ولمّا قُبض عليه السلام كفّنه ولده الكاظم عليه السلام في ثوبين شطويين(6)
______________________________
(6) شطا : اسم قرية في مصر تنسب اليها الثياب الشطويّة.
{ 104 }
كان يحرم فيهما، وفي قميص من قمصه، وفي عمامة كانت لعلي بن الحسين عليه السلام، وفي بُرد اشتراه بأربعين ديناراً(1).
وأمر بالسراج في البيت الذي كان يسكنه أبو عبد اللّه عليه السلام الى أن اُخرج الى العراق كما فعل أبو عبد اللّه عليه السلام من قبل في البيت الذي كان يسكنه أبوه الباقر عليه السلام(2).
وقال أبو هريرة(3) لمّا حُمل الصادق عليه السلام على سريره واُخرج الى البقيع ليُدفن :
أقول وقد راحوا به يحملونه***على كاهل من حامليه وعاتق
أتدرون ماذا تحملون الى الثرى***ثبير ثوى(4) من رأس علياء شاهق
غداة حثا الحاثون فوق ضريحه***تراباً وأولى كان فوق المفارق
أيا صادق ابن الصادقين إِليه***بآبائك الأطهار حلفة صادق
لحّقاً بكم ذو العرش أقسم في الورى***فقال تعالى اللّه رب المشارق
نجوم هي اثنا عشرة كن سبقا***الى اللّه في علم من اللّه سابق
ودُفن عليه السلام في البقيع مع جدّه لاُمّه الحسن وجده لأبيه زين العابدين، وأبيه الباقر عليهم جميعاً صلوات اللّه، وهو آخر من دُفن من الأئمة في البقيع، فإن
______________________________
(1) الكافي، باب مولد الصادق عليه السلام : 1/475/8.
(2) نفس المصدر.
(3) الظاهر أنه العجلي وقد عدّه ابن شهراشوب في شعراء أهل البيت المجاهدين، وروي أن الصادق عليه السلام ترحّم عليه، وهذا يقتضي أن يكون موته قبل الصادق، إِلا أن يكون الترحّم عليه وهو حي، أو أن الكاظم هو المترحّم ونسب الى الصادق خطأً.
(4) الأنسب أن يكون - هوى - ولعلّ الخطأ من النسّاخ.
{ 105 }
أولاده دُفنوا بالعراق إِلا الرضا في خراسان.
كان يُكنَّى بأبي عبد اللّه، وأبي إِسماعيل، وأبي موسى، وأوّلها أشهرها، ويُلقَّب بالصادق، والفاضل، والقائم، والكافل، والمنجي، وغيرها وأوّلها أيضاً أشهرها.
لقَّبه بالصادق أبوه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، كما في الخرائج والجرائح، وكما في البحار ج 11 في أحواله عليه السلام عن علل الشرائع، وكما في كفاية الأثر لعلي بن محمّد بن علي الخزاز عند ترجمة الصادق عليه السلام مسنداً عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وآله في حديث طويل، ومنه أنه قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : ويخرج اللّه من صُلبه - أي صُلب محمّد الباقر - كلمة الحق، ولسان الصدق، فقال له ابن مسعود : فما اسمه يا نبيّ اللّه ؟ قال : يقال له جعفر، صادق في قوله وفعله، الطاعن عليه كالطاعن عليّ، والرادّ عليه كالرادّ عليَّ، الحديث.
وبلغ من شهرته بهذا اللقب أنه صار كالاسم له، حتّى أنه ليُستغنى به عن ذكر اسمه، ويُعرف به اذا اُطلق، ومن ثمّ جعلناه عنوان كتابنا.
وكذلك كنيته بأبي عبد اللّه صارت كالاسم له يُستغنى بها عن اسمه ولقبه لا سيّما في الأحاديث.
قال ابن شهراشوب في المناقب في أحواله : وكان عليه السلام ربع القامة
{ 106 }
أزهر الوجه، حالك الشعر جعده(1) أشمّ الأنف(2) أنزع(3) رقيق البشرة(4) على خدّه خالٌ اسود على جسده خيلان حمرة(5).
_____________________________
(1) الجعد في الشعر خلاف البسط.
(2) الشمم : ارتفاع قصبة الأنف وحسنها وارتفاع في أعلاها وانتصاب الأرنبة - طرف الأنف، ويكنّى به عن الإباء.
(3) النزع : انحسار الشعر عن جانبي الجبهة.
(4) وفي نسخة : دقيق المسربة، والمسربة : الشعر وسط الصدر الى البطن.
(5) أي يخال أن على جسده حمرة، هذا اذا قرئ بفتح الخاء المعجمة، وأما اذا قرئ بالكسر فهي جمع خال، ومعناه أن الخال الذي على جسده هو من الحمرة، وفي نسخة حبلان حمرة، بحاء مهملة وباء موحّدة.
إِن لزيارة المؤمن في اللّه حيّا وميّتاً من الفضل ما لا يبلغ مداه، كما يشهد به النقل، فكيف بإمام المؤمنين، على أن في زيارة مراقد الأنبياء والأوصياء إِحياء لذكرهم واشادة بفضلهم، وجمعاً للقلوب عليهم، وترغيباً للناس على الاقتداء بأعمالهم، وذلك ما تحبّذه جميع عقلاء الاُمم لإحياء مآثر العظماء وتجديد ذكرى فضلهم والتشجيع على الاحتذاء بهديهم، مضافاً الى أن في زيارة مراقد النبيّ والأئمة تعظيماً لشعائر اللّه تعالى وهو من تقوى القلوب.
والنقل في فضل زيارته عليه السلام من وجهين، الأوّل : ممّا جاء في فضل زيارة قبورهم عامّة، الثاني : ممّا جاء في فضل زيارة قبره خاصّة.
أمّا الأوّل فكثير جداً، ومنه قول الرضا عليه السلام : إِن لكلّ إِمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإِن من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة(6).
______________________________
(6) وسائل الشيعة : 5/253/5.
{ 107 }
وقول أمير المؤمنين عليه السلام : أتمّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اذا خرجتم الى بيت اللّه الحرام، فإن تركه جفاء، وبذلك اُمرتم، واُتمّوا بالقبور التي ألزمكم اللّه حقّها وزيارتها واطلبوا الرزق عندها(1).
وقول الصادق عليه السلام : من زار إِماماً مُفترض الطاعة وصلّى عنده أربع ركعات كتب اللّه له حجّة وعمرة(2) الى ما لا يحصى من أمثال هذه الأحاديث، وقد ذكرت كثيراً منها كتب المزارات.
وأمّا الثاني فمثل قول الصادق عليه السلام : من زارني غُفرت له ذنوبه ولم يمت فقيراً(3).
وقول العسكري عليه السلام : من زار جعفراً أو أباه لم تشتك عينه، ولم يصبه سقم، ولم يمت مبتلى(4)، الى كثير سواها.
* * *
______________________________
(1) وسائل الشيعة : 5/255/10.
(2) وسائل الشيعة، كتاب المزار من كتاب الحج : 5/260/25.
(3) المُقنعة للشيخ المفيد : ص 73.
(4) وسائل الشيعة 5/426/2.
إِختلفوا في عدد أولاده والمشهور فيهم ما ذكره الشيخ المفيد طاب ثراه في الإرشاد، قال : وكان أولاد أبي عبد اللّه عليه السلام عشرة : إِسماعيل وعبد اللّه وامّ فروة امّهم فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي عليهما السلام وموسى عليه السلام وإِسحاق ومحمّد لاُمّ ولد(1) والعبّاس وعليّ وأسماء وفاطمة لاُمّهات شتّى.
_____________________________
(1) وتكنى اُمّ حميدة.
كان إِسماعيل اكبر أولاد الصادق عليه السلام، وكان شديد المحبّة له والبرّ به والاشفاق عليه(2).
حتّى أنه عليه السلام قال للمفضّل بن عمر وهو من وكلائه وخواصّ أصحابه الثقات وأبو الحسن موسى عليه السلام غلام : هذا المولود - يعني موسى الكاظم - الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه، ثمّ قال : لا تجفُ
______________________________
(2) إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه : 284.
{ 109 }
إِسماعيل(1).
إِن هذا الكلام يدلّ على صرف الإمامة عن إِسماعيل الى موسى، ولكن لمّا خشي أن يكون ذلك أيضاً صارفاً عن اكرامه قال : لا تجفُ إِسماعيل.
وقال عليه السلام : كان القتل قد كتب على إِسماعيل مرّتين فسألت اللّه تعالى في رفعه عنه فرفعه(2)، وأقواله وأعماله التي كانت تنبئ عن ذلك الحبّ والعطف كثيرة، وحتّى ظنّ قوم من الشيعة أنه القائم بعد أبيه بالإمامة لذلك البرّ وتلك الرعاية ولأنه اكبر اخوته سنّاً، واكبر الاخوة سنّاً أحد علائم الإمامة، ولكن موته أيام أبيه أزال ذلك الظن.
وأظهر الصادق عليه السلام بموت إِسماعيل عجباً، فإنه بعد أن مات وغطّي أمر بأن يكشف عن وجهه وهو مسجّى، ثمّ قبَّل جبهته وذقنه ونحره، ثمّ أمر به فكشف وفعل به مثل الأوّل، ولمّا غُسّل واُدرج في اكفانه أمر به فكشف عن وجهه ثمّ قبّله في تلك المواضع ثالثاً، ثمّ عوَّذه بالقرآن، ثمّ أمر بإدراجه.
وفي رواية اُخرى أنه اُمر المفضّل بن عمر فجمع له جماعة من أصحابه حتّى صاروا ثلاثين، وفيهم أبو بصير وحمران بن أعين وداود الرقي، فقال لداود : اكشف عن وجهه، فكشف داود عن وجه إِسماعيل، فقال : تأمّله يا داود فانظره أحيّ هو أم ميّت ؟ فقال : بل هو ميّت، فجعل يعرض على رجل رجل حتّى أتى على آخرهم، فقال : اللّهمّ اشهد، ثمّ أمر بغسله وتجهيزه، ثمّ قال : يا مفضّل احسر عن وجهه، فحسر عن وجهه، فقال : حيّ هو أم ميّت ؟ انظروه
______________________________
(1) الكافي، كتاب الحجّة، باب النصّ على الكاظم عليه السلام : 1/309/8.
(2) رجال الشيخ أبي علي.
