدّثنا الصادق عن اللّه، جعفر بن محمّد...».
وروى أيضاً في ال 32 مسنداً عن محمّد بن زياد الأزدي(4) قال: سمعت مالك بن أنس(5) يقول: أدخل الى الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام فيقدّم لي مخدّة، ويعرف لي قدراً، وكان لا يخلو من إِحدى ثلاث خصال إمّا صائماً وإِما قائماً وإِما ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد واكابر الزهّاد، الذين يخشون اللّه عزّ وجل وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اخضرَّ مرَّة، واصفرَّ اُخرى، حتّى ينكره مَن يعرفه، ولقد
______________________________
(1) المعروف بابن الشاذكوني وهو ممن روى عن الصادق عليه السلام وعن رواته وكان من ثقات الرواة.
(2) الكوفي القاضي، وسيأتي في الثقات من مشاهير رواة الصادق عليه السّلام، والظاهر أنه من أهل السنّة.
(3) ابن عبد العزيز وهو ممّن روى عن الصادق عليه السلام واستظهر بعض الرجاليين أنه من أهل السنّة إلا أن ابن النديم في الفهرست عدّه من مشايخ الشيعة الذين رووا الفقه عن الأئمة عليهم السلام.
(4) هو المعروف بابن أبي عمير وقد لقي الكاظم والرضا والجواد عليهم السلام، حبسه الرشيد ليلي القضاء، وقيل ليدلّه على مواضع الشيعة وأصحاب الكاظم عليه السّلام، وقيل ضرب أسواطاً ونالت منه فلم يقر، وقد رويت عنه كتب مائة رجل من أصحاب الصادق عليه السلام، وله مصنّفات كثيرة، وهو ممّن لا يروي إلا عن ثقة، وقد أجمع العصابة على قبول مراسيله، وهو من العصابة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنهم، وقد اتفق الفريقان على وثاقته وعلوّ منزلته، وقيل: إِنما قبلوا مراسيله لأنه دفن كتبه يوم حبس فتلفت فروى ما علق منها في ذهنه، فمن ثمّ قد ينسى الراوي وإِن حفظ الرواية، مات عام 217.
(5) المدني أوّل المذاهب الأربعة، وهو ممّن أخذ عن الصادق عليه السلام كما سيأتي في أصحاب الصادق عليه السلام، وهو مذهب أهل الحجاز والنسبة اليه مالكي.
{ 78 }
حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الاحرام كان كلّما همَّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخرّ عن راحلته، فقلت: يابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولابدّ لك من أن تقول، فقال:يابن عامر كيف أجسر أن أقول لبّيك اللّهمّ لبّيك، وأخشى أن يقول عزّ وجل: لا لبّيك ولا سعديك.
وابن شهراشوب(1) في كتابه المناقب في أحوال الصادق عليه السّلام يروي عن مالك بن أنس أيضاً قوله: ما رأت عين ولا سمعت اُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادةً وورعاً، وزاد الصدوق في أماليه في ال 81 قوله: كان واللّه إِذا قال صدق.
وقال أيضاً: وذكر أبو القاسم البغار في مسند أبي حنيفة(2) قال الحسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة وقد سئل: من أفقه من رأيت ؟ قال: جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور بعث إِليّ فقال: يا أبا حنيفة إِن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له مسائلك الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إِليّ أبو جعفر وهو في الحيرة فأتيته فسلّمت عليه، فأورد إِليّ المجلس فجلست ثم التفت اليه فقال: يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة، قال: نعم أعرفه، ثمّ التفت إِليّ فقال: القِ على أبي عبد اللّه من مسائلك، فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعناكم، وربما تابعناهم، وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخلّ منها
______________________________
(1) محمّد بن علي المازندراني رشيد الدين من مشايخ الطائفة وفقهائها وكان شاعراً بليغاً منشأً وله مصنّفات عديدة منها: معالم العلماء، وكتاب أنساب آل أبي طالب، وكتاب مناقب آل أبي طالب، وهو الذي أشرنا اليه في الأصل، وكثيراً ما نروي عنه في هذا الكتاب.
(2) النعمان بن ثابت ثاني المذاهب لأهل السنّة وهو أيضاً ممّن أخذ عن الصادق عليه السلام، والنسبة اليه حنفي، وسيأتي الكلام عليه في أصحاب الصادق عليه السلام.
{ 79 }
بشيء، ثمّ قال أبو حنيفة: أليس أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.
بل ان المنصور نفسه وهو مَن علمت كيف يحرّق الارم(1) على أبي عبد اللّه عليه السّلام قد ينطق بالحقّ، عند ذكره أو مقابلته، فيقول: هذا الشجى المعترض في حلقي من أعلم الناس في زمانه(2) ويقول اُخرى: وإنه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا(3) ويقول تارة: إنه ليس من أهل بيت نبوّة إِلا وفيه محدّث، وإن جعفر بن محمّد محدّثنا اليوم(4) ويقول مخاطباً للصادق عليه السّلام: لانزال من بحرك نغترف، واليك نزدلف، تبصر من العمى، وتجلو بنورك الطخياء(5) فنحن نعوم في سحاب قدسك، وطامي بحرك(6)، ويقول لحاجبه الربيع: وهؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إِلا جاهل لا حظّ له في الشريعة(7).
ويقول إسماعيل بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس: دخلت على أبي جعفر المنصور يوماً وقد اخضلّت لحيته بالدموع، وقال لي: ما علمت ما نزل بأهلك فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين، قال: فإنّ سيّدهم وعالمهم وبقيّة الأخيار منهم توفي، فقلت ومَن هو ؟ قال: جعفر بن محمّد، فقلت: أعظم اللّه أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه، فقال لي: إِن جعفراً كان ممّن قال اللّه فيه «ثمّ اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» وكان ممّن اصطفى اللّه، وكان من السابقين في
______________________________
(1) كركع - الأضراس، ولتولّد الحرارة فيها من حكّ بعضها ببعض يقال يحرقها، وهو مثَل يضرب لمن يبلغ به الغيظ شدّته لأن الحكّ من آثاره.
(2) كتاب الوصيّة للمسعودي.
(3) كشف الغمّة عن تذكرة ابن حمدون: 2 / 209.
(4) الكافي: باب مولده عليه السلام: 1 / 475، وبصائر الدرجات، والمناقب، والخرائج والجرائح.
(5) الليلة المظلمة، ولعلّه كناية عن الاُمور المشكلة التي لا يهتدي الناس إِلى حلّها.
(6) بحار الأنوار: في أحوال الصادق عليه السلام: 47 / 199.
(7) مهج الدعوات لابن طاووس: ص 192، بحار الأنوار: 47/199.
{ 80 }
الخيرات(1).
هذا وهو المنصور العدوّ الألدّ للصادق، الذي كان مجاهداً في النيل من كرامته والقضاء عليه.
بل أن الملاحدة على كفرهم وعدائهم للاسلام ورجاله كانوا يعظّمونه ويعترفون له بغزارة العلم، والميزة بالصفات الروحيّة والملكات القدسيّة، أمثال ابن المقفّع وابن أبي العوجاء والديصاني وغيرهم، فهذا ابن المقفع يقول: ترون هذا الخلق وأومأ بيده الى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له إسم الانسانيّة إِلا ذلك الشيخ الجالس، يعني الصادق عليه السّلام، وقال ابن أبي العوجاء: ما هذا ببشر، وإِن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ويتروّح اذا شاء باطناً فهو هذا، يعني الصادق عليه السّلام.(2)
وكان ابن أبي العوجاء اذا سأل أحد أصحاب الصادق عليه السّلام عن شيء غامض واستمهله، ثمّ أتاه بالجواب بعد حين واستحسنه، قال: هذه نقلت من الحجاز.
وهكذا كان الديصاني مع أصحاب الصادق عليه السّلام، وما يقوله فيم يحملون اليه جوابه.
وهذه قطرة من غيث ممّا نطق به أهل الفضل في شأن الصادق عليه السّلام مع اختلاف الزمن والبلد والذوق والرأي في القائلين، اُقدّمها أمام الدخول في حياته التفصيليّة لتعطيك صورة إجماليّة عن هذه الشخصيّة الفذّة، فإن هذه الكلمات مع وجازتها تعلم القارئ عمّا لأبي عبد اللّه عليه السّلام من فضيلة بل فضائل، وعمّا له من آثار ومآثر.
______________________________
(1) تأريخ اليعقوبي: 3/117.
(2) الكافي: كتاب التوحيد منه، باب حدوث العالم وإثبات المحدث: 1/74.
تمهيد:
مُني الامام الصادق عليه السّلام من بين الأئمة بمعاصرة الدولتين المروانيّة والعبّاسيّة، اللتين حاربتا الشريعة وصاحبها النبيّ الأمين بمطاوعة الشهوات والتفنّن باللذات.
ثمّ تنبغ من بين هاتيك المعازف والقيان وذلك الجور والفجور رجالات البدع والمذاهب، والآراء والأهواء، ناصبين فخاخهم لصيد السمعة والصيت حين لا محاسب ولا معاقب، ولا ناهي ولا آمر، بل كانت السلطة قد تروّج تلك الاختلافات، فيما يضعف من مذهب أهل البيت ويقلّل من أنصاره.
ولقد كان أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام يشاهد ذلك الصراع القائم بين الدين والحكومتين، وبين الحقّ وأرباب هاتيك البدع.
فماذا تراه سيتّخذ من موقف في وسط هذا المحيط المائج ؟ أيعلن الحرب على السلطة والبدع وهو يعرف الناس وتخاذلهم عن الحق.
وكم شاهد وسمع من غدرة بعلوي، ونكثة بهاشمي، ولا يهمّه ذلك لو كان يصل الى غرضه كما فعل الحسين عليه السّلام، فليست نفسه بأعزّ من الدين عليه، ولكنه يعلم يقيناً بأن ذلك سيقضي على نفيس حياته، دون أن يسدي الى الدين نفعاً، ويجرّ له مغنماً أو أنه يلتزم الصمت أمام ذلك الصراع وفيه
{ 82 }
مسؤوليّة كبرى أمام اللّه وأمام صاحب الشريعة فلا بدّ إِذن من مخرج لتخليص الدين من هذا الصراع، مع سلامة نفسه وصفوة رجاله من مخالب تلك الاُسود الضارية.
فكانت سياسته الرشيدة في سبيل ذلك نشر العلوم والمعارف وبثّ الأحكام والحِكم وافشاء الفضائل، وكبح الضلالات بالحجّة في ظلّ (التقيّة) التي اتّخذ منها جنّة ودريئة لتنفيذ سياسته الحكيمة، فكانت تعاليمه خدمة للشريعة، وعباداته إِرشاداً للناس، ومناظراته مناهضة للبدع، فاستقام مجاهداً على ذلك الى أن وافاه الأجل.
فوجب أن نتكلّم عن التقيّة لأجل ذلك في فصل مستقل.
دليل التقيّة:
إن التقيّة من الوقاية، فهي جنّة تدرأ بها المخاوف والأخطار وموردها الخوف على النفيس من نفس وغيرها.
ودليلها: الكتاب، والسنّة، والعقل، والاجماع عند الشيعة، أمّا الكتاب فيكفي منه قوله تعالى «لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء إِلا أن تتّقوا منهم تقاة ويحذّركم اللّه نفسه»(1) فجوّز تعالى للمؤمنين أن يتظاهروا في ولاء الكافرين عند التقيّة والخوف من شرّهم، الى غيرها من الآيات التي سيرد عليك بعضها.
وأمّا السنّة فما جاء عن أهل البيت وغيرهم أكثر من أن يحصر، وسنذكر شطراً منه في طيّ هذا المبحث، وكفى من السنّة ما رواه الفريقان في قصّة عمّار، حتّى عذره اللّه سبحانه
______________________________
(1) آل عمران: 28.
{ 83 }
في كتابه العزيز فنزل في حقّه «إِلا من اُكره وقلبه مطمئن بالايمان»(1).
وأمّا إِجماع الشيعة على المشروعيّة بل الوجوب فلا نقاش فيه، لنذكر مصادره، لأن أمر التقيّة ولزومها عند أهل البيت وشيعتهم لا يختلف فيه اثنان.
وأمّا العقل فلأنه بالبداهة يحكم بوجوب المحافظة على النفس والنفيس ما استطاع المرء اليها سبيلاً، ويمنع من إلقاء النفس بالمهالك، وقد نهى عن ذلك الكتاب العزيز أيضاً فقال تعالى: «ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة»(2) وقال سبحانه «ولا تقتلوا أنفسكم إِن اللّه كان بكم رحيماً»(3).
وسيرة أرباب العقول جارية على وفق هذا الحكم العقلي، بل ان غريزة البشر على التقيّة، فإنك لو حللت بدار قوم يخالفونك في المذهب أو المبدأ السياسي، وتخشى منهم لو علموا ما أنت عليه لكنت تسرّ ما عندك بطبعك وفطرتك ما استطعت، من دون أن تعرف حكم العقل أو الشرع في هذا الشأن.
ولو استعرضت تأريخ الاسلام من البدء لوجدت أن التقيّة كانت ضرورة يلتجأ اليها، فقد أخفى النبي صلّى اللّه عليه وآله بدء الدعوة أمره حتّى دعا بني هاشم وأمره اللّه سبحانه أن يصدع بأمره(4)، وتكتّم المسلمون في إِسلامهم قبل ظهوره وانتشاره، وتستّر أبو طالب في إِسلامه ليتسنّى له الدفاع عن الرسول صلّى اللّه عليه وآله وليبعد عنه التهمة في دفاعه.
وكيف عاد الأمر عكساً يوم ارتفع منار الاسلام فصار أهل الكفر في مكّة والمدينة يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر.
______________________________
(1) النحل: 106.
(2) البقرة: 195.
(3) النساء: 29.
(4) الحجر: 94.
