الفَصْلُ الأوَل أدْوَارُ النِضَالِ في حَيَاةِ الإمام عَلَيْهِ السَلامُ أولاً: في كر بلاء ثانياً: في الأسر ثالثاً: في المدينة
إنَا نقرأ في سيرة الإمام السجاد عليه السلام منذ البداية صفحات من النضال الواضح، بحيث لا يمكن تجاوزها، والغضّ عنها بسهولة: فحضوره في كر بلاء . ومواقفه في خُطَبِهِ في الأسر . وتخطيطه عند الوصول إلى المدينة . ثلاث محطّات للتأمل في سيرة الإمام السجاد عليه السلام، وفي بدايتها بالضبط، تستدعي التوقّف عندها لأخذ الشواهد العينيّة لمعرفة أبعاد نضاله المستقبلي . وإنّي أعدّ هذه البداية مهمّةً جداً للبحث، إذ أنّها توقفنا على اتجاه السهم السياسي الذي أطلقه الإمام السجاد عليه السلام ليصيب به هدفه الأوّل والأخير، والذي امتدّ سيره طول حياته الشريفة . ولو تأمّلنا ما في هذه المحطّات من أعمال، وبظروفها وحوادثها، نرى أنها لم تَقْصُر في الاعتبار السياسي عن قعقعة السيوف وصليلها، ولا عن عدْو الخيول وضبحها وصهيلها، ولا عن وَغى العساكر ولجبها. بل تتجاوز في بعض الاعتبارات أثر خروج محدودٍ يؤدّي إلى الشهادة، في تلك الظروف الحرجة المعقّدة، التي غطّى فيها التعتيم على الحقائق، وظلّل الإعلام كلَ الأجواء، وأصمَ الدجل كلّ الآذان، وأعمى التزوير كلّ الأبصار، وكدّر الظلم النور المؤدّي إلى النظر الصائب . فلنقف في كلّ نقطة مع أهم ما حُفظ لنا من خلال المصادر، ولنقرأ تلك الصفحات: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص42 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أولا في كر بلاء : لقد حضر الإمام السجاد عليّ بن الحسين، في معركة كر بلاء، إلى جنب والده الإمام الحسين عليه السلام، وهذا ما تذكره كلّ المصادر بلا استثناء . ويَرد في مصادر الوقعة، اسم عليّ بن الحسين في بعض مقاطع رحلة الإمام الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشهادة، وفي بعض الحديث بينه وبين ولده عليّ . ولم يُحدَد المقصود من عليّ هذا، هل هو السجاد عليه السلام أو أخوه علي الشهيد عليه السلام. وقد اشتهر أنّه هو الشهيد، لكنّ ذلك غير مؤكّد، فلعلّ الذي ورد ذكره، هو الإمام السجاد عليه السلام (70 ). والدلالات النضالية في هذا الحضور من وجوه: . أوّلاً: إن هناك نصوصاً تاريخية تدلّ على أن الإمام السجاد عليه السلام قد قاتل يوم عاشوراء وناضل إلى أن جُرِحَ، وهي: . النصّ الأول: ما جاء في أقدم نص مأثور عن أهل البيت عليهم السلام في ذكر أسماء مَنْ حضر مع الحسين عليه السلام، وذلك في كتاب تسمية مَنْ قُتِلَ (71) مع الحسين عليه السلام من أهل بيته وإخوته وشيعته الذي جمعه المحدّث الزيدي الفُضَيل بن الزُبير، الأسدي، الرسّان، الكوفي، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام (72). . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (70) لاحظ شرح الاخبار للقاضي (3: 265 -266) والإرشاد للمفيد (253) وانظر السرائر لابن إدريس (1: 655)، ولاحظ تواريخ النبي والآل للتستري (ص 30 -32-) . (71) كذا في ما نقل عن هذا الكتاب في مصادره، لكنّي أظنّ أن الكلمة هي (قاتَلَ) لأنّ المذكورين لم يُقتلوا جميعاً، بل في بعض المذكورين مَنْ اُسر، ومَنْ فرّ، ومن قُتِلَ قبل كر بلاء، فلاحظ مقدّمتنا للطبعة الثانية لهذا الكتاب، الذي نقوم بإعداده بعون الله . (72) نشر هذا الكتاب، بتحقيقنا، في مجلة (تراثنا) الفصلية التي تصدرها مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث في قم سنة (1406) وقد ذكرنا سنده وترجمة مؤلّفه بتفصيل وافٍ . والكتاب مذكور في الأمالي الخميسية للمرشد بالله (1: 170 -173) والحدائق الوردية للمحلي ج 1 ص 120 . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص43 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقد ذكر ما نصّه: وكان علي بن الحسين عليلاً، وارتُثَ، يومئذٍ، وقد حَضَرَ بعض القتال، فدفع اللهُ عنه، وأخِذَ مع النساء(73). ومع وضوح النصّ في قتال الإمام السجاد عليه السلام في كر بلاء فإن كلمة (ارْتُثَ) تدل على ذلك، لأنها تقال لمن حُمِلَ من المعركة، بعد أنْ قاتل، واُثخِنَ بالجراح، فاُخرج من أرض القتال وبه رَمَق، كما صرّح به اللغويون (74 ). النصّ الثاني: ما جاء في مناقب ابن شهرآشوب بعد ذكره مشهد علي بن الحسين المعروف بالأكبر وأن الإمام الحسين عليه السلام أتى به إلى باب الفسطاط، أورد هذه العبارة فصارت اُمهُ شهربانويه ولهى تنظر إليه ولا تتكلّم (75). ومن المعلوم أن اُمّ علي الشهيد هي ليلى العامرية أو برّة بنت عروة الثقفي كما يراه ابن شهرآشوب والمعروف أنّ شهر بانويه هي أمّ علي بن الحسين عليه السلام، فلابدّ أن يكون قد سقط من عبارة مناقب شهرآشوب ذكر مبارزة علي بن الحسين السجاد عليه السلام، وبهذا يكون شاهداً على ما نحن بصدده . ومن المحتمل أنْ تكون العبارة مقدّمة على موضعها في مقتل علي الأصغر الذي ذكره ابن شهرآشوب بعد هذا النصّ المنقول، لأن ابن شهرآشوب ذكر أن اُمّ علي السجاد هي اُمّ علي الأصغر شهر بانويه رضي الله عنها (76) النصّ الثالث: ما جاء حول مرض الإمام عليه السلام، إنّ المصادر تكاد تتّفق على أنّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (73) تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام، مجلة (تراثنا) العدد الثاني (ص 150) . (74) لاحظ مادة (رثث) من كتب اللغة، وقد صرحوا بأن الكلمة بالمجهول، انظر: المغرب للمطرزي (1: 184) والقاموس (1: 167) ولسان العرب (2: 457) . (75) مناقب آل أبي طالب (4: 118) . (76) مناقب آل أبي طالب (4: 85) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص44 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإمام السجاد عليه السلام كان يوم كر بلاء، مريضاً، أو موعوكاً (77) الا أنّها لم تحدّد نوعية المرض ولا سببه، لكنّ ابن شهرآشوب روى عن أحمد بن حنبل قوله: كان سبب مرض زين العابدين عليه السلام أنّه كان اُلبس درعاً، ففضُل عنه، فأخذَ الفُضلة بيده ومزّقها(78.) وهذا يُشير إلى أن الإمام إنّما عُرّض للمرض وهو على اُهْبة الاستعداد للحرب أو على أعتابها، حيث لا يُلبَس الدرعُ إلا حينذاك، عادة . ولا ينافي ذلك قول ابن شهرآشوب: ولم يقتل زين العابدين لأنّ أباه لم يأذن له في الحرب، كان مريضاً (79) لأنَ مفروض الأدلة السابقة أنّ الإمام زين العابدين قد أصيب بالمرض بعد اشتراكه أوّل مرّة في القتال وبعد أنْ ارتُثّ وجُرح، فلعلّ عَدمَ الإذن له في أن يُقاتل كان في المرّة الثانية وهو في حال المرض والجراحة . ولو فرض كونه مريضاً منذ البداية فالأدلة التي سردْناها تدلّ بوضوح على مشاركته في بعض القتال . فمؤشرات الجهاد في سيرة الإمام السجاد عليه السلام هي: أوّلاً: حَمْلُه السلاحَ وهو مريض ودخولُه المعركة، إلى أن يُجرح، يحتوي على مدلول بُطوليّ كبير، أكبر من مجرّد حمل السلاح . فلو كان حمل السلاح واجباً على الأصِحّاء، فهو في الإسلام موضوع عن المرضى بنصّ القرآن، لكن ليس حراماً عليهم ذلك، إذا وجدوا هِمّة تمكّنهم من أداء دَورٍ فيه . ثانياً: إنّ وجود علي بن الحسين عليه السلام، مع أبيه الإمام الحسين عليه السلام، في أرض كر بلاء، حيث ساحة النضال المستميت، وميدان التضحية والفداء، وحيث كان الإمام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (77) الإرشاد للمفيد (ص 231) شرح الأخبار (3: 250) وسير أعلام النبلاء (4: 486) . (78) نقله ابن شهرآشوب عن كتاب (المقتل) في مناقب آل أبي طالب (3 284) وفي طبعة (4 :155) ونقله في العوالم (ص 32) . (79) مناقب ابن شهرآشوب (122 :4) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص45 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحسين عليه السلام يسمح لكلّ مَنْ حوله وحتّى أولاده وأهل بيته بالانصراف، ويجعلهم في حلّ، لهو الدليل على قصد الإمام للمشاركة في ما قام به أبوه . قال الإمام السجاد عليه السلام: لمّا جمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب المسأ، دنوتُ لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذْ ذاك مريض، فسمعتُ أبي يقول :... أما بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَ من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً .. ألا، وإنّي قد أذنتُ لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذِمام، هذا الليل قد غشيكم فاتَخِذوه جَملاً (80). ففي ذلك الظرف، لا دور إذن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالمعنى الفقهي، لأنَ الأخطار المحدقة كانت ملموسةً، ومتيقّنةً ومتفاقمة للغاية، تفوق حدّ التحمّل . وقد أدرك ذلك كلّ مَنْ اطّلع على أحداث ذلك العصر، قبل اتّجاه الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق، ممّن احتفظ لنا التاريخ بتصريحاتهم، فكيف بمن رافق الإمام الحسين عليه السلام في مسيره الطويل من المدينة إلى مكّة والى كر بلاء، ومن أولاده وأهل بيته خاصة ? الذين لا تخفى عليهم جزئيّات الحركة وأبعادها وأصداؤها وما قارنها من زعزعة الجيش الكوفيّ للإمام، وسمعوا الإمام عليه السلام يصرّح بالنتائج المهولة والأخطار التي تنتظر حركته ومَن معه حتّى وقت تلك الخطبة مساء يوم التاسع، أو ليلة عاشوراء ? فلقد عرف مَنْ بقي مع الإمام الحسين عليه السلام في كر بلاء، بأنّ ما يقوم به الإمام ليس إلا فداءً وتضحية، لحاجة الإسلام إلى إثارة، والثورة إلى فتيل ووقود، واليقظة إلى جرَس ورنين، والنهضة إلى عماد و سناد، والقيام إلى قائد ورائد، والحياة الحرّة الكريمة إلى روح ودم . والإمام الحسين عليه السلام قد تهيّأ ليبذل مهجته في سبيل كلّ هذه الأسباب لتكوين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (80) الإرشاد للمفيد (ص 231) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص46 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كلّ تلك المسبّبات. ولم يكن مثل هذه الحقيقة ليخفى على عليّ بن الحسين السجاد عليه السلام الذي كان يومذاك في عمر الرجال، وقد بلغ ثلاثاً وعشرين سنة وكان ملازماً لأبيه الشهيد منذ البداية، وحتّى النهاية . فكان حضوره مع أبيه عليه السلام وحده دليلاً كافياً على روح النضال مع بطولة فذّة، تمتّع بها اُولئك الشجعان الذين لم ينصرفوا عن الحسين عليه السلام . ثم هو كما تقول تلك الرواية قد شهر السلاح، وقاتل بالسيف، حتّى اُثخِنَ بالجراح، واُخرج من المعركة وقد ارْتُثّ . وإذا كانت هذه الرواية بالذات زيديّةً، فمعنى ذلك تماميّة الحجّة على مَن ينسب الإمام زين العابدين عليه السلام إلى اعتزال القيام والسيف والنضال . ثالثاً: مضافاً إلى أنّ حامل هذه الروح، قبل كر بلاء، لا يمكن أن يركن إلى الهدوء بعد ما شاهده في كر بلاء من تضحيات أبيه وإخوته وأهله وشيعته، وما جرى عليهم من مصائب والآم، وما اُريق من تلك الدماء الطاهرة . أو يسكت، ولا يتصدى للثأر لأبيه، وهو ثار الله، مع أنه لم يَنْسَهم لحظة من حياته . فكيف يستسلم مثله، ويهدأ، أو يسالم ويترك دم أبيه وأهله يذهب هَدراً ? إذ لم يبق مَن يطالب بثأر تلك الدماء شخص غيره . فإذا كان كما يقول البعض: مصرع الحسين عليه السلام في كر بلاء هو الحدث التاريخي الكبير الذي أدّى إلى بلورة جماعة الشيعة، وظهورها كفرقة متميّزة ذات مبادىء سياسية وصبغة دينية (أكثر وضوحاً وتميزاً مما كانت عليه في زمان أمير المؤمنين عليه السلام وقبله . وكان لمأساة أثرها في نموّ روح الشيعة وازدياد أنصارها، وظهرت جماعة الشيعة، بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام، كجماعة منظّمة، تربطها روابط ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص47 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سياسية متينة (81). فكيف لا تؤثّر هذه المأساة في ابن الحسين، وصاحب ثأره، والوحيد الباقي من ذريته، والوريث لزعامته بين الشيعة، ولا تزيد نموّ الروح السياسية عنده ? وكيف تَجْمَعُ هذه المنظمة أفراد الشيعة بروابط سياسية، ولكن تُبَعدُ علي بن الحسين عليه السلام عن السياسة ? وكيف تستبعد هذه المنظمة عن التنظيم، وارث صاحب الثورة وصاحب الحقّ المهدور ? أليس في الحكم بذلك تعنت وجَوْر ? ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (81) جهاد الشيعة، للّيثي (ص 27). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص48 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثانياً: في الأسْر : إنَ البطولة التي أبداها الإمام السجاد عليه السلام بعد كر بلاء، وهو في أسر الأعدأ، وفي الكوفة في مجلس أميرها، وفي الشام في مجلس ملكها، لا تقل هذه البطولة أهميّةً من الناحية السياسية عن بطولة الميدان، وعلى الأقلّ: لا يقف تلك المواقف البطولية مَن هالَتْهُ المصارع الدامية في كر بلاء، أو فجعَتْه التضحيات الجسيمة التي قُدّمَت أمامه، ولا يصدر مثل تلك البطولات ممَن فضَلَ السلامة . نعم، لا يمكن أن يصدر مثل ذلك إلا من صاحب قَلْبٍ جسور، صلب يتحمّل كلّ الآلام، ويتصدى لتحقيق كلّ الآمال، التي من أجلها حضر في ميدان كر بلاء مَنْ حضر، وناضل مَنْ ناضل، واستشهد مَنْ استشهد، والآن يقف ليؤدّي دوراً آخر مَنْ بقي حيّاً من أصحاب كر بلاء، ولو في الأسر . إنّ الدور الذي أدّاه الإمام السجاد عليه السلام، بلسانه الذي أفصح عن الحقّ ببلاغة معجزة، فأتمَ الحجة على الجميع، بكل وضوحٍ، وكشف عن تزوير الحكّام الظالمين، بكل جلاء، وأزاح الستار عن فسادهم وجورهم وانحرافهم عن الإسلام . إن هذا الدور كان أنفذ على نظام الحكم الفاسد، من أثر سيف واحد، يجرّده الإمام في وجه الظلمة، إذ لم يجد مُعيناً في تلك الظروف الصعبة . لكنّه كان الشاهد الوحيد، الذي حضر معركة كر بلاء بجميع مشاهدها، من بدايتها، بمقدّماتها وأحداثها وملابساتها وما تعقّبها، وهو المصدَق الأمين في كل ما يرويه ويحكيه عنها . فكان وجوده استمراراً عينيّاً لها، وناطقاً رسميّاً عنها . مع أن وجوده، وهو أفضل مستودع جامع للعلوم الإلهية بكلّ فروع: العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والعرفان، بل المثال الكامل للإسلام في تصرفاته وسيرته وسنته، والناطق عن القرآن المفسّر الحيّ لاَياته، إن وجوده حيّاً كان أنفع للإسلام وأنجع للمسلمين في ذلك الفراغ الهائل، والجفاف القاتل، في المجتمع الإسلامي . كان وجودُه أقضَ لمضاجع أعداء الإسلام من ألف سيفٍ وسيف، لأن الإسلام إنّما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص49 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يحافَظُ عليه ببقاء أفكاره وقيمه، والأعداء إنّما يستهدفون تلك الأفكار والقيم في محاولاتهم ضدّه، وإذا كان شخص مثل الإمام موجوداً في الساحة، فإنه لا ريب أعظم سد أمام محاولات الأعداء. وكذلك الأعداء إنما يُبادون بضرب أهدافهم، واجتثاب بدعهم وفضح أحابيلهم، والكشف عن دجلهم، ورفع الأغطية عن نِيّاتهم الشرّيرة تجاه هذا الدين وأهله، والإفصاح عن مخالفة سيرتهم للحق والعدل . وعلى يد الإمام السجاد عليه السلام يمكن أن يتمّ ذلك بأوثق شكل وأتمّ صورة، وأعمق تأثير . ثمَ، أليس الجهاد بالكلمة واحداً من أشكال الجهاد، وإن كان أضعفها ? بل، إذا انحصر الأمر به، فهو الجهاد كلّه بل أفضله، في مثل مواقف الإمام السجاد عليه السلام، كما ورد في الحديث الشريف، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر (82) ولنصغ إلى الإمام السجاد عليه السلام في بعض تلك المواقف : فمن كلام له عليه السلام كان يُعلنه وهو في أسر بني أمية: أيّها الناس : إنّ كلّ صمتٍ ليس فيه فكر فهو عيّ، وكل كلامٍ ليس فيه ذكر فهو هباء. ألا، وإنَ الله تعالى أكرم أقواماً باَبائهم، فحفظ الأبناء بالآباء، لقوله تعالى: (وكان أبوهما صالحاً )( سورة الكهف الآية 82) فأكرمهما . ونحن والله عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأكرمونا لأجل رسول الله، لأن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في منبره: احفظوني في عترتي وأهل بيتي، فمن حفظني حفظه الله، ومن آذاني فعليه لعنة الله، ألا، فلعنة الله على من آذاني فيهم حتّى قالها ثلاث مرات . ونحن والله أهل بيت أذهب الله عنّا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن ... (83). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (82) الروض النضير (5 13) وانظر الكنى للدولابي (1 78) . (83) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام (ص 95) عن المنتخب للطريحي . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص50 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبهذه الصراحة، والقوة، والبلاغة، عرّف الإمام السجاد عليه السلام للمتفرّجين ولمن وراءهم هذا الركب المأسور، الذي نبزوه بأنَه ركب الخوارج . ففضح الدعايات، وأعلن بذلك أنه رَكْب يتألّف من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وأفصح بتلاوة الآيات والأحاديث، أنه ركب يحمل القرآن والسنّة، ليعرف المخدوعون أن هذا الركب له ارتباط وثيق بالإسلام من خلال مصدريه الكتاب و السنّة . وهو من لسان هذين المصدرين يصبّ اللعنة والنقمة على مَنْ آذى هذا الركب، من دون أن يُمَكن الأعدأ من التعرّض له، لأنه عليه السلام إنّما يروي اللعنة الصادرة من الرسول وعلى لسانه. كان هذا الموقف، حين أخذ الناسَ الوجومُ، من عظم ما جرى في وقعة كر بلاء، وما حلّ بأهل البيت عليه السلام من التقتيل والأسر، وذُهلوا حينما رأوا الحسينَ سبط الرسول وأهله وأصحابه مجزّرين ويرون اليوم ابنَه، وعيالاته أسرى، يُساقون في العواصم الإسلامية . والأسر في قاموس البشر يُوحي معاني الذلّ والهوان، والضعف والانكسار هذا، والناس يفتخرون بالانتماء إلى دين الرسول وسنّته . والأنكى من ذلك أنّ الجرائم وقعتْ ولمّا يمضِ على وفاة الرسول جدّ هؤلاء الأسرى نصف قرنٍ من الزمن وموقفه الآخر في مجلس يزيد، فقد أوضح فيه عن هويّته الشخصية، فلم يَدَعْ لجاهل عُذراً في الجلوس المريب، وذلك في المجلس الذي أقامه يزيد، للاحتفال بنشوة الانتصار ولابدّ أنه جمع فيه الرؤوس والأعيان، انبرى الإمام السجاد عليه السلام، في خطبته البليغة الرائعة، التي لم يزل يقول فيها: أنا ... أنا ... عرّفاً بنفسه، وذاكراً أمجاد أسلافه حتّى ضَجَ المجلسُ بالبكاء والنحيب حَسَبَ تعبير النص(84) الذي سنُثبته كاملاً : ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (84) مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي (2 71) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص51 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خطبة الإمام في مجلس يزيد: قال الخوارزمي: (وروي) أنّ يزيد أمر بمنبر خطيب، ليذكر للناس مساوي الحسين وأبيه علي عليهما السلام . فصعد الخطيب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وأكثر الوقيعة في عليّ والحسين، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد . فصاحَ به عليّ بن الحسين: ويلكَ أيّها الخاطِبُ اشتريتَ رضا المخلوق بسخط الخالق ? فتبوَأْ مقعدَك من النار . ثم قال: يا يزيد، إئذنْ لي حتّى أصعد هذه الأعواد، فأتكلّم بكلماتٍ فيهنّ لله رضا، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب . فأبى يزيد، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، ائذنْ له ليصعد، فعلّنا نسمعُ منه شيئاً . فقال لهم: إنْ صعدَ المنبر هذا لم ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان، فقالوا: وما قدر ما يُحسن هذا ? فقال: إنّه من أهل بيتٍ قد زُقّوا العلم زقّاً . ولم يزالوا به حتّى أذِنَ له بالصعود . فصعد المنبر: فحَمِد الله وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب، فقال فيها : أيّها الناس، اُعطِينا سِتّاً، وفُضلنا بِسبعٍ: اُعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبةَ في قلوب المؤمنين . وفُضلنا بأنّ منّا النبيَ المختار محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم، ومنّا الصدّيق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد الله وأسد الرسول، ومنّا سيّدة نسأ العالمين فاطمة البتول، ومنّا سبطا هذه الأمة، وسيّدا شباب أهل الجنّة . فمن عرفني فقد عرفني، ومَنْ لم يعرفني أنبأتُه بحسَبي ونَسَبي : أنا ابن مكّة ومنى . أنا ابن زَمْزَمَ والصفا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص52 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنا ابن مَنْ حَمَل الزكاة (85) بأطراف الردا . أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى . أنا ابن خير مَن انتعلَ واحتفى . . أنا ابن خير مَنْ طافَ وسعى . أنا ابن خير مَنْ حجَ ولبَى . أنا ابن مَنْ حُمِلَ على البُراق في الهوا . أنا ابن من اُسْرِيَ به مِن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسُبحان مَنْ أسرى . أَنا ابن مَنْ بَلَغَ به جِبرائيل إلى سِدْرة المنتهى . أنا ابن مَنْ دَنى فَتَدَلّى فكانَ من ربّه قاب قوسين أو أدنى . أنا ابن مَنْ صلّى بملائكة السما . أنا ابن مَنْ أوْحى إليه الجليل ما أوحى . أنا ابن محمّدٍ المصطفى . أنا ابن عليّ المرتضى . أنا ابن مَنْ ضَرَبَ خراطيم الخلق حتّى قالوا: لا إله إلا الله . أنا ابن مَنْ ضَرَبَ بين يَدَيْ رسول الله بسيفَيْن، وطَعَنَ رُمحيْنِ، وهاجَرَ الهِجْرَتَيْنِ، وبايَعَ البيعَتيْنِ، وصلّى القبلتَيْنِ، وقاتلَ ببَدْرٍ وحُنَيْن، ولم يكفُرْ بالله طَرْفَةَ عَيْن . أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيّين، وقامع الملحدين، ويَعْسُوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين، ورسول ربّ العالمين . أنا ابن المؤيّد بجبرائيل، المنصور بميكائيل . أنا ابن المحامي عن حَرَم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (85) في نقل (كامل البهائي): من حمل الرُكنْ وفسّر بالحَجَرَ الأسود الذي محلّه الركن، ولذلك ذكر في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص53 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر مَنْ مشى من قُريش أجمعين، وأوّل مَنْ أجاب استجاب لله، من المؤمنين، وأقدم السابقين، وقاصم المعتدين، ومُبِيْر المشركين، وسهم مِنْ مَرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، ناصر دين الله، ووليّ أمر الله، وبُستان حكمة الله، وعَيْبة علم الله، سَمح سخيّ، بُهلول زكيّ أبطحي رضي مرضي، مِقْدام هُمام، صابر صوّام، مُهَذّب قوّام شجاع قمقام، قاطع الأصلاب، ومفرّق الأحزاب، أربطهم جِناناً، وأطلقهم عناناً، وأجرأهم لساناً، أمضاهم عزيمةً، وأشدّهم شكيمةً، أسَد باسل، وغَيث هاطل، يطحَنُهم في الحروب إذا ازدَلفت الأسنّة، وقربت الأعِنّة طَحْنَ الرحى، و يذرُوهم ذَروَ الريح الهشيم، لَيْث الحجاز، صاحب لإعجاز، وكَبْش العراق، الإمام بالنصّ والاستحقاق مكّيّ مَدَنيّ، أبطحي تِهاميّ، خيفي عَقَبيّ، بَدْريّ أحُديّ، شَجَريّ مُهاجريّ، من العرب سيّدها، ومن الوغى ليثُها، وارثُ المَشْعَريْنِ، وأبو السبطين، الحسن والحسين، مَظْهر العجائب، ومفرّق الكتائب، والشهاب الثاقب، والنور العاقب، أسَد الله الغالب، مطلُوب كلّ طالب غالب كلّ غالب، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب . أنا ابن فاطمة الزهرا .. أنا ابن سيّدة النسا .. أنا ابن الطهر البتول .. أنا ابن بَضْعة الرسول .. (أنا ابن الحسين القتيل بكربلاء .. أنا ابن المُرَمّل بالدما .. أنا ابن مَنْ بكى عليه الجنّ في الظلما .. أنا ابن مَنْ ناحتْ عليه الطيور في الهوا..)(86). قال: ولم يزل يقول: أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشيَ يزيد أنْ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (86) ما بين القوسين عن الكامل للبهائي . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص54 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تكون فتنة، فأمر المؤذّن أنْ يؤذّنَ، فقطع عليه الكلام وسكت . فلمّا قال المؤذّن الله اكبر قال عليّ بن الحسين: كبّرتَ كبيراً لا يُقاس، ولا يُدْرك بالحَواسّ، لا شي أكبر من الله . فلمّا قال: أشهد أنْ لا إله إلا الله , قال عليّ: شَهَد بها شعري وبَشَري، ولحمي ودمي، ومُخّي وعظمي . فلمّا قال: شهد أنّ محمّداً رسول الله التفتَ عليّ مِن أعلى المنبر إلى يزيد وقال: يا يزيد، محمّد هذا جدّي أم جدّك ? فإنْ زعمتَ أنّه جدّك فقد كذبتَ . وإنْ قلتَ إنّه جدّي، فَلِمَ قتلتَ عترته ?(87) . فأدّى كلام الإمام عليه السلام إلى أن تتبخّر كل الدعايات المضلّلة التي روّجتها السياسة الأموية، والتي تركّزت على: أنّ الأسرى هم من الخوارج فبدّل نشوة الانتصار إلى حشرجة الموتى في حلوق المحتفلين. وفي التزام ا لإمام السجاد عليه السلام بذكر هويّته الشخصية فقط في هذه الخطبة، حكمة وتدبير سياسيّ واعٍ، إذْ لم يكن له في مثل هذا المكان والزمان، أن يتطرّق إلى شي من القضايا الهامّة، وإلا كان يمنع من الكلام والنطق، وأمّا الإعلان عن اسمه فهي قضية شخصية، وهو من أبسط الحقوق التي تُمنح للفرد وإنْ كان في حالة الأسر. لكنّ كلام الإمام لم يكن في الحقيقة إلا مليئاً بالتذكير والإيماء، بل الكناية التي هي أبلغ من التصريح، بنسبه الشريف، واتصاله بالإسلام، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم . وقد ذكَر الإمام عليه السلام بكل المواقع الجغرافية، والمواقف الحاسمة والذكريات العظيمة في الإسلام، وربط نفسه بكلّ ذلك، فسرد وبِلُغةٍ شخصيّةٍ حوادث تاريخ الإسلام، معبراً بذلك عن أنّه يحمل هموم ذلك التاريخ كلّه على عاتقه، وأنّه حامل هذا العِبْ، بكلّ ما فيه من قدسيّة، ومع هذا فهو يقفُ أسيراً أمام أهل المجلس. وقد فهم الناسُ مغزى هذا الكلام العميق، فلذلك ضجّوا بالبكاء فإنَ الحكّام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (87) مقتل الحسين (2 69 -71) ونقل عن كتاب (كامل البهائيّ) بنص متقارب نقله الحائري في بلاغة علي بن الحسين عليه السلام (ص 106 -109) ونقل بعده نصّاً آخر للخطبة عن أبي مخنف فليُلاحظ . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص55 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأمويّين إنّما حصلوا على مواقع السلطة من خلال ربط أنفسهم بالإسلام، فكسبوا لأنفسهم قدسيّة الخلافة. وكان لجهل الناس الأثر الكبير في وصول الأمر إلى هذه الحالة، أن يروا ابن الإسلام أسيراً أمامهم. ثمّ إنّ جهل أهل الشام بأهل البيت، مضافاً إلى حقد الحكّام على أهل البيت عامّة، وعلى الذين كانوا مع الحسين عليه السلام في كر بلاء خاصة، كان يدعو إلى الاحتياط، والحذر من أن ينقضَ يزيد على الأسرى في ما لو أحسَ بخطرهم، فيُبيدهم. فكان ما قام به الإمام من تأطير خطبته بالإطار الشخصي مانعاً من إثارة غضبه وحقده، لكن لم يَفُتِ الإمام اقتناص الفرصة السانحة لكي يبثّ من خلال التعريف، بشخصه وهويته، التنويه بشخصيته وبقضيته وبهمومه، ولو بالكناية التي كانت حقاً أبلغ من التصريح . فلذلك لم يتعرّض الإمام عليه السلام لذكر مساوي الأمويّين، ولم يذكر شيئاً من فضائحهم، بالرغم من توقّع يزيد نفسه لذلك . وبذلك نجا من شرّ يزيد، وبقي ليداوم اتّباع الهدف الذي من أجله قُتِلَ الشهداء بالأمس، وأصبح هو يقود مسيرة الأحياء، اليوم، وغداً ... وموقف آخر: في وسط ذلك الجوّ الخانق، وفي عاصمة الحاكم المنتصر، وفي حالة الأسر، يرفع الإمام صوته، ليُسمع الأذان التي أصمّها الضوضاء والصخب، في ما رواه المنهال بن عمرو، قال: دخلت على عليّ بن الحسين، فقلتُ: كيف أصبحت، أصلحك الله ?. فقال: ما كنتُ أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري: كيف أصبحنا ?. قال: فأمّا إذا لم تدْرِ أو تعلم فأنا اُخبرك : أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، إذ كانوا (يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم) . وأصبحنا: شيخُنا وسيّدنا يُتقرّب إلى عدوّنا بشتمه، وبسبّه، على المنابر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص56 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ . وأصبحت قريش تعدّ (88): أنّ لها الفضل على العرب، لأنّ محمّداً منها، لا يُعَد لها فضل إلا به، وأصبحت العرب مقرّةً (89) لهم بذلك . وأصبحت العرب تعدّ(90) أن لها الفضل على العجم، لأن محمداً منها، لا يُعدّ لها فضل إلا به، وأصبحت العجم مقرّةً(91) فإنْ كانت العرب صدقت أنّ لها الفضل على العجم، وصدقت قريش أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّداً منها: إنّ لنا أهل البيت الفضل على قريش، لأن محمداً منّا . فأضحوا يأخذون بحقّنا، ولا يعرفون لنا حقّاً . فهكذا أصبحنا، إن لم يُعلم: كيف أصبحنا ? قال المنهال: فظننت أنَه أراد أن يُسمِعَ مَن في البيت(92) ويصرّح في موقف مماثل يُسأل فيه عن الركب الذي هو فيه، فيقول: إنا من أهل البيت، الذين افترض الله مودّتهم على كل مسلمٍ، فقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القُربى ومَن يقترف حسنةً نزد له فيها حسنا) [ سورة الشورى 42 الآية 23 [ فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت (93) . إلى غير ذلك من المواقف التي كان لها أثر حاسم في تغيير سياسة يزيد تجاه هذا الركب المأسور، حتّى أرجعه إلى المدينة. إنّ هذه المواقف لم تكن تصدر من قلب مُلىء رُعباً، أو شخصٍ يفضّل السلامة، أو يميل إلى الهدوء والراحة، بَلْه المسالمة مع العدو أو الركون إلى الظالمين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (88) كذا الصواب وكان في المختصر: (بعد) . (89) كذا الصواب وكان في المختصر: (معيرة) . (90) كذا الصواب وكان في المختصر: (بعد) . (91) كذا الصواب وكان في المختصر: (معيرة) . (92) تاريخ دمشق (الحديث 120) مختصر ابن منظور (17: 245) ورواه الحافظ محمد بن سليمان في مناقب أمير المؤمنين (ج 2 ص 108) رقم (598) ولاحظ طبقات ابن سعد (5 :219) . ورواه السيد الموفق بالله في الاعتبار و سلوة العارفين (ص 186) . (93) المستدرك على الصحيحين، للحاكم (3: 172) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص57 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنّما صاحب هذه المواقف ذو روحٍ متطلّعة وثّابة هادفة، إذا لم يُتَحْ له بعد كر بلاء أن يأخذ بقائمة السيف، فسنان المنطق لا يزال في قدرته، يهتك به ظلام التعتيم الإعلامي المضلّل. وقد اتّبع الإمام السجاد عليه السلام هذه الخطّة بحكمة وتدبير عن علم بالأمر، وعمد له، وكشف عن أنه انتهجه سياسة مدبرةً مدروسة . فلمّا سُئل عن: الكلام، والسكوت أيهما أفضل ? لم يُدْل بما يعتبره الحكماء من: أن الكلام إذا كان من فضة فالسكوت من ذهب، وإنّما قال : لكل واحدٍ منهما آفات، وإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت . ولمّا سئل عن سبب ذلك مع مخالفته لاعتبار الحكماء المستقر في أذهان الناس من فضل السكوت ? قال: لأن الله عز و جل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، وإنّما بعثهم بالكلام . ولا استُحقت الجنة بالسكوت . ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت . ولا توقيت النار بالسكوت . ولا يُجنّب سخط الله بالسكوت . إنما كلَه بالكلام وما كنت لأعدل القمر بالشمس. إنك تصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت (94) وهكذا طبق الإمام عليه السلام هذه الحكمة البالغة، وأدّى رسالته الإلهية من خلال خطبه وكلماته ومواعظه وأحاديثه، في جميع المواقف العظيمة التي وقفها، وهو في الأسر . وإذا كان الظالمون يعتدون على المصلحين والأحرار بالقتل والسجن، فإنّما ذلك ليخنقوا كل صوت في الحناجر، ولئلا يسمع الناس حديثهم وكلامهم (95) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (94) الاحتجاج للطبرسي (ص 315) . (95) لاحظ أن الحجاج ختم على مجموعة من الصحابة كي لا يسمعهم الناس، في أسد الغابة (2: 471) ترجمة سهل الساعدي . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص58 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإذا ذبح الحسين عليه السلام وقُتِلَ في كر بلاء، فإنّ نداءاته ظلّت تدوي من حنجرة الإمام السجاد عليه السلام في مسيرة الأسرى، وفي قلب مجالس الحكّام . وليس من الإنصاف، في القاموس السياسي، أن يوصف مَنْ يؤدّي هذا الدور، بالانعزال عن السياسة، أو الابتعاد عن الحركة والنضال. بل، إذا كانت حركة الإمام الحسين عليه السلام سياسيةً، كما هي كذلك بلا ريب فكما قال القرشي: إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينية، وتفاعلها مع عواطف المجتمع أحاسيسه، وذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في دنيا الشجاعة والبطولات أمّا خطابه في بلاط يزيد فإنه من أروع الوثائق السياسية في الإسلام(96) . وبرز الإمام زين العابدين عليه السلام على مسرح الحياة الإسلامية كألمع سياسي إسلامي عرفه التاريخ، فقد استطاع بمهارةٍ فائقةٍ وهو في قيد المرض والأسر أن ينشر أهداف الثورة العظمى التي فجّرها أبوه الإمام الحسين القائد الملهم للمسيرة الإسلامية الظافرة، فأبرز قيمها الأصلية بأسلوب مشرق كان في منتهى التقنين، والأصالة، والإبداع (97) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (96) حياة الإمام زين العابدين، للقرشي (1: 8) . (97) حياة الإمام زين العابدين، للقرشي (1: 7) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص59 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثالثاً: في المدينة رجع الإمام السجاد إلى المدينة : ليرى المدينة واجمةً، موحشةً من أهله وذويه، رجالات أهل البيت عليهم السلام، والناس كذلك واجمون، بعد أن رأوا ركْبَ أهل البيت يرجع ليس فيهم إلا عليَ بن الحسين عليه السلام، وليس معه إلا أطفال ونساء!! أما الرجال فقد ذُبحوا على يد العصبة الأموية!؟ وإذا لم يتورّع آل اُمية من إراقة دم الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هكذا، وفي وَضَح النهار، وهو مَن هو فمن سوف يأمن بغيهم وسطوتهم ? إنّ الإمام السجاد عليه السلام، وهو الوارث الشرعي لدماء كلّ المقتولين، الشهداء الذين ذُبحوا في كر بلاء، وهو الشاهد الوحيد على كلّ ما جرى في تلك الواقعة الرهيبة، لابدّ أنّ عين الرقابة تلاحقه، وتتربّص به، وتنظر إلى تصرفاته بريبةٍ واتّهامٍ . والناس على عادتهم في الابتعاد والتخوّف من مواضع التهمة، ومواقع الخطر قد تركوا علي بن الحسين، وابتعدوا عنه، حتّى مَنْ كان يعلن الحبَ لأهل البيت عليهم السلام قبل كر بلاء، لم يكد يفصح عن ودّه بعد كر بلاء . وقد عبّر الإمام السجاد عليه السلام عن ذلك بقوله: ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا (98) وإذا كان عدد الملتزمين بالولاء الصادق لأهل البيت، في عاصمة الإسلام قليلاً إلى هذا الحدّ، فكيف بالبلدان القاصية عن مركز وجود أهل البيت عليهم السلام ? وقد رجع الإمام السجاد عليه السلام حاملاً معه أعباءً ثقالا : فأعباء كر بلاء، بمآسيها، وذكرياتها، وأتعابها، وجروحها، والأثقل من كلّ ذلك (أهدافها) ونتائجها، فقد هبط المدينة وهو الوحيد الباقي من رجال تلك المعركة ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (98) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد (4: 140) . ولاحظ الغارات للثقفي (ص 573) وبحار الأنوار (46 :143) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص60 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعليه أداء رسالتها العظيمة . وأعباء العائلة المهضومة، المكثورة، ما بين ثكالى وأرامل وأيتام، ودموع لابدّ أن يكفكفها، وعواطف مخدوشة، وقلوب صغيرة مروَعة، وعيون موحشة، وجروح وأمراض وآلام، تحتاج إلى مداراة ومداواة والتيام . ولابدّ أن يسترجع القوى. وأعباء الإمامة، تلك المسؤولية الإهيّة، والتاريخية الملقاة على عاتقه، والتي لابدّ أن ينهض بها، فيلملم كوادرها ويردم الصدمات العنيفة التي هزّ كيانها، ويرأب الصدع الذي أصاب بناء نظام الإمامة الشامخ، الذي يُمَثل الخط الصحيح للإسلام . ولقد حمل الإمام السجاد عليه السلام، في وحدته، كلّ هذه الأعباء، وبفضل حكمته وتدبيره خرج من عهدتها بأفضل الأشكال . ففي السنين الأولى : وقبل كل هذه المهمّات الهائلة الثقال، وبعدها: كانت ملاحقة الدولة، أهمّ ما كان على الإمام السجاد عليه السلام أن يوقفها عند حد، حتّى يتمكّن من أداء واجب تلك الأعباء الصعبة بشكل صحيح ومطلوب . ولابدّ أن أصابع الاتّهام كانت موجهةً إليه ما دام موجوداً في المدينة، أو أي بلدٍ إسلامي آخر، تلاحق حركاته وسكناته، وتحصي أنفاسه وكلماته . الإجراء الفريد : فلذلك اتّخذ إجراءً فريداً في حياة الأئمة، وبأسلوب غريب جدّاً، لمواجهة الموقف، ولإبعاد نفسه عن وجهة تلك الاتّهامات والملاحقات التي لا يمكن صرفها هي ولا تغيير وجهتها . فأبعد بذلك الإجراء الأخطار الموجهة إليه من الملاحقات، وبدأ بعيداً عنها بالاستعداد لما يتوجّبه حمل تلك الأعباء، ويتأهب للقيام بدوره، كوارث لكربلاء، وكمعيل كفيل لعوائل الشهداء، وكإمام يقود الأمة ويحافظ على تعاليم السماء . كان ذلك الإجراء الفريد أنه اتخذ بيتاً من شَعْر في البادية، خارج المدينة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص61 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال ابن أبي قرّة في (مزاره) بسنده عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين عليه السلام، قال: كان أبي علي بن الحسين عليه السلام، قد اتّخذ منزله من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي عليه السلام بيتاً من شَعْرٍ، وأقام بالبادية، فلبث بها عدّة سنين، كراهيةً لمخالطة الناس(99) وملاقاتهم . وكان يصير من البادية بمقامه إلى العراق زائراً لأبيه وجدّه عليهما السلام، ولا يُشْعَرُ بذلك من فعله(100) . إنه تصرّف غريب في طول تاريخ الإمامة، لم نجد له مثيلا، لكنه كما تكشف عنه الأحداث المتتالية عمل عظيم يَنُمّ عن حنكة سياسية، وتدبير دقيق للإمام عليه السلام . فإذا كان الإمام عليه السلام يعيش خارج المدينة، وكان ينزل البادية : فإن الدولة لا تتمكّن من اتهامه بشي يحدث في المدينة، ويكون من العبث ملاحقته وملاحظته، في محل مكشوف مثل البادية وأمّا هو عليه السلام: فخير له أن يتخذ منتجعاً مؤقتاً بعيداً عن الناس، حتّى تهدأ الأوضاع وتستقرّ، وتعود المياه إلى مجاريها . وبعيداً عن الناس، للاستجمام، ولاستجماع قواه، كي ينتعش مما أبلاه في سفره ذلك من النصب والتعب، ليتمكّن من مداومة مسيره بعد ذلك بقوة وجدّ . وهو عليه السلام بحاجة بعد ذلك العناء والضنى إلى راحة جسدية، وهدوء بال وخاطر، حتّى يبلَ من مرضه أو يداوي جراحاته . ثم، إن المدينة التي دخلها الإمام السجاد عليه السلام وهو غلام ابن (23) سنة أو نحو ذلك لم تكن لتعرف للإمام مكانته كإمام، وهو بعد لم يعاشرهم، ولم يداخلهم، وما تداولوا حديثه، ولم تظهر لهم خصائصه، كي ينطلقوا معه كقائم بالإمامة . ولعدم وجود العدد اللازم من الأعوان والأنصار، بالقدر الكافي لإعداد حركة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (99) يلاحظ أن كلمة (الناس) في حديث أهل البيت: خاصة يطلق على غير المعتقدين بالإمامة، في أغلب الأحيان . (100) فرحة الغري، لابن طاوس (ص 43) الإمام زين العابدين، للمقرّم (ص 42) ولاحظ الكافي للكليني، قسم الروضة (ص 255) حيث جاء فيها حديث زيارة الإمام السجاد لقبر أمير المؤمنين عليه السلام ولقاء أبي حمزة الثمالي له، فليلاحظ . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص62 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مستقلة يعلنها الإمام، وحفاظاً على العدد الضئيل الباقي على ولائه للإمام . فقد بنى الإمام زين العابدين عليه السلام سياسته، في ابتدأ إمامته على أساس الابتعاد عن الناس، ودعوتهم إلى الابتعاد عنه عليه السلام . وقد أعلن الإمام عن هذه السياسة، في أول لقاء له مع مجموعة من شيعته ومواليه في الكوفة، عندما عرضوا عليه ولاهم، وقالوا له بأجمعهم: نحن كلنا يابن رسول الله، سامعون، مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك، رحمك الله، فإنّا حرب لحربك، وسلم لسلمك، لنأخذنّ تِرَتك وتِرَتنا ممن ظلمك وظلمنا . فقال عليه السلام: هيهات ... ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا (101) . إن الإمام عليه السلام أخذ عليهم، سائلا، أن يأخذوا في تلك الفترة جانب الحياد تجاه أهل البيت عليهم السلام، لا لهم، ولا عليهم . إذ، لو رأت السلطة أدنى تجمّع حول الإمام عليه السلام، لاتّخذَت ذلك مبرراً لها أن تستأصل وجوده ومن معه، فإنّ من الهيّن عليها قتل علي بن الحسين وهو ضعيف، بعد أن قتلت الحسين عليه السلام وهو أقوى موقعاً في الأمة . كان مغزى هذا التدبير السياسي المؤقّت: أن لا يبقى الإمام عليه السلام داخل المدينة، حتّى لا تلاحقه أوهام الدولة وتخمينات رجالها وحتّى يبتعد عن ظنونهم السيئة، بل خرج إلى فضاء البادية المفتوح، وخارج البلد، يسكن في بيت من (شَعْرٍ) ليرفع عن نفسه سهام الريب، ويدفع عن ساحته اهتمام رجال الدولة، كوارث للشهداء . ولقد طالت هذه الحالة عدّة سنين حسب النصّ، ولعلّها بدأت من سنة (61) عندما رجع أهل البيت إلى المدينة، وحتّى نهاية سنة (63) عندما انتهت مجزرة الحرّة الرهيبة . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (101) الاحتجاج للطبرسي (ص 306) وانظر اللهوف لابن طاوس( ص 6 67) ويبدو أن هذا الاجتماع كان بعد عودة الإمام عليه السلام من الشام إلى الكوفة أو في بعض أسفاره السرية إلى العراق. وانظر فضل الكوفة من مزار ابن المشهدي (ص 78) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص63 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأما بعد هذه الفترة، فلم يُعْرَف عن هذا البيت من الشَعْر خبر في تاريخ الإمام عليه السلام، ولا أثر!. وأبرز ما أثمرته هذه الظاهرة الغريبة، أنّ القائد الأموي السفّاك مسلم بن عقبة، في هجومه الوحشي الكاسح على المدينة وأهلها، لم يمسّ الإمام بسوء، وعدّه خيراً لا شرّ فيه . وواضح، أن المراد من الخير والشر في منطق هذا الأموي السفاح، ما هو ? مع أنّ الإمام كان مستهدفاً بالذات في ذلك الهجوم، كما سنوضحه في ما بعد ولقد استنفد الإمام السجاد عليه السلام جلّ أغراضه وأهدافه من هذا الإجراء الفريد، فرجع إلى المدينة، وقد انقلبت ظنون رجال الحكم السيئة، إلى حالة مألوفة، وأصبح الإمام في نظرهم مواطناً، يمكنه أن يسكن المدينة، من دون أن تُنصب له الدوائر، ولا أن تُجعل عليه العيون . بل، انقلب البغض الدفين، الذي كان يكنّه الأمويون تجاه بني هاشم، وركّزه معاوية في أهل بيت الرسول، وصبّه على أمير المؤمنين علي وأولاده، وجسّده يزيدُ في الفاجعة المروّعة بقتل شيخ العترة وسيّدها الحسين بن علي عليه السلام، وقتل خيرة رجالات أهل بيته، وأصحابه، في مجزرة كر بلاء . انقلب كل ذلك في نهاية المطاف بفضل سياسة الإمام زين العابدين عليه السلام، إلى أن يكون علي بن الحسين أحبّ الناس إلى حكّام بني أمية (102) . وبهذا يمكن أن نفسّر النصّ الوارد في إعلام إمامة علي بن الحسين عليه السلام المعروف بحديث اللوح الذي رواه جابر بن عبد الله الأنصاري حيث جاء فيه: أطْرِق، واصمت، والزم منزلك، واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين (103) . فلابد أن تحدّد فترة ذلك بأول عهد إمامة الإمام السجاد عليه السلام حين كان يواجه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (102) كان علي بن الحسين أحبّ الناس إلى مروان وابنه عبد الملك . طبقات ابن سعد (5: 159) تاريخ دمشق (الأحاديث 38 -40) وابن كثير في البداية والنهاية (9: 106) وتذكرة الحفاظ (1: 75) . (103) الإمامة والتبصرة من الحيرة، لابن بابويه (ص 167) الحديث (20)، وانظر مصادر تخريجه . ولاحظ أمالي الطوسي (1 297) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص64 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تلك الأخطار والتهديدات. و الإطراق و الصمت معبّران عن التزام السكون، والهدوء، والتخطيط للمستقبل، والابتعاد عن لقاء الناس . وهذا هو الذي عبّر عنه إسماعيل بن علي أبو سهل النوبختي بقوله: وقُتِل الحسين عليه السلام وخلّف علي بن الحسين عليه السلام متقارب السنّ كانت سنّه أقل من عشرين سنة ثم انقبض عن الناس، فلم يلق أحداً، ولا كان يلقاه إلا خواصّ أصحابه، وكان في نهاية العبادة، ولم يخرج عنه من العلم إلا يسير، لصعوبة الزمان وجور بني أمية(104) فهو شرح عيني لحالة هذه الفترة بالذات . و إلا، فإنّ الفترة التالية من حياة الإمام السجاد عليه السلام نراها مليئة بكلّ أغراض الكلام والخطب والأدعية والمواعظ. فأين الصمت ?. ونجد في حياته الأسفار المكرّرة إلى الحجّ، والنشاط العملي الجادّ في الإنفاق، والإعتاق، والحضور في المسجد النبوي، والخطبة كلّ جمعة، والمراسلات والمساجلات والاحتجاجات . فأين الإطراق ? ولا يُمكن لأحدٍ أنْ يعبّر عن العلم الذي خرج عن الإمام عليه السلام بأنّه يسير وهو يجد أمامه: الصحيفة السجادية، ورسالة الحقوق، ومناسك الحج، مضافاً إلى الخطب والكلمات الرسائل التي احتوتها بلاغة علي بن الحسين عليه السلام وجمعتها كتب تراثيّة عديدة (105) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (104) نقله الصدوق في إكمال الدين (ص 91) عن كتاب (التنبيه) للنوبختي . (105) لاحظ تدوين السنة الشريفة (ص 150 152) وراجع معجم ما كُتب ... للرفاعي بالأرقام: 20397 باسم (التذكرة) و 20415 باسم التعقيبات، و 20482 باسم الديوان، و20688باسم المخمسّات، و20733-20736باسم (الندبة) و 20737و20738 باسم نسخة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص65 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجمع أسماء مَنْ روى عنه في كتب اُخرى (106) ومجموع من ذكرهم الشيخ الطوسي فقط من الرواة عن الإمام عليه السلام بلغوا 170 راوياً (107) . ولا ريب أنّ مجموع هذا العلم ليس يسيراً، فلابدّ أنْ يكون ذلك قد حصل بعد تلك الفترة القصيرة فقط . إنّ كلّ تلك الفعاليات الكلامية والعملية لممّا يتيقّن معها بأن الإمام السجاد عليه السلام بعد تلك الفترة لم يسكن مطرقاً، ولم يسكت صامتاً، ولم ينعزل عن الناس، بل زاول نشاطاً واسعاً في الحياة العامة، بل كما ذكره النسّابة قد روى الحديثَ، ورُوي عنه، وأفاد علما جمّاً (108) . وستتكفل الفصول القادمة في هذا الكتاب ذكر الشواهد على كل هذا النشاط بعون الله . ومع وقعة الحرة : ورجع الإمام السجاد عليه السلام إلى المدينة : ليستقبله أهلها، بالبكاء والتعزية، ويستفيد الإمام من هذه العواطف لينشر أنباء حوادث كر بلاء، ويركّزها في الأذهان من طريق القلوب، كي لا يطالها التشويش والإنكار، بمرور الأعصار، كما طال كثيراً من الوقائع والحوادث، فأصبحت مغمورة أو مبتورة. فأرسل بشر بن حذْيم (109) إلى المدينة وأهلها ناعياً الحسين عليه السلام ومعرفاً إيّاهم بمكان الإمام السجاد عليه السلام . قال بشر: فما بقيتْ في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلا برزن من خدورهن، ...، فلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (106) لاحظ معجم ما كُتِبَ بالأرقام :20483 باسم ذكر مَنْ روى عن الإمام عليه السلام للصدوق ،و 20714 كتاب مَنْ روى عنه عليه السلام لابن عقدة . (107) رجال الطوسي (ص 107 120) الأرقام (1058 - 1228) وهم مائة وسبعون راوياً، لعلم الإمام عليه السلام . (108) المجدي في أنساب الطالبيّين (ص 92) . (109) كذا في بعض نسخ المصدر، ويظهر من هذه الرواية أن أباه كان شاعراً وقد ترحّم عليه الإمام عليه السلام، وفي أصحابه: حذيم بن شريك الأسدي، وجاء في نسخ اُخرى :بشير بن حذلم . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص65 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرَ على المسلمين منه . قال: فخرج علي بن الحسين، ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسيّ، فوضعه له وجلس عليه، وهو لا يتمالك عن العَبْرة، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء، وحنين النسوان والجواري، والناس يعزّونه من كل ناحية، فضجّت تلك البقعة ضجّة واحدة، فأومأ بيده: أن اسكنوا، فسكنت فورتهم، فقال : الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارى الخلق أجمعين، الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العلا، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرز، وعظيم المصائب الفاظعة، الكاظّة، الفادحة الجائحة . أيّها القوم إن الله تعالى ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتِلَ أبو عبد الله، الحسين، وعترته، وسبيت نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية . أيّها الناس فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله ? أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ? أم أية عين منكم تحبس دمعها، وتضنّ عن انهمالها ? فلقد بكت السبع الشداد لقتله وبكت البحار بأمواجها والسماوات بأركانها والأرض بأرجائها والأشجار بأغصانها والحيتان في لجج البحار والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون. أيّها الناس أصبحنا مشرّدين، مطرودين، مذودين، شاسعين عن الأمصار، كأنّنا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إنْ هذا إلا اختلاق . والله لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا، كما تقدّم إليهم في الوصية بنا، لما زادوا على ما فعلوا بنا . فإنّا لله و إنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، وأفجعها، و أكظّها، وأفظعها، وأمرّها، و أفدحها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص67 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فعنده نحتسب ما أصابنا، فإنّه عزيز ذو انتقام(110) . ولم تذكر المصادر شيئاً عن رجالات المدينة المعروفين، إلا أن صوحان بن صعصعة بن صوحان قام فاعتذر إليه، فترحّم الإمام على أبيه . والظاهر أنّ رجال المدينة اكتفوا في مواجهة الإمام السجاد عليه السلام بالعواطف الحارّة فقط، وأنهم لم يتجاوزوا ذلك، إذ لم يجدوا مبرّراً في التورّط مع الحكومة، ولو بعد قتل الحسين عليه السلام بهذه الصورة التي شرحها لهم الإمام السجاد عليه السلام . ويظهر من البيان الذي أصدره أهل المدينة عند تحرّكهم ضدّ يزيد وحكومته أنهم قبل ذلك لم يعرفوا من يزيد ما يُنكر من فعل أو ترك، حتّى وفدوا عليه، وحضروا بلاطه، ورأوا بأمّ أعينهم ما رأوا، فرجعوا، وثاروا عليه . وقد جاء في إعلانهم الأوّل ما نصّه: إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويدع الصلاة، ويعزف بالطنابير، وتضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الخرّاب، والفتيان، و إنّا نُشهدكم أنا قد خلعناه . وأتوا عبد الله بن الغسيل، فبايعوه وولّوه عليهم (111) . فليس في بيانهم ذكر الحسين عليه السلام، ولا الظلم الذي جرى على أهل البيت عليهم السلام وأما الذي ذكروه من يزيد وإلحاده وفسقه وفجوره، فقد أعلنه الإمام الحسين عليه السلام قبل سنين في كتابه إلى معاوية (112) . فأين كان أهل المدينة يومذاك ? ولماذا لم يتحرّكوا من أجله حينذاك ? ثم إن مَنْ يحرّكه شرب الخمر، والفسق، والفجور، لماذا لا يتحرّك من أجل قتل الحسين عليه السلام و الفجائع التي صُبّت على أهل البيت عليهم السلام، والتي أدّى علي بن الحسين عليهم السلام حقّ بلاغها في خطبته تلك ? ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (110) اللهوف لابن طاوس (ص 4 -85) وانظر كامل الزيارات (ص 100) . (111) أيام العرب في الإسلام (ص 420) وانظر تاريخ الطبري (4 :368) ولاحظ طبقات ابن سعد (5: 47 (112) الاحتجاج للطبرسي (7 -298) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص68 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بل، إن المسعودي يذكر: أن حركة اهل المدينة وإخراجهم بني أمية وعامل يزيد، من المدينة، كان عن إذن ابن الزبير (113) . فلم يكن لأهل البيت، ولا للإمام السجاد عليه السلام، دور ولا موقع في أهداف أهل المدينة، وأصحاب الحرّة، لمّا تحرّكوا ضدّ حكم يزيد . بينما كان دخول الإمام عليه السلام معهم في التحرك توقيعاً على شرعيّة حركتهم . والحقّ أن أهل المدينة جفوا الإمام السجاد عليه السلام بعد كر بلاء، وهذه الحقيقة كانت واضحة، حتّى أعلنها الإمام في قوله: ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا (114) ولعلّ علم الإمام عليه السلام بما كان عليه أهل المدينة من ضعف وقلّة، في مواجهة ما كان عليه أهل الشام من كثرة وبطش وقسوة، من دواعي حياده عليه السلام . مضافاً إلى أن اتّخاذه القرار السابق، بالابتعاد عن المدينة، للأسباب والمبرّرات التي ذكرناها سابقاً، كان كافياً لعدم تورّطه في هذه الحركة . ويظهر أن الدولة التي واجهت هذه المرّة حركة أهل المدينة، كانت على علم بجفأ أهل المدينة لأهل البيت عليه السلام، وبما أنها قد أسرفت من قبل في إراقة دماء أهل البيت عليهم السلام، أرادت أن تستفيد من الوضع، بالتزلّف إلى علي بن الحسين والتودّد إليه، لامتصاص النقمة، فلم تتحرّش به، بل حاولت أن يتمثّل الناس به، حسب نظر رجال الدولة! ثم إن اختيار أهل الحرّة للمدينة بالذات مركزاً للتحرّك، كان من أخطر الأخطاء التي ارتكبوها، كما أخطأ ابن الزبير في اتخاذه مكّة، والمسجد الحرام بالخصوص، مركزاً لتحركه، حتّى عرّضوا هذين المكانين الحرمين المقدّسين لهجمات أهل الشام اللئام وانتهاك الامويين الحاقدين على الإسلام ومقدّساته . بينما أهل البيت عامة، بداً بالإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام، ومروراً بالإمام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (113) مروج الذهب (3: 78) . (114) شرح نهج البلاغة (104 :4) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص69 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحسين عليه السلام، وكذلك كل العلويين الذين ثاروا على الحكّام، إنما خرجوا في حركاتهم عن الحرمين، حفاظاً على كرامتهما من أن يهدر فيهما دم، وتهتك لهما حرمة، وإبعاداً لأهالي الحرمين من ويلات الحروب ومآسيها، ونقمة الجيوش وبطشها (1). وهذه مأثرة لأهل البيت عليهم السلام لابد أن يذكرها لهم التاريخ لكنّ أهل الحرّة، لم يصلوا الى المستوى اللائق كي يدركوا هذه الحقائق، لبعدهم عن الإمام السجاد عليه السلام الذي كان في عمر (26) سنة . ولقد هيّأ هذا البعد بين أهل المدينة والإمام السجاد عليه السلام أمرين كانا في صالح الإمام عليه السلام، ولهما الأثر في مجاري عمله وتخطيطه للمستقبل: أحدهما: النجاة من اتّهام السلطات له بالتورّط في الحركة، ولذلك لم تضعه في القائمة السودأ، فإن الحكومة وحسب بعض المصادر كانت تعرف ابتعاده عنها . الثاني: تمكّن الإمام عليه السلام من تخليص كثير من الرؤوس أن تقطع، وكثير من الحرمات أن تهتك . ومَنْ يدري ? فلعلّ اشتراك الإمام السجاد عليه السلام في تلك الحركة كان يؤدّي إلى إبادة أهل البيت النبوي والعلوي، إبادة شاملة، تلك التي كانت من أماني آل أمية ? فتمكّن الإمام السجاد عليه السلام بحياده ذلك من الوقوف في وجه هذا العمل . ولقد كان الإمام عليه السلام ملجأ للكثير من العوائل الأخرى، حتّى من عوائل بني أمية نفسها . ففي الخبر أنه عليه السلام ضمّ إلى نفسه أربعمأة مُنافيّة يعولهن إلى أن تفرّق الجيش(2) . وكان في مَنْ آواهنّ عائلة مروان بن الحكم، وزوجته هي عائشة بنت عثمان بن عفّان الأموي، فكان مروان شاكراً لعلي بن الحسين ذلك(3) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) علّق سماحة السيد بدرالدين الحوثي دام علاه هنا: (ولعلّ ما صدر من الامام النفس الزكية كان اضطرارياً، لانّ قيامه أيضاً كان اضطرارياً) تمت . (2) كشف الغمة للاربلي (2: 7) وانظر ربيع الأبرار للزمخشري (1: 427) . (3) أيام العرب في الإسلام (ص 424) هامش (1) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص70 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويحاول بعض الكتّاب أن يجعل من حياد الإمام عليه السلام، وتصرّفاته مع مروان ،وعدم تعرّضه من قبل الجيش بسو، دليلاً على عدم تحرّكه عليه السلام ضدّ الحكم الأموي ? لكنّها محاولة مخالفة للحقيقة: فإن الإمام عليه السلام إنّما ينطلق في تصرّفاته، من منطلق الحكمة والتدبير، وما ذكرناه من الشواهد كافٍ لأن نبرّر موقفه الحيادي من حركة الحرّة، فكل من يدرك تلك الحقائق ويقف عليها يتبيّن له أن التحرّز من عمل تكون عواقبه مرئيّة وواضحة ومكشوفة، هو الواجب والمتعيّن، فلو دخل في الحركة، فإما أن ينسحق تحت وطأة الجيش الظالم، أو تنجح الحركة التي لم تبتنِ على الحقّ في دعواها، وإنما تبنّاها مَنْ لا يعرف لأهل البيت حرمة ولا كرامة ولا حقّاً في الإمامة مع أن من النصوص ما يدلّ على أن الإمام كان مستهدفاً: قال الشيخ المفيد: قدم مسرف(4) بن عقبة المدينة، وكان يقال: (إنه لايريد غير علي بن الحسين عليه السلام )(5) . ولا ريب أن الحكم الأموي الذي استأصل أهل البيت عليهم السلام في كربلاء، لم يكن يخاف الإمام السجاد عليه السلام، لما هو معلوم من وحدته وغربته، ومع ذلك فقد كانت الدولة تراقبه، لأنّه الوارث الوحيد لأهل البيت بمالهم من ثارات ودماء، وبما لهم من مكانة مرموقة في أعين مُحبّيهم، الذين يترقّبون فيهم من الإمامة فلا ريب أن الإمام السجاد عليه السلام كان مستهدفاً وهذا النصّ قبل كل شي يدلّ على أن الإمام السجاد عليه السلام كان في نظر الناس عنصراً معارضاً للحكم والدولة، ولم يكن مستسلماً قط، حتّى كان الناس يرون أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (4) هو المتسمّي باسم (مسلم) معدود من الصحابة، وهذا واحد من المحسوبين على الصحابة من الفسقة والمجرمين، سُمّي لعنه الله بمجرم ومسرف، لما كان من إجرامه بأهل المدينة وإسرافه في قتلهم وإباحتها ثلاثة أيام بأمر يزيد لعنهما الله وقد انفضّ فيها ألف عذراء وقد سمّى المدينة (نتنة) خلافاً لرسول الله صلى الله عليه وآله الذي سماها طيّبة، مروج الذهب (3: 78) دلائل البيهقي (6: 475) . (5) الإرشاد للمفيد (ص 292) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص71 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجيش الجرّار إنما توجّه بقصده إلى (علي بن الحسين) لا ليحترمه طبعا . فعلي بن الحسين، في نظر الناس، لا يزال عدوّاً للدولة، رغم انعزاله، وابتعاده، وعدم تورّطه في الحركة كما يدلّ قول البلاذري أن علي بن الحسين عليه السلام استجار بمروان وابنه عبد الملك، فأتيا به ليطلبا له الأمان(6) على أن الإمام عليه السلام كان يخشى من فتك مسرف بن عقبة . لكن الدولة، التي لم تغفل عن الإمام السجاد عليه السلام كانت على علمٍ بتصرفاته، ولم يقع لها ما يبرّر اتهامه وصبّ جام الغضب عليه والفتك به . ومن أجل امتصاص النقمة، وخاصة بعد تحرّك أهل المدينة، صار رجال الدولة الى النفاق، لتغطية جرائمهم تجاه أهل البيت وتجاه المدينة وأهلها، فأخذوا يعلنون التزلّف الى الإمام عليه السلام بإظهار التودّد إليه، ويكرمونه، ويقرّبونه، ويعبّرون عنه بالخير الذي لا شرّ فيه، مع موضعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه منه) (7) . وقال المسعودي: ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجاد، وقد لاذ بالقبر وهو يدعو، فأتي به إلى مسرف، وهو مغتاظ عليه، فتبرّأ منه ومن آبائه، فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد، وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممن قدّم الى السيف إلاّ شفّعه فيه، ثم انصرف عنه . فقيل لعلي: رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت ؟ قال: قلت: اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، والأرضين وما أقللن، رب العرش العظيم، رب محمد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شرّه، وأدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه . وقيل لمسلم: رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه، فلمّا اُتي به إليك رفعت منزلته ? فقال: ما كان ذلك لرأي منّي، لقد مُلىء قلبي منه رعباً (8) . وهكذا يفرض عنصر (الغيب) نفسه في البحث، ولا يمكن إبعاده لكونه وارداً في المصادر المعتمدة . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (6) أنساب الأشراف (4: 323) وانظر الأخبار الطوال للدينوري (ص 266) . (7) الإرشاد للمفيد (ص 260) . (8) مروج الذهب (3: 8) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص72 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونحن وإن كنّا أبعدنا هذا العنصر عن ما نستشهد به، إلاّ أن الذين يريدون أن يُضفوا على حياة الإمام السجاد عليه السلام أشكال العبادة والزهد والحياة الروحية، عليهم أن لا يستبعدوا هذا العنصر مع أن خوف الإمام عليه السلام وفزعه، من الجيش السفّاك، ولجوءه وعوذه بالحرم الشريف، وسبّ القائد الأموي له وتبرؤه منه، أدلة كافية في إثبات أن الإمام عليه السلام كان مستهدفاً، إلاّ أن سياسته الحكيمة التي اتخذها منذ دخوله المدينة كانت من أسباب نجاته وخلاصه من المصير الذي سحق كبار أهل المدينة وأشرافها !. ومع أعباء القيادة: . ورجع الإمام عليه السلام الى المدينة: . ليواجه الخطر المحدق بالإسلام، والذي انتشر في نفوس الامة وهو اليأس والقنوط من الدين وأهدافه، بعدما تعرّض الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمثل هذا القتل، وما تعرّض له أهله من التشريد والسبي، في بلاد المسلمين . فهذا الوزير عبيد الله بن سليمان كان يرى: أن قتل الحسين أشدّ ما كان في الإسلام على المسلمين، لأن المسلمين يئسوا بعد قتله من كل فرج يرتجونه، وعدل ينتظرونه (9) . هذا بالنسبة إلى أصل الإسلام . وأما بالنسبة إلى الإمامة، وإلى أهل البيت، وإلى الإمام عليه السلام، فقد تفرّق الناس عنهم، وأعرضوا، بحيث عبّر الإمام الصادق عليه السلام عن ذلك بالارتداد . قال عليه السلام: ارتدّ الناس بعد قتل الحسين عليه السلام إلاّ ...(10) . وكان منشأ اليأس والردّة: أنهم وجدوا الاَمال قد تبدّدت بقتل القائد، وسبي أهله، وظهور ضعف الحقّ وقلة أنصاره، هذا من جهة . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (9) نقله الثعالبي في آخر كتاب (ثمار القلوب) بواسطة: علي جلال في (الحسين) (2: 195) . (10) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) (ص 123) رقم (194) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 73 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن جهة أخرى ملأ الرعب قلوبهم لمّا وجدوا الدولة على هذه القوّة والجرأة والقسوة، فكيف يمكن التصدي لها، والإمام في مثل هذا الموقع من الضعف، فليس التقرّب منه إلاّ مؤدّياً إلى الاتهام والمحاسبة، فلذلك ابتعد الناس عن الإمام عليه السلام . لكن الإمام زين العابدين عليه السلام بخطته الحكيمة استفاد من هذا الابتعاد، وقلبه إلى عنصر مطلوب، ومفيد لنفسه، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه . حتّى أصبح، بما ذكرنا من التصرفات، في نظر رجال الحكم (خيراً لا شرّ فيه) . وبذلك التخطيط الموفّق حافظ الإمام عليه السلام، لا على نفسه وأهل بيته من الإبادة الشاملة، فقط، بل تمكّن من استعادة قواه، واسترجاع موقعه الاجتماعي بين الناس، لكونه مواطناً صالحاً لا يُخاف من الاتصال به والارتباط به . لانه أصبح (عليّ الخير )(11) . وطبيعي أن يعود الناس، وتعتدل سيرتهم مع الإمام حينئذ، ولذلك قال الإمام الصادق عليه السلام في ذيل كلامه السابق: (...ثم إن الناس لحقوا وكثروا )(12) . إن انفراط أمر الشيعة بعد مقتل الحسين عليه السلام وتشتت قواهم، كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام السجاد عليه السلام بعد رجوعه الى المدينة، وكان عليه لأنه الإمام، وقائد المسيرة أن يخطط لاستجماع القوى، وتكميل الإعداد من جديد، وهذا كان بحاجة إلى إعداد نفسي وعقيدي وإحيأ الأمل في القلوب، وبثّ العزم في النفوس . وقد تمكّن الإمام السجاد عليه السلام بعمله الهادى الوادع من الإشراف على تكميل هذه الاستعادة، وعلى هذا الإعداد، والتمهيد، بكل قوة، وبحكمة وبسلامة وجدّ . وكما قد يكون تأسيس بنأ جديد، أسهل وأمتن من ترميم بنأ متهرّى، فكذلك، إن بنأ فكرة في الأذهان الخالية من الشبهات، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة، والجادّة في الالتفاف حولها، والعزم على إحيائها، هو أسهل، وأوفر جهداً من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأس منها، وتصوّروا إخفاق تجربتها، وهم يُشاهدون إبادة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (11) شرح نهج البلاغة، لابن ابيالحديد (15: 273) . (12) اختيار معرفة الرجال (الكشي) (ص 123) رقم (194) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 74 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كبار حامليها، وضعف أنصارها، واستيلا المعارضين عليها، فحرّفوا معالمها، وشوّهوا سمعتها، وزيّفوا أهدافها . فإن عامة الناس يقفون موضع الحيرة والشكّ من كل ما قيل وطرح وعرض، ويحاولون الانسحاب والارتداد، والوقوف على الحواشي، ليروا ما يؤول إليه أمر القيادات المتنازعة. فقد مُنِيَ المسلمون بإخفاق ويأس ممّا في الإسلام من خطط تحرّرية، ومخلّصة من العبودية والفساد، وذلك لمّا رأوا الأمويين أعدأ هذا الدين قديماً، ومناوئيه حديثاً قد استولوا على الخلافة، وبدأوا يقتلون أصحاب هذا الدين من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأنصار القدمأ له، ويعيثون فساداً في أرض الإسلام بالقتل والفجور، وكل منكر، حرّمه الإسلام . وإذا كان صاحب الحقّ، منحصراً في الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام، الذي قام النصّ على إمامته، وهو وارث العترة، وزعيم أهل البيت في عصره، فهو الإمام الحامل لثقل الرسالة على عاتقه، فلا بدّ أن يدبّر الخطّة الإصلاحية، ليجمع القوى، ويلملم الكوادر المتفرّقة، ويعيد الأمل إلى النفوس اليائسة، والرجأ إلى العيون الخائبة، والحياة إلى القلوب الميّتة . إلى جانب مقاومته للأعدأ، وتفنيد مزاعمهم واتّهاماتهم، والكشف عن مؤامراتهم ودسائسهم، وتبديد خططهم وأحابيلهم . إنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام مع مالهم من مآثر العلم والمجد والإمامة، التي أقرّ بها لهم جميع الاُمّة هم يهتمّون بغرز معاني النضال والجهاد في نفوس أبنائهم منذ نعومة أظفارهم، ليرسَخوا في نفوسهم أمجاد الإسلام . والإمام عليه السلام قد استلهم الإسلام بكلّ ما له من معارف ومآثر علمية وعملية، فأخذها من مصادرها الأمينة الموثوقة . وهم آباؤه الطاهرون . وكان في طليعة ما أخذ من المعارف هو مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه، كما في الحديث عن عبدالله بن محمّد بن عليّ، عن أبيه . قال: سمعتُ عليّ بن الحسين يقول: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص75 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كنّا نُعلَم مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه كما نعلّم السورةَ من القرآن(13) . فتلقّن الإمام السجَاد عليه السلام أمثل صور الجهاد والنضال في سبيل الله ومن أجل الإسلام، فرسمها في قرارة نفسه منذ الطفولة . وبعد أن رأى باُمّ عينيه في كربلاء بطولات أبيه الإمام الحسين عليه السلام وجهاد أصحابه الأوفيأ، في سبيل إعلا كلمة الله، لم يكن ليرفع اليدَ عن محاولة تطبيق تلك الصور الفريدة، والتخطيط للوصول إلى نتائجها الغالية . ولقد بدأ الإمامُ السجّاد عليه السلام في الفصول التالية، من جهاده وجهوده، لتحقيق هذه الأهداف السامية . وحاولنا نحن بقدر وسعنا، لجمع ما انتشر من أنبأ ذلك الجهاد، وتلك الجهود، في المجالات العملية والعلمية، بعون الله وتوفيقه . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (13) الجامع لأخلاق الراوي والسامع للخطيب البغدادي (2 288) رقم (1649) . |