الفَصلُ الرابِع التزامات فَذَة فِي حَيَاةِ الإمَامِ عَلَيهِ السَلامُ أوّلاً: التزام الزهد والعبادة ثانياً: التزام البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام ثالثاً: التزام الدعاء وأخيراً: مع الصحيفة السجّاديّة هدفا ومضموناً ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص157 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تميزّت سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام بمظاهر فذّة، وهي وإن كانت متوفرّة في حياة آبائه وأبنائه الأئمة: إلاّ أنها برزت في سيرة الإمام عليه السلام بشكلٍ آخر، أكثر وضوحاً، وأوسع دوراً، مما تسترعي الانتباه، وهي: 1- ظاهرة الزهد والعبادة . 2- ظاهرة البكاء . 3- ظاهرة الدعاء . فإذا سبرنا حياة الأئمة :، وجدناهم كلّهم يتميّزون في هذه المظاهر على أهل زمانهم، إلاّ أنّها في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام تجاوزت الحدّ المألوف، حتّى كان عليه السلام فريداً في الالتزام بكلٍ منها: العبادة والزهد، فقد عدّ فيهما: زينَ العابدين وسيدَ الزاهدين، حتّى ضُرِب به المثل فيهما . والبكاء، فقد عدّ فيه: من البكّائين الخمسة . وأما الدعاء: فالصحيفة التي خلّفها تكفي شاهداً على ما نقول . وسنحاول في هذا الفصل أن نشاهد أثر الالتزام بهذه المظاهر في ملامح سيرة الإمام عليه السلام، ونقرأ ما خلّده لنا التاريخ من آثارها في الحياة الاجتماعية للإمام عليه السلام، وما استهدفه الإمام عليه السلام من اللجو ء إليها بهذا الشكل المركّز . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص158 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أوّلاً: التزام الزهد والعبادة : لقد أخذت هذه الظاهرة ساعات طويلة من وقت الإمام عليه السلام، وملأت مساحات واسعة من صفحات سيرته الشريفة، حتّى أصبح من أشهر ألقابه (زين العابدين) (76) و (سيّد الساجدين) (77) . والزهد، من الفضائل الشريفة التي يتزيّى بها الرجال الطيّبون، المخلصون لله، الراغبون في جزيل ثوابه، العارفون بحقيقة الدنيا وأنها فانية زائلة، فلا يميلون إلى الاستمتاع بلذّاتها و مغرياتها، بل يقتصرون على الضروريّ الأقلّ، من المشرب والملبس والمسكن والمأكل . وقد التزم أئمّة أهل البيت بهذه الفضيلة بأقوى شكل، وفي التزامهم بها معنى أكبر من مجرّد الفضل والخلق الجيّد، فكونهم أئمةً يُقتدى بهم واُمثولة لمن يعتقد بهم، واُسوة لمن سواهم، وقدوة للمؤمنين، يتبعون خطاهم، فهم لو تخلّقوا بهذا الخلق الكريم، قام جمع من الناس بذلك معهم، سائرين على طرق مأمونة من الانحراف . فللإمام السجاد عليه السلام في العبادة مشاهد عظيمة، وأعمال جليلة، وسجدات طويلة، وصلوات متتالية، حتّى أنه كان يصلّي في اليوم والليلة (ألف ركعة) (78) وهذا يشبه ما نقل عن جدّه الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام . وإذا نظرنا إلى عصر الإمام زين العابدين عليه السلام، وإلى ما حوله من حوادث واقعة واُمور جارية: أمكننا أنْ نقول: إنَ التزام الإمام بهذه العبادة، وبهذا الشكل من السعة، والإصْرار، والإعْلان، لم يكن عفويّاً، ولا عن غير قصدٍ وهدف، ولا لمجرد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (76 )تاريخ أهل البيت( ص 130 -131) مختصر تاريخ دمشق (17: 237) عن مالك بن أنس و (ص 235) عن الزهري . ( 77 )قد مضى أن هذه الألقاب وردت في الحديث المرفوع، فلاحظ (ص 35- 37) من كتابنا هذا . ( 78 )سير أعلام النبلاء(4:392) وشرح الأخبار(3:254و272) والخصال للصدوق وعلل الشرائع له(ص232) والإرشاد للمفيد(256) وكشف الغمة(1:33) نقلا عن رسالة الجاحظ في فضل بني هاشم و(2:86) وفلاح السائل(ص244) وتذكرة الحفاظ(1:75) وبحار الأنوار(6746). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص159 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حاجة شخصيّة، وتقرّب خاص، بل كان ورأها تدبير اجتماعي مهمّ جدّاً، إذ أنّ الامويين في تلك الفترة بالخصوص، وبعد سيطرتهم على مقدّرات العباد والبلاد جدّوا في إشاعة الفساد، وتمييع المجتمع، وترويج الترف واللهو، بين الناس، بهدف تبرير أعمالهم المخالفة للشرع المقدس، المنافية للعرف الذي يبتنى على العفة والشرف، وسعياً لتخدير الناس، وإبعاد الأمة عن الروح الإسلامية الواثبة المقتدرة التي تمكّن المسلمون بها من السيطرة على مساحات شاسعة من العالم وحضارات لامبراطوريات مجاورة لها بعد أن كانوا من الشعوب المتخلّفة تتخطفهم الأمم من حولهم، لا يملكون لعدوّهم دفعاً، ولا عن ذمارهم منعاً . وقد خاطبتهم الزهراء فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصفةً حالتهم بقولها: (... وكنتم على شفا حفرةٍ من النار، مَذَقةَ الشارب ونَهَزَةَ الطامع، وقبسة العجلان، وموطأ الأقدام، تشربون الطرق وتقتاتون الورق، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناسُ من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي (79) . فأرشدهم الرسول إلى المجد والعلى والكرامة والعلم . لكنّ الأمويين , و لأجل إخماد ثورة الإسلام في نفوس الناس , أخذوا في ترويج الفحشاء والمنكر، والفجور والخمور، والظلم والخيانة، حتّى ضُرب بهم المثل في خرق العهود والمواثيق، وتجاوز الأعراف والموازين المقبولة بين الناس، وتلاعبوا بكلّ المقدّرات والمقرّرات، وانغمسوا وجرّوا الناس معهم في الرذيلة واللعب، ومعهم الجيل الناشىء من الأمة، الذي نما على هذه الروح الطاغية اللاهية . حتّى جعلوا من مدينة الرسول الطيّبة، مركزاً للفساد . قال أبو الفرج الأصبهاني: إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم، ولا يدفعه عابدهم (80) وحتّى: كانت يثرب تعجّ بالمغنيات، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (79)بلاغات النساء (ص 13) وانظر: فدك للقزويني (ص 153) وخطبتها في مسجد أبيها لما منعها أبو بكر فدكاً مروية في الاحتجاج للطبرسي، وشرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد (4: 78)، وطرقها عديدة متضافرة . (80)الأغاني طبع دار الكتب (8: 224) ولاحظ (4: 222) ففيه موقف مالك فقيه المدينة، وانظر العقد الفريد (3: 233 و 245) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص160 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومن المؤسف حقاً أن مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صارت في العصر الأموي مركزاً للحياة العابثة، وكان من المؤمَل أن تصبح معهداً للثقافة الدينية، ومصدراً للإشعاع الفكري والحضاري في العالم الإسلامي، إلاّ أن الأمويين سلبوها هذه القابلية، وأفقدوها مركزيَتها الدينية والسياسية (81) . ولمّا خرج عُروة بن الزبير من المدينة واتخذ قصراً بالعقيق، وقال له الناس: قد أجْفَرْتَ مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنّي رأيتُ مساجدهم لاهيةً، وأسواقهم لاغيةً، والفاحشة في فجاجهم عالية (82) . وأضاف القرطبي: وكان في ما هناك عمّا أنتم فيه عافية (83) . إنه في مثل هذه الأجواء والظروف ليس عفوياً، ولا عن غير هدف: أن يظلّ الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة، يعظ الناس ويرشدهم، ويدعوهم إلى نبذ المُتَع، ويحذّرهم من اللغو واللهو ومن الزينة والتفاخر . فكان عليه السلام يقول: لا قُدست اُمَة فيها البَرْبَط (84) . لقد كان له مجلس في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعظ الناس فيه: قال سعيد بن المسيب: كان علي بن الحسين عليه السلام يعظ الناس ويزهّدهم في الدنيا، ويرغّبهم في أعمال الاَخرة، بهذا الكلام، في كل جمعة، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحفظ عنه، وكتب، كان يقول: : أيّها الناس اتقوا الله واعلموا أنكم إليه ترجعون، فتجدُ كلّ نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير مُحْضَراً وما عملت من سُو، تَوَد لو أنّ بينَها وبينه أمداً بعيداً، ويحذّركم الله نفسه .[ مقتبس من القرآن الكريم . سورة آل عمران (3) الاَية (30) ] ويحك يابن آدم الغافل، وليس بمغفول عنه . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (81)لاحظ حياة الإمام زين العابدين للقرشي (ص 670) واقرأ في الصفحات (665 -671) أخباراً من ترف الأمويين، وحياة اللهو والغناء وحفلات الرقص في المدن المقدسة المدينة ومكة . (82)مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (17: 23) . (83)جامع بيان العلم (2 ) . (84)لسان العرب مادّة (بربط) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص161 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يابن آدم إنَ أجلك أسرع شي إليك قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك، ويوشك أن يدركك، وكأنْ قد أوفيت أجلك، وقبض الملك روحك وصرت إلى قبرك وحيداً، فردَ إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكان: ناكر ونكير لمسألتك وشديد امتحانك . ألا، وإن أوّل ما يسألانك: عن ربك الذي كنت تعبده ? وعن نبيك الذي اُرسل إليك ? وعن دينك الذي كنت تدين به ? وعن كتابك الذي كنت تتلوه ? وعن إمامك الذي كنت تتولاّه ? . ثمّ، عن عمرك في ما كنت أفنيته ? ومالك من أين اكتسبته ? وفي ما أنت أنفقته ? . فخذ حذرك، وانظر لنفسك، وأعدّ الجواب قبل الامتحان والمسألة والاختبار . . فإن تَكُ مؤمناً عارفاً بدينك، متّبعاً للصادقين، موالياً لأولياء الله، لقَاك الله حجّتك وانطلق لسانك بالصواب وأحسنت الجواب، وبُشرت بالرضوان والجنة من الله عز وجل، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان . وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودُحضت حجّتك وَعِييْتَ عن الجواب، وبُشّرت بالنار، واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم . واعلم يابن آدم: أن من وراء هذا أعظم، وأفظع، وأوجع للقلوب يوم القيامة، وذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود، يجمع الله عز وجل فيه الأوّلين والاَخرين . ذلك يوم ينفخ في الصور، وتبعثر فيه القبور . وذلك يوم الأزفة، إذ القلوب لدى الحناجر، كاظمين . وذلك يوم لا تقال فيه عثرة، ولا يؤخذ من أحد فدية، ولا تُقبل عن أحد معذرة، ولا لأحد فيه مستقبل توبة، ليس إلاّ الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات . فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرّةٍ من خيرٍ وجده، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرّةٍ من شرٍّ وجده . فاحذروا، أيها الناس من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عنها، و حذّركموها في كتابه الصادق، والبيان الناطق . ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده، عندما يدعوكم الشيطان اللَعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا، فإن الله عز وجل يقول: (إنّ الذين اتقوا إذا مسّهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص162 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) الأعراف (7) الاَية: 201 ] وأشْعِروا قلوبكم خوف الله، وتذكّروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم إليه من حسن ثوابه، كما قد خوَفكم من شديد العقاب، فإنه من خاف شيئاً حذره، ومن حذر شيئاً تركه . ولا تكونوا من الغافلين، المائلين إلى زهرة الدنيا، الذين مكروا السيئات، فإن الله يقول في محكم كتابه: (أ فأمِنَ الذين مكروا السيّئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلّبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوّف..) .[النحل (16) الاَيات 45 47 ] فاحذروا ما حذّركم الله، بما فعل بالظلمة، في كتابه، ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب . والله، لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم، فإن السعيد من وُعِظَ بغيره . ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم، حيث يقول :( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) وإنّما عنى بالقرية أهلها، حيث يقول: (وأنشأنا بعدها قوماً آخرين) فقال عز وجل: (فلما أحسّوا بأسنا إذا هم منها يركضون) يعني يهربون، قال: (لا تركضوا وارجعوا إلى ما اُترفتم فيه ومساكنكم لعلّكم تسألون) فلما أتاهم العذاب (قالوا يا ويلنا إنا كنّا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتّى جعلناهم حصيداً خامدين) .[ الأنبياء (21) الاَيات (11 - 15) ] و ايْمُ الله، إنّ هذه عظة لكم وتخويف، إن اتّعظتم وخفتم . ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب، فقال الله عز وجل: (ولئن مسّتهم نفحة من عذاب ربك ليقولنّ يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين) الأنبياء (21 )] .[الاَية (46) فإن قلتم أيها الناس: إن الله عز وجل إنمّا عنى بهذا أهل الشرك ? فكيف ذاك ? وهو يقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبّةٍ من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [ الأنبياء (21 )]الاَية (47) إعلموا عباد الله إن أهل الشرك لا تُنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص163 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإنما يحشرون إلى جهنم زمراً، وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام . فاتقوا الله عباد الله . واعلموا أن الله عز وجل لم يحبّ زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه، ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها، وإنما خلق الدنيا وأهلها ليبلوهم فيها: أيّهم أحسن عملاً لاَخرته ? . و ايْمُ الله، لقد ضرب لكم فيه الأمثال، وعرّف الاَيات لقوم يعقلون، ولا قوّة إلاّ بالله . فازهدوا في ما زهّدكم الله عزوجل فيه من عاجل الحياة الدنيا . فإن الله عز وجل يقول وقوله الحقّ: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتّى إذا أخذت الأرض زخرفها و أزيّنت وظنّ أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأنْ) لم تَغْنَ بالأمسِ كذلك نفصّل الاَيات لقوم يتفكّرون) .[ يونس (10) الاَية (24] فكونوا عباد الله من القوم الذين يتفكّرون، ولا تركنوا إلى الدنيا فإن الله عز وجل قال لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار) [ هود (11) الاَية (113) ] ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركون من اتّخذها دار قرار و منزل استيطان، فإنها دار بُلغة، ومنزل قلعة، ودار عمل، فتزوَدوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرق أيامها، وقبل الإذن من الله في خرابها، فكان قد أخر بها الذي عمرّها أول مرة وابتدأها وهو ولي ميراثها فأسأل الله العون لنا ولكم على تزوّد التقوى، والزهد فيها . جعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا، الراغبين لاَجل ثواب الاَخرة، فإنما نحن به وله . وصلّى الله على محمّد وآله وسلّم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (85) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (85) الكافي، للكليني (8: 72 -76) وتحف العقول (ص 249 - 252) وأمالي الصدوق (المجلس (76) ص (407 - 409). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص164 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكان عليه السلام يعظ أصحابه (86) ويعظ الخليفة وأعوانه (87) . ويجسّد في نفسه كل المواعظ والنصائح، حتّى يكون اُمثولة للسامعين والمشاهدين وقد نقلت آثار في هذا الباب عنه عليه السلام، نذكر منها: 1- كان علي بن الحسين عليه السلام إذا مشى لا يجاوز يديه فخذيه، ولا يخطر بيده (88) . 2-وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: ما لَكَ ? فقال: ما تدرون بين يدي مَن أقوم ? ومن أناجي ? (89) . 3-وقيل: إنه كان إذا توضّأ أصفرَ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ? . فيقول: تدرون بين يدي مَنْ أريد أن أقوم ? (90) . 4- قال سفيان بن عُيَيْنَة: حجّ علي بن الحسين عليه السلام فلمّا أحرم واستوت به راحلته اصفرَ لونه، وانتفض ... ولم يستطع أن يلبّي، فقيل له: ما لَكَ ? فقال: أخشىّ أن أقول: (لبَيْك) فيقول لي: (لا لبيك) (91) . 