{ 84 }
إبتداء التقيّة ومبرّراتها:
ما كانت تقيّة الشيعة مبتدأة من عصر الصادق عليه السّلام بل كانت من عهد أمير المؤمنين عليه السّلام حتّى أنه كان قد استعمل التقيّة بنفسه في اكثر أيامه، إِنك لتعلم أنه من بدء الخلافة كان يرى أن الخلافة له، ويراها ثلّة من الناس فيه، ولكنّه لمّا لم يجد أنصاراً وادَعَ وصمَت هو وأصحابه، ولو وجد أربعين ذوي عزم منهم لناهض القوم - على حدّ تعبيره نفسه - وان النّاس حتّى من يخالفه لتعلم أن له رأيه في القوم ومن ثمّ أرادوه للبيعة في الشورى على اتباع سيرة السلف فأبى إِلا على كتاب اللّه وسنّة رسوله.
وكان يتكتّم كثيراً بما يرى التقيّة في إبدائه حتّى بعدما صار الأمر اليه لعلمه بأن في الناس من يخالفه ويناوئه، فلو باح بكلّ ما عنده لم يأمن خلاف الناس عليه، كيف وقد نكثت طائفة، وقسطت اُخرى، ومرق آخرون، فلو صارح بكلّ ما يعلم ويرى لانتقضت عليه أطراف البلاد.
ومع أن الكوفة يغلب عليها الولاء والتشيّع وهي عاصمة ملكه ما استطاع أن يغيّر فيها كلّ ما ورثوه من العهد السابق، كما لم يطق أن يبوح فيها بكلّ ما يعلم إِلا القليل، هذا وهو صاحب السلطتين: الروحيّة والزمنيّة، فكيف إِذن به يوم كان أعزل، وكيف بأولاده والسطوة والقوّة عليهم.
لم يتّخذوا التقيّة جنّة إِلا لما يعلمون بما يجنيه عليهم وعلى أوليائهم ذلك الإعلان، وقد أمر بها أمير المؤمنين قبل بنيه، فإنه قال في بعض احتجاجاته كما يرويه الطبرسي(1) في الاحتجاج: وآمرك أن تستعمل التقيّة في دينك - إِلى أن
______________________________
(1) أحمد بن علي بن أبي طالب من علماء الطائفة وشيوخهم، وكتابه الاحتجاج كثير الفوائد جليل النفع.
{ 85 }
يقول -: وتصون بذلك من عرف من أوليائنا واخواننا فإن ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك، وتنقطع به عن عمل في الدين وصلاح إِخوانك المؤمنين، وإِيّاك ثم إِيّاك أن تترك التقيّة التي أمرتك بها فإنك شاحط بدمك ودماء إِخوانك، متعرّض لنفسك ولنفسهم للزوال، مذلّ لهم في أيدي أعداء الدين وقد أمرك اللّه بإعزازهم، فإنك إِن خالفت وصيّتي كان ضررك على إِخوانك ونفسك أشدّ من ضرر الناصب لنا الكافر بنا.
فانظر كيف يأمر أمير المؤمنين وليّه بالتقيّة، ويكشف له عن فوائدها والضرر في خلافها.
ظهر التشيّع والشيعة أيام أمير المؤمنين، لأن السلطان بيده مرجعه ومآله حتّى عرفتهم أعداؤهم في كلّ مصر وقطر، فماذا ترى سيحلّ بهم بعد تقويض سلطانه ؟
لقد حاربهم معاوية بكلّ ما اوتي من حول وقوّة وحيلة وخديعة، فكان من تلك الوسائل سبابه لأبي الحسن وأمره به ليربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير كما يقول هو، وفي ذلك أيّ حرب لهم وإذلال، ثمّ قتل المعروفين من رجالهم، والمشهورين من أبدالهم وكان أكثر بالكوفة فاستعمل عليهم زياداً وضمّ اليه البصرة وهو بهم عارف، يقول المدائني: فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطردهم وشرّدهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم(1).
وأمّا الذين لم يتمكّنوا من الهرب لمعروفيّتهم في البلاد أو هربوا وأدركهم الطلب فكان نصيبهم الموت الأحمر، أمثال حجر بن عدي وأصحابه،
______________________________
(1) شرح النهج: 3/15.
{ 86 }
وعمرو بن الحمق وأضرابه.
ويقول العبري في تاريخ ص 87: وكان معاوية قد أذكى العيون على شيعة علي فقتلهم أين أصابهم.
ويقول الباقر عليه السّلام عند ذكرى النوازل بهم وبأوليائهم: وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السّلام فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع الينا سجن ونهب ماله وهدمت داره(1).
كان معاوية يخشى الحسن عليه السّلام، لأن الناس منتظرة لنهضته، وما صالح معاوية إِلا على شروط، منها أن تعود الخلافة اليه بعده ومن ثمّ عاجله بالسمّ، فالناس طامحة الأنظار لأبي محمّد، مادام أبو محمّد في قيد الحياة ومع تلك الرهبة من أبي محمّد وخشيته جانبه كان تلك فعاله، فكيف حاله مع الشيعة بعد موت الحسن عليه السّلام.
ولمّا عاد الأمر ليزيد وابن زياد كانا أقوى في الفتك وأجرأ في السفك من معاوية وزياد، فقد قتل ابن زياد مسلماً وهانياً ورشيداً الهجري وميثماً التمّار وفتية شيعيّة، وملأ من الشيعة ووجوهها السجون، حتّى بلغت في حبسه اثني عشر ألفاً، ثمّ لحق ذلك حادثة الطف.
وما نسيت هذه المشانق والمرازئ حتّى جاء دور الحجّاج وفتكه، ولنترك إِمامنا الباقر عليه السّلام يحدّثنا عن هذا الدور الذي شاهده بنفسه، فيقول: ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم - يعني الشيعة - كلّ قتلة وأخذهم بكلّ ظنّة وتهمة، حتّى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ اليه من أن يقال له شيعة علي
______________________________
(1) شرح النهج: 3/15.
{ 87 }
عليه السّلام(1).
فكان هذا دأب الاُمويّين مع العلويّين وشيعتهم، وقد عرفت شطر تلك السيرة ممّا سبق.
ولو استطردت أنباء العصر العبّاسي لعلمت أن الدولة العبّاسيّة اقتدت بالاُمّة الاُمويّة في سيرتها القاسية مع العلويّة وأوليائهم، وأمامك ما سلف ممّا حدّثناك به عن الاُمويّة والعبّاسيّة وما جنتاه على أهل البيت من قسوة واعتداء.
أفيستطيع بعد تلك النوائب والمصائب أن يجهر أهل البيت أو شيعتهم بما يرونه من الدين ومعارضة السلطة في المبدأ والمعتقد والسيرة والعمل ؟
بوجدانك أيها البصير ما كنت صانعاً لو تمرّ عليك وعلى أتباعك أمثال تلك الوقائع وأنت رائد ومسؤول، أفتغريهم بإعلان ما يجعلهم مجزرة للأعداء وهدفاً للناقمين، أم تحتّم عليهم الكتمان والتستّر هرباً من تلك المجازر، وفراراً من مرارة العذاب والتنكيل ؟
واذا كانت العترة أحد الثقلين اللذين بهما حفظ الدين ونواميسه تستأصلهم الحراب والحروب فهل يبقى للدين منار مرفوع أو ظلّ ممدود.
إِذن لا محيص من التقيّة إِذا أرادت العترة ملازمة القرآن وتعليم ما فيه حتّى يردا الحوض معاً على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وإِذا أرادوا كشف ما عليه اولئك المسيطرون على الناس من الظلم وبيان ما عليه اولئك المبتدعون في الدين من الضلالة والجهالة.
ولذلك يقول الصادق عليه السّلام: التقيّة ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا
______________________________
(1) نفس المصدر.
{ 88 }
تقيّة له، وإِنَّ المذيع لأمرنا كالجاحد به، وقال عليه السّلام لجماعة من أصحابه كانوا عنده يحدّثهم: لا تذيعوا أمرنا ولا تحدّثوا به إِلا أهله فإنَّ المذيع علينا سرّنا أشد مؤونة من عدوّنا، انصرفوا رحمكم اللّه ولا تذيعوا سرّنا(1).
ويقول عليه السّلام: نفَس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل اللّه(2).
ويقول عليه السّلام لمدرك بن الهزهز(3): يا مدرك إِن أمرنا ليس بقبوله فقط ولكن بصيانته وكتمانه عن غير أهله، أقرى أصحابنا السلام ورحمة اللّه وبركاته وقل لهم رحم اللّه امرأً اجتر مودّة الناس الينا فحدّثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون(4).
وكانوا دائبين على تلك الوصايا لأصحابهم حتّى أن جابراً الجعفي الثقة الثبت الراوية عن الباقر والصادق يقول: رويت خمسين ألف حديث ما سمعها أحد مني، بل قيل كانت سبعين وقيل تسعين ألفاً عن الباقر فحسب ولم يحدّث بها أحداً من الناس(5).
ولذلك يقول الصادق عليه السّلام للمعلّى بن خنيس: لا تكونوا أسرى في أيدي الناس بحديثنا، إِن شاءوا أمنوا عليكم، وإن شاءوا قتلوكم. وكان يقول عليه السّلام: ما قتل المعلّى إِلا من جهة إِفشائه لحديثنا الصعب(6).
______________________________
(1) بحار الأنوار: 2/74/42.
(2) بحار الأنوار: 2/64/1.
(3) أو ابن أبي الهزهاز النخعي الكوفي روى عن الصادق عليه السلام وروى عنه الثقات.
(4) بحار الأنوار: 2/77/62.
(5) بحار الأنوار: 2/69/ 21 - 22.
(6) بحار الأنوار: 21/71/34.
{ 89 }
وما اكثر ما جاء عنه من الردع عن إذاعة سرّهم والإفشاء لحديثهم وأن المذيع له قاتلهم عمداً لا خطأً(1)، فهذه الأحاديث وغيرها تكشف لك سرّ أمرهم بالتقيّة، فكأَنَّهم يعلمون بأن الناس سوف تستهدف الشيعة على التقيّة فأبانوا الوجه في إلزامهم بها واستمرارهم عليها.
أثر التقيّة في خدمة الدين:
وأمّا أثر التقيّة في خدمة الدين والمجتمع الشيعي فلا يكاد يجهل، فإن الكوفة أيام زياد ضعف فيها التشيّع حتّى لم يبق بها من الشيعة معروف وبلغ الحال بها أيام الحجّاج إِلى أن ينسب الرجل إِلى الكفر والزندقة أحبّ اليه من أن ينسب إِلى التشيّع، ولكن لم تمض برهة على تشديدهم على الشيعة في اعتزال الناس والسياسة واختفائهم وراء حجب التقيّة حتّى بلغ رواة الصادق عليه السلام أربعة آلاف أو يزيدون كما أحصاهم ابن عقدة، والشيخ الطوسي طاب ثراه في كتاب الرجال، والطبرسي في أعلام الورى، والمحقّق الحلّي في المعتبر، وكان اكثرهم من أهل الكوفة، وكان الحسن بن علي الوشا(2) يقول: لو علمت أن هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإني أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد عليهما السّلام، على أن الوشا لم يدرك من تلك الطبقة إِلا قليلاً.
فهناك تعرف السرّ لماذا كثرت الرواية عنه عليه السّلام ؟ ولماذا صار منهل العلوم والمعارف ومصدر الأحكام والحكم ؟ ولماذا صار مذهباً لأهل التشيّع ؟
______________________________
(1) بحار الأنوار: 2/74/45.
(2) البجلي الكوفي من وجوه الطائفة ومن أصحاب الرضا عليه السلام وثقات رواته، وله كتب، وله مسائل الرضا عليه السلام، ترجم له الرجاليّون كلّهم.
{ 90 }
ولماذا روى عنه حتّى أئمة القوم وأعلامهم، أمثال مالك وأبي حنيفة والسفيانين وأيوب السختياني وشعبة وابن جريح وغيرهم ؟، كلّ ذلك لما كان عليه من البُعد عن مجتمع الناس الذي يجلب التهمة اليه بطلب الرياسة والخلافة، ولتستّره في نشر العلم والأخلاق، ولولا ذلك لما ظهرت علومه وفضائله، ولولا ذلك لما عرف الناس شأن أهل البيت وحقيقة القرآن وعلوم الدين، ولولا ذلك لما وضح ما كان عليه أرباب السلطتين، ولولا ذلك لما بادت كثير من الفِرق الباطلة، وقامت الحجّة عليها من ذوي الفقه والكلام، ولولا ذلك لما بلغت الشيعة سبعين مليوناً، وحلّت في كلّ صقع واحتلّت كثيراً من البلاد(1).
فمن ههنا تعرف أثر التقيّة في خدمة الدين والشريعة، وردّ عوادي الظلم والضلالة، وتعريف الناس حقائق الايمان، وبطلان الشبهات والمبتدعات.
فلا أخالك بعد هذا البيان تصغي إِلى شيء من الغمز في التقيّة ونسبة الشيعة إِلى الباطنيّة من جرّاء ذلك التكتّم في الاعتقاد، والتستّر في المذاهب.
وما كان هذا الإسهاب إِلا لرفع النقاب عن محيا الحقيقة لمن يزعم أن التقيّة مجهولة المحاسن، لأنها حجاب كثيف وعسى أن يكون ما وراء الحجاب ألف عيب وألف نقص، ومن يتّقي في عقيدته كيف يعرف الناس ما لديه ويرون جمال ما يضمره، أترى يصحّ هذا الغمز والنبز بعدما ألمسناك فوائدها، وأريناك منافعها ؟
على أن اليوم بفضل المطابع قد انتشرت علوم الشيعة وعقائدهم، فأين الكتمان وأين الإتّقاء ؟ وما كان الإتّقاء إِلا في ذلك العهد يوم كانت الشيعة
______________________________
(1) استوفينا البيان عن الشيعة وعددهم وبلدانهم في كتابنا «تاريخ الشيعة» وقد أخرجته المطابع فاقرأه ففيه عن ذلك بلغة ومتعة.
{ 91 }
قليلي العدد والاُهبة، ولو مسحهم السيف لم يبق للبيت وأهله ذكر وعلم وحجّة ورواية، وأمّا اليوم فهم في جنّة واقية من نشر هاتيك الكتب التي ملأت الخافقين، ولم تدع عذراً لكاتب وقارئ يزعمان أن مذهب الاماميّة باطنيّاً يتستّر بالتقيّة، لا نعرف مبادية وعقائده، ولا اُصوله وفروعه، فإن كتبهم بالأيدي، في كلّ علم وفن، ومصادرهم مقروّة ومداركهم مبثوثة.
