ذهب بعض أبناء الفِرق الاسلاميّة الى أنه جلّ شأنه يُرى بالبصر في الآخرة فقط، أو في الدنيا والآخرة معاً وما زال أهل البيت - لا سيّما الصادق عليه السلام - يبطلون هذه النسبة ويمنعون عليه تعالى الرؤية، وسوف نورد عليك بعض الحجج من كلامه.
قال هشام: كنت عند الصادق عليه السّلام إِذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين(2) فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله رأى ربه، على أي صورة رآه ؟ وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربّهم في الجنّة على أيّ صورة يرونه ؟ فتبسّم عليه السّلام ثمّ قال: يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في مُلك اللّه ويأكل من نعمه ثمّ لا يعرف اللّه حقّ معرفته، ثمّ قال عليه السّلام: يا معاوية إِن محمّداً صلّى اللّه عليه وآله لم يَر الربّ تبارك وتعالى بمشاهدة العيان وأن الرؤية على وجهين: رؤية
______________________________
(2) هما من أصحاب الصادق عليه السلام وأعلامهم المشهورين.
{ 177 }
القلب، ورؤية البصر، فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب ومن عنى برؤية البصر فقد كفر باللّه وبآياته لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: من شبّه اللّه بخلقه فقد كفر، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي عليهم السّلام قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام فقيل: يا أخا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هل رأيت ربّك ؟ فقال: وكيف أعبد من لم أره، لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان، فإذا كان المؤمن يرى ربّه بمشاهدة البصر فإن كلّ من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق، ولا بدّ للمخلوق من الخالق، فقد جعلته إِذن محدثاً مخلوقاً، ومن شبّهه بخلقه فقد اتخذ مع اللّه شريكاً، ويلَهُم أَوَلم يسمعوا بقول اللّه تعالى «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير»(1) وقوله «لن تراني ولكن انظر الى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّاً»(2) وإِنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سمّ الخياط فدكدكت الأرض وصعقت الجبال فخرّ موسى صعقاً - أي ميّتاً - فلمّا أفاق وردّ عليه روحه قال: سبحانك تبت اليك من قول مَن زعم أنك تُرى ورجعت الى معرفتي بك أن الأبصار لا تدركك، وأنا أول المؤمنين وأول المقرّين بأنك تَرى ولا تُرى وأنت بالمنظر الأعلى.
ثمّ قال عليه السّلام: إِن أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الربّ، والإقرار له بالعبوديّة، وحدّ المعرفة أن يعرف أنه لا إِله غيره، ولا شبيه له ولا نظير، وأن يعرف أنه قديم مثبت موجود غير فقيد، موصوف من غير شبيه ولا مبطل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وبعده معرفة الرسول والشهادة
______________________________
(1) الأنعام: 103.
(2) الأعراف: 143.
{ 178 }
بالنبوّة، وأدنى معرفة الرسول الإقرار بنبوّته وأن ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي فذلك من اللّه عزّ وجل، وبعده معرفة الإمام الذي تأتمّ به بنعمته وصفته واسمه، في حال العسر واليسر، وأدنى معرفة الإمام أنه عدل النبي إِلا درجة النبوّة ووارثه وأن طاعته طاعة اللّه وطاعة رسول اللّه والتسليم له في كلّ أمر، والردّ اليه والأخذ بقوله.
ثمّ أنه أورد على معاوية ذكر الأئمة وأسمائهم، ثمّ قال: يا معاوية جعلت لك أصلاً في هذا فاعمل عليه، فلو كنت تموت على ما كنت عليه لكان حالك أسوأ الأحوال، فلا يغرّنك قول من زعم أن اللّه تعالى يُرى بالبصر.
ثمّ ذكر لمعاوية أعاجيب ما نسبوه من المكروه والباطل للأنبياء ولأبويه النبيّ وعليّ عليهم السّلام جميعاً.
وهذا بعض ما جاء عن الصادق في استحالة الرؤية البصريّة عليه تعالى وبما سبق غنى، كما وأن للصادق عليه السّلام كلاماً في كلّ باب من أبواب التوحيد، وفي كلّ آية من الآيات المتشابهة وما كان القصد أن نأتي بكلّ ماله من بيان في ذلك لأن بسط البحث والإتيان بكلّ شاردة وواردة له يبعدنا عن الغاية، وبما وافيناك به كفاية.
نزّل اللّه تعالى الكتاب تبياناً لكلّ شيء، وقد جمع الكتاب الطبّ كما يقولون في كلمتين وهما قوله تعالى: «كلوا واشربوا ولا تسرفوا»(1) فلا غرابة إِذن لو كان العلماء بما في القرآن علماء في الطبّ أيضاً، وكان ما يظهر منهم، من
______________________________
(1) الأعراف: 31.
{ 179 }
البيان عن طبائع الأشياء والأمزجة والمنافع والمضار يرشدنا الى وجود هذا العلم لديهم، ولقد جمع بعض علماء السلف شيئاً كثيراً من كلامهم في ذلك وسمّاه «طبّ الأئمة» وإِخال أن الكتاب لا وجود له اليوم، غير أن المجلسي طاب ثراه يروي عنه كثيراً في بحار الأنوار، كما يروي عنه الحرّ العاملي في الوسائل.
وكفى دلالة على علم الصادق بالطبّ ما جاء في توحيد المفضّل من الأخبار عن الطبائع وفوائد الأدوية وما جاء فيه من معرفة الجوارح التي تكفّل بها علم التشريح، وسيأتي ما في بعض مناظراته مع الطبيب الهندي ممّا يدلّ على ذلك، ويسع الكاتب أن يجمع كتاباً فيما ورد عنه في خواصّ الأشياء وفوائدها، وفي علاج الأمراض والأوجاع وفي الحميّة والوقاية، وهي متفرقة في غضون كتب الأحاديث ونحوها، وربّما لم يكشف عنها إِلا العلم الحديث مثل مداواة الحمّى بالماء البارد، فإنه ذكروا له الحمّى فقال عليه السّلام: «إِنّا أهل بيت لا نتداوى إِلا بإفاضة الماء البارد يُصبُّ علينا».
ومثل وجوب غسل الفاكهة قبل الأكل، قال عليه السّلام: «إِن لكلّ ثمرة سمّاً فاذا أتيتم بها فأمسوها الماء واغمسوها في الماء».
ونحن نحيلك على كتاب الأطعمة والأشربة من الوسائل: 3/ من 276 - 311 لترى الشيء الكثير من ذلك.
الجفر في الأصل ولد الشاة اذا عظم واستكرش، ولعلّ مبدأ هذا العلم كان يكتب على جلد ولد الشاة فسمّي به، وعلم الجفر علم الحروف الذي تعرف به الحوادث المستقبلة، وجاء عن الصادق عليه السّلام أن عندهم الجفر وفسّره بأنه وعاء من أدم فيه علم النبيّين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إِسرائيل، وجاء
{ 180 }
عنهم الشيء الكثير عن الجفر الذي عندهم، وإِنّا وإِن لم نعرف هذا العلم وما القصد منه إِلا أننا نعرف من هاتيك الأحاديث التي ذكرت الجفر وأنه من مصادرهم أن هذا العلم شريف منحهم اللّه إِيّاه، وجاء في الكافي أحاديث كثيرة عن الجفر الذي عندهم.