{ 110 }
جميعكم، فقالوا : بل هو يا سيّدنا ميّت، فقال : شهدتم بذلك وتحققتموه ؟ قالوا : نعم، وقد تعجّبوا من فعله، فقال : اللّهمّ اشهد عليهم، ثمّ حُمل الى قبره فلمّا وُضع في لحده قال : يا مفضّل اكشف عن وجهه، فكشف فقال للجماعة : انظروا أحيّ هو أم ميّت ؟ فقالوا : بل ميّت يا وليّ اللّه، فقال : اللّهمّ اشهد، ثمّ أعاد عليهم القول في ذلك بعد دفنه، فقال لهم : الميّت المكفّن المحنّط المدفون في هذا اللحد من هو ؟ فقالوا : إِسماعيل ولدك، فقال اللّهمّ اشهد(1).
قد يعجب المرء من إِصرار الإمام على أن يعرف الناس موت إِسماعيل حتّى لا تبقى شبهة ولا ريب بموته، ولكن لا عجب من أمر الإمام العالم بما سيحدث في هذا الشأن، إِنه يعلم أن قوماً سيقولون بإمامته لأنه الأكبر زعماً منهم أنه لم يمت، فما فعل ذلك إِلا ليقيم الحجّة عليهم، وقد كشف بنفسه عليه السلام عن هذا السّر، فإنه قال بعد أن وُضع إِسماعيل في لحده وأشهد القوم على موته : فإنه سيرتاب المبطلون، يريدون إِطفاء نور اللّه، ثمّ أومى الى موسى عليه السلام، ولمّا أن دُفن إِسماعيل وأشهدهم أخذ بيد موسى فقال : هو حقّ والحقّ معه الى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها(2).
وظهر على الصادق الحُزن الشديد حين حضر إِسماعيل الموت وسجد سجدة طويلة، ثمّ رفع رأسه فنظر الى إِسماعيل قليلاً ونظر الى وجهه، ثمّ سجد اُخرى أطول من الاُولى، ثمّ رفع رأسه فغمضه وربط لحييه وغطّى عليه ملحفته، ثمّ قام ووجهه قد دخله شيء عظيم حتّى أحسّ ذلك منه من رآه، وعلى أثر ذلك دخل المنزل فمكث ساعة، ثمّ خرج على القوم مدهناً مكتحلاً وعليه ثياب
______________________________
(1) بحار الأنوار : 47/254.
(2) بحار الأنوار : 1/188.
{ 111 }
غير التي كانت عليه، ووجهه قد تسرّى عنه ذلك الأثر من الحزن فأمر ونهى، حتّى اذا فرغ من غسله دعا بكفنه فكتب في حاشيته : إِسماعيل يشهد أن لا إِله إِلا اللّه(1).
فتعجّب الناس من انقلاب حاله وذهاب ذلك الحُزن الشديد فبدر اليه بعض أصحابه قائلاً : جعلت فداك لقد ظننا أننا لا ننتفع بك زماناً لما رأيناه من جزعك، فقال عليه السلام : إِنّا أهل بيت نجزع ما لم تنزل المصيبة فاذا نزلت صبرنا.
وقدّم لأصحابه المائدة وعليها أفخر الأطعمة وأطيب الألوان ودعاهم الى الأكل وحثّهم عليه، ولا يرون للحزن أثراً على وجهه، فقيل له في ذلك، فقال : وما لي لا اكون كما ترون وقد جاء في خبر أصدق الصادقين : إِنّي ميّتٌ وإِيّاكم.
ولكنه لمّا حُمل ليدفن تقدم سريره بغير حذاء ولا رداء، وهذا أعظم شعار للحزن، وكان يأمر بوضع السرير على الأرض يكشف عن وجهه يريد بذلك تحقيق موته لدى الناس، فعل ذلك مراراً الى أن انتهوا به الى قبره(2).
ولمّا فرغ من دفنه جلس والناس حوله وهو مُطرق، ثمّ رفع رأسه فقال : أيها الناس إِن هذه الدنيا دار فراق، ودار التواء، لا دار استواء على أن لفراق المألوف حرقة لا تُدفع، ولوعة لا تُرد، وإِنما يتفاضل الناس بحسن العزاء وصحّة الفكرة، فمن لم يثكل أخاه ثكله أخوه، ومن لم يقدم ولداً كان هو المقدم دون الولد، ثمّ تمَثل بقول أبي خراش الهذلي :
ولا تحسبن أني تناسيت عهده***ولكن صبري يا اميم جميل(3)
______________________________
(1) وما زال الناس يكتبون الشهادة على اكفان الموتى من ذلك اليوم، اقتداءً بعمل الإمام، وقد بلغني عن بعض أهل الجمود أنهم يكتبون لكل ميّت منهم : إِسماعيل يشهد...
(2) ارشاد الشيخ المفيد طاب ثراه : 285.
(3) اكمال الدين : 1/163، والأمالي للشيخ الصدوق : 237.
{ 112 }
ولمّا مات إِسماعيل استدعى الصادق عليه السلام بعض شيعته وأعطاه دراهم وأمره أن يحجّ بها عن ابنه إِسماعيل، وقال له : إِنك اذا حججت عنه لك تسعة أسهم من الثواب ولإسماعيل سهم واحد(1).
ومات إِسماعيل بالعريض(2) وحُمِل على الرقاب الى المدينة(3) وقبره فيها معروف، وهدمه ابن السعود كما هدم قبور آبائه الأئمة في البقيع والى اليوم لم يسمح بإعادة البناء عليها.
فتلك الأعمال من الصادق عليه السلام مع ابنه إِسماعيل تدلّنا على كبير ما يحمل له من الحبّ والبرّ والعطف، وعلى ما كان عليه إِسماعيل من التقوى والفضل، ولكن هناك أحاديث قدحت في مقامه ووصمت قدسيّ ذاته، وإِني لا أراها تعادل تلك الأحاديث السالفة، بل إِن بعض الأخبار كشفت لنا النقاب عن كذب هذه الأخبار القادحة، أو انها صدرت لغايات مجهولة لنا، فمن تلك الأحاديث الكاشفة، ما رواه في الخرائج والجرائح عن الوليد بن صبيح(4) قال : جاءني رجل فقال لي : تعال حتّى اُريك ابن إِلهك(5) فذهبت معه فجاء بي الى قوم يشربون، فيهم إِسماعيل بن جعفر، فخرجت مغموماً فجئت الى الحجر فاذا إِسماعيل بن جعفر متعلّق بالبيت يبكي قد بَلَّ أستار الكعبة
______________________________
(1) بحار الأنوار : 47/255.
(2) بضمّ أوله وفتح ثانيه، من أعمال المدينة.
(3) إرشاد الشيخ المفيد : 285.
(4) أبي العباس الكوفي، كان من رواة الصادق عليه السلام وثقاتهم وله كتاب رواه الحسن بن محبوب عن ابنه العباس عنه.
(5) يعني بالاله الصادق عليه السلام زعماً من هؤلاء أن الشيعة ترى الوهيّة الأئمة، ما اكبرها فريّة عليهم، وقد سبق منا «1/54» ما كتبناه عن معتقد الاماميّة في الامام، وهذا سوى رسالتنا «الشيعة والامامة» نعم توجد بعض الفِرق الغالية ولكن الاماميّة بل والفِرق الاُخرى الشيعية تبرأ منهم.
{ 113 }
بدموعه، فرجعت أشتد فاذا إِسماعيل جالس مع القوم، فرجعت فاذا هو آخذ بأستار الكعبة قد بَلَّها بدموعه، قال : فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السلام، فقال : لقد ابتلي ابني بشيطان يتمثّل على صورته.
فهل يا ترى زكاة لإسماعيل أفضل من هذا الحديث، فلا بدّ إِذن من طرح الأحاديث القادحة أو حملها على غايات غير ما دلّت عليه بظاهرها، ولو كان إِسماعيل كما قدحت فيه تلك الأحاديث لما لازمه الصادق عليه السلام في الحضر والسفر، ولنحّاه كما نحّى ابنه عبد اللّه.
ولمّا مات إِسماعيل انصرف عن القول بإمامته من كان يظنّ أن الإمامة فيه بعد أبيه وحدث القول بإمامته بعد أبيه الصادق، والقائلون بإمامته يسمّون بالاسماعيليّة، وقد أشرنا الى هذه الفرقة في 1 : 52.
وذكر هنا الشيخ المفيد طاب ثراه في الإرشاد أن الذين أقاموا على حياته شرذمة لم تكن من خاصّة أبيه ولا من الرواة عنه وكانوا من الأباعد والأطراف، ولمّا مات الصادق عليه السلام انتقل فريق منهم الى القول بإمامة موسى عليه السلام بعد أبيه، وافترق الباقون فريقين، ففريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل، وقالوا بإمامة ابنه محمّد بن إِسماعيل، لظنّهم أن الامامة كانت في أبيه، وأن الإبن أحقّ بمقام الأب من الأخ، وفريق ثبتوا على حياة إِسماعيل، وهم اليوم شذّاذ لا يعرف منهم أحد يومى اليه، وهذان الفريقان يسمّيان بالاسماعيليّة، والمعروف منهم الآن من يزعم أن الامامة بعد إِسماعيل في ولده وولد ولده الى آخر الزمان.
كان عبد اللّه اكبر ولد الصادق عليه السلام بعد إِسماعيل، ومن ثمّ اشتبه
{ 114 }
الأمر على فئة فقالوا بإمامته، لأن الإمامة في الأكبر وجهلوا أنها في الأكبر ما لم يكن ذا عاهة، وعبد اللّه كان أفطح الرجلين، ولذا سُمي الأفطح، والقائلون بإمامته - الفطحيّة -.
وكان متّهماً في الخلاف على أبيه في الاعتقاد، ويقال أنه يخالط الحشويّة ويميل الى مذهب المرجئة، ولذلك لم تكن منزلته عند أبيه كمنزلة غيره من ولده في الإكرام(1).
ولربّما عاتبه أبوه ولامَه ووعظه، ولكن ما كان ليجدي معه ذلك الوعظ والعتب، وقد قال له يوماً: ما منعك أن تكون مثل أخيك فواللّه إِني لأعرف النور في وجهه، فقال عبد اللّه : لِمَ أليس أبي وأبوه واحداً ؟ واُمّي واُمّه واحدة، فقال له الصادق عليه السلام : إِنه من نفسي وأنت ابني(2).