* * *
كفى في امتحان أهل الدين هذا التصارع الدائم بين الدين والدنيا وقلّماً ائتلفا في عصر، ولولاه لما كانت التقيّة، ولما كانت تلك الفوادح النازلة بساحة أهل البيت.
ليس الصراع بين أهل البيت وبين اُميّة والعبّاس غريباً مادام أهل البيت مثال الدين، واولئك مثال الدنيا.
يعلم المروانيّون والعبّاسيّون أن الصادق عليه السلام زعيم هذا التصارع ولئن صمت عن مصارعتهم بالحرب فلا يكفيهم أماناً من حربه لهم، ولربما كان الصمت نفسه أداة الصراع أو هو الصراع نفسه، فإن السكوت قد يكون جواباً كما يقولون.
فمن ثمّ تجدهم يوجّهون اليه عوادي المحن كلّ حين، وما كفّهم عن تعاهده بالأذى ذلك الانعزال والانشغال بالعبادة والعلم، فإن هذا الشغل هو سلاح الحرب، لأنه ظاهرة الدين وبه تتّجه الأنظار اليه، وكلّما ارتفع مقام الصادق قويت شوكة الدين، وإِذا قوي الدين انصرع أهل الدنيا.
ولولا تشاغل الاُمويّين بالفتن بينهم لما أبقوا على الصادق عليه السلام، كما لم يبقوا على آبائه، أجل كأنهم تركوا ذلك إلى أبناء عمّه الأقربين،
{ 93 }
«واولو الأرحام بعضهم أولى ببعض»!(1)
كانت أيام السفّاح أربع سنين، وهذا الزمن لا يكفي لتطهير الأرض من أُميّة، ولبناء اُسّ المُلك وترسيخ دعائمه، فلم يشغله ذلك عن الصادق عليه السّلام، فإنه لم يطمئن بعدُ من أُميّة والروح الموالية لهم، ولم يفرغ من تأسيس ذلك البناء حتّى أرسل على الصادق من المدينة إِلى الحيرة، ليفتك به، ولكن كفى بالأجل حارساً.
ولماذا كان الصادق إِحدى شُعب همّه، وهو ابن عمّهم الذي اشتغل بالعبادة والتعليم والارشاد، والذي أخبرهم بما سيحظون به من المُلك دون بني الحسن، وقد كانوا بأضيق من جحر الضب من بني أُميّة، وأقلق من الريشة في مهبّ الريح خوفاً منهم.
ما كان يدفع السفّاح على ذلك العمل الشائن إِلا ما قلناه من ذلك الصراع حذراً من أن يتّجه الناس إِلى الصادق عليه السّلام، ويعرفوا منزلته، والناس إِلى ذلك العهد كانت ترى أن الخلافة مجمع السلطتين الروحيّة والزمنيّة، ولا تراها سلطاناً خالصاً لا علاقة لها بالدين، فلا يصرف الناس عن الصادق أنه رجل الدين الخالص، بل أن هذا ادعى عند بعض الناس للامامة، ليكونوا منه في أمان على دنياهم، كما هم في أمان على دينهم.
وبذلك الحذر وقف المنصور بمرصد للصادق عليه السّلام، فشاهد عليه السّلام منه ضروب الآلام والمكاره، وما كفّ ولا عفّ عنه حتّى أذاقه السمّ.
ولا عجب ممّا كان يلاقيه أبو عبد اللّه عليه السّلام من تلك المكاره، فإنّ
______________________________
(1) الأنفال: 75.
{ 94 }
محن المرء على قدر ما له من فضيلة وكرامة، وعلى قدر مقامه بين الناس وطموحه إِلى الرتب العالية.
كان بين ولاية المنصور ووفاة الصادق عليه السّلام اثنتا عشرة سنة لم يجد الصادق فيها راحة ولا هدوءً على ما بينهما من البُعد الشاسع، الصادق في الحجاز، والمنصور في العراق، وكان يتعاهده بالأذى، كما يتعاهد المحبّ حبيبه بالطرف والتحف.
يقول ابن طاووس أبو القاسم علي طاب ثراه(1) في كتاب «مهج الدعوات» في باب دعوات الصادق عليه السّلام: إِن المنصور دعا الصادق سبع مرّات كان بعضها في المدينة والربذة حين حجّ المنصور، وبعضها يرسل اليه إِلى الكوفة وبعضها إِلى بغداد، وما كان يرسل عليه مرّة إِلا ويريد فيها قتله، هذا فوق ما يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول، ونحن نذكرها بالتفصيل:
الاولى: روى ابن طاووس عن الربيع حاجب المنصور قال: لما حجّ المنصور(2) وصار بالمدينة سهر ليلة فدعاني فقال: يا ربيع انطلق في وقتك هذا على أخفض جناح وألين مسير، وإِن استطعت أن تكون وحدك فافعل حتّى تأتي أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد فقل له: هذا ابن عمّك يقرأ عليك السّلام ويقول
______________________________
(1) رضيّ الدين أبو القاسم علي بن موسى الحسني الحلّي من آل طاووس جمع بين العلم والعبادة والزهادة وبين الشعر والأدب والانشاء والبلاغة، تنسب اليه الكرامات العالية، وقيل: إنه كان أعبد أهل زمانه وأزهدهم، وعن العلامة الحلّي في بعض إجازاته وهو ممّن روى عنه، يقول عند ذكره: وكان رضيّ الدين علي صاحب كرامات حكي بعضها وروى لي والدي البعض الآخر، وكان أزهد أهل زمانه.
(2) حجّ المنصور أيّام الصادق عليه السلام ثلاث مرّات عام 140 و144 و147 وبعد وفاة الصادق مرّتين عام 152 وعام 158 فلم يتمّ الحجّ، انظر تاريخ اليعقوبي: 3/122 طبع النجف، والذي يظهر أن المنصور في كلّ مرّة من الثلاث يأمر بجلب الصادق عليه السلام.
{ 95 }
لك: إِن الدار وإِن نأت والحال وإِن اختلفت فإنّا نرجع إِلى رحم أمسّ من يمين بشمال، ونعل بقبال(1) وهو يسألك المصير اليه في وقتك هذا، فإن سمح بالمصير معك فأوطئه خدّك، وإِن امتنع بعذر أو غيره فاردد الأمر اليه في ذلك، وإِن أمرك بالمصير اليه في تأنّ فيسّر ولا تعسّر، واقبل العفو ولا تعنف في قول ولا فعل، قال الربيع: فصرت إِلى بابه فوجدته في دار خلوته فدخلت عليه من غير استئذان، فوجدته معفّراً خدّيه مبتهلاً بظهر كفّيه قد أثَّر التراب في وجهه وخدّيه، فأكبرت أن أقول شيئاً حتّى فرغ من صلاته ودعائه، ثم انصرف بوجهه فقلت: السّلام عليك يا أبا عبد اللّه فقال: وعليك السّلام يا أخي، ما جاء بك، فقلت: ابن عمّك يقرأ عليك السّلام، حتّى بلغت إِلى آخر الكلام، فقال: ويحك يا ربيع «ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحقّ ولا يكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم»(2) ويحك يا ربيع «أفأمن أهل القرى أن يأتيَهم بأسُنا بياتاً وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيَهم بأسُنا ضحىً وهم يلعبون، أفأمنوا مكرَ اللّه فلا يأمن مكرَ اللّه إِلا القوم الخاسرون»(3) قرأت على أمير المؤمنين السّلام ورحمة اللّه وبركاته، ثمّ أقبل على صلاته، وانصرف إِلى توجّهه، فقلت: هل بعد السّلام من مستعتب أو اجابة، فقال: نعم، قل له: «أفرأيت الذي تولّى، وأعطى قليلاً واكدى، أعنده علم الغيب فهو يرى، أم لم ينبّأ بما في صحف موسى، وإِبراهيم الذي وفّى، ألا تزر وازرة وزر أُخرى، وأن ليس للانسان إِلا ما سعى، وأنّ سعيَهُ سوف يُرى»(4) إِنّا واللّه
______________________________
(1) بالكسر زمام بين الاصبع الوسطى والتي يليها.
(2) الحديد: 15.
(3) الأعراف: 97 - 99.
(4) النجم: 33 - 40، وأن هذه الآيات فيها تذكير ووعظ وتهديد، وأن الانسان مقرون بعمله ولا يؤاخذ بغير وزره.
{ 96 }
يا أمير المؤمنين قد خفناك وخافت بخوفنا النسوة اللاتي أنت أعلم بهنّ، ولا بدّ لنا من الايضاح به(1) فإن كففت وإِلا أجرينا اسمك على اللّه عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات(2) وأنت حدّثتنا عن أبيك عن جدّك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: أربع دعوات لا يحجبن عن اللّه تعالى: دعاء الوالد لولده، والأخذ بظهر الغيب لأخيه، والمخلص...
قال الربيع، فما استتمّ الكلام حتّى أتت رسل المنصور تقفو أثري وتعلم خبري فرجعت فأخبرته بما كان فبكى، ثمّ قال: ارجع إِليه وقل له: الأمر في لقائك اليك والجلوس عنّا، وأمّا النسوة اللاتي ذكرتهنّ فعليهنّ السّلام فقد آمن اللّه روعتهنّ وجلى همّهنّ، قال: فرجعت اليه فأخبرته بما قال المنصور فقال: قل له: وصلت رحماً، وجزيت خيراً، ثمّ اغرورقت عيناه حتّى قطر من الدموع في حجره قطرات.
ثمّ قال: يا ربيع إِن هذه الدنيا وان أمتعت ببهجتها، وغرّت بزبرجها(3) فقلت: يا أبا عبد اللّه أسألك بكلّ حقّ بينك وبين اللّه جلّ وعلا إِلا عرفتني ما ابتهلت به إِلى ربّك تعالى، وجعلته حاجزاً بينك وبين حذرك وخوفك فلعلّ اللّه يجبر بدوائك كسيراً، ويغني به فقيراً، واللّه ما اعني غير نفسي، قال الربيع: فرفع يده وأقبل على مسجده كارهاً أن يتلو الدعاء صفحاً، ولا يحضر ذلك بنيّة، فقال: قل: اللّهم إني أسألك يا مدرك الهاربين، ويا ملجأ الخائفين، الدعاء.(4)
______________________________
(1) أحسبه يريد أنه لابدّ من الافصاح بحقيقة الحال.
(2) يريد أنه يدعو عليه بعد كلّ صلاة، ويكون من دعاء المظلوم الذي لا يحجب.
(3) سوف نذكرها في المختار من كلامه في باب مواعظه.
(4) ذكرنا هذه الأدعية التي في هذا الفصل كلّها فيما جمعناه من دعاء الصادق عليه السلام فإنّا لمّا رأينا أن أدعيته في هذا الفصل طويلة وكثيرة آثرنا جمعها مع ما ظفرنا به من أدعيته الاُخر وجعلناها كتاباً مفرداً وسمّيناه دعاء الصادق وقد اجتمع لدينا حتّى اليوم ما يناهز 400 صفحة بقطع هذا الكتاب.
{ 97 }
ليس في استدعاء المنصور للصادق عليه السّلام في هذه الدفعة ظاهرة سوء، فما الذي أقلق أبا عبد اللّه وروع نساءه، وجعله يتوسّل إِلى اللّه تعالى في كفّ شرّ المنصور، إِن أبا عبد اللّه أبصر بقومه وأدرى بنواياهم، ومن الدفعات الآتية تتّضح لك جليّاً مقاصد المنصور مع الصادق عليه السّلام، وأنه ما كان يقصد من هذا الإرسال إِلا السوء.
الثانية: وروى ابن طاووس عن الربيع أيضاً، قال حججت مع أبي جعفر المنصور فلمّا صرت في بعض الطريق قال لي المنصور: يا ربيع إِذا نزلت المدينة فاذكر لي جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السّلام فواللّه العظيم لا يقتله أحد غيري، إحذر أن تدع أن تذكّرني به، قال: فلمّا صرنا إِلى المدينة أنساني اللّه عزّ وجل ذكره، فلما صرنا إِلى مكّة قال لي: يا ربيع ألم آمرك أن تذكّرني بجعفر بن محمّد اذا دخلنا المدينة، قال: فقلت: نسيت يا مولاي يا أمير المؤمنين، فقال لي: فاذا رجعنا إِلى المدينة فذكّرني به فلا بدّ من قتله، فإن لم تفعل لأضربنّ عنقك، قال: فقلت له: نعم يا أمير المؤمنين، ثم قلت لأصحابي وغلماني: ذكّروني بجعفر بن محمّد إِذا دخلنا المدينة إِن شاء اللّه قال: فلم يزل أصحابي وغلماني يذكّروني به في كلّ منزل ندخله وننزل فيه حتّى قدمنا المدينة، فلمّا نزلنا المدينة دخلت الى المنصور فوقفت بين يديه وقلت: يا أمير المؤمنين جعفر بن محمّد، قال: فضحك وقال لي: نعم اذهب يا ربيع فأتني به ولا تأتني به إِلا مسحوباً، قال: فقلت له: يا مولاي حبّاً وكرامة، وأنا أفعل ذلك طاعة
{ 98 }
لأمرك، قال: ثمّ نهضت وأنا في حال عظيم من ارتكابي ذلك، قال: فأتيت الامام الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام وهو جالس في وسط داره، فقلت له جعلت فداك: إِن أمير المؤمنين يدعوك اليه، فقال: السمع والطاعة، ثمّ نهض وهو معي يمشي، قال: فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِنه أمرني ألا آتيه بك إِلا مسحوباً، قال: فقال الصادق عليه السّلام: امتثل يا ربيع ما أمرك به، قال الربيع: فأخذت بطرف كمّه أسوقه، فلمّا أدخلته عليه رأيته وهو جالس على سريره وفي يده عمود من حديد يريد أن يقتله به، ونظرت الى جعفر بن محمّد يحرّك شفتيه فلم أشكّ أنه قاتله، ولم أفهم الكلام الذي كان جعفر بن محمّد يحرّك به شفتيه، فوقفت أنظر اليهما، قال الربيع: فلمّا قرب منه جعفر بن محمّد قال له المنصور: ادن مني يا ابن عمّي، وتهلّل وجهه، وقرَّبه حتّى أجلسه معه على السرير، ثمّ قال: يا غلام ائتني بالحقّة، فأتاه بالحقّة وفيها قدح الغالية فغلفه(1) منها، ثمّ حمله على بغلة وأمر له ببدرة وخلعة ثمّ أمره بالانصراف، قال: فلمّا نهض من عنده خرجت بين يديه حتّى وصل الى منزله، فقلت له: بأبي أنت واُمّي يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِني لم أشكّ فيه ساعة تدخل عليه أنه يقتلك، ورأيتك تحرّك شفتيك في وقت دخولك عليه فما قلت ؟ قال لي: نعم يا ربيع إعلم أني قلت: حسبي الربّ من المربوبين، حسبي الخالق من المخلوقين، الدعاء.