وذكر بعض علماء أهل السنّة الجفر وأنه ممّا يعلمه الصادق عليه السّلام، قال الشبلنجي في نور الأبصار ص 131: وفي حياة الحيوان الكبرى فائدة، قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب: وكتاب الجفر كتبه الامام جعفر الصادق بن محمّد الباقر، فيه كلّ ما يحتاجون الى علمه الى يوم القيامة، والى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله:
لقد عجبوا لآل البيت لمّا***أتاهم علمهم في جلد جفر
فمرآة المنجم وهي صغرى***تريه كلّ عامرة وقفر
وقال في الفصول المهمّة: نقل بعض أهل العلم أن كتاب الجفر الذي بالمغرب يتوارثونه بنو عبد المؤمن بن علي من كلام جعفر الصادق، وله فيه المنقبة السنيّة، والدرجة التي في مقام الفضل عليه.
ذكر علم الصادق عليه السّلام بالكيمياء كثير من المؤلّفين، وأن تلميذه جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي أخذ عنه هذا العلم، وألّف خمسمائة رسالة فيه في ألف ورقة، وهي تتضمّن رسائل جعفر الصادق عليه السّلام(1).
وللقدماء والمتأخّرين من المستشرقين كلام كثير في شأن جابر وقد ذكره
______________________________
(1) تاريخ ابن خلكان في أحوال الصادق: 1/105.
{ 181 }
ابن النديم في الفهرست ص 498 - 503، وأطال فيه الكلام وذكر له من الكتب والرسائل في مختلف العلوم لا سيّما الكيمياء والطبّ والفلسفة والكلام شيئاً كثيراً لا يكاد يتّسع وقت الانسان في العمر الطبيعي لتأليفها، نعم إِلا لأفذاذ في الدهر منحوا ذكاءً وفطنةً مفرطين وانكبّوا على الكتابة والتّأليف، وذكر أن له تآليف على مذاهب الشيعة ومن ثمّ استظهر تشيّعه ولعلّ أخذه عن الصادق وائتمان الصادق به على هذا العلم شاهد على تشيّعه.
وذكره في الذريعة في عداد مؤلّفي الشيعة في 2/ 451 - 452 عند ذكره لكتابه (الايضاح) في الكيمياء.
ولو تصفّحت شيئاً من رسائله التي نشرها المستشرق «كراوس» لأيقنت بتشيّعه وأخذه عن الامام الصادق، لأَنه أخذ عنه كإمام مفترض الطاعة متّبع الرأي، ولعرفت أنه لم يأخذ عنه الكيمياء فحسب، بل الكلام وغيره.
وقد اكبر مؤلفو الاسلام منزلة جابر وعدّوه مفخرة من مفاخر الاسلام ولا بدع فإن من تزيد مؤلّفاته على ثلاثة آلاف كتاب ورسالة في مختلف العلوم، وجلّها من العلوم النظريّة والطبيعيّة التي تحتاج الى زمن طويل في تجاربها وتطبيقها - هذا عدا الفلسفة والكلام - لجدير بالتقدير والإكبار وأن يكون مفخرة يعتزّ به.
وقد كبر على المستشرقين أن يكون عربي مسلم ومن أهل القرن الثاني للهجرة يمتاز بتلك الآراء السديدة وتكون نظريّاته الاُسس العامّة التي قام عليها علم الكيمياء قديمه وحديثه، فصاروا يخبطون في تعرّضهم لكتبه كحاطب ليل، فمرَّة يشكّون في وجوده، وتارة في زمانه، واُخرى فيما نسب اليه من تلك الكتب، ورابعة في نسبة البعض ممّا يرويه عن استاذه الصادق عليه السّلام، وخامسة في التبويب والوضع والاسلوب لأنه لم يكن يعرفه أهل ذلك العصر، الى غير ذلك،
{ 182 }
وقد فنّد بعض تلك الشكوك والمزاعم الكاتب إِسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور فيما نشره في المقتطف (68 / 544 - 551 ومن 617 - 625) وجلى في هذه الحلبة الاستاذ أحمد زكي صالح فيما كتبه في مجلة الرسالة المصريّة السنة الثامنة (ص 1204 - 1206 ومن 1235 - 1237 ومن 1268 - 1270 ومن 1299 - 1302)، ولقد فنَّد تلك الأوهام والمزاعم تفنيداً حكيماً علميّاً.
وصرّح مراراً بتشيّعه، وقال في مناقشة رأي الاستاذ (كراوس) ص 1299: ومن الجليّ الواضح لدى كلّ من درس علم الكلام أن فِرَق الشيعة كانت أنشط الفِرق الاسلاميّة حركة، وكانت أولى من أسّس المذاهب الدينيّة على اُسس فلسفية، حتّى أن البعض ينسب فلسفة خاصّة لعليّ بن أبي طالب.
وكان هذا الكلام من أحمد زكي لتصحيح ما يُنسب الى جابر من المقارنة بين الآراء الكلاميّة والفلسفيّة.
وجملة القول أنه قد أصبح من الواضح تشيّع جابر وتقدّمه في عدّة علوم لا سيّما الكلام والفلسفة والطبّ والكيمياء والطبيعيّات عامّة، وما كادت لتكون آراؤه الاُسّ العامّ لدعائم علم الكيمياء إِلا لأنه أخذ ذلك من معدنه الصحيح الامام الصادق عليه السّلام.
وكنت قد جمعت عدَّة مصادر عن جابر لا تبسط في ترجمته غير أني اكتفيت بهذا الوجيز عن الإطالة فيها، فإنّا لو استقصينا الكلام على كلّ ما يقتضي التوسعة في البحث عنه لكان هذا الكتاب عدّة أجزاء، وهو وإِن كان لا يخلو من فائدة، غير أنه يكون أبعد عن حياة الصادق الخاصّة.
لا نعني بما ذكرناه من العلوم التي كتبنا عنها وأوضحنا أخذ الناس عن
{ 183 }
الصادق فيها أن تلك جميع ما لديه، بل إِن الامام على رأي الإمامية يجب أن يكون عالماً بكلّ شيء وأعلم الناس في كلّ علم وفنّ ولسان ولغة، كما يقتضيه حكم العقل(1) ولو نظرنا الى الدليل السمعي من دون أن نثبت له الإمامة الإلهية لفهمنا منه أن في كلّ زمان عالماً من العترة بالكتاب والسنّة كما هو مفاد حديث الثقلين وأن عالم الكتاب الذي نزل على الرسول تبياناً لكلّ شيء يجب أن يكون عالماً بكلّ شيء، وما دام الكتاب موجوداً فالعالم به من العترة موجود الى يوم الحشر، ولا يعدو أن يكون ذلك العالم في عهد الصادق نفسه، إِذ ليس في زمانه من هو أعلم منه في العترة، وكفت آثاره دلالة على ذلك العلم.
فصادق أهل البيت إِذن عالم أهل البيت في عصره وعالم العترة بالكتاب الجامع للعلوم والفنون، فمن ثمّة نستغني بما سلف عن التعرّض لبقيّة العلوم والشواهد على علمه فيها، فليس غريباً لو جاء الحديث أن الصادق كلّم الفُرس بلسانهم وأهل اللغات بلغاتهم وناظر أهل كلّ علم وفنّ فخصمهم مثل علماء النجوم والفلك والطبيعيات والطبّ وما عداها، وكلّ ذلك نطقت به الأخبار ودلّت عليه الآثار.