أحسب أنه أراد الصادق عليه السلام من قوله - أخيك - إِسماعيل خاصّة ولذا أجابه عبد اللّه بقوله: أليس أبي أبوه واحداً ؟ واُميّ واُمّة واحدة ؟ لأن أخاه من الأبوين هو إِسماعيل لا موسى.
وكفى بهذا الحديث دلالة على فضل إسماعيل وعلوّ مقامه عند اللّه وعند أبيه، وعلى جهل عبد اللّه وانحطاط منزلته عند اللّه وعند أبيه.
وادّعى عبد اللّه الإمامة بعد أبيه محتجّاً بأنه اكبر اخوته، ولقد أنبأ الصادق ولده الكاظم عليهما السلام بأن عبد اللّه سوف يدَّعي الإمامة بعده ويجلس مجلسه، وأمره ألا ينازعَهُ ولا يكلّمه لأنه أول أهله لحوقاً به، فكان الأمر كما أنبأ عليه السلام(3).
______________________________
(1) إرشاد الشيخ المفيد : 285.
(2) الكافي، كتاب الحجّة، باب النصّ على الامام الكاظم عليه السلام : 1/310/10.
(3) بحار الأنوار : 47/261/29، والكشي : 165.
{ 115 }
ولما ادّعى الإمامة تبعه جماعة من أصحاب الصادق عليه السلام رجع اكثرهم بعد ذلك الى القول بإمامة موسى الكاظم عليه السلام، لمّا تبيّنوا ضعف دعواه، وقوَّة الحجّة من أبي الحسن عليه السلام ودلالة إِمامته(1).
وممّن دخل عليه مستعلماً صحّة دعواه هشام بن سالم ومؤمن الطاق، والناس مجتمعون حوله محدقون به، فسألاه عن الزكاة في كم تجب ؟ فقال : في مائتين خمسة، قالا : ففي مائة ؟ قال : درهمان ونصف، فقالا له : فواللّه ما تقول المرجئة هذا، فرفع يده الى السماء فقال : لا واللّه ما أدري ما تقول المرجئة، فعلما أنه ليس عنده شيء، فخرجا من عنده ضلالاً لا يدريان أين يتوجّهان فقعدا في بعض أزقّة المدينة باكيين حيرانين وهما يقولان : لا ندري الى من نقصد الى من نتوجّه الى المرجئة، الى القدريّة، الى الزيديّة، الى المعتزلة، الى الخوراج، فبينا هما كذلك إِذ رأى هشام شيخاً لا يعرفه يؤمي اليه بيده، فخاف أن يكون من عيون المنصور، لأنه كان له جواسيس وعيون بالمدينة ينظرون على من اتّفق شيعة جعفر عليه السلام فيضربون عنقه، فقال لمؤمن الطاق : تنحَّ عني فإني أخاف على نفسي وعليك، وإِنما يريدني ليس يريدك، فتنحَّ عني لا تهلك وتعين على نفسك، فتنحّى أبو جعفر غير بعيد، وتبع هشام الشيخ، فما زال يتبعه حتّى أورده باب أبي الحسن موسى عليه السلام، ثمّ خلاه ومضى، فاذا خادم بالباب، فقال له : ادخل رحمك اللّه، فلمّا دخل قال له أبو الحسن عليه السلام ابتداءً : إِليّ إِليّ إِليّ، لا إِلى المرجئة، ولا الى القدريّة، ولا الى الزيديّة، ولا الى المعتزلة، ولا الى الخوارج.
ثمّ خرج هشام من عند الكاظم عليه السلام ولقي أبا جعفر مؤمن الطاق
______________________________
(1) إرشاد الشيخ المفيد : 285، والكشي : 165.
{ 116 }
فقال له : ما وراك ؟ قال : الهدى، فحدّثه بالقصّة، ثمّ لقي المفضّل بن عمر وأبا بصير فدخلوا عليه وسلّموا وسمعوا كلامه وسألوه ثمّ قطعوا عليه، ثمّ لقي هشام الناس أفواجاً فكان كلّ من دخل عليه قطع عليه إِلا طائفة مثل عمّار الساباطي وأصحابه، فبقي عبد اللّه لا يدخل عليه إِلا قليل من الناس، فلمّا علم عبد اللّه أن هشاماً هو السبب في صدّ الناس عنه أقعد له بالمدينة غير واحد ليضربوه(1).
وبقي عبد اللّه مصرّاً على دعوى الإمامة الى أن مات، وما كانت أيامه بعد أبيه إِلا سبعين يوماً، فلمّا مات رجع الباقون الى القول بإمامة أبي الحسن عليه السلام إِلا شاذاً منهم(2) وهم الذين لزمهم لقب الفطحيّة، وإنما لزمهم هذا اللقب لقولهم بإمامة عبد اللّه وهو أفطح الرجلين(3) أو أفطح الرأس، وانقطع أثر هذه الطائفة بعد ذلك العهد بقليل، وكان آخرهم بنو فضال.
_____________________________
(1) رجال الكشي : 165.
(2) رجال الكشي : 165.
(3) إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه : 286.
كان من أهل الفضل والصلاح، والورع والاجتهاد، وروى عنه الناس الحديث والآثار، وكان ابن كاسب(4) اذا حدّث عنه يقول :
حدَّثني الثقة الرضي إِسحاق بن جعفر، وكان يقول بإمامة أخيه موسى
______________________________
(4) لم أجد قدر الوسع في التتبّع ذكراً لابن كاسب في كتب الرجال وجعل الطريحي والكاظمي تمييز إِسحاق برواية ابن كاسب عنه ولم يذكرا اسمه ولا شيئاً من حاله، وهذه الكلمة في حقّ إِسحاق تنسب الى سفيان بن عيينة أيضاً وليس هو ابن كاسب.
{ 117 }
عليه السلام، وروى عن أبيه النصّ على أخيه موسى عليه السلام، كما روى النصّ بها عليه من اخوته علي بن جعفر أيضاً، وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه إِثنان(1).
وكان إِسحاق من شهود الوصيّة التي أوصى بها الكاظم عليه السلام الى ابنه الرضا عليه السلام، وممّا يشهد لفضله وورعه مدافعته عن الرضا عليه السلام، فإنه لمّا مضى الكاظم عليه السلام قدَّم أبناء الكاظم أخاهم الرضا الى القاضي فقال العبّاس بن موسى عليه السلام : أصلحك اللّه وأمتع بك إِن في أسفل الكتاب كنزاً وجوهراً، ويريد أن يحتجبه، ويأخذه هو دوننا، ولم يدع أبونا رحمه اللّه شيئاً إِلا ألجأه اليه وتركنا عالة، ولولا أني اكفّ نفسي لأخبرتك بشيء على رؤوس الملأ، فوثب اليه إِبراهيم بن محمّد(2) فقال : إِذن واللّه تخبر بما لا نقبله منك، ولا نصدقك عليه، ثمّ تكون عندنا ملوماً مدحوراً، نعرفك بالكذب صغيراً وكبيراً، وكان أبوك أعرف بك لو كان فيك خير، وإِن كان أبوك لعارفاً بك في الظاهر والباطن، وما كان ليأمنك على تمرتين، ثمّ وثب اليه عمّه إِسحاق بن جعفر هذا فأخذ بتلبيبه فقال له : إِنك لسفيه ضعيف أحمق، أجمع هذا مع ما كان بالأمس منك، وأعانه القوم أجمعون(3).
وممّن روى عنه غير ابن كاسب وابن عيينة جماعة : منهم بكر بن محمّد الأزدي، ويعقوب بن جعفر الجعفري، وعبد اللّه بن إِبراهيم الجعفري، والوشا(4).
______________________________
(1) إرشاد الشيخ المفيد في أحوال الصادق والكاظم عليهما السلام : 289.
(2) الظاهر أنه ابن اسماعيل بن الصادق عليه السلام.
(3) الكافي، كتاب الحجّة، باب النصّ على الرضا عليه السلام : 1/318.
(4) أما بكر فهو ممّن روى عن الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام وكان من ثقات الرواة وروى عن الثقات، وأمّا يعقوب فهو يروي عن إسحاق وروى عنه الكليني في باب مولد أبي الحسن الكاظم عليه السلام وفي باب السحاق من أبواب النكاح، وهذا مما يشهد لوثاقته، ولكن أرباب الرجال لم يذكروا له ترجمة مستقلّة، وما اكثر من أهملوه، وهو ابن جعفر بن إبراهيم بن محمّد بن علي بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، وأما عبد اللّه فهو عمّ يعقوب المتقدم، وهو أبو محمّد الثقة الصدوق وأمّا الوشا فهو الحسن بن علي بن زياد من أصحاب الرضا عليه السلام ورواته الثقات.
كان محمّد سخيّاً شجاعاً، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وقالت زوجته خديجة بنت عبد اللّه بن الحسين(1) : ما خرج من عندنا محمّد يوماً قط في ثوب فرجع حتّى يكسوه، وكان يذبح كلّ يوم كبشاً لأضيافه(2) وكان يسمّى الديباجة لحسن وجهه وجماله(3).
وكان يرى رأي الزيديّة في الخروج بالسيف، وخرج على المأموان في سنة 199 بمكّة واتبعته الزيديّة الجاروديّة(4).
ولمّا بويع له بالخلافة ودعا لنفسه، ودُعي بأمير المؤمنين، دخل عليه الرضا عليه السلام فقال له : يا عم لا تُكذّب أباك وأخاك، فإن هذا الأمر لا يتمّ، ثمّ لم يلبث قليلاً حتّى خرج لقتاله عيسى الجلودي فلقيه فهزمه، ثمّ استأمن اليه، فلبس السواد(5) وصعد المنبر فخلع نفسه وقال : إِن هذا الأمر للمأمون وليس لي فيه حق(6).
______________________________
(1) ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
(2) إرشاد الشيخ المفيد في أحواله : 286.
(3) كتب الرجال في ترجمته.
(4) الارشاد : 286.
(5) وهو شعار العبّاسيّين، فكأنه أراد أن يجعل شعاره كشعارهم، أمّا العلويّون فكان شعارهم الخضرة.
(6) بحار الأنوار : 47/246/5.
{ 119 }
ولمّا أراد الموافقة مع جيش الجلودي أرسل الرضا اليه مولاه مسافراً وقال له : قل له لا تخرج غداً فإنك إِن خرجت غداً هُزمت وقُتل أصحابك، وإِن قال لك من أين علمت غداً فقل رأيت في النوم، فلمّا أتاه ونهاه عن الخروج وسأله عن سبب علمه بذاك وقال له رأيت في النوم، قال محمّد : نام العبد فلم يغسل استه، فكان الأمر كما أعلمه به مسافر عن الامام(1).