الثالثة: قال ابن طاووس في استدعائه مرّة ثالثة بالربذة(2): يقول مخرمة
______________________________
(1) أي غطّاه وغشّاه بها مبالغة في كثرة ما وضع عليه من الغالية.
(2) أرض بين مكّة والمدينة كان فيها مسكن أبي ذر قبل إسلامه واليها منفاه، وفيها موته ومدفنه، رضي اللّه عنه.
{ 99 }
الكندي: لمّا نزل أبو جعفر المنصور الربذة وجعفر بن محمّد عليه السّلام يومئذٍ بها، قال: من يعذرني من جعفر هذا، يقدّم رِجلاً ويؤخّر اُخرى يقول: انتجى(1) عن محمّد(2) فإن يظفر فإن الأمر لي وإن تكن الاُخرى فكنت قد أحرزت(3) نفسي، أما واللّه لأقتلنّه، ثمّ التفت الى إبراهيم بن جبلة فقال: يا ابن جبلة قم اليه فضع في عنقه ثيابه ثم ائتني به سحباً، قال إِبراهيم: فخرجت حتّى أتيت منزله فلم أصبه، فطلبته في مسجد أبي ذر فوجدته على باب المسجد، قال: فاستحييت أن أفعل ما اُمرت به، فأخذت بكمّه فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: إنّا للّه وإِنّا اليه راجعون، دعني حتّى اُصلّي ركعتين ثمّ بكى بكاءً شديداً وأنا خلفه، ثم قال: اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ورجائي في كلّ شدّة. الدعاء، ثمّ قال: اصنع ما اُمرت به، فقلت: واللّه لا أفعل ولو ظننت أني اُقتل، فذهبت به لا واللّه ما أشكّ إِلا أنه يقتله قال: فلمّا انتهيت الى باب الستر قال: يا إِله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وإِله إبراهيم وإسحق ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله تولّ في هذه الغداة عافيتي ولا تسلّط عليّ أحداً من خلقك بشيء لا طاقة لي به، قال إبراهيم: ثمّ أدخلته عليه، قال: فاستوى جالساً، ثمّ أعاد عليه الكلام، فقال: قدّمت رِجلاً وأخّرت اُخرى، أما واللّه لأقتلنّك، فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت فارفق بي لقلّما أصحبك، فقال له أبو جعفر: انصرف، قال: ثمّ التفت الى عيسى بن علي(4) فقال: يا أبا العبّاس إلحقه فاسأله أبيَ أم به، قال: فخرج يشتدّ حتّى لحقه،
______________________________
(1) اتخلّص، وفي نسخة أتنحّى وكلاهما يناسب المقام.
(2) ابن عبد اللّه بن الحسن وينبغي أن تكون هذه الحجّة عام 144 قبل خروج محمّد، ولعلّ الاولتين كانتا عام 140 و147، ولا يلزم من ترتيب بيان الشريف ابن طاووس أن يكون على ترتيب السنين، لا سيمّا وهو لم يتعّرض لسنة الحجّ متى كانت.
(3) حفظت.
(4) ابن عبد اللّه بن العبّاس وهو عمّ المنصور.
{ 100 }
فقال: يا أبا عبد اللّه إِن أمير المؤمنين يقول لك: أبِك أم به؟ فقال: لا بل بي، فقال أبو جعفر: صدق(1).
قال إبراهيم بن جبلة: ثمّ خرجت فوجدته قاعداً ينتظرني يتشكّر لي صنيعي به واذا به يحمد اللّه ويقول: الحمد للّه الذي أدعوه فيجيبني وإِن كنت بطيئاً حين يدعوني، الدعاء.
الرابعة: يقول الشريف ابن طاووس: إِن هذه المرّة الرابعة هي التي استدعاه بها الى الكوفة، قال: يقول الفضل بن الربيع بعد أن ذكر سند الرواية اليه: قال أبي الربيع: بعث المنصور إبراهيم بن جبلة الى المدينة ليشخص جعفر بن محمّد، فحدّثني إبراهيم بعد قدومه بجعفر أنه لمّا دخل اليه فخبّره برسالة المنصور سمعته يقول: اللّهمّ أنت تقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، الدعاء. فلمّا قدّموا راحلته وخرج ليركب سمعته يقول: اللّهمّ بك أستفتح وبك أستنجح، الدعاء، قال: فلمّا دخلنا الكوفة نزل فصلّى ركعتين ثمّ رفع يده الى السماء فقال: اللّهمّ ربّ السموات وما أظلّت وربّ الأرضين السبع وما أقلّت، الدعاء، قال الربيع: فلمّا وافى الى حضرة المنصور دخلت فأخبرته بقدوم جعفر وإبراهيم فدعا المسيّب بن زهير الضبي فدفع اليه سيفاً وقال له: اذا دخل جعفر بن محمّد فخاطبته وأومأت اليه فاضرب عنقه ولا تستأمر(2)، فخرجت اليه وكان صديقاً الاقيه واعاشره اذا حججت فقلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه
______________________________
(1) إن هذا الكلام ظاهر في أنه بالقرب من وفاة الصادق عليه السلام فتكون الحجّة عام 147، إِلا أن تصريحه أولاً في أن كلامه كان قبل خروج محمّد يعيّن أن تكون الحجّة عام 144، ومن الغريب أنّ يصدّق المنصور كلام الصادق بعد أن يسأله أن البدأة بمن، وهو يلاقيه بما يلاقيه من سوء ومكروه.
(2) بالبناء للفاعل أي لا تشاور.
{ 101 }
عليه وآله إن هذا الجبّار قد أمر فيك بأمر اكره أن ألقاك به فإن كان في نفسك شيء تقوله وتوصيني به، فقال: لا يروعك ذلك فلو قد رآني لزال ذلك كلّه، ثمّ أخذ بمجامع الستر فقال: يا إِله جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، وإِله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله تولّني في هذه الغداة ولا تسلّط عليّ أحداً من خلقك بشيء لا طاقة لي به، ثمّ دخل فحرّك شفتيه بشيء لم أفهمه، فنظرت الى المنصور فما شبّهته إِلا بنار صبّ عليها ماء فخمدت، ثمّ جعل يسكن غضبه حتّى دنا منه جعفر بن محمّد عليهما السّلام وصار مع سريره، فوثب المنصور، وأخذ بيده ورفعه على سريره، ثمّ قال له يا أبا عبد اللّه يعزّ عليّ تعبك، وإنما أحضرتك لأشكو اليك أهلك قطعوا رحمي، وطعنوا في ديني، وألّبوا الناس عليّ، ولو ولّي هذا الأمر غيري ممّن هو أبعد رحماً مني لسمعوا له وأطاعوا، فقال له جعفر عليه السّلام: فأين يعدل بك عن سلفك الصالح أن أيّوب عليه السّلام ابتلي فصبر، وأن يوسف عليه السّلام ظُلم فغفر، وأن سليمان عليه السّلام اُعطي فشكر، فقال المنصور: قد صبرت وغفرت وشكرت.
ثمّ قال: يا أبا عبد اللّه حدّثنا حديثاً كنت سمعته منك في صلة الأرحام قال: نعم سمعت أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: البرّ وصلة الأرحام عمارة الديار وزيادة الأعمار، قال: ليس هذا هو، قال: حدّثني أبي عن جدّي، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: من أحبّ أن ينسأ(1) في أجله، ويعافى في بدنه، فليصل رحمه، قال: ليس هذا هو، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: رأيت رحماً متعلّقة بالعرش تشكو الى اللّه عزّ وجل قاطعها فقلت: يا جبرئيل وكم بينهم ؟ قال: سبعة آباء،
______________________________
(1) يؤخّر.
{ 102 }
فقال: ليس هذا هو، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: احتضر رجل بارّ في جواره رجل عاق، فقال اللّه عزّ وجل لمَلك الموت: يا مَلك الموت كم بقي من أجل العاق ؟ قال: ثلاثون سنة قال: حوّلها الى هذا البار(1) فقال المنصور: يا غلام ائتني بالغالية، فأتاه بها فجعل يغلفه بيده، ثمّ دفع اليه أربعة آلاف دينار، ودعا بدابته فأتى بها فجعل يقول: قدّم قدّم، الى أن اُتي بها عند سريره فركب جعفر بن محمّد عليهما السّلام وغذوت بين يديه، فسمعته يقول: الحمد للّه الذي أدعوه فيجيبني. الدعاء، فقلت: يا ابن رسول اللّه إِن هذا الجبّار يعرضني على السيف كلّ قليل، ولقد دعا المسيّب بن زهير فدفع اليه سيفاً وأمره أن يضرب عنقك وأني رأيتك تحرّك شفتيك حين دخلت بشيء لم أفهمه عنك، فقال: ليس هذا موضعه فرحت اليه عشيّاً، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لمّا الّبت عليه اليهود وفزارة وغطفان وهو قوله تبارك وتعالى «إِذ جاؤوكم من فوكم ومن أسفل منكم وإِذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون باللّه الظنونا»(2) وكان ذلك اليوم أغلظ يوم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فجعل يدخل ويخرج وينظر إِلى السماء فيقول: ضيقي تتّسعي، ثمّ خرج في بعض الليل فرأى شخصاً فقال لحذيفة: انظر من هذا، فقال: يا رسول اللّه هذا عليّ بن أبي طالب، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يا أبا الحسن أما خشيت أن تقع عليك عين، قال: وهبت نفسي للّه ولرسوله وخرجت حارساً للمسلمين في هذه الليلة، فما انقضى كلامهما حتّى نزل جبرئيل، قال: يا محمّد إِن اللّه يقرأ عليك السّلام
______________________________
(1) لا يخفى على الصادق عليه السلام الحديث الذي أراده المنصور، وإنما كثر عليه أحاديث الرحم، ليعرّفه موقفه من ذوي رحمه.
(2) الأحزاب: 10.
{ 103 }
ويقول لك: قد رأيت موقف علي منذ الليلة وأهديت اليه من مكنون علمي كلمات لا يتعوّذ بها عند شيطان مارد، ولا سلطان جائر، ولا حرق ولا غرق، ولا هدم ولا ردم، ولا سبع ضار، ولا لصّ، إِلا آمنه اللّه من ذلك، وهو أن يقول: اللّهمّ احرسنا بعينك التي لا تنام... الدعاء.
الخامسة: وقد استدعاه بها المنصور الى بغداد قبل قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن(1) روى ذلك الشريف رضيّ الدين بسنده عن محمّد بن الربيع الحاجب، قال: قعد المنصور يوماً في قصره بالقبّة الخضراء، وكانت قبل قتل محمّد وإبراهيم تدعى الحمراء، وكان له يوم يقعد فيه ويسمّى ذلك اليوم يوم الذبح، وقد كان أشخص جعفر بن محمّد من المدينة، فلم يزل في الحمراء نهاره كلّه حتى جاءالليل ومضى اكثره قال: ثمّ دعا الربيع فقال له: يا ربيع إِنك تعرف موضعك مني وأنه يكون بي الخير ولا تظهر عليه اُمّهات الأولاد وتكون أنت المعالج له، قال: قلت: يا أمير المؤمنين ذلك فضل اللّه عليّ وفضل أمير المؤمنين وما فوقي في النصح غاية، قال: كذلك أنت صر الساعة الى جعفر بن محمّد بن فاطمة فأتني به على الحال التي تجده فيها لا تغيّر شيئاً ممّا عليه، فقلت: إِنا للّه وإِنا اليه راجعون، هذا واللّه هو العطب، إِن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله وذهبت الآخرة، وإِن لم أذهب في أمره قتلني وقتل نسلي وأخذ أموالي، فميّزت بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي الى الدنيا، قال محمّد بن الربيع: فدعاني أبي وكنت أفظّ ولده وأغلظهم قلباً، فقال لي: إمض الى
______________________________
(1) كان قتلهما عام 145، وانتقال المنصور الى بغداد عام 146، فلا وجه لأن يكون استدعاؤه الى بغداد قبل قتلهما، فإما أن يكون الى الكوفة والغلط من النسّاخ أو الراوي، أو الاستدعاء بعد قتلهما.
{ 104 }
جعفر بن محمّد فتسلّق عليه حائطه ولا تستفتح عليه بابه فيغيّر بعض ما هو عليه ولكن انزل عليه نزلاً، فأتِ به على الحال التي هو فيها، قال: فأتيته وقد ذهب الليل إِلا أقلّه، فأمرت بنصب السلاليم وتسلّقت عليه الحائط ونزلت داره فوجدته قائماً يصلّي وعليه قميص ومنديل وقد ائترز به، فلما سلّم من صلاته قلت: أجب أمير المؤمنين فقال: دعني أدعو وألبس ثيابي، فقلت: ليس الى ذلك من سبيل، قال لي: فأدخل المغتسل فأتطهّر، قال: قلت: وليس الى ذلك أيضاً سبيل، فلا تشغل نفسك فإني لا أدعك تغيّر شيئاً، قال: فأخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله، وكان قد جاوز السبعين(1) فلمّا مضى بعض الطريق ضعف الشيخ فرحمته فقلت له: اركب، فركب بغلَ شاكري(2) كان معنا، ثمّ صرنا الى الربيع فسمعته وهو يقول: ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل ويستحثّه استحثاثاً شديداً، فلمّا أن وقعت عين الربيع على جعفر وهو بتلك الحال بكى، وكان الربيع يتشيّع، فقال له جعفر عليه السّلام: يا ربيع أنا أعلم ميلك الينا فدعني اُصلّي ركعتين وأدعو، قال: شأنك وما تشاء، فصلّى ركعتين خفّفهما ثمّ دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه إِلا أنه دعاء طويل، والمنصور في ذلك كلّه يستحثّ الربيع، فلمّا فرغ من دعائه على طوله أخذ الربيع بذراعه فأدخله على المنصور فلمّا صار في صحن الايوان وقف ثمّ حرّك شفتيه بشيء ما أدري ما هو، ثمّ أدخلته فوقف بين يديه، فلمّا نظر اليه قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل هذا البيت من بني العبّاس وما يزيدك اللّه بذلك إِلا شدّة حسد ونكد، ما تبلغ به ما تقدره، فقال له: واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من
______________________________
(1) لم يتجاوز الصادق السبعين عاماً وإِنما كان حدساً من محمّد، وأحسبه لما كان يشاهده من ضعفه.