5-وقال مالك بن أنس: أحرم علي بن الحسين عليه السلام، فلمّا أراد أن يقول: (لَبَيْك اللّهمَ لبَيكَ) قالها فأغميَ عليه، حتّى سقط من راحلته (92) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (86)كما رأينا صحيفته في الزهد إلى أصحابه (راجع ص 123 125) من الفصل الثالث . (87) سيأتي ذكر مواعظ لهم في الفصل الخامس (ص 221 230) . (88)تاريخ دمشق الأحاديث (6 -63) مختصر تاريخ دمشق (17: 236) وانظر سير أعلام النبلاء (4: 392) . (89)تاريخ دمشق, الأحاديث (6 -63) مختصر تاريخ دمشق (17: 236) وانظر سير أعلام النبلاء (4: 392) . (90) )تاريخ دمشق الأحاديث (6 -63) مختصر تاريخ دمشق (17: 236) وانظر سير أعلام النبلاء (4 :362) وروي الحديث الثالث في العقد الفريد (3: 169) . (91)تاريخ دمشق الأحاديث (6 -63) مختصر تاريخ دمشق (17: 236) وانظر سير أعلام النبلاء (4: 392) . (92)تاريخ دمشق (الحديث 64) ومختصر ابن منظور (17: 237) وسير أعلام النبلاء (4: 392) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص165 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال: وبلغني أنه كان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات (93) . 6-وقع حريق في بيت فيه الإمام زين العابدين عليه السلام فجعلوا يقولون له: يابن رسول الله النار يابن رسول الله النار فما رفع راسه حتّى أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها ? قال: ألهتني النار الأخرى (94) . 7- قالوا: وكان علي بن الحسين عليه السلام يخرج على راحلته إلى مكة ويرجع، لا يقرعها (95) . 8- وروى ابن طاوس عن الصادق عليه السلام قال: كان علي بن الحسين عليه السلام إذا حضر الصلاة اقشعرّ جلده، واصفرّ لونه، وارتعد كالسعفة (96) . ولنقرأ معاً كلاماً له عليه السلام في الزهد، لنقف على معالم رفيعة وآفاق وسيعة مما عند الإمام في هذا المقام: . إنَ علامةَ الزَاهِدينَ في الدنيا الرَاغبينَ في الاَخِرَةِ تركُهُمْ كلَ خَليطٍ وخَليلٍ ورَفْضُهمْ كُلَ صاحِبٍ لا يريدُ ما يُريدوُنَ . ألا وَإنَ العامِلَ لِثَوابِ الاَخِرَةِ هو الزَاهدُ في عاجِلِ زَهرةِ الدنيا، الاَخذُ لِلمَوتِ أُهْبَتَهُ، الحاث علَى العَملِ قَبْلَ فَناءِ الاَجَلِ ونُزولِ ما لابدَ مِن لِقائِهِ . وتَقدِيمِ الحَذَرِ قَبْلَ الحَيْنِ، فإنَ اللهَ عز َوجلَ يقولُ: (حَتّى إذا جأَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ رَب ارْجِعُون لَعلّي أعْمَلُ صالِحاً في ما تَرَكْتُ (97)) فَلْيُنْزِلَنَ أحَدُكُم اليَوْمَ نَفْسَهُ في هذِه الدنيا كمَنْزِلَةِ المَكْرُورِ إلى الدنيا، النّادِمِ على ما فَرَطَ فيها مِنَ العمَلِ الصّالح لِيَوْمِ فاقَتِهِ . وَاعْلَمُوا عِبادَ اللهِ: أنَه مَنْ خافَ البَياتَ تَجافى عَنِ الوِسَادِ . وَامْتَنَعَ مِنَ الرقادِ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (93) تاريخ دمشق (الحديث 64) ومختصر ابن منظور (17: 237) وسير أعلام النبلاء (4: 392) وانظر ص 158) . (94) تاريخ دمشق (الحديث 10) مختصر ابن منظور (17: 236) سير أعلام النبلاء (4: 1 392) . (95) تاريخ دمشق (الحديث 100) مختصر ابن منظور (17: 233) سير أعلام النبلاء (4: 388) . (96) فلاح السائل (ص 96) عن كتاب (زهرة المهج وتواريخ الحجج) . (97) المؤمنون آية 100 . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص166 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأمْسَكَ عَنْ بَعْضِ الطّعام والشَرابِ مِنْ خَوْفِ سُلْطانِ أهلِ الدنيا، فَكيفَ، وَيْحَكَ يا ابنَ آدَمَ، مِن خَوفِ بَياتِ سُلطانِ رَبَ العِزَةِ وأخْذِهِ الألِيمِ وبَياتِهِ لأِهلِ المَعاصِي والذنوبِ مَعَ طوارِقِ المَنايا باللّيل والنَهارِ ? فَذلِكَ البَياتُ الّذي لَيْسَ مِنْهُ مُنْجًى، ولا دُونَه مُلْتَجأ، ولا مِنْهُ مَهْرَب . فَخافُوا اللهَ أيها المُؤمِنونَ مِنَ البَياتِ خَوفَ أهْلِ التَقوى، فَإنَ اللهَ يقولُ: (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامي وَخافَ وَعيدِ (98). فَاحْذَرُوا زَهْرَةَ الحَياةِ الدنيا وغُرُورَها وشُرُورَها وتذكَروا ضَرَرَ عاقبةِ المَيْلِ إِلَيْها، فَإنَ زِيْنَتَها فِتْنَة وحُبَها خَطيئَة . واعلَم وَيْحَكَ يَا ابنَ آدمَ أنَ قَسْوَةَ البِطْنَةِ وكِظَةَ المِلاَْةِ وسُكْرَ الشَبَعِ وغِرَةَ المُلْكِ مِمّا يُثَبطُ ويُبَطّيُ عَنِ العَمَلِ ويُنْسِي الذكْرَ ويُلْهِي عَنِ اقْتِرابِ الأجَلِ، حَتّى كَأَنَ المُبْتَلى بِحُب الدنيا به خَبَل مِنْ سُكْرِ الشَرابِ . وأنَ العاقلَ عَنِ اللهِ، الخائِفَ مِنْهُ، العامِلَ له لَُيمَرنُ نَفْسَهُ ويُعَودُها الجُوعَ حتّى ما تَشْتاقَ إلى الشَبَعِ، وكَذلِكَ تُضَمَرُ الخَيْلُ لِسَبْقِ الرهانِ . فَاتّقوا اللهَ عِبادَ اللهِ تَقوى مُؤَملٍ ثَوابَهُ وخائِفٍ عِقابَهُ فَقَدْ للهِ أنْتُمْ أعْذَرَ وأنْذَرَ وشَوَقَ وخَوَفَ، فَلا أنْتُمْ إلى ما شَوَقكُمْ إلَيْهِ مِنْ كَرِيمِ ثَوابِهِ تَشْتاقُونَ فَتَعْمَلونَ، ولا أَنْتُمْ ممّا خَوَفكُمْ بِهِ مِنْ شَديدِ عقابهِ وأليمِ عَذابِهِ تَرْهَبُونَ فَتَنْكُلُونَ . وقد نَبَأكمُ اللهُ في كتابِه أنّه: (مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِن فَلا كُفرانَ لِسَعْيِهِ وَ إنّا لَهُ كاتِبُونَ (99) . ثُمَ ضَرَبَ لكمُ الأمثالَ في كِتابِهِ وَصَرَفَ الاَياتِ لِتَحْذَرُوا عاجِلَ زَهْرَةِ الحَياةِ الدنْيا فقال: (إنّما أمْوالُكُمْ وَأوْلادُكُمْ فِتْنَة وَاللهُ عِنْدَهُ أجْر عَظِيم (100) . فاتّقوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعوا وأطِيعوا، فَاتّقوا اللهَ وَاتَعِظوا بِمَوَاعِظِ اللهِ . وما أعلَمُ إلاّ كَثيراً مِنكُمْ قَدْ نَهَكَتْهُ عَواقِبُ المَعاصِي فَما حَذَرَها وَأضَرَتْ بِدينِهِ فَما مَقَتَها . أما ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (98)سورة إبراهيم آية 14. (99) سورة الأنبياء آية 94. (100) سورة التغابن آية 15. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص167 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تَسْمَعُونَ النداءَ مِنَ اللهِ بعَيْبها وَتَصغِيرِها حَيثُ قال: (اِعْلَمُوا أَنَمَا الحَيوةُ الدنيا لَعِب وَلَهْو وزِينَة وَتَفاخُر بَيْنَكُمْ وَتَكاثُر في الأمْوالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُه ثُمَ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرا ثُمَ يَكُونُ حُطاماً وَفي الاَخِرَةِ عَذاب شَدِيد وَمَغْفِرَة مِنَ اللهِ سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبكُمْ وجَنَةٍورِضْوان وَمَا الحَيوةُ الدنْيا إلاّ مَتاعُ الغُرُورِ عَرْضُها كَعَرْضِ السَماءِ وَالأرْضِ أُعِدَتْ لِلَذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشأُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظيم )(101) . وقالَ: (يا أيهَا الّذِينَ آمَنُوا اتَقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْس ما قَدَمَتْ لِغَدٍ وَاتَقُوا اللهَ إنَ اللهَ خبير بما تعملون* وَلا تَكُونُوا كَالَذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أنْفُسَهُمْ أولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ) (102) . فَاتَقوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَتَفَكَرُوا وَاعْمَلُوا لِما خُلِقْتُمْ لَهُ، فَإنَ اللهَ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً ولَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى، قَدْ عَرَفكُمْ نَفْسَهُ وَبَعَثَ إلَيْكُمْ رَسُولَهُ وأَنْزَلَ عَليكم كِتابَهُ، فيه حَلالُهُ وحرامُهُ وحُجَجُهُ وأمثالُهُ . فاتَقُوا اللهَ فَقد احْتَجَ عليكم رَبكم فَقال: (ألَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ و لِساناً و َشَفَتَيْن ِوَهَدَيْناهُ النَجْدَيْنِ) (103) فهذِه حُجَة عَلَيكم فَاتَقوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإنَه لا قوَة إلاّ بالله ولا تكْلانَ إلاّ عَلَيه، وصلّى اللهُ على محمّد [ نبِيهِ ] وآلِه (104). إن الأبعاد الأخرى التي أنتجتها سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام في الزهد والعبادة، هي 1- اعتراف علماء البلاط بفضل أهل البيت: . على الرغم من أن الحكّام يحاولون التغطية على فضائل المعارضين لهم ولا سيما آل اُمية الذين ضربوا الأرقام القياسية في هذه الخصلة الذميمة، بإعلان السبّ لأهل البيت على المنابر، وإيعازهم إلى وعّاظ السلاطين بوضع الحديث في قدحهم وذمّهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (101)سورة الحديد آية 20 21 . (102)سورة الحشر آية 18 19 . (103)سورة البلد آية 8 10 . (104)تحف العقول (ص 272 274) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص168 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن علماء البلاط الاموي في عصر الإمام زين العابدين عليه السلام، لم يمكنهم إخفاء فضل الإمام السجّاد عليه السلام فضلاً عن الغضّ منه، لأن سيرته لم تكن تخفى على أحد من الناس، فقد اضطروا إلى إظهار تصريحات واضحة تعلن فضل الإمام عليه السلام، بالرغم من ارتباطهم بالحكم الأموي الجائر، أو موالاتهم له، وكذلك مَنْ تلاهم من فقهاء العامة ورجالهم : قال يحيى بن سعيد: سمعت علي بن الحسين، وكان أفضل هاشمي أدركته (105) . وقال الزهري: ما رأيت قرشيّاً أو هاشمياً أفضل من علي بن الحسين (106) . وقال سعيد بن المسيب: ما رأيت أورع منه (107) . وقال حماد بن زيد: كان علي بن الحسين افضل هاشمي أدركته (108) . لقد فرض الإمام زين العابدين عليه السلام نفسه على كل المناوئين لأهل البيت: حتّى لم يشذّ أحد منهم عن تعظيمه وتجليله . 