ولمّا خلع نفسه وتخلّى عن الأمر أنفذه الجلودي الى المأمون ولمّا وصل اليه اكرمه المأمون وأدنى مجلسه منه، ووصله وأحسن جائزته، فكان مقيماً معه بخراسان يركب اليه في موكب من بني عمّه، وكان المأمون يحتمل منه ما لا يحتمله السلطان من رعيّته.
وأنكر المأمون يوماً ركوبه اليه في جماعة من الطالبيّين، الذين خرجوا على المأمون في سنة 200 فأمنهم، فخرج التوقيع اليهم : لا تركبوا مع محمّد بن جعفر واركبوا مع عبد اللّه بن الحسين، فأبوا أن يركبوا ولزموا منازلهم، فخرج التوقيع : اركبوا مع من أحببتم، فكانوا يركبون مع محمّد بن جعفر عليه السلام اذا ركب الى المأمون وينصرفون بانصرافه(2).
ولمّا خرج على المأمون جفاه الرضا عليه السلام وقال : إِني جعلت على نفسي ألا يظلّني وإِيّاه سقف بيت، ويقول عمر بن يزيد وكان حاضراً عند أبي الحسن عليه السلام : فقلت في نفسي هذا يأمر بالبّر والصِلة، ويقول هذا لعمّه، فنظر إِليَّ فقال : هذا من البِرّ والصِلة، إنه متى يأتيني ويدخل عليَّ فيقول فيَّ فيصدقه الناس، واذا لم يدخل عليَّ ولم أدخل عليه لم يُقبل قوله اذا قال(3).
______________________________
(1) الارشاد : 314.
(2) الارشاد : 286.
(3) بحار الأنوار : 47/246/4.
{ 120 }
ومن معاجز أبي الحسن الرضا عليه السلام في شأن محمّد أن محمّداً مرض فأخبروا الرضا عليه السلام أنه قد ربط ذقنه، فمضى اليه ومعه بعض أصحابه، واذا لحياه قد ربطا واذا إِسحاق أخو محمّد وولده وجماعة آل أبي طالب يبكون، فجلس أبو الحسن عند رأسه ونظر في وجهه فتبسّم، فنقم من كان في المجلس على أبي الحسن، فقال بعضهم : إِنما تبسّم شامتاً بعمّه، ولمّا خرج ليصلّي في المسجد قال له أصحابه : جعلنا فداك قد سمعنا فيك من هؤلاء ما نكرهه حين تبسّمت، قال أبو الحسن عليه السلام : إِنما تعجّبت من بكاء إِسحاق وهو واللّه يموت قبله ويبكيه محمّد، فبرئ محمّد ومات إِسحاق(1).
ولمّا كانت خراسان دار مقرّه لم تخضع نفسه لوجود ذي الشوكة والتاج فيها - أعني المأمون - فكان إِباؤه يأبى له من الرضوخ وإِن كان سجين البلد ومغلوباً على أمره، فإنه أخبر يوماً بأن غلمان ذي الرياستين(2) قد ضربوا غلمانه على حطب اشتروه، فخرج مُتَّزراً ببُردين ومعه هراوة(3) يرتجز ويقول : - الموت خير لك من عيش بِذُلّ - وتبعه الناس حتّى ضرب غلمان ذي الرياستين وأخذ الحطب منهم، فرفعوا الخبر الى المأمون، فبعث الى ذي الرياستين فقال : ائتِ محمّد بن جعفر فاعتذر اليه وحكِّمه في غلمانك، فخرج ذو الرياستين الى محمّد، فقيل لمحمّد : هذا ذو الرياستين قد أتى، فقال : لا يجلس إِلا على الأرض، وتناول بساطاً كان في البيت فرمى به هو ومن معه ناحية، ولم يبق في البيت إِلا وسادة جلس عليها محمّد، فلمّا دخل عليه ذو الرياستين وسّع له محمّد على الوسادة فأبى أن يجلس عليها وجلس على الأرض فاعتذر اليه وحكَّمه في غلمانه.
______________________________
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2/206/7.
(2) هو الفضل بن سهل وزير المأمون، وسمّي ذا الرياستين لجمعه بين رياستي السيف والقلم.
(3) عصا.
{ 121 }
وتوفي محمّد بن جعفر في خراسان فركب المأمون ليشهده فلقيهم وقد خرجوا به، فلمّا نظر الى السرير نزل فترجّل ومشى حتّى دخل بين العمودين فلم يزل بينهما حتّى وضع، فتقدّم وصلّى عليه، ثمّ حمله حتّى بلغ به القبر، ثمّ دخل قبره فلم يزل فيه حتّى بُني عليه، ثمّ خرج فقام على القبر حتّى دُفن، فقال له عبد اللّه بن الحسين ودعا له : يا أمير المؤمنين إِنك قد تعبت اليوم فلو ركبت، فقال المأمون : إِن هذه رحم قُطعت من مائتي سنة.
وكان عليه دَين كثير فأراد إِسماعيل بن محمّد اغتنام هذه الفرصة من المأمون ليسأله قضاء دَينه، فقال لأخيه وهو الى جنبه والمأمون قائم على القبر : لو كلّمناه في دَين الشيخ، فلا نجده أقرب منه في وقته هذا، فابتدأهم المأمون فقال : كم ترك أبو جعفر من الدَين ؟ فقال له إِسماعيل : خمسة وعشرين ألف دينار، فقال له : قد قضى اللّه عنه دَينه، الى مَن أوصى ؟ فقالوا له : الى ابن له يقال له يحيى بالمدينة، فقال : ليس هو بالمدينة هو بمصر، وقد علمنا بكونه فيها ولكن كرهنا أن نعلمه بخروجه من المدينة لئلا يسوءه ذلك، لعلمه بكراهتنا لخروجه عنها(1).
______________________________
(1) إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه : 287.
بلغ علي بن جعفر من الجلالة شأواً لا يلحق، ومن الفضل محلاً لا يسبق، وأمّا حديثه وثقته فيه، فهو ممّا لا يختلف فيه اثنان، ومن سبَر كتب الحديث عرف ما له من أخبار جمّة يرويها عن أخيه الكاظم عليه السلام تكشف عن علم ومعرفة.
{ 122 }
وقال فيه الشيخ المفيد طاب ثراه في إِرشاده : وكان علي بن جعفر راوية للحديث، سديد الطريق، شديد الورع، كثير الفضل، ولزم أخاه موسى عليه السلام، وروى عنه شيئاً كثيراً من الأخبار، وقال في النصّ عليه، وكان شديد التمسّك به، والانقطاع اليه، والتوفّر على أخذ معالم الدين منه، وله مسائل مشهورة عنه، وجوابات سماعاً عنه، والنصّ على أخيه الكاظم عليه السلام روى من أخويه إِسحاق وعلي ابني جعفر، وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه إِثنان.
ومن شدّة ورعه اعترافه بالأئمة بعد أخيه الكاظم عليه السلام مع كبر سنّه وجلالة قدره، وكبير فضله، ولم تثنه هذه الشؤون عن الاعتراف بالحقّ والعمل به، بل زادته بصيرة وهدى.
كان رجل يظنّ فيه علي بن جعفر أنه من الواقفة سأله عن أخيه الكاظم فقال له علي : إِنه قد مات، فقال له السائل : وما يدريك بذلك ؟ قال له : اقتسمت أمواله، ونكحت نساؤه، ونطق الناطق بعده، قال : ومن الناطق بعده ؟ قال علي : ابنه، قال : فما فعل ؟ قال له : مات، قال : وما يدريك أنه مات ؟ قال علي : قسّمت أمواله، ونكحت نساؤه، ونطق الناطق من بعده، قال : ومن الناطق من بعده ؟ قال علي : ابنه أبو جعفر، فقال له الرجل : أنت في سنّك وقدرك وأبوك جعفر بن محمّد عليهما السلام، تقول هذا القول في هذا الغلام، فقال له علي : ما أراك إِلا شيطاناً، ثمّ أخذ علي بلحيته فرفعها الى السماء ثمّ قال : فما حيلتي إِن كان اللّه رآه أهلاً لهذا ولم يرَ هذه الشيبة لهذا أهلاً(1).
______________________________
(1) الكشي : ص 429/803.
{ 123 }
هذا لعمر الحقّ هو الورع، ورضوخ النفس للحق، وعدم الاغترار بشؤون التقدم من الفضل والسنّ والجلالة، التي قد تغترّ النفس الأمّارة بما دونها من الخصال العالية.
وكان يعمل أبداً مع أبي جعفر عمل المأموم العارف بمنزلة الإمام، دون أن يحجزه عن هذا أنه عمّ أبيه، بل ربّما تمنّى أن يفديه بنفسه، أراد أبو جعفر عليه السلام ليفتصد ودنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام علي بن جعفر فقال : يا سيّدي يبدأني لتكون حدَّة الحديد فيَّ قبلك، ثمّ أراد أبو جعفر عليه السلام النهوض فقام علي بن جعفر فسوّى له نعليه حتّى يلبسهما(1).
ودخل أبو جعفر عليه السلام يوماً مسجد الرسول صلّى اللّه عليه وآله فلمّا بصر به علي بن جعفر وثب بلا حذاء ولا رداء فقبَّل يده وعظَّمه فقال له أبو جعفر : يا عمّ اجلس رحمك اللّه، فقال : يا سيّدي كيف أجلس وأنت قائم، فلمّا رجع أبو جعفر الى مجلسه جعل أصحابه يوبّخونه ويقولون : أنت عمّ أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل، فقال : اسكتوا اذا كان اللّه عزّ وجل - وقبض على لحيته - لم يؤهّل هذه الشيبة وأهل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه أنكر فضله، نعوذ باللّه ممّا تقولون، بل أنا له عبد(2).
هذه هي النفس القدسيّة التي عرفت الحقّ فاتّبعته، وما اقتفت أثر الحميّة والعصبيّة، واغترّت بالنفس، بل كان من حُبّ النفس أن يطيع المرء خالقه جلّ شأنه في أوليائه واُولي الأمر من عباده.
هذه بعض حال علي بن جعفر التي تكشف عمّا انطوى عليه ضميره من
______________________________
(1) الكشي : 429/804.