(2) أجير ومستخدم.
{ 105 }
ذلك، هذا ولقد كنت في ولاية بني اُميّة وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنهم لا حقّ لهم في هذا الأمر فواللّه ما بغيت عليهم، ولا بلغهم عنّي مع جفائهم الذي كان لي، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وأنت ابن عمّي وأمسّ الخلق بي رحماً، واكثرهم عطاءً وبرَّاً، فكيف أفعل هذا، فأطرق المنصور ساعة، وكان على لبد(1) وعن يساره مرفقة خز معانيّة(2) وتحت لبده سيف ذو فقار(3) كان لا يفارقه إِذا قعد في القبّة، فقال: أبطلت وأثمت، ثمّ رفع ثنّي الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها اليه، وقال: هذه كتبك الى أهل خراسان تدعوهم الى نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني، فقال: واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي، واني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال، وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّي قريب، فقال: لا ولا كرامة، ثمّ أطرق وضرب يده على السيف فسلَّ منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه، فقلت: انّا للّه ذهب واللّه الرجل، ثمّ ردَّ السّيف وقال: يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشقّ عصا المسلمين، تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعيّة والأولياء، فقال: لا واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطّي ولا خاتمي، فانتضى من السيف ذراعاً، فقلت: إِنا للّه مضى الرجل وجعلت في نفسي إِن أمرني فيه بأمر أن أعصيه، لأني ظننت أنه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفراً، فقلت إِن أمرني ضربت المنصور وإِن أتى ذلك عليّ وعلى ولدي وتبت إلى اللّه عزّ وجل ممّا كنت نويت فيه أولاً، فما
______________________________
(1) لعلّه بساط من صوف.
(2) ظاهر في النسبة الى معان.
(3) الفقار خرزات الظهر، ويسمّى السيف بذي الفقار اذا كان في متنه حزوز تشبه فقار الظهر.
{ 106 }
زال يعاتبه وجعفر يعتذر اليه، ثمّ انتضى السيف كلّه إِلا شيئاً يسيراً منه، فقلت: إِنا للّه مضى واللّه الرجل، ثمّ أغمد السيف وأطرق ساعة، ثمّ رفع رأسه وقال له: اظنّك صادقاً، يا ربيع هات العيبة من موضع فيه في القبّة، فأتيت بها، فقال: ادخل يدك فيها وكانت مملوءة غالية وضعها في لحيته، وكانت بيضاء فاسودَّت، وقال لي: احمله على فاره من دوابي التي أركبها واعطه عشرة آلاف درهم وشيّعه الى منزله مكرّماً وخيّره إِذا أتيت به المنزل بين المقام عندنا فنكرمه، أو الانصراف إِلى مدينة جدّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فخرجنا من عنده وأنا مسرور فرح لسلامة جعفر عليه السّلام ومتعجّب ممّا أراده المنصور وما صار اليه من كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر اللّه عزّ وجل فلمّا صرنا في الصحن قلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لا عجب ممّا عمل عليه هذا في بابك، وما أصارك اللّه اليه من كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر اللّه عزّ وجل، وقد سمعتك تدعو عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو إِلا أنه طويل، ورأيتك حرّكت شفتيك ههنا اعني الصحن بشيء لم أدر ما هو، فقال لي: أمّا الأوّل فدعاء الكرب والشدائد، لم أدعُ به على أحد قبل يومئذٍ، جعلته عوضاً، من دعاء كثير أدعو به إِذا قضيت صلاتي، لأني لم أترك أن أدعو ما كنت أدعو به، وأمّا الذي حرّكت به شفتي فهو دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يوم الأحزاب، حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: لمّا كان يوم الأحزاب كانت المدينة كالاكليل من جنود المشركين وكانوا كما قال اللّه عزّ وجل: «إِذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم»(1) ثمّ ذكر الدعاء، ثمّ قال: لولا الخوف من أمير المؤمنين
______________________________
(1) الأحزاب: 10.
{ 107 }
لرفعت اليك هذا المال، ولكن قد كنت طلبت منّي أرضي بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار فلم أبعك وقد وهبتها لك، قلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِنما رغبتي في الدعاء الأوّل والثاني، فاذا فعلت هذا فهو البرّ ولا حاجة لي الآن في الأرض، فقال لي: إِنّا أهل بيت لا نرجع في معروفنا، نحن ننسخك الدعاء ونسلم اليك الأرض صر معي إِلى المنزل فصرت معه كما تقدّم المنصور به، وكتب لي بعهد الأرض وأملى عليّ دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأملى عليّ الذي دعاه بعد الركعتين ثمّ قال: فقلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لقد كثر استحثاث المنصور واستعجاله إِيّاي وأنت تدعو بهذا الدعاء الطويل متمهّلاً كأنّك لم تخفه، قال: فقال لي: نعم قد كنت أدعو بعد صلاة الفجر بدعاء لا بدّ منه، فأمّا الركعتان فهما صلاة الغداة خفّفتهما ودعوت بذلك الدعاء بعدهما، فقلت له: ما خفت أبا جعفر وقد أعدَّ لك ما أعدّ، قال: ما أعدّ! خيفة اللّه دون خيفته، وكان اللّه عزّ وجل في صدري أعظم منه، قال الربيع: كان في قلبي ما رأيت من المنصور ومن غضبه وحنقه على جعفر ومن الجلالة في اتساعه ما لم أظنّه يكون في بشر، فلمّا وجدت منه خلوة وطيب نفس قلت: يا أمير المؤمنين رأيت منك عجباً، قال: ما هو ؟ قلت: يا أمير المؤمنين رأيت غضبك على جعفر غضباً لم أرك غضبته على أحد قط، ولا على عبد اللّه بن الحسن ولا على غيره من كلّ الناس حتّى بلغ بك الأمر أن تقتله بالسيف وحتّى أنك أخرجت من سيفك شبراً ثمّ أغمدته، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجت منه ذراعاً، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجته كلّه إِلا شيئاً يسيراً، فلم أشكّ في قتلك له، ثمّ انحلّ ذلك كلّه، فعاد رضى حتّى أمرتني فسّودت لحيته بالغالية التي لا يتغلّف منها إِلا أنت ولا تغلّف منها ولدك المهدي ولا مَن ولّيته عهدك، ولا عمومتك، وأجزته وحملته وأمرتني بتشييعه مكرماً، فقال: ويحَك يا ربيع، ليس هو ممّا ينبغي أن
{ 108 }
تحدّث به وستره أولى، ولا أحبّ أن يبلغ ولد فاطمة فيفخرون ويتيهون بذلك علينا، حسبنا ما نحن فيه ولكن لا اكتمك شيئاً، انظر الى من في الدار فنحّهم، قال: فنحّيت كلّ مَن في الدار، ثمّ قال لي: ارجع ولا تبق أحداً، ففعلت، ثمّ قال: ليس إِلا أنا وأنت، واللّه لئن سمعت ما ألقيه عليك من أحد لأقتلنّك وولدك وأهلك أجمعين، ولآخذنّ مالك، قال: قلت: يا أمير المؤمنين أعيذك باللّه، قال: يا ربيع كنت مصرّاً على قتل جعفر، ولا أسمع له قولاً، ولا أقبل له عذراً، فلمّا هممت به في المرّة الاُولى تمثّل لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فإذا هو حائل بيني وبينه باسط كفّيه حاسر عن ذراعيه قد عبس وقطب في وجهي، فصرفت وجهي عنه، ثمّ هممت به في المرّة الثانية وانتضيت من السيف اكثر ممّا انتضيت منه في المرّة الاُولى فإذا أنا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد قرب منّي ودنا شديداً وهمّ بي لو فعلت لفعل فأمسكت، ثمّ تجاسرت وقلت: هذا من فعل الربيء(1) ثمّ انتضيت السيف في الثالثة فتمثّل لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باسطاً ذراعيه قد تشمّر واحمّر وعبس وقطب، حتّى كاد أن يضع يده عليّ فخفت واللّه لو فعلت لفعل، وكان منّي ما رأيت، هؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إِلا جاهل لا حظّ له في الشريعة، فإيّاك أن يسمع هذا منك أحد، قال محمّد بن الربيع: فما حدّثني به حتّى مات المنصور، وما حدّثت به حتّى مات المهدي، وموسى(2) وهارون(3) وقتل محمّد.
______________________________
(1) كفعيل التابع للجن.
(2) الهادي.
(3) الرشيد.
(4) الأمين.
{ 109 }
السادسة:
يقول الشريف رضيّ الدين بن طاووس: وقد استدعاه بها المنصور إِلى بغداد مرّة ثانية بعد قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن(1) وقد روى ذلك عن صفوان من مهران الجمّال(2) قال: رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم إِلى أبي جعفر المنصور، وذلك بعد قتله لمحمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن، إن جعفر بن محمّد بعث مولاه المعلّى بن خنيس(3) لجباية الأموال من شيعته، وأنه كان يمدّ بها محمّد بن عبد اللّه، فكاد المنصور أن يأكل كفّه على جعفر بن محمّد غيظاً، وكتب إِلى عمّه داود بن علي، وداود أمير المدينة(4) أن يسيّر اليه جعفر بن محمّد لا يرخص له في التلوم(5) والبقاء فبعث اليه داود بكتاب المنصور، وقال له: اعمل في المسير إِلى أمير المؤمنين في غد ولا تتأخّر، قال صفوان: وكنت بالمدينة يومئذٍ فأنفذ اليّ جعفر عليه السّلام فصرت اليه فقال لي: تعهّد راحلتنا فإنا غادون في غد إِن شاء اللّه إِن العراق، ونهض من وقته وأنا معه إِلى مسجد النبي صلّى اللّه عليه وآله وكان ذلك بين الاُولى والعصر فركع فيه ركعات، ثمّ رفع يديه فحفظت يومئذٍ من دعائه: «يا من ليس له ابتداء ولا انتهاء(6) يا من ليس له أمد ولا نهاية» الدعاء.______________________________
(1) وكان قتلهما عام 145، وقد عرفت من تعليقتنا على المرّة الخامسة أن تلك الدفعة لا تصحّ أن تكون إِلى بغداد إِلا أن تكون بعد قتلهما، وأن بين انتقال المنصور إِلى بغداد وبين وفاة الصادق سنتين وبعيد أن يرسل اليه في هاتين السنتين مرّات عديدة.
(2) سيأتي في المشاهير من ثقات الرواة لأبي عبد اللّه عليه السلام.
(3) سيأتي في ثقات المشاهير أيضاً.
(4) وداود هذا هو الذي قتل المعلّى بن خنيس واستلب أمواله، وهمّ بالصادق عليه السلام، فدعا عليه الصادق فعاجله اللّه بالهلاك، كما سيأتي في باب استجابة دعائه.
(5) التمكّث.
(6) ولا انقضاء في نسخة.
{ 110 }
قال صفوان: فلمّا أصبح أبو عبد اللّه عليه السّلام رحلت له الناقة وسار متوجّهاً إِلى العراق حتّى قدم مدينة أبي جعفر(1) وأقبل حتّى استأذن فأذن له، قال صفوان: فأخبرني بعض من شهده عند أبي جعفر، قال: فلما رآه قرَّبه وأدناه، ثمّ استدعى قصّة الرافع على أبي عبد اللّه عليه السّلام، يقول في قصّته: إِن المعلّى بن خنيس مولى جعفر بن محمّد يجبي له الأموال من جميع الآفاق، وإِنه مدَّ بها محمّد بن عبد اللّه، فدفع اليه القصّة فقرأها أبو عبد اللّه فأقبل عليه المنصور فقال: يا جعفر بن محمّد ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلّى بن خنيس ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: معاذ اللّه من ذلك يا أمير المؤمنين، قال له: ألا تحلف على براءتك من ذلك بالطلاق والعتاق، قال: نعم أحلف باللّه إنه ما كان من ذلك شيء، قال أبو جعفر: لا بل تحلف بالطلاق والعتاق فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أما ترضى بيميني باللّه الذي لا إِله إِلا هو، قال له أبو جعفر: لا تتفقّه عليّ، فقال أبو عبد اللّه: وأين يذهب بالفقه مني يا أمير المؤمنين(2) قال له: دع عنك هذا فإنني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عليك حتى يواجهك، فأتوا بالرجل وسألوه بحضرة جعفر عليه السّلام فقال: نعم هذا صحيح، وهذا جعفر بن محمّد، والذي قلت فيه كما قلت، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: تحلف أيها الرجل إِن هذا الذي رفعته صحيح، قال: نعم، ثمّ ابتدأ الرجل باليمين فقال: واللّه الذي لا إِله إِلا هو الطالب الغالب الحيّ القيوم، فقال
______________________________
(1) وهي بغداد، وكانت تسمّى مدينة أبي جعفر لأنه هو الذي بناها وكان انتقاله اليها عام 146، ولعلّه في هذه السنة دعا الصادق اليها.
(2) ما كان ليخفى على المنصور ما عليه أهل البيت في اليمين بالطلاق والعتاق وأنه لا يحنث الحالف كاذباً، أي لا تطلق نساؤه، ولا تعتق مماليكه، ولكنه حاول أن يحطّ من كرامة الصادق وألا يثبت له فقه خاص.