* * *
______________________________
(1) وقد أوضحنا ذلك في رسالتنا «الشيعة والإمامة» فانظرها إِن أردت التحقيق.
إِن المذهب في عرف أهل الاسلام هو المرجع في أحكام الدين، وهذا لا يقتضي أن يكون الصادق عليه السّلام دون الأئمة الأثني عشر مذهباً، لأن الشيعة الإماميّة ترى أن كلّ إِمام من اولئك الأئمة من عليّ أمير المؤمنين الى الغائب المنتظر يجب الأخذ بقوله والعمل برأيه، لأن علمهم - كما يرون - علم واحد موروث من الرسول صلّى اللّه عليه وآله لا يختلفون في أخذه ولا يروون عن غيره، وعلمهم سلسلة واحدة يرثه الإبن عن أبيه من دون اجتهاد فيه ولا تحريف في أخذه ونقله.
بيدَ أن الفرص لم تسنح لواحد منهم في إِظهار ما استودعهم الرسول صلّى اللّه عليه وآله وإِبلاغ ما استحفظهم عليه، كما سنحت للصادق جعفر عليه السّلام فإن الذي ساعد على بثّه للمعارف ونشره للعلوم الموروثة لهم من سيّد الرسل صلّى اللّه عليه وآله إِجتماع عدّة اُمور:
1 - إن زمن استقلاله بالإمامة قد طال حتّى جاوز الثلاثين عاماً، ولئن كان جدّه زين العابدين وابنه موسى الكاظم وحفيده عليّ الهادي عليهم السّلام قد شاركوه في طول الزمن، وكانت أيام إِمامتهم تجاوزت الثلاثين عاماً أيضاً فإنه لم يتّفق لهم ما اتّفق له ممّا يأتي.
{ 185 }
2 - إن أيامه كانت أيام علم وفقه، وكلام ومناظرة، وحديث ورواية، وبدع وضلالة، وآراء ومذاهب، وهذه فرصة جديرة بأن يبدي العالم فيها علمه، ليقمع بذلك الأضاليل والأباطيل، ويبطل الآراء والأهواء، ويصدع بالحقّ، وينشر الحقيقة.
3 - إِنّه مرّت عليه فترة من الرفاهيّة على بني هاشم لم تمرّ على غيره من الأئمة، فلم يتّفق له على الأكثر ما كان يحول دون آبائه وأبنائه من الجهر بمعارفهم بالتضييق عليهم ومنع الناس عنهم ومنعهم عن الناس من ملوك أيامهم.
ولم يملك من الأئمة زمام الأمر سوى أمير المؤمنين عليه السّلام، ولكن كانت أيامه على قصرها بين حرب وكفاح وبين مناهضة للبدع والضلالات فحمّلوه على السير في محجّة لا يجد مناصاً من السلوك فيها، على أنه لم تكن في أيامه ما كان في عهد الصادق من انتشار العلم بين طبقات الناس وظهور الأهواء والآراء والنِّحل والمذاهب.
أمّا الصادق فقد عاصر الدولتين المروانيّة والعبّاسيّة ووجد فترة لا يخشى فيها سطوة ظالم ولا وعيد جبّار، وتلك الفترة امتزجت من اُخريات دولة بني مروان واوليات دولة بني العبّاس، لأن الاُمويين وأهل الشام لمّا أجهزوا على الوليد بن يزيد وقتلوه انتقضت عليهم أطراف البلاد وتضعضعت أركان سلطانهم، وكانت الدعوة لبني هاشم قد انتشرت في جهات البلاد فكانت تلك الاُمور كلّها صوارف لبني مروان عمّا عليه الصادق عليه السّلام من الحياة العلميّة، ولمّا انكفأ بهم الزمن وسالم بني العبّاس اشتغل بنو العبّاس بتطهير الأرض من اُميّة وبتأسيس الدولة الجديدة، وأنت تعلم بما يحتاجه المُلك الغضّ من الزمن لتأسيسه ورسوخه، فكان انصرافهم لبناء المُلك وإِحاطته شاغلاً لهم برهة من
{ 186 }
الزمن عن شأن الصادق في بثّه العلوم والمعارف وإِن لم يتناسه السفّاح ولكن لم يجد عنده ما يخشاه، ولمّا جاء دور المنصور وصفا المُلك له ناصب العداء للصادق فكان يضيّق عليه مرّة ويتغاضى عنه اُخرى.
روى العلامة ابن شهراشوب(1) في كتابه المناقب في أحوال الصادق عن المفضّل بن عمر: «أن المنصور قد همّ بقتل أبي عبد اللّه عليه السّلام غير مرّة، فكان اذا بعث اليه ودعاه ليقتله فاذا نظر اليه هابه ولم يقتله، غير أنه منع الناس عنه ومنعه عن القعود للناس واستقصى عليه أشدّ الاستقصاء حتّى أنه كان يقع لأحدهم مسألة في دينه في نكاح أو طلاق أو غير ذلك، فلا يكون علم ذلك عندهم ولا يصلون اليه فيعتزل الرجل أهله، فشقّ ذلك على شيعته وصعب عليهم، وحتّى ألقى اللّه عزّ وجل في روع المنصور أن يسأل الصادق عليه السّلام ليتحفه بشيء من عنده لا يكون لأحد مثله، فبعث اليه بمخصرة(2) كانت للنبي صلّى اللّه عليه وآله طولها ذراع، ففرح بها فرحاً شديداً وأمر أن تشقّ أربعة أرباع، وقسّمها في أربعة مواضع، ثمّ قال له: ما جزاؤك عندي إِلا أن اطلق لك وتفشي علمك لشيعتك، ولا أتعرّض لك ولا لهم فاقعد غير محتشم(3) وافتِ الناس ولا تكن في بلد أنا فيه، ففشى العلم عن الصادق، وأجاز في المنتهى».
فلهذا وغيره قد فشى عن الصادق عليه السّلام من العلوم ما لم تسمح الظروف به لسواه من الأئمة، وهذه كتب الحديث والفقه والأخلاق والاحتجاج وغيرها من كتب المعارف والعلوم ترشدك الى ما كان منه، وكفت كثرة رواته والرواية عنه، ولقد كتب عن رواته جملة من المؤلّفين وذكروا أن
______________________________
(1) أشرنا الى شيء من حاله في تعليقة ص 78.
(2) بالكسر والسكون فالفتح ما يتوكّأ عليه كالعصا ونحوها وما يأخذه الملك بيده يشير به إِذا خاطب.
(3) على زنة اسم الفاعل، أي غير هائب ومنقبض.
{ 187 }
عددهم أربعة آلاف أو يزيدون، ومن المؤلّفين ابن عقدة(1)، فإذا كانت الرواة عنه أربعة آلاف فكم كانت الرواية ؟ واذا كان راوٍ واحد يروي عنه ثلاثين ألف حديث فكم تكون رواية الباقين ؟ وكم هي العلوم والمعارف التي اُسندت اليه؟
وجملة القول أن الصادق عليه السّلام إِنما عرف بأنه مذهب تنتسب اليه الاماميّة والجعفريّة، لما انتشر عنه من العلم وحفظ منه من الحديث حتّى أن اكثر ما في كتب الحديث الشيعيّة مرويّ عنه.