2- إبراز فضل أهل البيت: . ولقد كان الموقع الذي احتلّه الإمام زين العابدين عليه السلام بفضله وعبادته وزهده، بين الأمة، أحسن فرصة كي يعلن فضل أهل البيت ، الذي جهد الأعداء الظالمون في إخفائه: ففي الحديث أن جابراً قال له: ما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك ? ... يابن رسول الله البُقيا على نفسك، فإنك من اُسرةٍ بهم يُستدفع البلاء، وبهم تُستكشف اللأواء، وبهم تستمسك السماء ? ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (105)طبقات ابن سعد (1: 214) وتاريخ دمشق (الحديث 47) ومختصر ابن منظور (17: 235) . (106)سير أعلام النبلاء (4: 387) ولاحظ تاريخ دمشق (الأحاديث 37 و 41 و 50) ومختصر ابن منظور (17: 231 و 235) . ( 107) سير اعلام النبلاء (4: 391) ومختصر تاريخ دمشق (17: 236) وحلية الأولياء (3: 141) . (108)تهذيب الأسماء واللغات (1: 343) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص169 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقال الإمام: يا جابر، لا أزال على منهاج أبويَ مؤتسياً بهما حتّى ألقاهما . فاقبل جابر على مَن حضر فقال: ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين، إلاّ يوسف بن يعقوب، والله لذريّة علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف (109) . فإن قوله: (منهاج أبويّ يعني: علياً والحسين عليهما السلام مؤتسياً بهما) يعني: أن ما يتمتّع به الإمام زين العابدين عليه السلام هو ما كان يتمتّع به أبوه الحسين وجدّه علي ، وأن ما قام به أبواه من الجهاد يقوم به الإمام السجاد، لأنه مثلهما في الإمامة، و وارثهما في الكرامة . وفي حديث عن الصادق عليه السلام في ذكر أمير المؤمنين عليه السلام وإطرائه ومدحه بما هو أهله، وزهده في المأكل، قال: وما أطاق عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأمة غيره، ثم قال: وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقربَ شبهاً به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين عليه السلام . قال: ولقد دخل أبو جعفر ابنه عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه، وقد اصفرّ لونه من السهر، و رمصت عيناه من البكاء ... قال أبو جعفر عليه السلام: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمةً له، فإذا هو يفكّر، فالتفت إليَ بعد هنيئةٍ من دخولي فقال: يا بنيَ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام، فأعطيته، فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثم تركها من يده تضجّراً، وقال: مَن يقوى على عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام ? (110) . وعن الصادق عليه السلام قال: كان علي بن الحسين عليه السلام إذا أخذ كتاب علي عليه السلام فنظر فيه قال: مَنْ يطيق هذا ? مَنْ يطيق هذا ? (111) . وهكذا يُعلن الإمام زين العابدين عليه السلام وهو في أعلى قمم العبادة والاجتهاد في الطاعة أنه لا يقوى على عبادة جدّه علي عليه السلام فإلى أيّ سماء ترتفع فضيلة أمير المؤمنين علي عليه السلام في العبادة، بعد هذه الشهادة ? . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (109) مناقب آل أبي طالب (3: 289) وبحار الأنوار (46: 79) ولاحظ: أمالي الطوسي (2: 250) . (110) شرح الأخبار للقاضي (3: 272) والإرشاد للمفيد (ص 256) والمناقب لابن شهرآشوب (4: 149) وكشف الغمة (2: 85) وبحار الأنوار (46: 75) . (111) الكافي للكليني، الروضة (8: 163) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص170 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن الإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الجهاد الظريف يحرق ما كدّسه بنواُمية طوال السنين المظلمة لحكمهم من أطنان الكذب والافتراء ضدّ علي عليه السلام، وينسف كل الاُسس التي بنوا عليها ظلمهم وجورهم لسيد العترة وزعيم أهل البيت الطاهر أمير المؤمنين علي عليه السلام . 3- إنارة السبيل للعُبّاد والصالحين: إن الإمام زين العابدين عليه السلام وهو يمثّل الإسلام في تصرفاته وأقواله، كان المثل الأفضل للعبّاد والصالحين، ومن أراد أن يدخل هذا المسلك الشريف فله من الإمام عليه السلام خير دليل ومرشد، ومن أقواله خير منهج وطريقة . ولقد رسم خطوطاً عريضةً للسير والسلوك، تمثّل أفضل ما قرّره علمأ هذا الفنّ، وإليك أمثلة من تلك: فقال عليه السلام: إنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبةً فتلك عبادة التجّار، وقوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار (112) . فربط بين الحرية، وبين عبادة الله، وبين الروح غير الخانعة ولا الطامعة بل المتطلّعة إلى الله، والمتقرّبة إلى رضوانه، بالتزام العبادة له، والطالبة للمزيد بالشكر، حيث وعد وقال: (لئن شكرتم لأزيدنّكم) .[ سورة إبراهيم (14) الاَية 7 ]. وسئل عليه السلام: عن صفة الزاهد في الدنيا ? فقال: يتبلّغ بدون قوته، ويستّعد ليوم موته، ويتبرّم في حياته (113) . وقال له رجل: ما الزهد ? فقال عليه السلام: الزهد عشرة أجزاء: فأعلى درجات الزهد، أدنى درجات الورع، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا، وإن الزهد في آية من كتاب الله (لكي لا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 112 )تاريخ دمشق (الحديث 141) وهذا من كلام الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام رواه الرضي في نهج البلاغة بالأرقام (65 و 237 و 276) من الباب الثالث: قصار الحكم . ( 113 )تاريخ دمشق (الحديث 134) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص171 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم) (114) .[ الحديد (57) الاَية: 23 ]. ومن أظرف أمثلة مواعظه، ما روي عنه من الخطاب الموجّه إلى (النفس) يقول: (يانفس، حتّامَ إلى الدنيا سكونكِ، وإلى عمارتها ركونِك، أما اعتبرتِ بمن مضى من أسلافكِ ? ومن وارته الأرض من اُلاّفكِ ? ومن فجعت به من إخوانكِ ? ونقل إلى الثرى من أقرانِكِ ? فهم في بُطون الأرض بعد ظهورها * محاسنُهم فيهـــا بَـــــوالٍ دواثــــــــــِرُ خلتْ دورهم منهم وأقوت عِراصُهم * وساقتْهم نحــــو المنايــــــــــا المقادرُ وخلّوا عن الدنيا وما جمعوا لهـــــا * وضمَهم تحتَ التراب الحفائرُ (115) وهكذا يسترسل الإمام عليه السلام مع النفس في خطاب رقيق، وحساب دقيق، ويُناجيها، يعرض عليها العبَر، ويذكّرها بما فيه مزدَجَر، ويُبعدها عن الدنيا وزينتها والغرور بها، ويُقربها إلى الاَخرة ونعيمها وما فيها من جوار الله ورحمته، في مقاطع نثريّة رائعة، تتلوها معانٍ منظومة، في ثلاثة أبيات بعد كل مقطع، بلغت (18) مقطعاً (116) . وهكذا، لم يترك الإمام عليه السلام طريقاً إلاّ سلكه ولا جهداً إلا استنفده، ليدرك الأمة كيلا تقع في هُوّة الانحراف، وحياة الترف التي صنعتها لها آل اُمية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (114) تحف العقول (ص 278 279) . ( 115 )ابن عساكر في تاريخ دمشق (الحديث 135) ومختصره لابن منظور (17: 249 -254) ونقله ابن كثير في تاريخ البداية والنهاية (9: 109 -113) . وانظر عوالم العلوم (ص 124) عن المناقب لابن شهرآشوب (3: 292) وبحار الأنوار (46: 83) . (116) وقد نُسِبَ كتاب منظوم إلى الإمام السجاد عايه السلام باسم (المخمسّات) في نسخة محفوظة في خزانة مخطوطات مكتبة آية الله المرعشي رحمه الله ذكرها السيد أحمد الحسيني في التراث العربي في تلك الخزانة (5: 28) أوله: تبارك ذو العلى والكبريـــــــــاء * تفرد بالجــــــــــلال وبالبقــــــاء وسوّى الموت بين الخلق طُرّا ً * وكلهم رهــــــائــــن للفــنــــــاء رقم النسخة (5557) وتاريخها (903) . وتنسب إلى الإمام السجاد عليه السلام باسم الديوان نسخ , منها نسختان في مدينة باكو برقم :ب 4195ورقم:ب 449ومصورتهما في مركز جمعة الماجد في دبي برقم: 3117ورقم:3156 . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص172 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- تزييف دعاوي المُبْطلين من دعاة التصوّف والرَهْبَنة: ومع أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام كان المثل الأعلى للزهد والعبادة في عصره، حتّى غلبت عليه هذه الصفة أكثر من غيرها، إلاّ أنّه عليه السلام وقف من المُتظاهرين كذباً بالزهد، والمائلين إلى الانعزال عن المشاكل، التاركين للحكّام وللناس، يظلم اُولئك هؤلاء، ويتبع هؤلاء اُولئك، والذين قبعوا حسب نظرتهم على إصْلاح أنفسهم وأعمالهم، تلك الحالة التي سُمّيتْ من بعدُ بالتصوّف، وسُمّي أهلها بالصوفيّة . وقف الإمام عليه السلام من هذه الحالة ومن دعاتها ورعاتها، موقف الردّ والإنكار وإعلان الخطأ في طرقهم، وحاول إرشادهم إلى طرق السلوك الصائبة، بما قدّمه إليهم وإلى الأمة من مواعظ وأدعية وخطب ورسائل وأجوبة تحدّد لهم معالم الطرق القويمة والسبل المستقيمة، والموصلة إلى الهدى والرشاد . وبما كان الإمام يتمتَع به من مكانة مرموقة معترف بها، في الإيمان والشرف، حسباً ونسباً، وخاصة في الزهد والعبادة، فإن كلامه في هذا المجال كان هو المقبول، ومواقفه التي كان يتخذها من المتظاهرين بالزهد، كانت هي الناجحة والغالبة . وقد تركَز انحرافهم في نقطتين هامّتين: 1- محاولتهم الانعزال عن الحياة الاجتماعية، بعدم تدخلهم في ما يمسّ وجودهم بسوء أو ضرر، مثل التعرّض للظلم والفساد الذي يجري حواليهم، وخاصة من قبل الخلفاء والولاة وكل مَنْ يمتّ إلى السلطان والحكومة بِصِلة خوفاً على أنفسهم من الموت والهلكة . وقد كان يجرّهم هذا التفكير إلى مداراة الظلمة، والخضوع لهم، والحضور في مجالسهم، بل الانخراط في مظالمهم، وتصويب أعمالهم، بالرغم من معرفة ظلمهم وعدم استحقاقهم للمقامات التي احتلّوها 2- وعلى أثر النقطة الاولى، فإنهم ابتعدوا عن أهل البيت عليه السلام، لأنهم كانوا هم المعارضين السياسيّين، فكان الاتصال بهم يعني المحسوبيّة عليهم وعلى خطّهم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص173 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فابتعدوا عنهم، وأقلّ آثار ذلك هو الحرمان من تعاليمهم القيمة، والتردّي في ظلمات الجهل والانحراف . وبما أن اُولئك المتظاهرين كانوا يمثُلون في أنظار الناس بمنزلة علماء زهّاد، فإنّ استمرارهم على تلك الحالة الانحرافية كان يُغري الناس البسطاء بصحّة سلوكهم المنحرف، وتفكيرهم الخاطىء فكان على الإمام زين العابدين عليه السلام أن يصدّهم، إرشاداً لهم، وإيقافاً للاُمَة على حقيقة أمرهم، وكشفاً لانحرافهم وخطئهم في السلوك والمنهج. فموقفه من عبّاد البصرة، الذين دخلوا مكّة للحجّ، وقد اشتدّ بالناس العطش لقلّة الغيث، قال أحدهم: (ففزع إلينا أهلُ مكة والحُجّاجُ يسألوننا أن نستسقيَ لهم) ? والكلام إلى هنا يدل على مدى اهتمام الناس بهؤلاء العُباّد . قال: فأتينا الكعبة وطفنا بها، ثم سألنا اللهَ خاضعين متضرّعين بها، فمُنعنا الإجابة، فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتىً قد أقبل، وقد أكربته أحزانُه، وأقلقته أشجانه، فطاف بالكعبة أشواطاً، ثم أقبل علينا، فقال: يا مالك بن دينار، ويا ...ويا ... وذكر الإمام عليه السلام أسماءهم كلّهم، بحيث يبدو أنه يريد أن يعرّفهم للناس بأعيانهم . قال الراوي: فقلنا: لبيك و سعديك، يا فتى فقال: أما فيكم أحد يحبه الرحمن ?. فقلنا: يا فتى، علينا الدعاء وعليه الإجابة . فقال: أبعدوا عن الكعبة، فلو كان فيكم أحد يحبّه الرحمن لأجابه. ثم أتى الكعبة، فخرّ ساجداً، فسمعته يقول في سجوده: (سيّدي بحبّك لي إلاّ سقيتهم الغيث ).. قال: فما استتمَ الكلام حتّى أتاهم الغيث كأفواه القِرب !. قال الراوي: فقلتُ: يا أهل مكة، مَن هذا الفتى ؟. قالوا: علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الاحتجاج (316 -317) وبحار الأنوار (46: 50 -51) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص174 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنّ ابتعاد أهل البصرة عن أهل البيت عليهم السلام إلى حدّ الجهل بهم ليس بتلك الغرابة، لأنّ انحرافهم عن أهل البيت قد تجذّر فيهم منذ حرب الجَمَل ووقعته الرهيبة، وقد بقيت آثارها فيهم حتّى دهر سحيق، فلما خرج حفص بن غياث القاضي إلى عبادان وهو موضع رباط فاجتمع إليه البصريّون فقالوا له: لا تحدّثنا عن ثلاثة: أشعث بن عبد الملك، و عمرو بن عبيد، و جعفر بن محمد ... (2) . فتلك شنشنة أعرفها من أخْزَمِ . . لكنّ كلّ الغرابة من أهل مكّة المجاورين للمدينة ? والذين يعرفون الإمام كاملاً، كيف اغترّوا بأولئك الزهّاد، القادمين من بعيد، ولجأوا إليهم يطلبون الغَيْث منهم، وهذا الإمام زين العابدين، وحجّة الزاهدين بينهم يتركونه، بل لا يُعْرَفُ إلاّ بالسؤال عنه ? . لم يُتصوَر ظلم على أهل البيت عليهم السلام أكثر من هذا في مركز الدين والإسلام، مكّة، وعند أشرف البقاع وأعظمها (الكعبة الشريفة) . وما الذي جعل أهل مكّة يتركون الإمام علي بن الحسين عليه السلام وهم يعرفونه حسباً ونسباً، فيلجأون إلى أناس جاءوا من البصرة ? . إنّه ليس إلاّ الانحراف عن أهل البيت عليهم السلام والجهل بحقّهم وفضلهم، إن لم يكن العداء لهم !!. وهكذا تصدّى الإمام لهذا الانحراف وأسقط ما في أيدي أولئك العُبَاد المتظاهرين بالزهد، الذين لا يعرف واحدهم زين العابدين، إمام زمانه، وسيّد أهل البيت . فكشف عن زيف دعاواهم، وسوء نيّاتهم، وضلال سُبُلهم حيث عَنَدوا عن حقّ أهل البيت، ولم يعترفوا لهم بالفضل . وللإمام عليه السلام مواقف اُخرى مع آحاد من هؤلاء العُباد، مثل موقفه من الحسن البصري، ومن طاوس، وغيرهما (3) . إن الزهد الذي قام الإمام زين العابدين عليه السلام بإحيائه كان مثل زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 2) تهذيب الكمال للمزّي (5: 7 -78) . ( 3) لاحظها في حلية الأولياء، وصفوة الصفوة، وكشف الغمة . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص175 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعليّ والأئمة عليهم السلام، الذي يُطابق ما قرّره الإسلام، وينبذ كل أشكال الانحراف والزيف والتزوير، والرهبانيّة المبتدعة . ولقد اُثِرَتْ عن الإمام زين العابدين عليه السلام نصوص جاء فيها شرح العبادات من وجهات نظرٍ روحيّة بما عجز عن إدراكه كبار المتصدّين لمثل هذه المعارف، فمن ذلك ما روي عنه في تفسير معاني أفعال الحج (4) وأقسام الصوم (5 ). أضف إلى أن عمل الإمام كان تعديلاً لسلوك الامّة في اغترارها بمناهج أولئك المتظاهرين المزيّفين، المنحرفين عن ولاء أهل البيت عليهم السلام وأئمة الحق والصدق، الذين مثّلهم الإمام زين العابدين عليه السلام يومذاك . إن الإمام عليه السلام حذّر الأمة من الاغترار بالذين يتظاهرون بالزهد، ممن يحبّ الترؤّسَ على الناس، يجتمعون حوله، و يلتذّ بالفخفخة والتمجيد، ولو على حساب المعرفة بالدين والفقه!. ففي الحديث أنه قال عليه السلام: إذا رأيتم الرجل قد حسّن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، و تخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرّنكم . فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها، لضعف نيّته، ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخّاً لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره، فإن تمكّن من حرام اقتحمه . وإذا وجدتموه، يعفّ عن المال الحرام، فرويداً، لا يغرّنكم !. فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام، وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرّماً . فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك، فرويداً لا يغرّنكم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (4 ) مستدرك الوسائل (2: 186) أبواب العود إلى منى، الباب (17) الحديث (5) وطبعة مؤسسة آل البيت: (10: 166) رقم (11770) . ويلاحظ أن الراوي عن الإمام مسمّى (شبلّي) وليس في الرواة عنه، ولا من عاصره من هو بهذا الاسم، ولعله مصحّف (شيبة) وهو ابن نعامة، المذكور في أصحابه عليه السلام. ( 5 ) حلية الأولياء (3: 141) وفرائد السمطين للحمويني (2: 233) وكشف الغمة (2: 103 - 105) ولاحظ: المقنعة للشيخ المفيد (ص 363) الباب (32) ووسائل الشيعة، كتاب الصوم، أبواب بقية الصوم الواجب، الباب (10) الحديث (6 ). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص176 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حتّى تنظروا ما عُقدة عقله ? فما أكثر من ترك ذلك أجمع، ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله . فإذا وجدتم عقله متيناً، فرويداً لا يغرّنكم !. حتّى تنظروا، أمع هواه يكون على عقله، أم يكون مع عقله على هواه ? وكيف محبّته للرئاسات الباطلة ? وزهده فيها ?. فإن في الناس من خسر الدنيا و الاَخرة، بترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة، حتّى إذا قيل له: (اتّق الله) أخذته العزّة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد (6) . فهو يخبط خبط عشواء، يوفده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمدّ به بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يُحلّ ما حرّم الله، ويحرّم ما أحلّ الله، لا يُبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرئاسة التي قد شقي من أجلها . فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً (7) . ولكنّ الرجل، كلّ الرجل، نعم الرجل :. هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في رضا الله، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد، من العزّ في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد، وأن كثير ما يلحقه من سرّائها إن اتّبع هواه يؤدّيه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول . فذلكم الرجل، نعم الرجل :. فبه فتمسّكوا، وبسُنّته فاقتدوا، وإلى ربكم فتوسّلوا، فإنه لا تردّ له دعوة، ولا يخيب له طلبة (8 ). ولحن هذا الكلام، يعطي أنّه خطاب عام وجّهه الإمام إلى مستمعيه، أو مَنْ طلب منه الإجابة عن سؤال حول مَنْ يجب الالتفاف حوله والأخذ منه ? . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 6) اقتباس من القرآن الكريم، سورة البقرة (2) الاَية: 206 .. ( 7) اقتباس من القرآن الكريم، سورة الأحزاب (33) الاَية (57) . ( 8) الاحتجاج (ص 320 -321) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص177 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومهما يكن، فإنّ كلام الإمام عليه السلام يبدو واضحاً قاطعاً للعذر، وهو غير متّهم في موقفه من الزهد والتواضع، وما إلى ذلك مما يُراد استغلاله من قبل المشعوذين، لإغراء العوام، وإغواء الجهّال . إنّ فيه تحذيراً من علماء السوء، المتزيّين بزيّ أهل الصلاح، والمتظاهرين بالورع والتقى، ولكنّهم يُبطنون الخبث والمكر، والدليل على ذلك ارتباطهم الوثيق بأهل الدنيا والرئاسات الباطلة، من الحكّام والولاة وأصحاب الأموال . وسيأتي الحديث عن موقفه من أعوان الظلمة في الفصل الخامس . 5- إرعاب الظالمين :. إن الواقعيّة التي التزمها الإمام زين العابدين عليه السلام في حياة الزهد والعبادة، كما انفتحت له بها قلوب الناس الطيّبين، فكذلك اقتحم بها على الظالمين أبراجهم، وقصورهم، فملأ أثوابهم خيفةً ورهبةً، كما غشّى عيونهم وأفكارهم بما رأوه عليه من المظهر الزاهد، والاشتغال بالعبادة . ولقد قرأنا في حديث مسلم بن عقبة سفّاح الحرّة لمّا طلب الإمام، فأكرمه، وقد كان مغتاظاً عليه، يبرؤ منه ومن آبائه، فلمّا رآه وقد أشرف عليه اُرعب مسلم بن عقبة، وقام له، وأقعده إلى جانبه !. فقيل لمسلم: رأيناك تسب هذا الغلام وسلفه، فلما اُتي به إليك رفعت منزلته ? فقال: ما كان ذلك لرأي منّي، لقد مُلي قلبي منه رُعباً (9) . وسنقرأ في حديث عبد الملك بن مروان، لمّا جَلَبَ الإمام مقيّداً مغلولا من المدينة إلى الشام، فلمّا دخل عليه الإمام عليه السلام بصورة مفاجئة قال لعبد الملك: ما أنا وأنت ?. قال عبد الملك: قلتُ: أقمْ عندي . فقال الإمام: لا اُحب، ثم خرج . قال عبد الملك: فو الله، لقد امتلأ ثوبي منه خيفةً (10) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 9) مروج الذهب (3: 80) وانظر ما مضى ص (71) الفصل الأول . ( 10) تاريخ دمشق (الحديث 42) ومختصره لابن منظور (17: 4 -235-) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص178 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومهما يكن من تدخّل أمر (الغيب) في هذه القضايا، وفرضه لنفسه على البحث، إلاّ أن من المعلوم كون تصرف الإمام عليه السلام نفسه، وحياته العملية وتوجّهاته المعنوية، وتصرّفاته المعلنة في الأدعية، والمواعظ، والخطب والمواقف، وما تميّزت به من واقعية، كل هذا المجهول لاُؤلئك العُمي البصائر قد أصبح أمراً يهزّ كيانهم، ويُزعزع هدوهم، ويملؤهم بالرعب والخيفة . ولقد استغلّ الإمام ذلك لصالح أهدافه الدينيّة وأغراضه الاجتماعية . ومع كلّ هذا التعرّض والتحديّ، وكلّ هذه الأبعاد المدركة و الاَثار المحسوسة، مع دقّتها وعمقها، فإنّ التحفظ على ما في ظواهرها، وجعلها (روحيّة) فقط وعدم الاعتقاد بكونها نتائج طبيعيّة من صنع الإمام وإرادته، يدلّ على سذاجة في قراءة التاريخ، وظاهريّة في التعامل مع الكلمات والأحداث، وقصور في النظر والحكم . وكذلك الاستناد إلى كلّ تلك المظاهر، ومحاولة إدراج الإمام مع كبار الصوفيّة، وجعله واحداً منهم (11)، فهو بخلاف الإنصاف والعدل ?. ولماذا يقع اختيار عبد الملك الخليفة على الإمام عليه السلام، من بين مجموعة الزهّاد والعبّاد، ليوجّه اليه الإهانة، ويلقي القبض عليه، ويكبّله بالقيود والأغلال، ويرفعه إلى دمشق ? دون جميع المتزهدين والعباد الاَخرين ?. بينما كل اؤلئك المتظاهرين بالزهد، متروكون، بل محترمون من قبل السلطان، وأجهزة النظام ?. لو لم يكن في عمل الإمام ما يثير الخليفة إلى ذلك الحدّ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (11) لاحظ الفكر الشيعي (ص 31 و 68) والصلة بين التصوف والتشيع (ص 148) و (ص 151 و 157) وانظر خاصة (ص 161) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص179 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثانياً: التزام البكاء على سيد الشهداء عليه السلام: لقد صاحبتْ هذه الظاهرة الإمام زين العابدين عليه السلام مدّة إمامته ونضاله، بحيث لا يمكن المرور على أيّ مرفق من مرافق عمره الشريف، أو أيّ موقف من مواقفه الكريمة، إلاّ بالعبور من مجرى دموعه وفيض عيونه . ولا ريب أنّ البكاء، كما أنه لا يتهيّأ للإنسان إلاّ عند التأثّر بالأمور الأكثر حساسيّة، وإثارةً وحرقةً، ليكون حسباً للهدو ء و الترويح عن النفس . فكذلك هو وسيلة لإثارة القضيّة، أمام الاَخرين، وتهييج مَنْ يرى دموع الباكي تنهمر، ليتعاطف معه طبيعيّاً، وعلى الأقل يخطر على باله التساؤل عن سبب البكاء ?. وإذا كان الباكي شخصيةً مرموقةً، وذا خطر اجتماعي كبير، مثل الإمام زين العابدين عليه السلام، فإن ظاهرة البكاء منه، مدعاة للإثارة الأكثر، وجلب الاهتمام الأكبر، بلا ريب . والحكّام الظالمون، فهم دائماً يهابون الثوّار في ظلّ حياتهم، فيحاولون إسكاتهم بالقتل والخنق، مهما أمكن، ويتصّورون ذلك أفضل السبل للتخلّص منهم، أو تطويقهم بالسجن والحبس . وكذلك هم يحاولون بكل جدّية، في إبادة آثار الثورة ومحوها عن الأنظار، والأفكار حتّى لا يبقى منها ولا بصيص جذوة . ولكنهم رغم كل قدراتهم لم يتمكّنوا من اقتلاع العواطف التي تستنزف الدموع من عيون الباكين على أهليهم وقضيَتهم، فالبكاء من أبسط الحقوق الطبيعية للباكين . والإمام زين العابدين عليه السلام قد استغلّ هذا الحقّ الطبيعي في صالح القضية التي من أجلها راح الشهداء صرعى على أرض معركة كربلاء . وإذا أمعنّا النظر في تحليل التاريخ وتابعنا مجريات الأحداث، التي قارنت كربلاء، وجدنا أن المعركة لم تنتهِ بعدُ، وإنما الدماء الحمر، أصبحت تجري اليوم دموعاً حارّة بيضاً، تحرق جذور العدوان، وتجرف معها مخلّفات الانحراف وتروّي بالتالي اُصول الحقّ والعدالة . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص180 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبينما يعدّ الطغاة ظاهرة البكاء دليلاً على العجز والضعف و الانكسار و المغلوبيّة، فهم يكفّون اليد عن الباكي، لكون بكائه علامةً لاندحاره أمام القوّة، وعلامة الاستسلام للواقع، نجد عامة الناس، يُبدون اهتماماً بليغاً لهذه الظاهرة، تستتبع عطفهم، وتستدرّ تجاوبهم إلى حدّ ما، وأقلّ ما يُبدونه هو نشدانهم عن أسباب البكاء ? وتزداد كلّ هذه الامور شدّةً إذا كان الباكي رجلاً شريفاً معروفاً وبالأخص إذا كان يُفيض الدمعة بغزارة فائقة، وباستمرار لا ينقطع كما كان من الإمام زين العابدين عليه السلام، حتّى عدّ في البكائين، وكان خامسهم بعد آدم، ويعقوب، ويوسف، وجدّته فاطمة الزهراء (12) . إنّ البكاء على شُهداء كربلاء، وثورتها، لم يكن في وقت من الأوقات أمر حزن ناتجٍ من إحساس بالضعف والانكسار، ولا عَبرة يأس وقنوط، لأن تلك الأحداث، بظروفها ومآسيها قد مضت، وتغيّرت، وذهب أهلوها، وعُرف حقّها من باطلها، وأصبحت للمقتولين كرامة وخلوداً، وللقاتلين لعنةً ونقمةً، لكنّ البكاء عليهم وعلى قضيّتهم، كان أمر عِبرة وإثارة واستمداد من مفجّرها، وصانع معجزتها، وحزناً على عرقلة أهدافها المستلهمة من ثورة الإسلام التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم . والدليل على كل ذلك أنّ لكلّ حزن أمداً، يبدأ من حين المصيبة إلى فترة طالت او قصرت، وينتهي ولو بعد جيل من الناس . أما قبل حدوث المصيبة، فلم يُؤْثَر في المعتاد، أو المعقول للناس، أن يبكوا لشيء لكن قضيّة الحسين أبي عبد الله عليه السلام، قد أقيمت الأحزان عليها قبل وقوعها بأكثر من نصف قرن، واستمرّ الحزن عليها إلى الأبد، فهي الى القيامة باقية . والذين أثاروا هذا الحزن، قبل كربلاء، وأقاموا المآتم بعد كربلاء: هم الأئمة من أهل البيت عليهم السلام . فمنذ وُلد الحسين عليه السلام أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مآتم على سبطه الوليد ذلك اليوم، الشهيد بعد غدٍ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (12) الخصال للصدوق (ص 272) و أمالي الصدوق (المجلس 29) ص (121) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص181 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فكيف يقيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجلس الحزن على قرّة عينه، يوم ولادته، أ هكذا يَستقبل العظماء مواليدهم ? أولا يجب أن استبشروا بالولادات الجديدة، ويتهادوا التهاني والأفراح والمسرّات ? !. وتتكرّر المجالس التي يعقدها الرسول العظيم، ليبكي فيها على وليده، ويبكي لأجله كل مَنْ حوله، وفيهم فاطمة الزهراء عليها السلام أم الوليد، وبعض أمّهات المؤمنين، وأشراف الصحابة (13) . وحقاً عُدّ ذلك من دلائل النبوّة ومعجزاتها (14) . وهكذا أقام الإمام علي عليه السلام، مجلس العزاء على ولده الحسين عليه السلام، لمّا مرّ على أرض كربلاء، وهو في طريقه إلى صفّين، فوقف بها، فقيل: هذه كربلاء، قال: ذات كرب وبلاء، ثم أومأ بيده إلى مكان، فقال: هاهنا موضع رحالهم، ومناخ ركابهم، وأومأ بعده إلى موضع آخر، فقال: هاهنا مهراق دمائهم (15) . ونزل إلى شجرة، فصلّى إليها، فأخذ تربةً من الأرض فشمّها، ثم قال: واهاً لكِ من تربة، ليقتلنّ بكِ قوم يدخلون الجنة بغير حساب (16) . ورثاه أخوه الحسن عليه السلام وقال له: لا يوم كيومك يا أبا عبد الله... ويبكي عليك كلّ شي ...(17) . وحتّى الحسين عليه السلام نفسُه، نعى نفسَه ودعا إلى البكاء على مصيبته، وحثّ المؤمنين عليه، حيث قال: أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى (18) . وهكذا الأئمة عليهم السلام بعد الحسين، أكّدوا على البكاء على الحسين بشتّى الأشكال . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (13) إقرأ عن المجالس التي أقامها الرسول كتاب: سيرتنا و سنتنا للأميني، ولاحظ تاريخ دمشق لابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين (ص 165 185 ). ( 14) دلائل النبوة للبيهقي (6: 468) ومسند أحمد (3: 242 و 265) وانظر أمالي الصدوق (ص 126) ودلائل النبوة، لابي نعيم (ص 709) رقم (492) . (15) وقعة صفين (ص 141) والمصنف لابن أبي شيبة (:15: 98)رقم (191214) وكنز العمال (7: 105 و 110) و أمالي الصدوق المجلس (78 )( ص 478 و 479 ). (16) تاريخ دمشق لابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين ) (ص 235) رقم 280 وانظرالأرقام (236- 239) . (17) أمالي الصدوق (المجلس (24) ص 101) . ( 18) فضل زيارة الحسين للعلوي (ص 41) الحديث (13) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص182 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لكنّ الإمام زين العابدين عليه السلام :. قد تحمّل أكبر الأعباء، في هذه المحنة، إذ عايش أسبابها، وعاصر أحداثها، بل باشر جراحها وآلامها، فكان عليه أن يؤدّي رسالتها، لأنّه شاهدُ صدق من أهلها، بل الوحيد الذي ملك أزمّة أسرارها، ولابدّ أن يُمثل أفضل الأدوار التي لم يبق لها ممثّل غيره، ولم تبق لها صورة في أي منظار، غير ما عنده. وإذا عرفنا بأن الإمام زين العابدين عليه السلام هو أوثق مَنْ يروي حديث كربلاء، فهو أصدق الناقلين له، وخير المعبّرين عنه بصدق . وأما أهداف شهداء كربلاء التي من أجلها صُنِعَت، فلا بدَ لها أن تستمرّ، ولا تنقطع عن الحيويّة، في ضمير الناس ووجدانهم، حتّى تستنفد أغراضها . وبينما الحكّام التائهون لا يعبأون ببكاء الناس، فإنّ الإمام زين العابدين عليه السلام اتّخذ من البكاء عادةً، بل اعتمدها عبادة، فقد كانت وفي تلك الفترة بالذات وسيلة هامّةَ لأداء المهمّة الإلهية التي حمل الإمام عليه السلام أعباءها . والناس، لمّا رأوا الإمام زين العابدين عليه السلام يذرف الدموع ليلَ نهار، لا يفتؤ يذكر الحسين الشهيد ومصائبه، فهم: . بين مَن يُدرك: لماذا ذلك البكاء والحزن، والدمع الذارف المنهمر، والحزن الدائب المستمر ? وعلى مَن يبكي الإمام عليه السلام ?. فكان ذلك سبباً لاستمرار الذكرى في الأذهان، وحياتها على الخواطر، وبقاء الأهداف حيّة نابضة، في الضمائر ووجدان التاريخ، وتكدّس النقمة والنفرة من القتلة الظلمة . وبين مَنْ يعرف الإمام زين العابدين بأنه الرجل الفقيه، الزاهد في الدنيا، الصبور على مكارهها، فإنه لم يبك بهذا الشكل، من أجل أذىً يلحقه، أو قتل أحد، أو موت آخر، فإن هذه الأمور هي مما تعوّد عليها البشر على طول تاريخ البشرية بل هي سُنّة الحياة . كما قال القائل :. له مَلَك يُنادي كلَ يومٍ * لِدُوا للموتِ وابنوا للخرابِ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص183 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وخصوصاً النبلاء والنابهين، والأبطال الذين يقتحمون الأهوال ويستصغرونها من أجل أهداف عظام ومقاصد عالية رفيعة . فبكاء مثله، ليس إلاّ لأجل قضيّة أكبر وأعظم، خاصةً البكاء بهذا الشكل الذي لا مثيل له في عصره (19) . لقد ركزّ الإمام زين العابدين عليه السلام على قدسيّة بكائه لمّا سُئل عن سببه ?. فقال: لا تلوموني. فإنّ يعقوب عليه السلام فَقَدَ سبطاً من ولده، فبكى، حتّى ابيضّت عيناه من الحزن، ولم يعلم أنه مات .. وقد نظرتُ إلى أربعة عشر (20) رجلا من أهل بيتي يذبحون في غداةٍ واحدة . فترونَ حزنهم يذهب من قلبي أبداً ? (21) . إنّه عليه السلام في الحين الذي يربط عمله بما في القرآن من قصة يعقوب وبكائه، وهو نبي متَصل بالوحي والغيب، إذ لا ينبع فعله عن العواطف الخالية من أهداف الرسالات الإلهية . وفي الحين الذي يمثّل لفاجعة الطفّ في أشجى مناظرها الدامية، وبأقصر عبارة وافية . فهو يؤكّد على تبرير بكائه، بحيث يعذره كل سامع . وفي حديث آخر: جعل الإمام عليه السلام من قضيّة كربلاء مدعاةً لكل الناس إلى إحيائها، وتزويدها بوقود الدموع، وإروائها بمياه العيون، ولا يعتبرونها قضية خاصةً بعائلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحسب، بل هي مصاب كل الناس، وكل الرجالات الذين لهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 19) أمالي الصدوق (ص 121) ولاحظ بحار الأنوار (46: 108) الباب (6) الحديث (1) . (20 ) يلاحظ أن المعروف في عدد المقتولين من أولاد علي وفاطمة عليهما السلام في كربلاء هم (ستة عشر) رجلا، الوسائل المزار الباب (65) تسلسل (96941) عن عيون أخبار الرضا عليه السلام (1/299)لاحظ نزهة الناظر (ص 45) . ( 21) كامل الزيارات (ص 