{ 111 }
له جعفر عليه السّلام: لا تعجل في يمينك، فإنني أستحلفك، قال المنصور: ما أنكرت من هذه اليمين ؟ قال: إن اللّه تعالى حيّ كريم يستحي من عبده إِذا أثنى عليه أن يعاجله بالعقوبة لمدحه له، ولكن قل أيها الرجل: أبرأ الى اللّه من حوله وقوّته وألجأ الى حولي وقوّتي إِني لصادق برّ فيما أقول، فقال المنصور للقرشي: إحلف بما استحلفك به أبو عبد اللّه فحلف الرجل بهذه اليمين فلم يستتمّ الكلام حتّى أجذم وخرّ ميّتاً، فراع أبا جعفر ذلك وارتعدت فرائصه، فقال: يا أبا عبد اللّه: سر من غد الى حرم جدّك إِن اخترت ذلك، وإِن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرّك، فو اللّه لا قبلت قول أحد بعدها أبداً»(1).
السابعة: ذكر الشريف أبو القاسم في المرّة السابعة رواية عن محمّد بن عبد اللّه الاسكندري(2) وأنه كان من ندماء المنصور وخواصّه، يقول محمّد، دخلت عليه يوماً فرأيته مغتمّاً وهو يتنفّس نفساً بارداً، فقلت: ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنين، فقال لي: يا محمّد لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة أو يزيدون(3) وقد بقي سيّدهم وإِمامهم، فقلت له: من ذلك ؟ قال: جعفر بن محمّد الصادق، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه رجل أنحلته العبادة واشتغل باللّه عن طلب المُلك والخلافة، فقال: يا محمّد لقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن المُلك
______________________________
(1) وذكر هذه الكرامة لأبي عبد اللّه عليه السلام جملة من علماء أهل السنّة عند استطرادهم لحياة الصادق، منهم الشبلنجي في نور الأبصار، والسبط في التذكرة، وابن طلحة في مطالب السؤل، وابن الصبّاغ في الفصول، وابن حجر في الصواعق وغيرهم.
(2) ليس له ذكر في كتب رجالنا، ولم نعرف عنه رواية غير هذه، وبها ذكره المتأخّرون، والرواية صريحة في تشيّعه.
(3) أحسب أن هذه القصّة كانت بعد مقتل محمّد وإبراهيم لأن الحرب بالمدينة وبباخمرى والسجون في الهاشميّة أهلكت العدد الكثير من العلويّين هذا سوى من قتله صبراً، ولعلّ إرساله عليه كان الى بغداد أيضاً.
{ 112 }
عقيم، وقد آليت على نفسي ألا امسي عشيّتي هذه أو أفرغ منه، قال محمّد: فواللّه لقد ضاقت عليّ الأرض برحبها، ثمّ دعا سيّافاً وقال له: اذا انا أحضرت أبا عبد اللّه الصادق وشغلته بالحديث ووضعت قلنسوتي عن رأسي فهي العلامة بيني وبينك فاضرب عنقه، ثمّ أحضر أبا عبد اللّه عليه السّلام في تلك الساعة ولحقته في الدار وهو يحرّك شفتيه فلم أدرِ ما الذي قرأ، فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار، ورأيت أبا جعفر المنصور وهو يمشي بين يديه حافي القدمين مكشوف الرأس قد اصطكت أسنانه وارتعدت فرائصه، يحمرّ ساعة ويصفرّ اُخرى، وأخذ بعضد أبي عبد اللّه وأجلسه على سرير ملكه وجثا بين يديه كما يجثو العبد بين يدي مولاه، ثمّ قال: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما الذي جاء بك في هذه الساعة ؟ قال: جئتك يا أمير المؤمنين طاعة للّه ولرسوله صلّى اللّه عليه وآله ولأمير المؤمنين أدام اللّه عزّه(1).
قال: ما دعوتك، والغلط من الرسول، ثمّ قال: سل حاجتك، فقال: أسألك ألا تدعوني لغير شغل، قال: لك ذلك وغير ذلك، ثمّ انصرف أبو عبد اللّه عليه السّلام سريعاً، وحمدت اللّه عزّ وجل كثيراً، ودعا أبو جعفر المنصور بالدواويج(2) ونام ولم ينتبه إِلا في نصف الليل، فلمّا انتبه كنت عند رأسه جالساً فسرَّه ذلك، وقال: لا تخرج حتّى أقضي ما فاتني من صلاتي فاُحدّثك بحديث، فلمّا قضى صلاته أقبل على محمّد وحدّثه بما شاهده من الأهوال التي افزعته عند مجيء الصادق، وكان ذلك سبباً لانصرافه عن قتله وداعياً لاحترامه والاحسان اليه.
يقول محمّد: قلت له: ليس هذا بعجيب يا أمير المؤمنين، فإن أبا عبد اللّه
______________________________
(1) لا بدع لو قال له: طاعة للّه ولرسوله ولأمير المؤمنين، وإن لم تكن للمنصور طاعة، لأن الخوف على النفس والنفيس يلزمه بالمجيء، فتكون المحافظة عليهما واجبة والتخلّف إلقاء بالتهلكة.
(2) بالجيم المعجمة جمع دواج كرمان وكغراب: اللحاف الذي يلبس.
{ 113 }
وارث علم النبي صلّى اللّه عليه وآله وجدّه أمير المؤمنين عليه السّلام وعنده من الأسماء وسائر الدعوات التي لو قرأها على الليل لأنار، ولو قرأها على النهار لأظلم، ولو قرأها على الأمواج في البحور لسكنت(1).
قال محمّد: فقلت له بعد أيام: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أخرج الى زيارة أبي عبد اللّه الصادق ؟ فأجاب ولم يأب، فدخلت عليه وسلّمت وقلت له: أسألك يا مولاي بحقّ جدّك محمّد رسول ربّ العزّة صلّى اللّه عليه وآله أن تعلّمني الدعاء الذي كنت تقرأه عند دخولك على أبي جعفر المنصور، قال: لك ذلك، ثمّ أخذ الصادق يصف لمحمّد شأن الدعاء قبل أن يورده له، ثم ذكر الدعاء وهو طويل(2).
هذه بعض المحن التي شاهدها الصادق عليه السّلام من المنصور وتخلّص فيها ممّا أراده فيه بدعائه، وقد ذكر ابن طاووس طاب ثراه دفعتين اُخريين يهمّ بهما المنصور في قتل الصادق فيدفع اللّه عنه فيهما سوءه.
وذكر بعض هذه المحن وسلامة الصادق من القتل فيها بدعائه جملة من أرباب التأليف عند استطرادهم لأحوال الصادق عليه السّلام، أمثال الشبلنجي في نور الأبصار، والسبط في التذكرة، وابن طلحة في مطالب السؤل، وابن الصبّاغ في الفصول المهمّة، وابن حجر في الصواعق، والشيخ سليمان في الينابيع، والكليني في الكافي في كتاب الدعاء، والمجلسي في البحار ج 11، وابن شهراشوب في المناقب، والشيخ المفيد في الإرشاد، وغيرهم.
______________________________
(1) هذا الكلام يدلّنا على معرفة محمّد فوق تشيّعه، والعجب كيف يصارح المنصور بهذا، ولا عجب فإن المنصور أعلم من محمّد بشأن الصادق عليه السلام.
(2) لم يفتنا ذكر هذه الأدعية إِلا لأننا جمعناها في صحائف اُخرى مع ما ظفرنا به من أدعيته الاُخرى فكان ما اجتمع عندنا كما أشرنا اليه ما يناهز 400 صحيفة بقطع هذا الكتاب مع علمنا أنه قد فاتنا الشيء الكثير من دعائه.
رزق أهل البيت فيما رزقوا الحكمة وكفى بها فضيلة، ولربما تعجب من مواقف الصادق مع المنصور ورجاله فإنك تارة تجده يلين بالقول ويجهد في براءته واُخرى يلاقيهم بالشدّة والعنف دون أن يعترف بشيء وإِن أساءهم موقفه.
والصادق أعرف بما يقول ويفعل، فقد يلين أن عرف أن اللين أسلم، وقد يخشن اذا عرف أن الخشونة ألزم، وليس اللين محموداً في جميع الأوقات والحالات، غير أن التمييز بين المواقف يحتاج الى حكمة وعرفان، فبينا تجده يخاطب المنصور بقوله: «واللّه ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي وإني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيرّني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّي قريب» واذا به يقول للمنصور على لسان الرسول: «فإن كففت وإِلا أجريت اسمك على اللّه عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات» الى كثير من الموقفين، كما عرفت كثيراً من مواقف اللين، وستعرف الآن بعض المواقف من الشدّة.
إِنّا وإِن غبنا عن ذلك العهد لكننا لم نغب عن معرفة نفسيّة الامام الصادق عليه السّلام ونفسيّة الدوانيقي، كما لم نغب عن تأريخ الحوادث في ذلك العهد.
إِن المنصور وإِن مَلك البلاد باسم الخلافة لكنه يعلم أن صاحبها حقاً هو الصادق عليه السّلام، وأنه صاحب كلّ فضيلة وأنه لو أراد الأمر لم يطق المنصور
{ 115 }
أن يحول دونه، فمن ثمّ تراه أحياناً يصفح عن وخزات الصادق عليه السّلام لا يريد أن تزداد الملاحاة في الكلام فتثير كوامن النفوس فتهيج ما يخافه من وثبة وثورة، غير أن شدّة الحبّ للمُلك والمُلك عقيم، والحبّ يعمي ويصمّ، تبعث المنصور على الاساءة للصادق والسعي لإهلاكه، فاذا عرف الصادق أن الموقف من الأوّل انبعث لإظهار الحقّ، وأن الموقف من الثاني قابله بلين ليكفّ بغيه وعدوانه.
وها نحن أوّلاً نورد بعض ما كان من الصادق مع المنصور وولاته من المواقف التي يعلن فيها بالحقّ غير مكترث بما له من سطوة ولولاته من قسوة.
سأل المنصور الصادق عليه السّلام يوماً عن الذباب وهو يتطايح على وجهه حتّى أضجره فقال له: يا أبا عبد اللّه لِم خلق اللّه الذباب ؟ فقال الصادق عليه السّلام: ليذلّ به الجبابرة(1) فسكت المنصور علماً منه أنّه لو ردّ عليه لوخزه بما هو أمضّ جرحاً، وأنفذ طعناً.
وكتب اليه المنصور مرّة: لِم لا تغشانا كما تغشانا الناس ؟ فأجابه الصادق عليه السّلام: «ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّيك، ولا تراها نقمة فنعزّيك، فما نصنع عندك» فكتب اليه: تصحبنا لتنصحنا، فأجابه: «من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك» فقال المنصور: واللّه لقد ميز عندي منازل من يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة، وانه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا(2).
أقول: إِن المنصور ما أراد النصيحة لما يصلحه، ولو أراد صلاح نفسه
______________________________
(1) نور الأبصار للشبلنجي: ص 141.
(2) كشف الغمّة في أحوال الصادق عليه السلام عن تذكرة ابن حمدون: 2/208.
{ 116 }
لاعتزل الأمر لئلا يبوء بإثم هذه الاُمّة، ولكنه أراد أن يستصفي الصادق ويجعله من أتباعه، فيعلم الناس أنه الامام غير مدافع، وتنقطع الشيعة عن مراجعة الصادق، ويظهر لهم أنه تبع للمنصور، والامام لا يكون تبعاً لأرباب السلطان باختياره، والصادق لا يخفى عليه قصد المنصور.
وكلمته هذه تعطينا درساً بليغاً عن مواقف الناس مع الملوك والاُمراء وعن منازل المتزلّفين اليهم، وكيف يجب أن تكون مواقف رجال الدين معهم.
واستقدمه المنصور مرّة وهو غضبان عليه، فلمّا دخل عليه الصادق عليه السّلام، قال له: يا جعفر قد علمت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال لأبيك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: لولا أن تقول فيك طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك قولاً لا تمرّ بملأ إِلا أخذوا من تراب قدميك يستشفون به، وقال علي عليه السّلام: يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي: محبّ غال ومبغض مفرط، قال ذلك اعتذاراً منه أنه لا يرضى بما يقول فيه الغالي والمفرط، ولعمري أن عيسى بن مريم عليه السّلام لو سكت عمّا قالت النصارى فيه لعذبه اللّه، ولقد تعلم ما يقال فيك من الزور والبهتان، وإمساكك عن ذلك ورضاك به سخط الديّان، زعم أوغاد الحجاز ورعاع الناس أنك حبر الدهر وناموسه، وحجّة المعبود وترجمانه، وعيبة علمه وميزان قسطه، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة الى ضياء النور، وأن اللّه لا يقبل من عامل جهل حدّك في الدنيا عملاً، ولا يرفع له يوم القيامة وزناً، فنسبوك إِلى غير حدّك، وقالوا فيك ما ليس فيك، فقل فإن أوّل من قال الحقّ جدّك، وأوّل من صدقه عليه أبوك، وأنت حريّ أن تقتصّ آثارهما، وتسلك سبيلهما.
فقال عليه السّلام: أنا فرع من فروع الزيتونة، وقنديل من قناديل بيت
{ 117 }
النبوّة، وأديب السفرة، وربيب الكرام البررة، ومصباح من مصبايح المشكاة التي فيها نور النور، وصفوة الكلمة الباقية في عقب المصطفين الى يوم الحشر.
فالتفت المنصور الى جلسائه فقال: هذا قد حالني على بحر مواج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه، تحار فيه العلماء، ويغرق فيه السبحاء(1) ويضيق بالسابح عرض الفضاء، هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء، الَّذي لا يجوز نفيه، ولا يحلّ قتله، ولولا ما تجمعني وإِيّاه شجرة طاب أصلها وبسق فرعها، وعذب ثمرها، وبوركت في الذر، وقدّست في الزبر، لكان منّي ما لا يحمد في العواقب، لما يبلغني عنه من شدّة عيبه لنا وسوء القول فينا.
فقال الصادق عليه السّلام: لا تقبل في ذي رحمك وأهل الرعاية من أهل بيتك قول من حرّم اللّه عليه الجنّة، وجعل مأواه النار، فإن النمّام شاهد زور، وشريك إبليس في الإغراء بين الناس فقد قال اللّه تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين»(2) ونحن لك أنصار وأعوان، ولملكك دعائم وأركان، ما أمرت بالمعروف والاحسان، وأمضيت في الرعيّة أحكام القرآن، وأرغمت بطاعتك للّه أنف الشيطان، وإِن كان يجب عليك في سعة فهمك، وكثرة علمك، ومعرفتك بآداب اللّه أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك، فإن المكافي ليس بالواصل، إِنما الواصل من إِذا قطعته رحمه وصلها، فصل رحمك يزد اللّه في عمرك، ويخفّف عنك الحساب يوم حشرك، فقال المنصور: قد صفحت عنك لقدرك، وتجاوزت عنك لصدقك، فحدّثني عن نفسك بحديث
______________________________
(1) جمع سابح.