وما كانت الرواية عنه مقصورة على الشيعة بل أخذ عنه اكابر معاصريه من أهل السنّة، ومنهم مالك وأبو حنيفة والسفيانان وأيوب وابن جريح وشُعبة وغيرهم، بل أرجع ابن أبي الحديد فقه المذاهب الأربعة اليه، كما في شرح النهج: (1/6).
وكان انتساب الشيعة اليه من عهده، وهو القائل في وصاياه لأصحابه: فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفريّ ويسرّني ذلك، وإِذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل: هذا أدب جعفر(2).
وكانت هذه النسبة معروفة في ذلك العهد حتّى أن شريكاً القاضي شهد
______________________________
(1) هو أحمد بن محمّد بن سعيد الكوفي، وكان زيديّاً جاروديّاً، وشأنه في الجلالة والوثاقة وكثرة الحفظ معروف مشهور، وقد حكي عنه أنه قال: أحفظ مائة وعشرين ألف حديث بأسانيدها واُذاكر بثلثمائة ألف حديث، وله كتب كثيرة منها كتاب أسماء الرجال الذين رووا عن الصادق عليه السلام وهم أربعة آلاف رجل، وأخرج فيه لكلّ رجل الحديث الذي رواه، ولم يُعرف اليوم كتابه في الوجود، مات بالكوفة عام 233.
(2) الكافي: 2/636/5.
{ 188 }
عنده شيعيّان وهما محمّد بن مسلم الثقة الشهير المعروف بصحبته للصادق وأبو كريبة الأزدي، فنظر شريك في وجهيهما مليّاً ثمّ قال: جعفريّان فاطميّان(1).
فنعرف من هذا أن النسبة كانت من أيامه واستمرّت الى هذا اليوم.
______________________________
(1) بحار الأنوار: 47/393/115.
لأبي عبد اللّه عليه السّلام الكثير من الحجج البوالغ التي أظهر فيها الحقّ وقطع فيها العذر، نوافيك بشطر منها لأنها ناحية من نواحي حياته العلميّة المليئة بالعِبر والعِظات لا يستغني المسلم عن الوقوف عليها.
سبق شيء من كلامه عليه السّلام في التوحيد، وكان في طيّه بعض المناظرات، ونورد ههنا شيئاً منها غير ما سلف.
فمن تلك المناظرات ما يروى عن هشام بن الحكم، قال: كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أشياء، فخرج الى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها، وقيل: إِنه خارج بمكّة، فخرج الى مكّة ونحن مع أبي عبد اللّه عليه السّلام فصادفنا ونحن مع أبي عبد اللّه في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد اللّه، فضرب كتفه كتف أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال له: ما اسمك ؟ قال: عبد الملك، قال: فما كنيتك ؟ قال: أبو عبد اللّه، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: فمن هذا الملك الذي أنت عبده ؟ أمن ملوك الأرض أم ملوك السماء ؟ واخبرني عن ابنك عبد إِله السماء أم عبد إِله الأرض ؟ قل ما شئت
{ 190 }
تخصم. فلم يحر جواباً.
ثمّ أن الصادق عليه السّلام قال له: اذا فرغت من الطواف فأتنا، فلما فرغ أبو عبد اللّه عليه السّلام أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد اللّه عليه السّلام ونحن مجتمعون عنده، فقال أبو عبد اللّه للزنديق: أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً ؟ قال: نعم، قال: فدخلت تحتها ؟ قال: لا، قال: فما يدريك ما تحتها ؟ قال: لا أدري إِلا أني أظن أن ليس تحتها شيء، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فالظنّ عجز فلِم لا تستيقن، ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أفصعدت الى السماء ؟ قال: لا، قال: أفتدري ما فيها ؟ قال: لا، قال: عجباً لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل الى الأرض ولم تصعد الى السماء، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ، وأنت جاحد بما فيهنّ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟ قال الزنديق: ما كلّمني بها أحد غيرك.
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ولعلّه ليس هو، فقال الزنديق: ولعلّ ذلك، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم، ولا حجّة للجاهل، يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فإنّا لا نشكّ في اللّه أبداً، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان، قد اضطرّا ليس لهما مكان إِلا مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلِم يرجعان ؟ وإن كانا غير مضطرّين فلِم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً ؟ اضطرّا واللّه يا أخا أهل مصر الى دوامهما والذي اضطرّهما أحكم منهما واكبر(1) فقال الزنديق: صدقت.
ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أخا أهل مصر إِن الذي تذهبون اليه
______________________________
(1) أي أكبر في القوّة والقدرة وما شابه ذلك.
{ 191 }
وتظنّون أنه الدهر إِن كان الدهر يذهب بهم فلِم لا يردّهم ؟ وإِن كان يردّهم لِم لا يذهب بهم ؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر، لِم السماء مرفوعة والأرض موضوعة ؟ لِم لا تنحدر السماء على الأرض ؟ لِم لا تنحدر الأرض فوق طباقها ؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك مَن عليها ؟ قال الزنديق: أمسكهما اللّه ربّهما سيّدهما.
قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال حمران بن أعين(1): جعلت فداك إِن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفّار على يد أبيك، فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد اللّه عليه السلام: اجعلني من تلامذتك، فقال أبو عبد اللّه: يا هشام بن الحكم خذه اليك، فعلّمه هشام، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الايمان، وحسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبد اللّه عليه السّلام(2).
وجاء اليه زنديق آخر وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي: قال له: كيف يعبد اللّه الخلق ولم يروه ؟ قال أبو عبد اللّه عليه السلام: رأته القلوب بنور الايمان، وأثبتته العقول بيقظتها إِثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإِحكام التأليف، ثمّ الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته، قال: أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفونه فيُعبد على يقين ؟ قال عليه السلام: ليس للمحال جواب.
أقول: إِنما الرؤية تثبت للأجسام وإِذا لم يكن تعالى جسماً استحالت رؤيته، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في القدرة بل النقص في المقدور.
______________________________
(1) سنذكره في المشاهير من ثقاته.
(2) الكافي: 1/74.
{ 192 }
قال الزنديق: فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً، قال عليه السلام: إِنّا لمّا أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه، ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدّبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إِحياء الموتى وإِبراء الأكمه والأبرص.
ثمّ قال الزنديق: من أيّ شيء خلق الأشياء ؟ قال عليه السّلام: من لا شيء، فقال: كيف يجيء شيء من لا شيء ؟ قال عليه السلام: إِن الأشياء لا تخلو إِما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء فإن كانت خلقت من شيء كان معه، فإن ذلك الشيء قديم، والقديم لا يكون حديثاً، ولا يتغيّر ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهراً واحداً ولوناً واحداً، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى ؟ ومن أين جاء الموت إِن كان الشيء الذي اُنشئت منه الأشياء حيّاً ؟ أو من أين جاءت الحياة إِن كان ذلك الشيء ميّتاً ؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين لم يزالا، لأن الحيّ لا يجيء منه ميّت وهو لم يزل حيّاً، ولا يجوز أيضاً أن يكون الميّت قديماً لم يزل لما هو به من الموت، لأن الميّت لا قدرة به ولا بقاء.