(2) الكافي، كتاب الحجّة، باب النصّ على أبي جعفر الثاني عليه السلام، ولا يراد من العبوديّة في مثل المقام الرقية والملكيّة، بل الطاعة والإمتثال : 1/322/12.
{ 124 }
القدس والنسك والطاعة والعلم باللّه وبالحجج من خلقه.
وكان رضوان اللّه عليه يسمّى بالعريضي، نسبة الى العريض - بضم وفتح - محلّ قرب المدينة كان يسكنه، وبه مات إِسماعيل، ولعلي أولاد ينسبون اليه بعنوان العريضي.
قال الشيخ المفيد رحمه اللّه في إرشاده : وكان العبّاس بن جعفر رحمه اللّه فاضلاً نبيلاً(1).
قلت : ولم أظفر بشيء من أحواله غير هذه النبذة التي أوردها الشيخ المفيد طاب رمسه.
______________________________
(1) إرشاد الشيخ المفيد : 287.
وهو الامام بعد أبيه الصادق عليه السلام على رأي الاماميّة وعسى أن نتوفّق يوماً لتأليف كتاب في حياته، ومنه تعالى نستمدّ المعونة والتوفيق.
* * *
كان رواة أبي عبد اللّه عليه السلام أربعة آلاف أو يزيدون كما أشرنا اليه غير مرّة، قال الشيخ المفيد طاب ثراه في الإرشاد : فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقامات، فكانوا أربعة آلاف رجل(1)، وذكر ابن شهراشوب أن الجامع لهم ابن عقدة وزاد غيره أن ابن عقدة ذكر لكلّ واحد منهم رواية، وأشار الى عددهم الطبرسي في أعلام الورى، والمحقق الحلّي في المعتبر، وذكر أسماءهم الشيخ الطوسي طاب رمسه في كتاب الرجال.
ولا يزيده كثرة الرواة عنه رفعة وجلالة قدر، وإِنما يزداد الرواة فضلاً وعلوّ شأن بالرواية عنه، نعم إِنما يكشف هذا عن علوّ شأنه في العلم وانعقاد الخناصر على فضله من طلاب العلم والفضيلة على اختلافهم في المقالات والنِحل.
______________________________
(1) الارشاد للمفيد : 271.
أخذ عنه عدَّة من أعلام السنّة وأئمتهم، وما كان أخذهم عنه كما يأخذ التلميذ عن الاُستاذ، بل لم يأخذوا عنه إِلا وهم متّفقون على إِمامته وجلالته
{ 126 }
وسيادته، كما يقول الشيخ سليمان في الينابيع، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات، بل عدّوا أخذهم عنه منقبة شرّفوا بها، وفضيلة اكتسبوها كما يقول الشافعي في مطالب السؤل، ونحن اولاء نورد لك شطراً من اولئك الأعلام.
أبو حنيفة :
منهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي من الموالي وأصله من كابل ولد بالكوفة، وبها نشأ ودرس، وكانت له فيها حوزة وانتقل الى بغداد وبها مات عام 150، وقبره بها معروف، وهو أحد المذاهب الأربعة عند أهل السنّة، وحاله أشهر من أن يُذكر.
وأخذه عن الصادق عليه السلام معروف، وممّن ذكر ذلك الشبلنجي في نور الأبصار، وابن حجر في الصواعق، والشيخ سليمان في الينابيع، وابن الصبّاغ في الفصول، الى غير هؤلاء، وقال الآلوسي في مختصر التحفة الاثني عشريّة ص 8 : وهذا أبو حنيفة وهو هو بين أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان : «لولا السنتان لهلك النعمان» يريد السنتين اللتين صحب فيها - لأخذ العلم - الامام جعفر الصادق عليه السلام.
مالك بن أنس :
ومنهم مالك بن أنس المدني أحد المذاهب الأربعة أيضاً، قال ابن النديم في الفهرست : هو ابن أبي عامر من حمير وعداده في بني تيم بن مرَّة من قريش، وحمل به ثلاث سنين، وقال : وسعي به الى جعفر بن سليمان العبّاسي وكان والي المدينة فقيل له : إِنه لا يرى ايمان بيعتكم. فدعى به وجرَّده وضربه أسواطاً ومدّده فانخلع كتفه وتوفي عام 179 عن 84 سنة، وذكر مثله ابن خلكان.
{ 127 }
وأخذه عن أبي عبد اللّه عليه السلام معلوم مشهور، وممّن أشار الى ذلك النووي في التهذيب، والشبلنجي في نور الأبصار، والسبط في التذكرة، والشافعي في المطالب، وابن حجر في الصواعق، والشيخ سليمان في الينابيع، وأبو نعيم في الحلية، وابن الصبّاغ في الفصول، الى ما سوى هؤلاء.
سفيان الثوري :
ومنهم سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، ورد بغداد عدّة مرّات، وروى عن الصادق عليه السلام جملة أشياء، وأوصاه الصادق باُمور ثمينة مرَّت في الوصايا، وناظر الصادق في الزُهد كما سلف، وارتحل الى البصرة وبها مات عام 161، وولادته في نيف وتسعين، قيل شهد وقعة زيد الشهيد وكان في شرطة هشام بن عبد الملك.
جاء أخذه عن الصادق عليه السلام في التهذيب، ونور الأبصار، والتذكرة، والمطالب، والصواعق، والينابيع، والحلية، والفصول المهمة، وغيرها، وذكره الرجاليّون من الشيعة في رجاله عليه السلام.
سفيان بن عيينة :
ومنهم سفيان بن عيينة بن أبي عمران الكوفي المكّي ولد بالكوفة عام 107 ومات بمكّة عام 198، ودخل الكوفة وهو شاب على عهد أبي حنيفة.
ذكر أخذه عن الصادق عليه السلام في التهذيب، ونور الأبصار، والمطالب، والصواعق، والينابيع، والحلية، والفصول، وما سواها، وذكر ذلك الرجاليّون من الشيعة أيضاً.
{ 128 }
يحيى بن سعيد الأنصاري :
ومنهم يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري من بني النجّار تابعي، كان قاضياً للمنصور في المدينة، ثمّ قاضي القضاة، مات بالهاشميّة عام 143.
انظر المصادر المتقدّمة في روايته عن الصادق عليه السلام وما عداها كما ذكر ذلك الرجاليّون من الشيعة.
ابن جريح :
ومنهم عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح المكّي، سمع جمعاً كثيراً من العلماء، وكان من علماء العامّة، الذين يرون حلّيّة المتعة كما رأى حلّيتها آخرون منهم، وجاء في طريق الصدوق في باب ما يُقبل من الدعاوى بغير بيّنة، وجاء في الكافي في باب ما أحلَّ اللّه من المتعة سؤال أحدهم من الصادق عليه السلام عن المتعة فقال : الق عبد الملك بن جريح فاسأله عنها فإن عنده منها علماً، فأتاه فأملى عليه شيئاً كثيراً عن المتعة وحلّيّتها.
وقال ابن خلكان : عبد الملك أحد العلماء المشهورين، وكانت ولادته سنة 80 للهجرة وقدم بغداد على أبي جعفر المنصور، وتوفى سنة 149 وقيل 150، وقيل 151.
وذكرت المصادر السابقة أخذه عن الصادق عليه السلام، كما ذكرته رجال الشيعة.
القطّان :
ومنهم أبو سعيد يحيى بن سعيد القطّان البصري، كان من أئمة الحديث بل
{ 129 }
عُدَّ محدّث زمانه، واحتجّ به أصحاب الصحاح الستة وغيرهم، توفي عام 198، وحكي عن ابن قتيبة عداده في رجال الشيعة، ولكن الشيعة لا تعرفه من رجالها.
ذكره في رجال الصادق عليه السلام التهذيب، والينابيع، وغيرهما من السنّة، والشيخ، وابن داود، والنجاشي، وغيرهم من الشيعة.
محمّد بن إسحاق :
ومنهم محمّد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي والسير، مدنيّ سكن مكّة، أثنى عليه ابن خلكان كثيراً، وكان بينه وبين مالك عداء، فكان كلّ منهما يطعن في الآخر، قدم الحيرة على المنصور فكتب له المغازي.
وقدم بغداد وبها مات عام 151 على المشهور، ذكر أخذه عن الصادق في التهذيب، والينابيع، وغيرهما من السنّة، والشيخ في رجاله، والعلامة في الخلاصة، والكشي في رجاله، وغيرهم من الشيعة.
شعبة بن الحجّاج :
ومنهم شعبة بن الحجّاج الأزدي كان من أئمة السنّة وأعلامهم وكان يفتي بالخروج مع إِبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن، وقيل كان ممّن خرج من أصحاب الحديث مع إبراهيم بن عبد اللّه.
وعَدَّه في أصحاب الصادق عليه السلام جماعة من السنّة منهم صاحب التهذيب، والصواعق، والحلية، والينابيع، والفصول، والتذكرة وغيرها، وذكرته كتب الشيعة في رجاله أيضاً.
{ 130 }
أيوب السجستاني :
ومنهم أيوب بن أبي تميمة السجستاني البصري، وقيل السختياني، والأول أشهر، مولى عمّار بن ياسر وعدُّوه في كبار الفقهاء التابعين، مات عام 131 بالطاعون بالبصرة عن 65 سنة.
عدَّه في رجال الصادق عليه السلام في نور الأبصار، والتذكرة، والمطالب، والصواعق، والحلية، والفصول، وغيرها، وذكرته كتب رجال الشيعة في أصحابه أيضاً.
وهؤلاء بعض من نسبوه الى تلمذة الصادق عليه السلام من أعلام السنّة وفقهائهم البارزين، وقد عدّواً غير هؤلاء فيهم أيضاً، انظر في ذلك حلية الأولياء، على أن غير أبي نعيم أشار الى غير هؤلاء بقوله وغيرهم، أو ما سوى ذلك ممّا يؤدّي هذا المفاد.
* * *
مشاهير الثقات من رواته من الشيعة
اذا كان الرواة الثقات الذين أحصتهم كتب الرجال أربعة آلاف أو يزيدون فليس من الصواب أن نذكرهم جميعاً ههنا، على أن كتب الرجال قد استقصت اكثرهم ذكراً وترجمة، كما أنه ليس من الصحيح إِهمالهم فإن استطراد ذكرهم دخيل في القصد، فرأينا أن نذكر المشاهير عن ثقاتهم خاصّة فإن به إِيراداً لناحية من نواحي حياته عليه السلام، وبُعداً عن السعة المملّة.