(2) الحجرات: 6.
{ 118 }
أتعظ به ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات، فقال الصادق عليه السّلام:
عليك بالحلم فإنه ركن العلم، واملك نفسك عند أسباب القدرة فإنك إِن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظاً، أو تداوى حقداً أو يحبّ أن يذكر بالصولة، واعلم بأنك إن عاقبت مستحقّاً لم تكن غاية ماتوصف به إِلا العدل، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر، فقال المنصور: وعظت فأحسنت، وقلت فأوجزت(1).
أقول: إِن أمثال هذه المواقف تعطيك دروساً وافيه عمّا كان عليه أهل ذلك العصر من سياسة وعلم واعتقادها وغيرها، وهنا نستطيع أن نتعرّف عدّة اُمور:
1 - إِن المنصور يريد ألا يظهر الصادق بمظهر الامامة فحاول أن يخدعه أمام الناس بتلك الكلمات الليّنة، وهنا تعرف دهاء المنصور، لأن العبّاسيّين إِنما تربّعوا على الدست باسم الامامة والخلافة، فلو كان هناك إِمام آخر يرى شطر من الاُمّة أنه صاحب المنبر والتاج لا يتمّ لهم أمر، وهو يريد ألا يعارضه أحد في سلطانهم، فكان المنصور يدفع عن عرشه بالشدّة مرّة وباللين اُخرى فكان من سياسته أن جابه الصادق أمام ملأ من الناس بهذا القول وحسب أنّ الصادق سوف يبطل ما يقوله الناس فيه، وبه يحصل ما يريد، وهو يعلم أنّ الصادق لا يجبهه بالردّ، حذراً من سطوته.
2 - إِن الصادق إِمام بجعل إِلهي كما يرى ذلك ويراه الشيعة فيه، والامامة في أهل البيت وفي الصادق ليست وليدة عصر المنصور، وإِنما هي من عهد صاحب الرسالة، فالامام الصادق عليه السّلام وقع بين لحيي لهذم فإنه إِن
______________________________
(1) بحار الأنوار: 47/168 في أحوال الصادق عليه السلام.
{ 119 }
جارى المنصور فقد أبطل إِمامة إِلهية، وإِن عارضه لا يأمن من شرّه، فمن ثمّ أجابه بكلمات مجملة لا تصرّح بالامامة ولا تبطل قول الناس فيه، ولذا قال المنصور «هذا قد حالني على بحر موّاج لا يدرك طرفه».
3 - إِن قول الشيعة في الامام من ذلك اليوم على ما هو عليه اليوم، وهذا ما تقتضيه اُصول المذهب، وتدلّ عليه أخبار أهل البيت وآثارهم.
4 - إِن سكوت الامام الصادق وعدم إِبطاله لأن يكون كما يقول الناس برهان على أن حقيقة الامامة كما يحكيها المنصور عن الناس، ولو كانت حقيقتها غير هذا لقال الصادق: إِن هذا الرأي والقول باطل، بل لوجب عليه إِعلام الناس ببطلانه وردعهم عن هذا المعتقد.
5 - إِن القائل بإمامة الصادق عليه السّلام خلق كثير من الناس، ممّا جعل المنصور يفكّر فيه ويخشى من اتساعه ومن عقباه، فحاول أن يتذرّع بالصادق لمكافحته.
6 - إِن المرء بأصغريه، فالامام الصادق لو لم تسبق الأخبار والآثار عن منزلته، لكان في مثل كلامه ومثل موقفه هذا دلالة على ما له من مقام، أتراه كيف حاد عن جواب المنصور بما حيّره، دون أن يصرّح بخلاف ما حكاه عن الشيعة، ودون أن يصرّح بصحّة ما يرون، وكيف وعيت ذلك البيان منه عن نفسه، ببليغ من القول، وجليل من المعنى، وكيف وعظ المنصور بما يوافق شأن الملوك، وما يتفق وابتلاءهم كثيراً ؟
وهذا بعض ما يمكن استنباطه من هذا الموقف وفهم حال الناس ذلك اليوم، وكفى به عن سواه.
ودخل على المنصور في إِحدى جيئاته فاستقبله الربيع بالباب وقال له: يا أبا عبد اللّه ما أشدّ تلظّيه عليك لقد سمعته يقول: واللّه لا تركت له نخلاً إِلا
{ 120 }
عقرته، ولا مالاً إِلا نهبته، ولا ذرّية إِلا سبيتها، فلمّا دخل وسلّم وقعد قال له المنصور: أما واللّه لقد هممت ألا أترك لكم نخلاً إِلا عقرته، ولا مالاً إِلا أخذته، فقال له الصادق عليه السّلام: يا أمير المؤمنين إِن اللّه عزّ وجل ابتلى أيوب فصبر، وأعطى داود فشكر، وقدر(1) يوسف فغفر، وأنت من ذلك النسل ولا يأتي ذلك النسل إِلا بما يشبهه، فقال: صدقت قد عفوت عنكم، فقال الصادق: إِنه لم ينل أحد منّا أهل البيت دماً إِلا سلبه اللّه مُلكه، فغضب لذلك واستشاط، فقال: على رسلك إِن هذا المُلك كان في آل أبي سفيان فلمّا قتل يزيد حسيناً عليه السّلام سلبه اللّه مُلكه، فورثه آل مروان فلمّا قتل هشام زيداً سلبه اللّه ملكه فورثه مروان بن محمّد، فلمّا قتل مروان إبراهيم الامام سلبه اللّه مُلكه وأعطاكموه فقال: صدقت(2).
أقول: إِن الصادق عليه السّلام ما اعتذر عن قوله الأول، وإنما جاء بالشواهد عليه، سوى إنه استعرض ذكر أخيه إِبراهيم ليكفّ بذلك شرّه.
وللصادق عليه السّلام مواقف كثيرة على غرار ما ذكرناه اجتزينا عنها بما أوردناه.
وكانت للصادق عليه السّلام مواقف مع بعض ولاة المنصور ورجاله تشبه مواقفه مع المنصور في الشدّة، جاء إِلى المدينة والياً من قبل المنصور بعد مقتل محمّد وإبراهيم رجل يقال له شيبة بن عفال، يقول عبد اللّه بن سليمان التميمي: فلمّا حضرت الجمعة صار الى مسجد الرسول صلّى اللّه عليه وآله فرقى المنبر وحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد فإن عليّ بن أبي طالب شقّ عصا
______________________________
(1) أي جعله قادراً على الانتقام من اخوته.
(2) الكافي: كتاب الدعاء، باب الدعاء للكرب والهمّ والحزن: 2/563.
{ 121 }
المسلمين وحارب المؤمنين، وأراد الأمر لنفسه، ومنعه أهله، فحرّمه اللّه عليه، وأماته بغصّته، وهؤلاء ولده يتبعون أثره في الفساد وطلب الأمر بغير استحقاق له فهم في نواحي الأرض مقتولون، وبالدماء مضرّجون.
فعظم هذا الكلام منه على الناس، ولم يجسر أحد منهم أن ينطق بحرف فقام اليه رجل فقال: ونحمد اللّه ونصلّي على محمّد خاتم النبيين وسيّد المرسلين وعلى رسل اللّه وأنبيائه أجمعين، أمّا ما قلت من خير فنحن أهله، وأمّا ما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى، فاختبر يا من ركب غير راحلته واكل غير زاده إِرجع مأزوراً.
ثمّ أقبل على الناس فقال: ألا أنبئكم بأخلى الناس ميزاناً يوم القيامة وأبينهم خسراناً، من باع آخرته بدنيا غيره، وهو هذا الفاسق، فأسكت الناس وخرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرف، فسألت عن الرجل، فقيل لي: هذا جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم أجمعين.(1)
وعن الصادق عليه السّلام أنه قال: كنت عند زياد بن عبد اللّه وجماعة من أهل بيتي، فقال: يا بني فاطمة ما فضلكم على الناس ؟ فسكتوا، فقلت: إِن من فضلنا على الناس إِنّا لا نحبّ أن نكون من أحد سوانا، وليس أحد من الناس لا يحبّ أن يكون منّا.(2)
أقول: لقد جاءه بالمسكت وهذه الكلمة على اختصارها جمعت الفضائل واغنت عن الدلائل.
______________________________
(1) مجالس الشيخ الطوسي طاب ثراه، المجلس الثاني.
(2) بحار الأنوار: 47/166/8 في أحوال الصادق عليه السلام.
{ 122 }
وكان داود بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس والياً على المدينة من قِبل المنصور، فأرسل خلف المعلّى بن خنيس مولى الصادق عليه السّلام، وأراد أن يدلّه على أصحاب الصادق عليه السّلام وخواصّه، فتجاهل عليه المعلّى بمعرفتهم، فألحَّ عليه ثمّ هدّده بالقتل، فقال له المعلّى: أبالقتل تهدّدني واللّه لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم، وإِن أنت قتلتني تسعدني وأشقيتك، فلمّا رأى داود شدّة امتناع المعلّى قتله واستلب أمواله وكانت للصادق عليه السّلام.
فلما بلغ الصادق ذلك قام مغضباً يجرّ رداءه ودخل على داود وقال له: قتلت مولاي وأخذت مالي، أما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب.
ثمّ أن الصادق عليه السّلام طلب منه القود، فقدّم له قاتله فقتله به، وهو صاحب شرطته، ولمّا قدّموه ليقتل اقتصاصاً جعل يصيح: يأمروني أن أقتل لهم الناس ثم يقتلونني.
ثمّ أن داود بعد ذلك أرسل خمسة من الحرس خلف الصادق عليه السّلام وقال لهم: ائتوني به فإن أبى فأتوني برأسه، فدخلوا عليه وهو يصلّي فقالوا: أجب داود، قال: فإن لم اجب، قالوا: اُمرنا بأمر، قال: فانصرفوا فإنه خير لكم في دنياكم وآخرتكم، فأبوا إِلا خروجه، فرفع يديه فوضعهما على منكبيه ثمّ بسطهما، ثمّ دعا بسبابته فسمع يقول: الساعة الساعة، حتّى سمع صارخ عال، فقال لهم: إِن صاحبكم قد مات فانصرفوا.
أقول: هذه بعض مواقفه من رجال المنصور دعاه الى الشدّة فيها الغضب للحق، حين وجد أن الكلام أولى من السكوت، وإِن أبدى فيها صفحته للسيف.
قضت السياسة العبّاسيّة وحذق رجالها العاملين - والقدر من ورائهم - بتقويض مُلك بني مروان، والحيلولة دون نجاح الحسنيين، وانتشار روح الامامة في الناس للحسينيين، بيد أنهم أخطأوا في سياسة الإرهاق والإرهاب مع الصادق عليه السّلام، وحملهم إِيّاه إِلى العراق عدّة مرّات، لأنهم بهذا خدموا الإمامة وأظهروا أمر أهل البيت اكثر ممّا لو تركوه وادعاً في مكانه.
مازجت تربة العراق مودّة أهل البيت من بدء دخول الاسلام فيه، لا سيّما وقد صار برهة عاصمة سلطانهم، وبه مدفن عدّة من أعاظم رجالهم، وبه حوادث لهم لا ينساها الناس والتأريخ مادام بشر على وجه الأرض، ومادام تأريخ مسطور، كحادثة الطفّ وحادثة زيد.
وإِن للنظر والمشاهدة أثراً لا يبلغه السماع، فإن الجمال اذا اجتذب الأرواح الشفّافة، والعواطف الرقيقة، فبالعيان لا بالآذان، نعم ربّ شيء يكون لسماعه أثر - والاذن تعشق قبل العين أحياناً - إِلا أنّ السماع لا يماثل المشاهدة مهما بلغ تصويره مبلغاً يجذب القلوب والمشاعر.
كما أن للمظلوميّة عاطفة في القلوب، ورحمة في النفوس، لا سيّما اذا كان المظلوم من أماثل الناس، وأعاظم العلماء.
فإذا غلب على القلوب حبّ الصادق عليه السّلام بالسماع، واعتقد الناس
{ 124 }
إِمامته بالبرهان، فأين ذلك من مبلغ العيان، ومشاهدة البرهان، وسماع البيان، فكان لقدوم الصادق العراق بلاد الولاء للعترة، ولمشاهدة شمائله وفضائله، ولسماع عظاته ونوادر آياته أثر بليغ في ميل النفوس اليه، وانعطافهم عليه، فوق ما يجدونه من السماع عنه، وما كان الناس كلّهم يذهب للحجّ فيجتمع به، فكانت جملة من الأحاديث أخذوها عنه في جيئاته إِلى العراق.
وربت على هذا كلّه مظلوميّته، فإن الناس كلّهم أو جلّهم يعلمون بأن الصادق مظلوم مقهور على هذا المجيء، ويعلمون بما ينالون منه من سوء أذى في مجيئه، هذا فوق ما يعتقدونه من غضب مقامه والتضييق عليه، والحيلولة دون نشر علومه ومعرفه.
وما كان حتّى الشيعة يعرفون عن الإمام من الشأن والقدر والعلم والكرامة مثلما عرفوه عنه بعد مجيئه، لأن التقيّة وعداء السلطة حواجز دون نشر فضائله والصادق عليه السّلام كما يقول عمرو بن أبي المقدام: كنت إِذا نظرت اليه علمت أنه من سلالة النبيين، وكما يقول ابن طلحة في مطالب السؤل: رؤيته تذكّر الآخرة، واستماع حديثه يزهد في الدنيا، والاقتداء بهديه يورث الجنّة، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذوي الرسالة.
ومن ثمّ تجد هشام بن الحكم وكان جهمياً يعدل إِلى القول بالإمامة لمحاورة الصادق له ونظره اليه، ذلك النظر الذي امتلأت نفسه منه جلالاً وهيبةً فأحسّ أن ذلك لشأن لا يكون إِلا للأنبياء والأوصياء، فكان من آثار مجيئه إِلى العراق هداية هشام، وأنت تعرف مَن هشام، وما آثاره في خدمة أهل البيت، وخدمة الدين(1).