أقول: إِن هذا الأمر على دقّته قد أوضحه الامام بأحسن بيان وردّده بين اُمور لا يجد العقل سلواها عند الترديد، وحقّاً إِن كان الشيء الذي خلقت الأشياء منه قديماً لزم أن يكون مع اللّه تعالى شيء قديم غير مخلوق له، ولو فرض أنه
{ 193 }
مخلوق له عاد الكلام الأول أنه من أيّ شيء كان مخلوقاً، هذا غير أن القديم لا يكون حادثاً، والميّت لا يكون منه الحيّ، والحيّ لا يكون منه الميّت، والحياة والممات لا يتركّبان، ولو تركّبا عاد الكلام السابق، فإن الموت لا يصلح أن يكون في الأشياء الحيّة، ولا بقاء ولا دوام ليكون باقياً إِلى أن خلق اللّه منه الأشياء الحيّة، فلا بدّ إِذن من أن يكون تعالى قد خلق الأشياء من لا شيء.
ثمّ قال: من أين قالوا إِن الأشياء أزليّة ؟ قال عليه السّلام: هذه مقالة قوم جحدوا مدبّر الأشياء فكذّبوا الرسل ومقالتهم، والأنبياء وما أنبأوا عنه، وسمّوا كتبهم أساطير، ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم واستحسانهم، وإِن الأشياء تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه وهي سبعة أفلاك، وتحرّك الأرض ومن عليها، وانقلاب الأزمنة، واختلاف الحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان، وموت وبلى، واضطرار الأنفس الى الإقرار بأن لها صانعاً ومدبّراً، ألا ترى الحلو يصير حامضاً، والعذاب مرّاً، والجديد بالياً، وكلّ الى تغيّر وفناء(1).
أقول: إِن الاستدلال بانقلاب الأزمنة ودوران الفلك من أدقّ الأدلّة العلميّة على حدوث العالم، الذي قصرت عنه أفهام كثير من الفلاسفة العظام كما أنه جعل الفلك الدائر فلكاً واحداً ثمّ تفسيره بالأفلاك السبعة لا ينطبق إِلا على نظرية الهيئة الحديثة إِذ يراد به النظام الشمسي، ومثله تصريحه بحركة الأرض التي لم يكن يحلم بها أحد من السابقين، وهي من مكتشفات العلم الحديث.
وللصادق عليه السلام مناظرات جمّة مع ابن أبي العوجاء، وكان بعضها في التوحيد، وكان ابن أبي العوجاء واسمه عبد الكريم من الملاحدة المشهورين
______________________________
(1) الاحتجاج للشيخ الطبرسي: 336 - 345.
{ 194 }
واعترف بدسّه الأحاديث الكاذبة في أحاديث النبي صلّى اللّه عليه وآله وكفى في معرفة حاله هذه المناظرات، وقد قُتِل على الإلحاد كما قُتِل صاحبه ابن المقفّع(1).
فمن تلك المناظرات أنه كان يوماً هو وعبد اللّه بن المقفّع في المسجد الحرام فقال ابن المقفّع: ترون هذا الخلق - وأومأ بيده الى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له إِسم الانسانيّة إِلا ذلك الشيخ الجالس - يعني أبا عبد اللّه جعفر بن محمد عليهما السّلام - وأما الباقون فرعاع وبهائم، فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء، فقال: لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم، فقال ابن أبي العوجاء: لا بدّ من اختبار ما قلت فيه منه، فقال له ابن المقفّع: لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك، فقال: ليس ذا رأيك لكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إِحلالك إِيّاه هذا المحلّ الذي وصفت، فقال ابن المقفّع: أمّا اذا توسّمت عليّ فقم اليه وتحفّظ من الزلل ولا تثن عنانك الى استرسال فيسلمك الى عقال، وسمة ما لك وعليك، فقام ابن أبي العوجاء فلمّا رجع قال: ويلك يا ابن المقفّع ما هذا ببشر وإِن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ظاهراً ويتروّح اذا شاء باطناً فهو هذا، فقال له: كيف ذلك ؟ فقال: جلست اليه فلمّا لم يبق عنده أحد غيري ابتدأني فقال: إِن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون - يعني أهل الطواف - فقد سلموا وعطبتم، وإِن يكن الأمر كما تقولون، وليس كما تقولون، فقد استويتم
______________________________
(1) قتل محمّد بن سليمان عامل الكوفة من قبل المنصور ابن أبي العوجاء وكان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري، فانحرف عن التوحيد واعتزل حوزة الحسن البصري، وأمّا ابن المقفّع فقد كان مجوسيّاً وأسلم ظاهراً، غير أن أعماله وأقواله لا تدلّ على إسلامه، وكان فارسيّاً ماهراً في صنعة الإنشاء والأدب، وهو الذي عرّب كتاب كليلة ودمنة، وقتله سفيان المهلبي أمير البصرة عام 143 بأمر المنصور.
{ 195 }
وهم، فقلت: يرحمك اللّه وأيّ شيء نقول وأيّ شيء يقولون،ما قولي وقولهم إِلا واحد، فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحداً، وهم يقولون إِن لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون بأن للسماء إِلهاً وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد، قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إِن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه يدعوهم الى عبادته حتّى لا يختلف فيه اثنان ؟ لِمَ احتجب عنهم وأرسل اليهم الرسل ؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب الى الإيمان به، فقال لي: ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك ؟ نشوَّك(1) ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوَّتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوَّتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبّك بعد بغضك وبغضك بعد حبّك، وعزمك بعد إِنابتك(2)، وإِنابتك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك لما لم يكن في وهمك، وغروب(3) ما أنت معتقده عن ذهنك وما زال يعدّ(4) عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها، حتّى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه(5).
ودخل على الصادق عليه السلام يوماً فقال: أليس تزعم أن اللّه تعالى خالق كلّ شيء ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: بلى، فقال: أنا أخلق، فقال له:
______________________________
(1) نشأك في نسخة.
(2) الإنابة: الرجوع، وفي نسخة: إِبائك، وفي نسخة اُخرى: إِناءتك وهي الإبطاء.
(3) وفي نسخة عزوب.
(4) وفي نسخة يعدّد.
(5) الكافي: كتاب التوحيد منه، باب حدوث العالم وإثبات المحدث.
{ 196 }
كيف تخلق ؟ فقال: أحدث في الموضع ثمّ ألبث عنه فيصير دواباً فكنت انا الذي خلقتها، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه ؟ قال: بلى، قال عليه السّلام: فتعرف الذكر من الانثى وتعرف عمرها ؟ فسكت.
وللصادق عليه السلام نظير ذلك مع الجعد بن درهم، وكان من أهل الضلال والبدع، وقتله والي الكوفة يوم النحر لذلك، قال ابن شهراشوب: قيل إِن الجعد بن درهم جعل في قارورة ماءً وتراباً فاستحال دوداً وهواماً فقال لأصحابه: أنا خلقت ذلك لأني كنت سبب كونه، فبلغ ذلك جعفر بن محمّد عليهما السلام، فقال: ليقل كم هي ؟ وكم الذكران منه والاناث إِن كان خلقه، وكم وزن كلّ واحدة منهنّ، وليأمر الذي سعى الى هذا الوجه أن يرجع الى غيره، فانقطع وهرب.