أبان بن تغلب :
أبو سعد أبان بن تَغِلب الكبري الجريري، روى عن السجّاد والباقر والصادق عليهم السلام ومات أيام الصادق عليه السلام 141، وقيل عام 140، ولمّا بلغ نعيه أبا عبد اللّه عليه السلام قال : «أما واللّه لقد أوجع قلبي موت أبان» وهذا ينبيك عن كبير مقامه لديه، وعظيم منزلته عنده، يا ترى ما شأن من يوجع موته قلب الصادق عليه السلام ؟
وكان غزير العلم قويّ الحجّة، ويشهد لذلك قول الباقر عليه السلام له : اجلس في مسجد المدينة وافتِ الناس فإني احبّ أن يُرى في شيعتي مثلك. وقول الصادق عليه السلام له : ناظر أهل المدينة فإني احبّ أن يكون مثلك من
{ 132 }
رجالي.
فلو لم يكن بتلك الغزارة من الفضل، والقوّة في الحجّة، لما عرَّضاه لتلك المآزق والمخاطر، فإن فشله فشل لهما.
وقد روى عن الصادق فحسب ثلاثين ألف حديث، كما أخبر عن ذلك الصادق نفسه، وأمر أبان بن عثمان أن يرويها عنه.
وما كان متخصّصاً بالحديث والكلام فحسب بل كان متضلّعاً في عدّة علوم جليلة، كالتفسير والأدب واللغة والنحو والقراءة، وسمع من العرب وحكى عنهم وصنَّف كتاب الغريب في القرآن، وذكر شواهده من الشعر.
ومن سموّ مقامه اتّفاق الفريقين على وثاقته، فقد وثّقه جهابذة القوم في الحديث مع اعترافهم بتشيّعه، منهم أحمد ويحيى وأبو حاتم والنسائي وابن عدي وابن عجلان والحاكم والعقيلي وابن سعد وابن حجر وابن حيّان وابن ميمونة والذهبي في ميزان الاعتدال، وعدُّوه في التابعين، وكفى بهذا دلالة على بلوغه من الوثاقة والفضل حدّاً لا يسع أحداً إِنكاره.
أبان بن عثمان :
أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي، كان يسكن الكوفة مرّة، والبصرة اُخرى، وقد أخذ عنه أهل البصرة أمثال أبي عبيدة معمّر بن المثنى، وأبي عبد اللّه محمّد بن سلام، واكثروا الحكاية عنه في أخبار الشعراء والنسب والأيام.
روى عن الصادق والكاظم عليهما السلام، وله كتاب كبير حسن يجمع المبتدأ والمغازي والوفاة والردّة، هكذا قال النجاشي.
وهو من الستة أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام، الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم والإقرار لهم بالفقه، وهم جميل بن درّاج، وعبد اللّه
{ 133 }
بن مسكان، وعبد اللّه بن بكير، وحمّاد بن عيسى، وحمّاد بن عثمان، وأبان بن عثمان هذا.
إِسحاق الصيرفي :
إِسحاق بن عمّار بن حيّان الصيرفي الكوفي، كان من الثقات الذين رووا الحديث عن الصادق وابنه الكاظم عليهما السلام، واخوته يونس ويوسف وإِسماعيل، وهو بيت كبير من الشيعة، وابنا أخيه علي وبشير ابنا إِسماعيل كانا من وجوه من روى الحديث، وكان الصادق اذا رآه ورأى أخاه إِسماعيل قال : «وقد يجمعهما لأقوام» يعني الدنيا والآخرة، لأنهما كانا من ذوي الثروة والمال الوافر ويصلان به أصحابهما وينيلان منه، ورويت فيه مدائح اُخرى.
السكوني :
إِسماعيل بن أبي زياد السكوني، والسكون حيّ من عرب اليمن، قيل إِنه كان قاضياً في الموصل، وكان ثقة في الرواية وقد أجمع أصحابنا على العمل بروايته وذكر بعض الرجاليّين أنه عامّي ولم يثبت، وله حديث كثير في الفقه، وكلّه معمول به اذا صحّت الرواية اليه.
إِسماعيل الصيرفي :
إِسماعيل بن عمّار بن حيّان الصيرفي الكوفي، أخو إِسحاق المتقدّم الذكر، وقد سبق في إِسحاق قول الصادق عليه السلام اذا رآهما : «وقد يجمعهما لأقوام» والذي يزيد في علوّ شأنه ما رواه في الكافي في باب البرّ بالوالدين في الصحيح عن عمّار بن حيّان أبي إِسماعيل هذا، قال : أخبرت أبا عبد اللّه عليه السلام ببرّ
{ 134 }
إِسماعيل ابني فقال عليه السلام : «لقد كنت أحبّه ولقد ازددت له حبّاً» وكفاه هذا فضلاً وعلوّاً.
بريد العجلي :
بريد بن معاوية العجلي، كان ممّن روى عن الباقر والصادق عليهما السلام معاً، ومات في أيام الصادق عليه السلام، وقد بلغ من الجلالة وعظم الشأن عند أهل البيت حدّاً فوق الوثاقة، وارتقى مقاماً لديهم يعجز القلم عن وصفه، وكيف ترى منزلة من يقول الصادق عليه السلام في حقّه : «أوتاد الأرض وأعلام الدين أربعة : محمّد بن مسلم، وبريد بن معاوية، وليث بن البختري المرادي، وزرارة بن أعين»، ويقول في حديث : «إِن أصحاب أبي كانوا زيناً أحياءً وأمواتاً، أعني زرارة بن أعين، ومحمّد بن مسلم، ومنهم ليث المرادي، وبريد العجلي، هؤلاء القوَّامون بالقسط، هؤلاء القوَّامون بالصدق، هؤلاء السابقون السابقون اولئك المقرّبون» وقال فيهم في حديث آخر : «أربعة نجباء اُمناء اللّه على حلاله وحرامه» ويقول في آخر : «هؤلاء حفّاظ الدين واُمناء أبي على حلال اللّه وحرامه، وهم السابقون الينا في الدنيا والسابقون الينا في الآخرة» الى كثير أمثال هذا من التقريظ والمدح، وهو من أصحاب الباقر عليه السلام الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم والإقرار لهم بالفقه.
بكير بن أعين :
بكير بن أعين الشيباني أخو زرارة، روى عن الباقر والصادق معاً عليهما السلام، ومات في حياة الصادق، ولمّا بلغه خبر موته قال كما رواه الكشي ص 120 «أما واللّه لقد أنزله اللّه بين رسول اللّه وأمير المؤمنين صلوات
{ 135 }
اللّه عليهما وعلى آلهما الطاهرين» وذكره الصادق عليه السلام يوماً فقال : «رحم اللّه بكيراً وقد فعل» يقول عبيد اللّه بن زرارة : فنظرت اليه وقد كنت يومئذٍ حديث السن، فقال عليه السلام : اني أقول إِن شاء اللّه، وكفى هذا شهادة له بعلوّ الدرجة، وسموّ المقام، وهو من ثقات أولاد أعين وصلحائهم وما اكثر فيهم الثقات الصلحاء، وقد روى عنه عدّة من الثقات.
أبو حمزة الثمالي :
أبو حمزة الثمالي ثابت بن دينار، روى عن السجّاد والباقر والصادق عليهم السلام، وبقي الى زمن الكاظم عليه السلام، قيل مات عام 150، فتكون وفاته بعد مضي سنتين من إِمامة الكاظم وقيل أدرك موت المنصور عام 158.
وكان أبو حمزة من جلالة القدر وعظم المنزلة بالمحلّ الأرفع حتّى قال فيه الرضا عليه السلام «أبو حمزة في زمانه كلقمان في زمانه، وذلك أنه خدم أربعة منّا : علي بن الحسين، ومحمّد بن علي، وجعفر بن محمّد، وبرهة من عصر موسى ابن جعفر عليهم السلام» وفي اخرى «كسلمان الفارسي في زمانه».
وأرسل اليه الصادق عليه السلام وكان أبو حمزة بالبقيع فقال له بعد أن جاء : «إني لأستريح اذا رأيتك» وقال فيه أبو الحسن موسى عليه السلام : «كذلك يكون المؤمن اذا نوّر اللّه قلبه» الى ما سوى هذه من كلمات الأئمة فيه، التي دلّت على تقديرهم له وإِعجابهم به.
وهو الراوي للدعاء الطويل العظيم الشأن في بلاغته ومقاصده العالية عن زين العابدين عليه السلام الذي يُقرأ في سحر شهر رمضان، المعروف بدعاء أبي حمزة. وقد وثّقه أهل السنّة أيضاً ورووا عنه.
{ 136 }
جابر الجعفي :
جابر بن يزيد الجعفي الكوفي، روى عن الباقر والصادق عليهما السلام وقضى نحبه أيام أبي عبد اللّه عليه السلام عام 128 وقيل عام 132، وقد روى عن الباقر خاصّة سبعين ألف حديث، ومن تتبّع أحاديثه عرف أنه كان ممّن يحمل أسرارهما، ويروي الكرامات الباهرة لهما.
أمره الباقر عليه السلام بإظهار الجنون فأظهره، فكان يدور في رحبة مسجد الكوفة والصبيان حوله وهو يقول : أجد منصور بن جمهور أميراً غير مأمور، فما مضت الأيام حتّى ورد من هشام بن عبد الملك الى واليه بالكوفة أن انظر رجلاً يقال له جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إِليّ برأسه، فالتفت الى جلسائه وسألهم عن جابر، فقالوا : كان رجلاً له فضل وعلم وحديث وحجّة فجن، وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب فأشرف عليه فاذا هو مع الصبيان يلعب على القصب، فقال : الحمد للّه الذي عافاني مِن قتله، ومن ثمّ انكشف السرّ في أمر الباقر عليه السلام له بإظهار الاختلاط، ثمّ لمّا اطمأنّ عاد الى حالته الاُولى، ولم تمضِ الأيام حتّى كان ما قاله في منصور بن جمهور.
وذكر اليعقوبي في تاريخه (3 : 81) حديثاً عن جابر وإِخباره عمّا سيقع من أمر بني العبّاس والدعوة لهم وشأن قحطبة فيها، وكان قحطبة بالقرب منهم يستمع فأشار اليه جابر، وقال : لو أشاء أن أقول هو هو لقلت.