______________________________
(1) كتبت رسالة عن هشام بن الحكم استقصيت فيها قدر الامكان أخباره وآثاره.
{ 125 }
ومن آثار مجيئه إِلى العراق إِشادته لموضع قبر أمير المؤمنين عليه السّلام ودلالته خواصّ الشيعة عليه، وكان اكثرهم لا يعلمون موضعه على اليقين، سوى أنه على ظهر الكوفة في النجف لأن أولاده جهدوا في إخفائه خوفاً من أعدائه فصارت الشيعة تقصده زائرين، وكان الصادق عليه السّلام يصحب في كلّ زيارة بعض خواصّ أصحابه، وهو الذي أمر صفوان بن مهران الجمّال بالبناء عليه.
وقد ذكر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي في كتاب التهذيب، في كتاب المزار منه، في باب فصل الكوفة عدّة زيارات للصادق عليه السّلام.
كما ذكر مثل ذلك الشيخ الكليني طاب ثراه في الكافي، والسيد ابن طاووس في فرحة الغري، والمجلسي في مزار البحار وهو الجزء الثاني والعشرون، والشيخ الحرّ العاملي في وسائل الشيعة في كتاب المزار الجزء الثاني الى كثير غيرهم.
ونحن نورد لك بعض تلك الزيارات والدلالات منه، قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: إِن الصادق عليه السّلام زار قبر أمير المؤمنين عليه السّلام عدّة مرات، منها يوم أقدمه السفّاح الحيرة، ومنها ما يرويه عبد اللّه بن طلحة النهدي(1) يقول: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام - ثمّ قال - فمضينا معه حتّى انتهينا إِلى الغري فأتى موضعاً فصلّى فيه.
وذكر أيضاً مجيئه مرّة اُخرى من الحيرة ومعه يونس بن ظبيان(2) ودعا عند القبر وصلّى وأعلم يونس أنه قبر أمير المؤمنين عليه السّلام بعد أن كان يونس لا يدري أين هو سوى أنه في الصحراء.
______________________________
(1) عربي كوفي روى عن الصادق عليه السلام، وروى عنه جماعة من الثقات مثل علي بن إسماعيل الميثمي ومحمّد بن سنان وابن محبوب.
(2) الكوفي ممّن روى عن الصادق عليه السلام وجاءت فيه روايات قادحة واُخرى مادحة، ولكن روى عنه جماعة كثيرة من الثقات، وبعضهم من أصحاب الاجماع.
{ 126 }
وروى الكليني طاب ثراه عن يزيد بن عمرو بن طلحة(1) قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام وهو بالحيرة: أما تريد ما وعدتك، قلت: بلى، يعني الذهاب إِلى قبر أمير المؤمنين عليه السلام، قال: فركب وركب إِسماعيل وركبت معهما حتّى اذا جاء الثوية وكان بين الحيرة والنجف عن ذكوات بيض(2) نزل ونزل إِسماعيل ونزلت معهما فصلّى وصلّى إسماعيل وصلّيت.
وروى عن أبان بن تغلب(3) قال: كنت مع أبي عبد اللّه عليه السّلام فمرّ بظهر الكوفة فنزل فصلّى ركعتين، ثمّ تقدّم قليلاً فصلّى ركعتين، ثمّ سار قليلاً فنزل فصلّى ركعتين، ثمّ أخبر أبان أن الصّلاة الاُولى عند قبر أمير المؤمنين عليه السّلام، والثانية عند موضع رأس الحسين عليه السّلام، والثالثة عند منزل القائم.
وذكر الشيخ الحرّ أن الصادق عليه السّلام زار قبر أمير المؤمنين نوباً عديدة منها ما عن الصدوق رحمه اللّه عن صفوان بن مهران الجمّال قال: سار الصادق عليه السّلام وأنا معه في القادسيّة حتّى أشرف على النجف فلم يزل سائراً حتّى أتى الغري فوقف به حتّى أتى القبر، فساق السّلام من آدم على كلّ نبي وأنا أسوق معه السّلام حتّى وصل السّلام الى النبي صلّى اللّه عليه وآله ثمّ خرّ على القبر فسلّم عليه وعلا نحيبه، فقلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: ما هذا القبر، فقال: قبر جدّي عليّ بن أبي طالب.
وذكر المجلسي زيادة على ما سبق زيارات أُخر، وذكر زيارة صفوان معه بصورة أُخرى، وفيها أن الصادق شمّ تربة أمير المؤمنين فشهق شهقة ظننت أنه
______________________________
(1) الكوفي، ولم تعرف عنه غير هذه الرواية، وكفى في شأنه رواية الكليني عنه.
(2) جمع ذكوة، وهي الجمرة الملتهبة، والمأسدة، ولا يناسبان المقام ولعلّه أراد منها الربوات التي تحوط القبر، وشبّهها بالذكوات لبريقها، لأن أرض الغري ذات رمل وحصى فيكون لها بريق ولمعان.
(3) سوف نذكره في المشاهير من ثقات الأصحاب للصادق عليه السلام.
{ 127 }
فارق الدنيا، فلمّا أفاق قال: ههنا واللّه مشهد أمير المؤمنين، ثمّ خطّ تخطيطاً، فقلت يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: ما منع الأبرار من أهل البيت من إِظهار مشهده ؟ قال: حذراً من بني مروان والخوارج أن تحتال في أذاه.
وروى عن عمر بن يزيد(1) انّه أتى عبد اللّه بن سنان(2) فركب معه فمضيا حتّى أتيا منزل حفص الكناسي(3) فاستخرجه وركب معهما فمضوا حتّى أتوا الغري، فانتهوا إِلى قبر، فقال: انزلوا هذا قبر أمير المؤمنين، فقال له عبد اللّه: من أين علمت هذا ؟ قال: أتيته مع أبي عبد اللّه عليه السّلام حيث كان بالحيرة غير مرّة، وخبّرني أنه قبره.
وروى عن يونس بن ظبيان أنه كان عند الصادق عليه السّلام بالحيرة أيام مقدمه على أبي جعفر في ليلة صحيانة مقمرة، إِلى أن قال: فركب وركبت معه وسار حتّى انتهينا إِلى الذكوات الحمر، قال: ثمّ دنا من اكمة فصلّى عندها ثمّ مال عليها وبكى، إِلى أن قال: قال: هو قبر أمير المؤمنين عليه السّلام ولعلّ هذه الرواية رواية يونس الاُولى.
وروى عن أبي الفرج السندي(4) أنه جاء من الحيرة مع الصادق عليه السّلام الى الغري وزار قبر أمير المؤمنين عليه السّلام.
وروى مثل ذلك عن عبد اللّه بن عبيد بن زيد(5) وذكر انّ عبد اللّه بن
______________________________
(1) ذكر أرباب الرجال أن عمر بن يزيد اثنان: أحدهما بيّاع السابري والآخر الصيقل، وقد رويا معاً عن الصادق عليه السلام ولا يبعد أن يكونا معاً ثقتين.
(2) سنذكره في ثقات المشاهير.
(3) هو ابن عبد ربّه الكوفي وعداده في أصحاب الصادق واستظهر الرجاليّون أنه إِمامي.
(4) واسمه عيسى وعداده في أصحاب الصادق ورواته.
(5) لم يأت له ذكر في كتب الرجال بهذا العنوان نعم جاء في أصحاب الصادق رجال كثيرون اسمهم عبد اللّه بن عبيد.
{ 128 }
الحسن كان معه، وأن عبد اللّه أذّن وأقام وصلّى مع الصادق عليه السّلام.
وظاهر هذا أن الزيارة كانت في عهد السفّاح، لأنه استقدم عبد اللّه بن الحسن كما استقدم الصادق عليه السّلام.
وروى أيضاً عن أبي العلاء الطائي(1) حديثاً طويلاً يذكر فيه مجيء الصادق الى الحيرة، وذيوع الخبر بالكوفة، وقعوده لانتظاره، وسؤاله عن القبر الذي في الظهر عندهم وأنه قبر أمير المؤمنين عليه السّلام وقول الصادق: اي واللّه يا شيخ حقّاً.
وروى عن صفوان أنه كان يأتي القبر بعد ما عرّفه به الصادق عليه السّلام ويصلّي عنده مدّة عشرين سنة.
وقد ذكر السيّد الجليل عبد الكريم بن طاووس في فرحة الغري ما تقدم ذكره من الزيارات وغيرها شيئاً كثيراً، وليس القصد أن نوافيك بكلّ زيارة رويت له، وإِنما كان القصد أن نوقفك على تلك السياسة الخرقاء التي صنعها العبّاسيّون مع أبي عبد اللّه عليه السّلام وما كان لتلك الجيئات من آثار أظهرت أمر أهل البيت.
كان الصادق عليه السّلام يصحب في كلّ زيارة واحداً أو اكثر من أصحابه ليدلّهم على القبر، ويصحب غيرهم في الزيارة الاُخرى ليكثر عارفوه وزائروه، فروى كثير من رجاله هذه الزيارات منهم صفوان الجمّال ومحمّد بن مسلم الثقفي، وأبو بصير، وعبد اللّه بن عبيد بن زيد، وأبو الفرج السندي، وأبان بن تغلب، ومبارك الخبّاز(2) ومحمّد بن معروف الهلالي(3) وأبو العلاء الطائي،
______________________________
(1) لم أقف على حاله.
(2) لم تُعرف عنه غير هذه الرواية.
(3) له روايات عن الصادق عليه السلام.
{ 129 }
والمعلّى بن خنيس، وزيد بن طلحة، وعمر بن يزيد، ويزيد بن عمرو، وعبد اللّه بن طلحة النهدي، ويونس بن ظبيان، الى غير هؤلاء.
وقد أعطى الصادق عليه السّلام صفوان الجمّال دراهم لتجديد بنائه وكان قد جرفه السيل، فمن هذا تعرف أن القبر كان ظاهراً وإِنما كانوا يتكتّمون في زيارته والاشارة اليه ليبقى مخفيّاً على الخوارج وبني مروان، ومن ههنا يسأله أبو العلاء عن القبر الذي عندهم بالظهر أهو قبر أمير المؤمنين عليه السّلام ؟ فلو لم يكن عندهم قبر ظاهر لما كان وجه لسؤاله، ويسأله صفوان حين خرّ على القبر، قائلاً: يا ابن رسول اللّه ما هذا القبر ؟
وفي عهد الصادق عليه السّلام عرف الناس القبر ودلّوه من تلك الزيارات وصاروا لا يسألونه عنه وإِنما يسألون عن الآداب في زيارته، كما سأله محمّد بن مسلم وصفوان ويونس بن ظبيان وغيرهم.
ومن آثار الصادق عليه السّلام في العراق من تلك الجيئات محرابه في مسجد الكوفة، ويقع شرقيّ المسجد قريباً من سوره، بالقرب من قبر مسلم عليه السّلام وهو بيّن معروف في المسجد ليس في جواره محراب سواه وله صلاة ودعاء ومحرابه في مسجد سهيل (السهلة) ويقع في وسط المسجد وله صلاة ودعاء والسبب في ذلك معروف، وهو أن الصادق عليه السّلام كان في الكوفة ودخل عليه بشّار المكاري(1) فأعلم الصادق أن جلوازاً(2) يضرب رأس امرأة يسوقها الى الحبس وهي تنادي بأعلى صوتها: المستغاث باللّه ورسوله، ولا يغيثها أحد، وقال: ولِم فعل بها ذلك ؟ قال: سمعت الناس يقولون: إِنها عثرت فقالت: لعن اللّه ظالميكِ يا فاطمة، فارتكب منها ما ارتكب، فقطع الصادق الأكل،
______________________________
(1) لم أقف على ترجمته.
(2) الجلواز - بالكسر - الشرطي.
{ 130 }
وكان بين يديه رطب طبرزد(1) ولم يزل يبكي حتّى ابتلّ منديله ولحيته وصدره بالدموع، ثمّ ذهب الصادق من فوره ومعه بشّار الى مسجد السهلة، فصلّى ركعتين ودعا(2) فلمّا خرج جاء الرسول فأعلمه أنها اُطلق سراحها، فاسترّ لذلك، وبعث لها بصلة، وكانت قد أبت أن تقبل من الوالي شيئاً وقد أعطاها مائتي درهم وكانت محتاجة(3) ومازال الناس يقصدون المسجد والمحراب ويدعون بذلك الدعاء في طلب الحوائج.
وعلى ضفة نهر الحسينيّة في كربلاء محراب وعليه بنية ينسب إِلى الصادق ولعلّه صلّى في هذا المكان يوم زار الحسين عليه السّلام وقد ذكر زيارته للحسين عليه السّلام الحسين بن أبي العلاء الطائي، في خبره الطويل الذي أشرنا اليه وقد ذكره ابن طاووس في الفرحة، والمجلسي في البحار في مزاره، وفي الحديث، فقلت له: جعلت فداك بأبي وامّي هذا القبر الذي أقبلت منه قبر الحسين ؟ قال: اي واللّه يا شيخ حقّاً.
وفي الجانب الغربي من بغداد على ضفة النهر شمال جسره الغربي اليوم المعروف بالجسر القديم مكان يعرفه الناس بمدرسة الصادق وليس فيه اليوم أثر بيّن ولعلّه أفاد بعض الناس فيه عند مجيئه الى بغداد على عهد المنصور.
ومن الغريب أن الخطيب في تأريخه لم يذكر الصادق عليه السّلام فيمن قدم بغداد، مع أنه ذكر ابنه الكاظم وحفيده الجواد عليهما السّلام.
وكفى ما ذكرناه من آثار الصادق في مجيئه الى العراق عند إِرسال السفّاح والمنصور عليه وازدياد شأن أهل البيت به، والعور يذكور بالاحراق.
______________________________
(1) قال في القاموس: السكر معرّب، وقال الأصمعي: طبرزن وطبرزل.
أقول: ولعلّ هذا الرطب سمّي بالطبرزد لشدّة حلاوته أو لتشابه الطعم بالسكر، ولعلّه ما يسمى اليوم عندنا بالطبرزل وهو من جيد الرطب.
(2) ذكرنا هذا الدعاء فيما جمعناه من دعائه.
(3) بحار الأنوار: 100 / 440 /21، مزار البحار: 22/103.