ثمّ أن ابن أبي العوجاء عاد اليه في اليوم الثاني فجلس وهو ساكت لا ينطق فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كأنك جئت تعيد بعض ما كنّا فيه، فقال: أردت ذلك يا ابن رسول اللّه، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما أعجب هذا تنكر اللّه وتشهد أني ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ! فقال: العادة تحملني على ذلك، فقال له الصادق عليه السّلام: فما يمنعك من الكلام، قال: إِجلال لك ومهابة، ما ينطق لساني بين يديك، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلّمين فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك، قال عليه السّلام: يكون ذلك، ولكن أفتح عليك سؤالاً، وأقبل عليه فقال له: أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟ فقال له ابن أبي العوجاء: أنا غير مصنوع، فقال له الصادق عليه السّلام: فصف لي لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون ؟ فبقي عبد الكريم مليّاً لا يحير جواباً وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول: طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن
{ 197 }
كلّ ذلك من صفة خلقه، فقال له الصادق عليه السّلام فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعاً لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الاُمور، فقال له عبد الكريم: سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها، فقال له أبو عبد اللّه: هبك علمت أنك لم تُسأل فيما مضى فما علمك إِنك لم تُسأل فيما بعد ؟ على أنك يا عبد الكريم نقضت قولك، لأنك تزعم أن الأشياء من الأوّل سواء فكيف قدّمت وأخّرت ؟ ثم قال: يا عبد الكريم: أنزيدك وضوحاً ؟ أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر، فقال لك قائل: هل في الكيس دينار فنفيت كون الدينار في الكيس، فقال لك قائل: صف لي الدينار ؟ وكنت غير عالم بصفة، هل لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم ؟ قال: لا، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فالعالَم اكبر وأطول وأعرض من الكيس، فلعلّ في العالَم صنعة من حيث لا تعلم، لا تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة، فانقطع عبد الكريم، وأجاب إِلى الإِسلام بعض أصحابه وبقي معه بعض.
فعاد في اليوم الثالث فقال: أقلب السؤال، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام سل عمّا شئت فقال: ما الدليل على حدوث الأجسام ؟ فقال: إِني ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إِلا واذا ضمّ اليه مثله صار اكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الاُولى، ولو كان قديماً ما زال ولا حال، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يجود ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه في الاُولى دخوله في العدم، ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد.
فقال عبد الكريم: هبك علمت في جري الحالين والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدوثها ؟ فقال الصادق عليه السّلام: إِنما نتكلّم على هذا العالَم
{ 198 }
الموضوع فلو رفعناه ووضعنا عالماً آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إِيّاه ووضعنا غيره، ولكن أجبت من حيث قدرت إِنك تلزمنا وتقول: إِن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ما ضمّ شيء منه الى مثله كان اكبر، وفي جواز التغيّر عليه خروجه من القدم كما بان في تغيير دخوله في الحدث، ليس وراءه شيء يا عبد الكريم، فانقطع وخزي.
أقول: إِن خلاصة كلام الصادق عليه السّلام: أن هذا العالَم إِذا ضمّ شيء منه إِلى شيء آخر حدث شيء اكبر، وفي ذلك زوال عن الحالة الاُولى وانتقال الى حال اُخرى، والقديم لا تطرأ عليه هذه التحوّلات، ولو كان ذلك التأليف بالفرض والوهم، كما لو كانت الأشياء حسب فرض ابن أبي العوجاء باقية على صغرها لا تكبر، لأنه من الاُمور البديهيّة بل أبده البديهيّات أنه بضمّ شيء إِلى شيء تحصل زيادة على كلّ من الشيئين، وهذه إِحدى بديهيّات أربع هي أساس العلوم الرياضيّة كلّها، فقد أرجع الإمام الدليل على حدوث العالَم الى أوضح بديهيّة في العقول التي لا يختلف فيها اثنان، على أنه عليه السّلام مع ذلك أجاب على تقدير هذا الفرض المحال وهو أن الأشياء تبقى على ما هي عليه بضمّ بعضها الى بعض أجاب بأن هذا الفرض نفسه هو فرض جواز التغيير عليه وخروجه من القِدم ودخوله في الحدث، لأن المفروض أن العالَم تقبل الأشياء فيه الزيادة بضمّ بعضها الى بعض، فلو فرضناه عالماً آخر لا يقبل ذلك فقد فرضنا رفع هذا العالَم وتغييره، فيتحقّق فيه الاستدلال على المطلوب. ما أدقّ هذا الدليل وأبدعه، ولذلك انقطع به ابن أبي العوجاء وخزي.
ولمّا كان في العام القابل التقى معه في الحرم، فقال له بعض شيعته: إِن ابن أبي العوجاء قد أسلم، فقال الصادق عليه السلام: هو أعمى من ذلك لا يسلم، فلمّا بصر بالصادق عليه السلام قال: سيّدي ومولاي، فقال له: ما جاء
{ 199 }
بك الى هذا الموضع ؟ فقال: عادة الجسد وسنّة البلد ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة، فقال له الصادق عليه السّلام: أنت بعدُ على عتوّك وضلالك يا عبد الكريم، فذهب يتكلّم، فقال له: لا جدال في الحجّ ونفض رداءه من يده، وقال: إِن يكن الأمر كما تقول وليس كما تقول نجونا ونجوت، وإِن يكن الأمر كما نقول وهو كما نقول نجونا وهلكت(1).
وناظر الصادق عليه السلام يوماً في تبديل الجلود في النار، فقال: ما تقول في هذه الآية «كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها»(2) هب هذه الجلود عصت فعذّبت فما بال الغير يعذّب ؟ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ويحَك هي هي وهي غيرها، قال: اعقلني هذا القول، فقال له: أرأيت لو أن رجلاً عهد الى لبنة فكسرها ثم صبّ عليها الماء وجبلها(3) ثم ردّها الى هيئتها الأولى، ألم تكن هي هي وهي غيرها ؟ فقال: بلى أمتع اللّه بك(4).
أقول: هذا ما توصّل اليه عظماء الفلاسفة بعد جهد وبحوث طويلة في تحليل صحّة عذاب الانسان المجرم، مع أن ذرّات جسمه الذي وقع منه الجرم تتبدّل وتتحوّل دائماً «بل هم في لبس من خلق جديد»(5). وبهذا البيان الدقيق يجاب عن شبهة الآكل والمأكول المعروفة، فمن أين تعلم هذه الفلسفة الدقيقة في تلك العصور التي ما شمّت رائحتها ؟ إِنه الامام، وكفى.
وكان لأبي شاكر الديصاني - أحد ملاحدة العرب - مع الصادق عليه السّلام
______________________________
(1) توحيد الصدوق طاب ثراه، باب حدوث العالم.
(2) النساء: 56.
(3) طبعها وليّنها.
(4) الاحتجاج للشيخ الطبرسي: 354.
(5) الدخان: 53.