ومن هذا ومثله تعرف أنه كان مستودع الأسرار، وجاءت فيه مدائح جمّة وترحّم عليه الصادق عليه السلام، وقيل إِنه ممّن انتهى اليه علم الأئمة عليهم السلام، ولذلك ترى أرباب الحديث والرجال من العامّة بين موثّق له وطاعن فيه بأنه رافضي غال يقول بالرجعة، مع اعتراف الذهبي بأنه من اكبر
{ 137 }
علماء الشيعة.
جميل بن درّاج :
جميل بن درّاج بن عبد اللّه النخعي روى عن الصادق والكاظم عليهما السلام، وكفّ بصره آخر عمره، ومات أيام الرضا عليه السلام وهو من الستة أصحاب الصادق عليه السلام الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم والإقرار لهم بالفقه، وسبق في أبان بن عثمان عدّهم وقيل إِن جميلاً كان أفقههم.
وجاءت فيه مدائح تكشف عن علوّ في الدرجة، منها أن الصادق عليه السلام تلا هذه الآية : «فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين»(1) ثمّ أهوى بيده الى جماعة كانوا عنده وفيهم جميل بن درّاج، فقالوا : أجل جعَلنا اللّه فداك لا نكفر بها، وكان معروفاً بالعبادة وطول السجود.
الحارث بن المغيرة النصري :
الحارث بن المغيرة النصري، روى عن الباقر والصادق والكاظم عليهم سلام اللّه، وكان من ذوي الدرجات الرفيعة، كما شهدت بذلك عدة أحاديث، منها قول الصادق عليه السلام لجماعة منهم يونس بن يعقوب : «أما لكم من مستراح تستريحون اليه، ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصري» على أن يونس بن يعقوب كان من ذوي المنازل العالية، ومع علوّ شأنه أمره الصادق بالرجوع الى الحارث، والشواهد على جلالته وعلوّ منزلته كثيرة.
______________________________
(1) الأنعام : 89.
{ 138 }
حريز :
حريز بن عبد اللّه الأزدي الكوفي السجستاني، ونسب الى سجستان لإكثاره السفر والتجارة اليها فعرف بها، وكان من فقهاء الرواة وله عدّة كتب في الفقه وقد روى عن الصادق عليه السلام مشافهة وبالواسطة أخباراً كثيرة، وقيل إِنه لم يروِ عن الصادق عليه السلام مشافهة إِلا حديثين، ولكن هذا الزعم يخالف ما هو مرويّ عنه في كتب الفقه بلا واسطة، ومن سبَر كتب الحديث عَرف أنه كثير الرواية عنه مشافهة، وكتبه تُعدّ من الاُصول، وقد قتل في سجستان في جماعة من الشيعة، وسبب ذلك أن له أصحاباً يقولون بمقالته، وكان الغالب على أهل سجستان الشراة - الخوارج - وكان أصحاب حريز يسمعون منهم ثلب أمير المؤمنين عليه السلام وسبّه، فيخبرون حريزاً ويستأمرونه في قتل من يسمعون منه ذلك فيأذن لهم، فلا يزال الشراة يجدون منهم القتيل بعد القتيل، فلا يتوهّمون على الشيعة لقلّة عددهم، ويطالبون المرجئة ويقاتلونهم، وما زال الأمر هكذا حتّى وقفوا على الأمر فطلبوا الشيعة، فاجتمع أصحاب حريز اليه في المسجد، فهدموا عليهم حيطان المسجد وقلبوا أرضه عليهم، رحمة اللّه عليهم.
حفص بن سالم :
أبو ولاد الحنّاط حفص بن سالم الجعفي مولاهم الكوفي، كان ممّن روى عن الصادق عليه السلام، وله أصل رواه عنه عدّة من الثقات، وهو متّفق على وثاقته، ولم يغمز فيه أحد بشيء.
وقيل : خرج مع زيد وصوّب خروجه الصادق عليه السلام وليس تصويبه بمستغرب، وإِنما كان يدع أمر زيد لئلا ينسب اليه فيكون هدفاً لبلاء نبي اُميّة.
{ 139 }
حفص بن غياث القاضي :
حفص بن غياث النخعي الكوفي القاضي، ولّي القضاء لهرون الرشيد ببغداد الشرقيّة، ثمّ ولاه قضاء الكوفة، وبها مات عام 194 كما ذكر ذلك النجاشي، وذكر أن كتابه الذي يرويه عن جعفر بن محمّد عليهما السلام مائة وسبعون حديثاً أو نحوها.
وهو على الأشهر عامّي المذهب ثقة في الرواية، وقد أجمعت الطائفة على العمل برواية جماعة ليسوا من الشيعة، وحفص أحدهم وليس التشيّع السبب الوحيد لقبول الرواية، وإِنما المدار على وثاقة الراوي مهما كان مذهبه.
وربّما استظهر بعضهم من رواياته أنه شيعي إِمامي، ولكن العاميّة عنه أشهر، وكان اذا حدّث عن الإمام الصادق عليه السلام يقول : «حدّثني خير الجعافرة جعفر بن محمّد» ولا يخفى عليك أن مثل هذا البيان من الراوي يرشدنا الى عدم تشيّعه، إِلا أن يريد إِخفاء تشيّعه.
حماد بن عثمان :
حمّاد بن عثمان بن زياد الرواسي الكوفي الملقّب بالناب، روى عن الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام، مات بالكوفة عام 190 وله كتاب يرويه عنه عدّة من الثقات، وهو من أصحاب الصادق عليه السلام الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم، والإقرار لهم بالفقه، وقد مرَّ عدُّهم في أبان بن عثمان، ولحمّاد اخوان وهما الحسين وجعفر ولدا عثمان، وهما أيضاً من الرواة الثقات الأخيار الأفاضل.
{ 140 }
حمّاد بن عيسى :
أبو محمّد حمّاد بن عيسى الجهني البصري غريق الجحفة، روى عن الصادق والكاظم عليهما السلام وعاش الى زمن الجواد عليه السلام ولم تعرف له رواية عن الرضا والجواد عليهما السلام، وهو من الستّة أصحاب الصادق عليه السلام الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم والإقرار لهم بالفقه كما سلف في أبان بن عثمان، وكان صدوقاً متحرّزاً في حديثه، فقد روي عنه أنه قال : سمعت من أبي عبد اللّه عليه السلام سبعين حديثاً فلم أزل أدخل الشكّ على نفسي حتّى اقتصرت على هذه العشرين، وقد سبق في استجابة دعائه عليه السلام «ج 1 : 254» أن حمّاداً سأله في أن يدعو له بكثرة الحجّ، وأن يرزقه ضياعاً حسنة وداراً حسنة، وزوجة من أهل البيوتات صالحة، وأولاداً أبراراً، فدعا له الصادق بما طلب، وقيّد الحجّ بخمسين حجّة، فاستجاب اللّه دعاء الصادق عليه السلام له، فكان حاله كما طلب، ولما حجّ في الحادية والخمسين أيام الجواد عليه السلام ووصل الى الجحفة وأراد أن يحرم دخل وادي قناة ليغتسل ويحرم، وهو وادٍ يسيل من الشجرة فأخذه السيل ومرّ به، فتبعه غلمانه وأخرجوه من الماء ميّتاً، فمن ثمّ سمّي غريق الجحفة.
وقيل : إِن الذي دعا له بتلك الطلبات هو الامام الكاظم عليه السلام وكان غرقه عام 209.
حمران بن أعين :
حمران بن أعين الشيباني مولاهم أخو زرارة، روى عن الباقر والصادق عليهما السلام، منزلته عندهم لا يضارعه فيها من رجالهم إِلا نادر، وكيف ترى
{ 141 }
مقام من يقول له الباقر عليه السلام : «أنت من شيعتنا في الدنيا والآخرة» ويقول فيه : «حمران من المؤمنين حقاً لا يرجع أبداً» ويقول فيه الصادق عليه السلام : «مات واللّه مؤمناً» ويقول فيه : «حمران مؤمن من أهل الجنّة لا يرتاب أبداً، لا واللّه لا واللّه» ويقول فيه : «ما وجدت أحداً أخذ بقولي، وأطاع أمري، وحذا حذو أصحاب آبائي غير رجلين رحمهما اللّه، عبد اللّه بن أبي يعفور، وحمران بن أعين، أما إِنهما مؤمنان خالصان من شيعتنا» ويقول فيه : «حمران مؤمن لا يرتدّ أبداً» ويقول فيه : «نِعم الشفيع أنا وآبائي لحمران بن أعين يوم القيامة نأخذه بيده ولا نزايله(1) حتّى ندخل الجنّة جميعاً» الى نظائر هذه الكلمات الواردة فيه عنهما عليهما السلام، وهذه كما ترى تنبئ عن ارتفاع مقامه عندهم درجة لا يشاركه فيها إِلا قليل، على كثرة رجالهم، وكثرة أهل الورع والهُدى فيهم، كما قرأت وستقرأ، وكما دلّت هذه الكلم على ارتفاع منزلته لديهم دلّت على رسوخ إِيمانه، وثبات يقينه، الى حدّ يؤمن من تضعضعه، وإِن مرَّت عليه العواصف وساورته المحن ونهشته النوائب، على أن عصره من أهمّ العصور التي اختبرت المحن والفتن فيها سرائر الرجال، لا سيّما أهل العلم والفضيلة منهم لما لهم من المكانة بين الناس يوم ذاك.
وما كان حمران فقيهاً فحسب، بل كان من علماء الكلام، وحملة الكتاب، ويذكر اسمه في أهل القراءات، وكان أيضاً من علماء اللغة والنحو فهو جامع لجهات الفضل.
حمزة بن الطيّار :
حمزة بن الطيّار كان ثقة عظيم الشأن، من رجال الفقه والكلام، مات
______________________________
(1) نفارقه.
{ 142 }
أيام الصادق عليه السلام، وجاءت فيه أحاديث تعرب عن إِيمان راسخ، وولاء ثابت لأهل البيت عليهم السلام، وقوَّة دفاع عنهم، وحجّة قاطعة، مثلما رواه الكشي ص 223 عن هشام بن الحكم «قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام : ما فعل ابن الطيّار ؟ قال : قلت : مات، فقال عليه السلام : رحمه اللّه ولقّاه نضرة وسروراً فقد كان شديد الخصومة عنّا أهل البيت».