{ 200 }
مناظرات وأسئلة، واُخرى بينه وبين هشام بن الحكم ويفزع هشام بها الى إِمامه الصادق عليه السّلام، قال يوماً لهشام: إِن في القرآن آية هي من قولنا، قال هشام: وما هي ؟ فقال:
«وهو الذي في السماء إِله وفي الأرض إِله»(1) قال هشام: فلم أدر بمَ اجيبه، فحججت فخبّرت أبا عبد اللّه عليه السلام، قال: هذا كلام زنديق خبيث، اذا رجعت اليه فقل له ما اسمك بالكوفة ؟ فإنه يقول لك فلان فقل له: ما اسمك بالبصرة ؟ فإنه يقول فلان، فقل له: كذلك ربّنا في السماء إِله، وفي الأرض إِله، وفي البحار إِله، وفي القفار إِله، وفي كلّ مكان إِله، قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته، فقال: هذه نقلت من الحجاز(2).
وسأل أبو شاكر هشام بن الحكم يوماً فقال: ألك رب ؟ فقال: بلى، فقال: أقادر هو ؟ قال: نعم قادر، قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا ؟ قال هشام: النظرة، فقال له: قد أنظرتك حولاً، ثمّ خرج عنه، فركب هشام الى أبي عبد اللّه عليه السّلام فاستأذن عليه فأذن له، فقال له يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أتاني عبد اللّه الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إِلا على اللّه وعليك، فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا هشام كم حواسّك ؟ قال: خمس، قال: أيّها أصغر ؟ قال: الناظر، قال: وكم قدر الناظر ؟ قال: مثل العدسة أو أقلّ منها، فقال له: يا هشام فانظر أمامك وفوقك واخبرني بما ترى، فقال: أرى سماءً وأرضاً ودوراً وقصوراً وبراري وجبالاً وأنهاراً، فقال له أبو عبد اللّه: إِن الذي قدرَ أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن
______________________________
(1) الزخرف: 84.
(2) الكافي: باب الحركة والانتقال.
{ 201 }
يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة، فأكبّ هشام عليه يقبّل يديه ورأسه ورجليه، وقال: حسبي يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وانصرف الى منزله.
أقول: إِن هذا الجواب صدر عن الإمام عليه السلام على سبيل الإسكات والإقناع، والجواب البرهاني أن يقال: إِن اللّه تعالى لا يقدر على مثل ذلك لأنه محال والمحال غير مقدور له، كما أنه لا يقدر على إِيجاد شريك له وعلى الجمع بين النقيضين والضدّين، وهذا ليس من النقص في القدرة بل للنقص في المقدور، لأن القدرة تحتاج الى أن يكون متعلّقها ممكناً في ذاته، والفرق واضح بين النقص في القدرة والنقص في المقدور، ولعلّ الديصاني لو اُجيب بمثل هذا لما اقتنع به أو لما عقله.
وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن مثل ذلك، فأجاب بأن اللّه لا يُنسب الى العجز، والذي سألتني لا يكون، وهذا هو الجواب الحقيقي، ومفاده ما أوضحناه.
ثمّ إِن الديصاني غدا على هشام، فقال له هشام: إِن كنت جئت متقاضياً فهاك الجواب، فقال له: إِني جئتك مسلّماً ولم أجئك متقاضياً للجواب، فخرج الديصاني عنه حتّى أتى باب أبي عبد اللّه عليه السلام فاستأذن عليه فأذن له، فلمّا قعد قال له: يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي، فقال له أبو عبد اللّه: ما اسمك ؟ فخرج عنه ولم يخبره باسمه، فقال له أصحابه: كيف لم تخبره باسمك ؟ قال: لو كنت قلت له عبد اللّه كان يقول من الذي أنت له عبد ؟ فقالوا: عُد اليه وقل له يدلّك على معبودك ولا يسألك عن اسمك، فرجع اليه وقال: يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي ولا تسألني عن اسمي، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: اجلس، واذا غلام له صغير في كفّه بيضة يلعب بها
{ 202 }
فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها، ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها، لا يدرى للذكر خلقت أم للاُنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس أترى لهذا مدبّراً ؟ قال: فأطرق مليّاً، ثمّ قال: أشهد أن لا إِله إِلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمّداً عبده ورسوله، وأنك إِمام وحجّة من اللّه على خلقه، وأنا تائب ممّا كنت فيه(1).
______________________________
(1) الكافي: كتاب التوحيد منه، باب حدوث العالم وإِثبات المحدث.
حضر أبو عبد اللّه عليه السلام مجلس المنصور يوماً وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطبّ فجعل أبو عبد اللّه الصادق عليه السلام ينصت لقراءته، فلما فرغ الهندي قال له: يا أبا عبد اللّه أتريد ممّا معي شيئاً ؟ قال: لا، فإن معي ما هو خير ممّا معك، قال: وما هو ؟ قال: اداوي الحار بالبارد والبارد بالحار، والرطب باليابس واليابس بالرطب، وأردّ الأمر كلّه الى اللّه عزّ وجل، وأستعمل ممّا قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، واعلم أن المعدة بيت الداء وأن الحميّة هي الدواء، واعوّد البدن ما اعتاد، فقال الهندي: وهل الطبّ إِلا هذا ؟ فقال الصادق: أفتراني عن كتب الطبّ أخذت، قال: نعم، قال: لا واللّه ما أخذت إِلا عن اللّه سبحانه، فأخبرني أنا أعلم بالطبّ أم أنت ؟ فقال الهندي: لا بل أنا، فقال الصادق عليه السلام: فأسألك شيئاً، قال: سل.
{ 203 }
قال: أخبرني يا هندي لِمَ كان في الرأس شؤن ؟(1) قال: لا أعلم، قال: فلِمَ جعل الشعر عليه من فوقه ؟ قال: لا أعلم.
قال: فلِمَ خلت الجبهة من الشعر ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كان لها تخطيط وأسارير ؟(2) قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كان الحاجبان من فوق العينين ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ جعل العينان كاللوزتين ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ جعل الأنف فيما بينهما ؟ قال: لا أعلم، قال: فَلِمَ كان ثقب الأنف في أسفله ؟ قال: لا أعلم، قال: فَلِمَ جعلت الشفّة والشارب من فوق الفم ؟ قال: لا أعلم، قال: فَلِمَ احتدَّ السنّ وعرض الضرس(3) وطال الناب ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ جعلت اللحية للرجال ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ خلت الكفّان من الشعر ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ خلا الظفر والشعر من الحياة ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كان القلب كحبّ الصنوبر(4) قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كانت الرئة قطعتين، وجعل حركتها في موضعها ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كانت الكبد حدباء ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ كانت الكلية كحبّ اللوبياء ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ جعل طيّ الركبتين الى خلف ؟ قال: لا أعلم، قال: فلِمَ تخصّرت القدم ؟(5) قال: لا أعلم، فقال الصادق عليه السلام: لكنّي أعلم، قال: فأجب.
______________________________
(1) روى في البحار في شرح هذه المناظرة عن ابن سينا في التشريح أن الجمجمة مركّبّة من سبعة أعظم أربعة كالجدران وواحد كالقاعدة والباقيان يتألّف منها العجف وبعضها موصول الى بعض بدروز يقال لها الشؤن. أقول: لعلّه يريد بالعجف: العظام الفصار.
(2) الأسارير: الخطوط.
(3) يراد منه الطواحن خاصّة.
(4) الصنوبر شجر لا يزال مخضراً وهو رفيع الورق وحبّه مستدير طويل.
(5) مخصر القدم: من تمسّ قدمه الأرض من مقدمها وعقبها ويخوى أخمصها مع دقّة فيه.
{ 204 }
قال الصادق عليه السلام: كان في الرأس شؤن لأن المجوّف إِذا كان بلا فصل أسرع اليه الصداع، فاذا جعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد وجعل الشعر من فوقه لتوصل بوصوله الأدهان الى الدماغ ويخرج بأطرافه البخار منه، ويردّ الحرّ والبرد عليه، وخلت الجبهة من الشعر لأنها مصبّ النور الى العينين(1) وجعل فيها التخطيط والأسارير ليحتبس العرق الوارد من الرأس الى العين قدر ما يميطه الانسان عن نفسه وهو كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه، وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردّا(2) عليهما من النور قدر الكفاية، ألا ترى يا هندي أن من غلبه النور جعل يده على عينيه ليردّ عليهما قدر كفايتهما منه، وجعل الأنف فيما بينهما ليقسم النور قسمين الى كل عين سواء، وكانت العين كاللوزة ليجري فيها الميل بالدواء ويخرج منها الداء ولو كانت مربّعة أو مدوّرة ما جرى فيها الميل وما وصل اليها دواء ولا خرج منها داء، وجعل ثقب الأنف في أسفله لتنزل منه الأدواء المتحدّرة من الدماغ ويصعد فيه الأراييح الى المشام، ولو كان في أعلاه لما نزل منه داء ولا وجد رائحة، وجعل الشارب والشفة فوق الفم لحبس ما ينزل من الدماغ الى الفم لئلا يتنغّص على الانسان طعامه وشرابه فيميطه عن نفسه، وجُعلت اللحية للرجال ليستغنى بها عن الكشف(3) في المنظر ويعلم بها الذكر من الاُنثى، وجعل السنّ حادّاً لأنه به يقع العض، وجعل الضرس عريضاً لأنه به يقع الطحن والمضغ، وكان الناب طويلاً ليسند(4) الأضراس والأسنان كالاسطوانة في البناء، وخلا الكفّان من الشعر لأن بهما يقع
______________________________
(1) فلو كان في الجبهة لحال دون النور.
(2) ليورد في نسخة.
(3) أي كشف العورة.
(4) وفي نسخة ليشدّ. والمعنى عليهما معاً لا يختلف.
{ 205 }
اللمس، فلو كان فيهما شعر ما درى الانسان ما يقابله ويلمسه، وخلا الشعر والظفر من الحياة لأن طولهما سمج يقبح وقصّهما حسن فلو كانت فيهما حياة لألم الانسان قصّهما، وكان القلب كحبّ الصنوبر لأنه منكس فجعل رأسه دقيقاً ليدخل في الرئة فيتروّح عنه ببردها لئلا يشيط الدماغ بحرّه(1)، وجُعلت الرئة قطعتين ليدخل(2) بين مضاغطها(3) فيتروّح عنه بحركتها، وكانت الكبد حدباء لتثقل المعدة ويقع جميعها عليها فيعصرها ليخرج(4) ما فيها من البخار، وجعلت الكلية كحبّ اللوبياء لأن عليها مصبّ المني نقطة بعد نقطة، فلو كانت مربّعة أو مدوّرة احتبست النقطة الاُولى الى الثانية فلا يلتذّ بخروجها الحي، إِذ المني ينزل من فقار الظهر الى الكلية، فهي كالدودة تنقبض وتنبسط ترميه أوّلاً فأوّلاً الى المثانة كالبندقة من القوس، وجعل طيّ الركبة الى خلف لأن الانسان يمشي الى ما بين يديه فتعتدل الحركتان(5) ولولا ذلك لسقط في المشي، وجُعلت القدم مخصّرة(6) لأن المشي اذا وقع على الأرض جميعه ثَقل ثُقل حجر الرحى، فإذا كان على طرقه(7) دفعه الصبي، واذا وقع على وجهه صعب نقله على الرجل.
فقال له الهندي: من أين لك هذا العلم ؟ فقال عليه السّلام: أخذته عن آبائي عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن جبرئيل عن ربّ
______________________________
(1) لاتصال ما بين القلب والدماغ بالشرايين فاذا احترّ القلب احترّ الدماغ.
(2) أي القلب.
(3) وفي نسخة مساقطها.
(4) وفي نسخة فيخرج.
(5) وفي نسخة الحركات.
(6) متخصّرة في نسخة.
(7) وفي نسخة حرفه.
{ 206 }
العالمين جلّ جلاله الذي خلق الأبدان والأرواح، فقال الهندي: صدقت وأنا أشهد أن لا إِله إِلا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه وعبده وأنك أعلم أهل زمانه(1).
_____________________________
(1) بحار الأنوار: 10/207.
تفضيل النبي صلّى اللّه عليه وآله
قال أبو خنيس الكوفي: حضرت مجلس الصادق عليه السّلام وعنده جماعة من النصارى، فقالوا: فضل موسى وعيسى ومحمّد سواء، لأنهم عليهم السّلام أصحاب الشرائع والكتب، فقال عليه السّلام: محمّد أفضل منهما عليهما السّلام وأعلم، ولقد أعطاه اللّه تبارك وتعالى من العلم ما لم يعطِ غيره، فقالوا: آية من كتاب اللّه تعالى نزلت في هذا ؟ قال عليه السّلام: نعم قوله تعالى «وكتبنا له في الألواح من كلّ شيء»(2) وقوله تعالى لعيسى: «وليبيّننّ لكم بعض الذي تختلفون فيه»(3) وقوله تعالى للسّيد المصطفى صلّى اللّه عليه وآله «جئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزَّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء»(4) وقوله تعالى: «ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم وأحصى كلّ شيء عدداً»(5) فهو واللّه أعلم منهما، ولو حضر موسى وعيسى محضرتي وسألاني لأجبتهما، وسألتهما ما أجابا(6).
أقول: إِذا كان أمير المؤمنين باب مدينة علم الرسول وأولاده ورثة علمه فهم
______________________________
(2) الأعراف: 145.
(3) الزخرف: 63.
(4) النحل: 89.
(5) الجن: 28.
(6) بحار الأنوار: 10/215/15.
{ 207 }
إِذن أعلم الناس كلّهم، الأنبياء وغيرهم.
سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول(1) فقال: أخبرني عن قول اللّه تعالى: «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة»(2) وقال تعالى في آخر السورة «ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كلّ الميل»(3) فبين القولين فرق ؟ فقال أبو جعفر الأحول: فلم يكن عندي جواب فقدمت المدينة فدخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام فسألته عن الآيتين، فقال: أمّا قوله «فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة» فإنما عنى في النفقة، وقوله «ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم» فإنما عنى في المودّة، فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة، فرجع أبو جعفر الى الرجل فأخبره، فقال: هذا حملته من الحجاز(4).
أقول: حاول هذا الزنديق أن يناقض بين الآيتين لأن الثانية جعلت العدل غير مستطاع، ولكن هذا التناقض إِنما يصحّ اذا كان متعلّق الآيتين واحداً، وأمّا اذا كان متعلّق الاُولى النفقة والثانية المودّة فلا تناقض بين العدلين.
______________________________
(1) مؤمن الطاق وسنشير اليه في ثقات رواته.
(2) النساء: 3.
(3) النساء: 129.
(4) بحار الأنوار: 10/202/6.