ومثله ما رواه عن مؤمن الطاق أيضاً، وما رواه عن أبان الأحمر عن الطيّار «قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : بلغني أنك كرهت مناظرة الناس وكرهت الخصومة، فقال : أما كلام مثلك فلا يكره، من اذا طار أحسن أن يقع، وان وقع أحسن أن يطير، فمن كان هكذا فلا نكره كلامه».
والطيّار لقب له ولأبيه محمّد بن عبد اللّه مولى فزارة، وكان من أصحاب الباقر عليه السلام وكان الباقر يفاخر به، روى الكشي ص 22 عن حمزة ابنه «قال : سألني أبو عبد اللّه عليه السلام عن قراءة القرآن، فقلت : ما أنا بذلك، قال : لكن أبوك، قال : وسألني عن الفرائض، فقلت : وما أنا بذلك، فقال : لكن أبوك، ثمّ قال : إِن رجلاً من قريش كان لي صديقاً وكان عالماً قارياً فاجتمع هو وأبوك عند أبي جعفر عليه السلام، وقال : ليقبل كلّ واحد منكما على صاحبه، ويسأل كلّ واحد منكما صاحبه، ففعلا، فقال القرشي لأبي جعفر عليه السلام : قد علمت ما أردت، أردت أن تعلمني أن في أصحابك مثل هذا، قال : هو ذاك، فكيف رأيت».
فكيف ترى من يحمله الباقر عليه السلام على المناظرة ؟ ومن يحمله الصادق عليه السلام على المخاصمة ؟ فهما إِذن من ذوي الحجج النواصع، والقوّة في الخصومة.
{ 143 }
داود بن فرقد :
داود بن فرقد الأسدي الكوفي، روى عن الصادق والكاظم عليهما السلام، وله كتاب يرويه عنه عدّة من الثقات، وله كلام مع بعض الزيديّة دلّ على اشتهاره بالتشيُّع وسرعة جوابه وحسنه حتّى ضحك منه أبو عبد اللّه عليه السلام، وذلك ما رواه الكشي ص 221 عنه «قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إِن رجلاً خلفي حين صلّيت المغرب في مسجد رسول اللّه عليه وآله فقال : «ما لكم في المنافقين فئتين واللّه أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضلّ اللّه»(1) فعلمت أنه يعنيني، فالتفتُّ اليه وقلت : «إِن الشياطين ليوحون الى أوليائهم ليجادلوكم»(2) فاذا هو هرون بن سعد(3) قال : فضحك أبو عبد اللّه عليه السلام، ثمّ قال : أصبت الجواب قبل الكلام بإذن اللّه، وقال داود : جعلت فداك لاجرم واللّه ما تكلّم بكلمة، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : ما أحد أجهل منهم، إِن في المرجئة فتيا وعلما وفي الخوارج فتيا وعلما، وما أحد أجهل منهم».
داود الرقي :
داود بن كثير الرقي الكوفي الأسدي مولاهم، روى عن الصادق والكاظم عليهما السلام وعاش الى أيام الرضا عليه السلام، وله حديث كثير لا سيّما في الكرامات والفضائل، وله أصل رواه عنه جماعة من الثقات، ولكثرة ما رواه
______________________________
(1) النساء : 88.
(2) الأنعام : 121.
(3) الكوفي الزيدي، وقد جاء عن الصادق عليه السلام ذمّه سوى ما ذكر ههنا.
{ 144 }
من كراماتهم نسبوه الى الغلوّ وهو سهو.
وجاء فيه حديث كثير يدلّ على علوّ منزلته مثلما رواه الكشي ص 254 عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : «أنزلوا داود الرقي مني بمنزلة المقداد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله» ونظر الى داود الرقي وقد ولّى فقال : «مَن سرَّه أن ينظر الى رجل من أصحاب القائم عليه السلام فلينظر الى هذا» وفي موضع آخر : «أنزلوه فيكم بمنزلة المقداد» فهذا ومثله يرشدنا الى سموّ منزلته في الدين واليقين سوى الوثاقة في الرواية.
زرارة
زرارة بن أعين الشيباني مولاهم، روى عن الباقر والصادق عليهما السلام، ومات عام 150، فأدرك من أيام الكاظم عليه السلام سنتين.
وماذا يقول القائل في زرارة ؟ وهل يستطيع ذو براعة ويراعة أن يأتي بكلمة تجمع فضل زرارة ؟ وكفى عن بيان مقامه، ورفيع شأنه، ما جاء فيه عن أئمة الهدى عليهم السلام، وكفى منه ما سبق ذكره في بريد العجلي، بيد أننا نذكر ههنا شيئاًلم يسبق ذكره هناك، فإن الصادق عليه السلام قال له مرّة : «يا زرارة إِن اسمك في اسامي أهل الجنّة بغير ألف» قال : «نعم جعلت فداك اسمي عبد ربه ولكني لقّبت زرارة» وقال : «لولا زرارة لظننت أن أحاديث أبي ستذهب» وقال للفيض بن المختار(1) : «فاذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس واومأ بيده الى زرارة» وقال في حديث آخر : «رحم اللّه زرارة(2) لولا
______________________________
(1) الجعفي الكوفي، روى عن الباقر والصادق عليهما السلام وهو من ثقات رواتهم.
(2) ظاهر هذا الحديث أن زرارة مات أيام الصادق عليه السلام، إِلا أن يكون الصادق ترحّم عليه وهو حي.
{ 145 }
زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي» وقال الرضا عليه السلام : «أترى أن أحداً أصدع بحقّ من زرارة» الى أمثال هذه الأحاديث، وهذه الأحاديث تغنيك عن قول كلّ فصيح يريد أن يترجم زرارة معرباً عمّا له من فضل وعلم ومقام لدى أهل البيت.
وما كان زرارة فقيهاً فحسب بل كان يجمع عدّة فضائل حتّى قال ابن النديم في الفهرست في شأنه : زرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً وحديثاً ومعرفة بالكلام والتشيّع.
وقال النجاشي : شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدّمهم، وكان قارئاً فقيهاً متكلّماً شاعراً أديباً، قد اجتمعت فيه خلال الفضل والدين، وقال أبو غالب الزراري كما حكي عنه : روي أن زرارة كان وسيماً جسيماً أبيض، فكان يخرج الى الجمعة وعلى رأسه برنس أسود وبين عينيه سجادة وفي يده عصاً فيقوم الناس سماطين ينظرون اليه لحسن هيئته فربما رجع من طريقه، وكان خصماً جدلاً لا يقوم أحد بحجّته صاحب إلزام وحجّة قاطعة إِلا أن العبادة أشغلته عن الكلام، والمتكلّمون من الشيعة تلاميذه.
فزرارة قد جمع الفضل كلّه ولكن شهرته في الفقه غلبت على فضائله الاُخر، ومن غاض في بحر الفقه عرف ما لهذا الرجل من حديث، حتّى لتكاد لا تجد باباً من أبواب الفقه إِلا وله فيه حديث أو أحاديث، وهو أحد الستة الاُول أصحاب أبي جعفر عليه السلام الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم، والإقرار لهم بالفقه، ولا غرو لو عدّ زرارة أفقههم.
وكان زرارة معروفاً بالعلم والفضيلة والقرب من أهل البيت وهذا اكبر جرم عند أعدائهم، فما زال في خطر من جراء ذلك، فكان الإمام ينال منه أحياناً ليدفع بذلك عنه الخطر، ومن ثمّ جاءت أحاديث تطعن فيه، وقد كشف
{ 146 }
عن سبب ذلك القدح الصادق نفسه، فقال في حديث طويل رواه الكشي ص 91 : إِني أنا أعيبك دفاعاً مني عنك فإن الناس والعدوّ يسارعون الى من قرّبناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبّه ونقرّبه - الى أن قال - فأحببت ان أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون بذلك منّا دافع شرّهم عنك، الحديث، فمن ههنا نعرف مكانة زرارة لديهم وشأن تلك الأحاديث القادحة.
زيد الشحّام :
أبو اُسامة زيد الشحّام الازدي الكوفي، روى عن الباقر والصادق عليهما السلام، وقيل : وعن الكاظم أيضاً، وهو من الوثاقة وجلالة القدر بمكان رفيع، وقد حكي عن الشيخ المفيد طاب رمسه قوله فيه: إِنه من فقهاء أصحاب الصادقين عليهما السلام الأعلام المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا وأحكام الدين.
وجاءت فيه أحاديث تشهد له بعلوّ الدرجة، منها ما رواه الكشي ص 216 عن زيد نفسه «قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : اسمي في تلك الأسامي ؟ - يعني في كتاب أصحاب اليمين - قال : نعم» وما رواه أيضاً عنه : «قال : دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام فقال لي : يا زيد جدّد التوبة واحدث عبادة، قال : قلت : نعيت إِليَّ نفسي، قال : فقال : يا زيد ما عندنا لك خير وأنت من شيعتنا - الى أن قال - : يا زيد كأني أنظر اليك في درجتك في الجنّة، ورفيقك فيها الحارث بن المغيرة النصري»(1) الى غير هذا ممّا يرشدنا الى علوّ مقامه ورفيع
______________________________
(1) هذا الحديث دالّ على أن موته كان أيام الصادق عليه السلام فلا يكون ممّن روى عن الكاظم عليه السلام.
{ 147 }
درجته.
زيد الشهيد :
زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، روى عن أبيه السجّاد عليه السلام وكفى من روايته عنه روايته للصحيفة السجّادية التي جمعت فنوناً من العلم والأدب والفصاحة والبلاغة والتي تعرّفك كيف الخضوع للمولى في دعائه ومسألته والتي هي وحدها دلالة واضحة على إِمامة الأئمة من أهل البيت، لأن ديباجتها تدلّك على أن الناطق بها ليس من أمثال البشر، الذين يقع عليهم البصر.
وروى عن أخيه الباقر وابن أخيه الصادق أيضاً عليهما السلام وكان يرى إِمامة الصادق ويدعو له في السرّ، وما ادَّعى الإمامة لنفسه أيام حياته وجهاده قط، وإنما ادّعيت فيه بعد وفاته، وقد استشهد في الكوفة عام 121 فبكاه الصادق عليه السلام وترحّم عليه، وأنفق على عيال من قُتل معه، وقد جمع زيد صفات فاضلة قّلما تجتمع برجل سوى المعصومين، كالفقه والورع والسخاء والشجاعة والزهادة والعبادة وغيرها، ولكن بأعلى مراتب هذه الصفات، وقد سبقت الاشارة الى شيء من حاله «1 : 48».