107) أمالي الصدوق (المجلس 9 و 91) تيسير المطالب لأبي طالب (ص 118) وتاريخ دمشق الحديث (78) ومختصره لابن منظور (17: 239) وحلية الأولياء (3: 138) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص184 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كرامة في الحياة، أو يحسّون بشي اسمه الكرامة، أو شخص يحسّ بالعاطفة، فهو يقول: . وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة . أيّها الناس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله ?. أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ?. أم أيّ عين منكم تحبس دمعها ? (22) . وكان عليه السلام يحثّ المؤمنين على البكاء ويقول :. أيّما مؤمنٍ دمعتْ عيناه لقتل الحسين عليه السلام حتّى تسيل على خدّه، بوّأه الله تعالى بها في الجنّة غُرفاً يسكنها أحقاباً . وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّيه مما مسّنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا، بوّأه الله منزل صدق (23) . وكان البكاء واحداً من الأساليب التي جعلها وسيلةً لإحياء ذكرى كربلاء، وقد استعمل أساليب أخرى .. منها: زيارة الحسين عليه السلام.: قال ابو حمزة الُثمالي: سألتُ عليّ بن الحسين، عن زيارة الحسين عليه السلام ?. فقال: زرْهُ كلّ يومٍ، فإنْ لم تقدر فكلّ جمعةٍ، فإنْ لم تقدر فكلّ شهر، فمن لم يزره فقد استخفّ بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (24) . ومنها: الاحتفاظ بتراب قبر الحسين عليه السلام :. فكانت له خريطة ديباج صفرأ، فيها تربة قبر أبي عبد الله عليه السلام، فإذا حضرت الصلاة سجد عليها (25) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 22) كامل الزيارات (ص 100) مقتل الحسين عليه السلام للأمين (ص 213) ولاحظ كتابنا هذا (ص 66) . ( 23) ثواب الأعمال (ص 83) . (24 )فضل زيارة الحسين للعلويّ (ص 43) ح 17 . (23)بحار الأنوار (46: 79) باب 5، الحديث 75 وعوالم العلوم (ص 129) وباختصار في مناقب ابن شهرآشوب (4: 162) عن مصباح المتهجد للشيخ الطوسي. .ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص185 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومنها: خاتم الحسين عليه السلام :. فقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يتختّم بخاتم أبيه الحسين عليه السلام (26) . كما كان ينقش على خاتمه: (خزيَ وشقي قاتل الحسين بن علي عليه السلام) (27) . ومن المؤكد أن الإمام عليه السلام لم يتبع هذه الأساليب لمجرد الانعطاف مع العواطف والسير وراءها، ولا لضعف في نفسه، أو لاستيلاء هول الفجيعة على روحه، ولم يتّخذ مواقفه من بني أمية نتيجةً للحقد أو الانتقام الشخصي، ممن له يد في مذبحة كربلاء . وإنما كان عليه السلام يلتزم بتلك الخطط ويتبع تلك الأساليب لإحياء الفكرة التي من أجلها قتل الحسين عليه السلام واستشهد هو وأصحابه على أرض كربلاء فضرّجوا تربتها بدمائهم الزكية . ولقد أثبت ذلك بصراحة في حياته العملية : فقد كانت له علاقات طبيعية مع عوائل بعض الأمويين مثل مروان بن الحكم، الذي التجأ بأهله وزوجته وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان إلى بيت الإمام زين العابدين عليه السلام، فأصبحوا تحت حمايته، مع أربعمائة عائلة من بني عبد مناف، مدّة وجود الجيش الأموي في المدينة، فأمنوا من استباحتهم لها وهتكهم الأعراض فيها، في واقعة الحرّة الرهيبة (28) . وبالإضافة إلى أن الأئمة عليهم السلام بعيدون عن روح الانتقام الشخصي وإنما يغضبون لله لا لأنفسهم، فإنهم يشملون باللطف والرحمة النساء والأطفال في مثل تلك الظروف، وبذلك يكسبون ودّ الجميع حتّى الأعداء، ويثبتون جدارتهم، ولياقتهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (26)نقش الخواتيم للسيد مرتضى(ص11) (27)نقش الخواتيم (ص25)عن الكافي (6: 473 )ومسند الرضا عليه السلام (2: 365 )وبحار الأنوار (46: 5 ) ( 28) أنساب الأشراف (4: 323 )تاريخ الطبري (5: 493 )ومروج الذهب (2: 14 )وكشف الغمة (2: 107:) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص186 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمنصب الإمامة والزعامة . فكسب الإمام زين العابدين عليه السلام بمواقفه اعتقاد الجهاز الحاكم فيه أنه (خير لا شرّ فيه) (29) وأنه (مشغول بنفسه) (30) . ذلك الاعتقاد الذي أفاد الإمام عليه السلام نوعاً من الحرّية في العمل في مستقبل تخطيطه ضدّ الحكم الأموي الغاشم، وعزّز موقعه الاجتماعي حتّى تمكّن من اتخاذ المواقف الحاسمة من الظالمين وأعوانهم . كما رُسمت في سيرته الشريفة صور من صبره على المصائب والبلايا، ممّا يدل على صلابته تجاه حوادث الدنيا ومكارهها، وهي أمثلة رائعة للمقاومة والجَلَد . فعن إبراهيم بن سعد، قال: سمع علي بن الحسين واعيةً في بيته، وعنده جماعة، فنهض إلى منزله، ثم رجع إلى مجلسه، فقيل له: أمن حدثٍ كانت الواعية ?. قال: نعم . فعزّوه، وتعجّبوا من صبره . فقال: إنّا أهل بيت نطيع الله في ما نحب، ونحمده في ما نكره (31) . ونتمكّن من استخلاص الهدف الأساسي من كلّ هذه الإثارات لقضيّة كربلاء وشهدائها خصوصاً ذكر أبيه الإمام الشهيد عليه السلام من خلال الحديث التالي.: قال عليه السلام لشيعته: عليكم بأداء الأمانة، فو الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به، لأديته إليه (32) . ففي الوقت الذي يُشير فيه إلى مأساة قتل الحسين عليه السلام، ويذكّر بقتله، ليُحيي معالمها في الأذهان، فهو يؤكّد بأغلظ الأيمان على أنّ أمراً (مثل أداء الأمانة) يوجِبُه الإسلام، هو فوق العواطف والأحاسيس الشخصيّة . وهو يُوحي بأنّ الإمام الحسين عليه السلام إنما قتل من أجل تطبيق كلّ المبادىء التي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (29) قاله مسرف بن عقبة لما استباح المدينة، انظر في ما مضي من كتابنا هذا (ص 71) . ( 30) قاله الزهري لعبد الملك، انظر (ص 212) في ما يأتي . ( 31) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور (1: 240) . (32) أمالي الصدوق (ص 128) المجلس (43) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص187 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جاء بها الإسلام، والتي بعث بها جدّه النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الإمام زين العابدين يُريد الاستمرار على تلك المبادىء والخطط التي أنار الحسين الشهيد عليه السلام معالمها بوقود من دمه الطاهر . وهو في الوقت ذاته، يرفع من قيمة البكاء أن يكون من أجل أمور مادّية ولو كانت الدنيا كلها :. ففي الخبر أنّه عليه السلام نظر إلى سائل يبكي !. فقال عليه السلام: لو أنّ الدنيا كانت في كفّ هذا ثمّ سقطت منه ما كان ينبغي له أن يبكي (33) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (33) كشف الغمة (2: 106) عن كتاب نثر الدرر للاَبي . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص188 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثالثاً: التزام الدعاء: ومن أبرز المظاهر الفذّة في سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام الأدعية المأثورة عنه، فقد تميّز ما نقل عنه بالكثرة، والنفس الطويل، والشهرة التداول، لما تحتويه من أساليب جذّابة ومستهوية للقلوب، تتجاوب معها الأرواح والنفوس، وما تضّمنته من معان راقية تتفاعل مع العقول والأفكار . وقد كان للأدعية التي أصدرها أبعاد فكرية واسعة المدى، بالنصوص الحاسمة القضايا عقائدية إسلامية، كانت بحاجة إلى البتّ فيها بنصّ قاطع، بعد أن عصفت بالعقيدة، تيّارات الإلحاد، كالتشبيه والجبر والإرجاء، وغيرها مما كان الأمويون وراء بعثها وإثارتها وترويجها، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل، تمهيداً للردّة عن الإسلام، والرجوع إلى الجاهلية الأولى . وفي حالة القمع والإبادة، ومطاردة كلّ المناضلين الأحرار، وتتبع آثارهم وخنق أصواتهم، كان قرار الإمام زين العابدين عليه السلام باتّباع سياسة الدعاء، أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها، وأمن طريقة، وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة، وأقوى أداة اتصال سريّة مكتومة، هادئة، موثوقة. كما كانت لنصوص الأدعية أصداء قويّة في ميادين الأدب، الذي له وقع كبير في نفوس الشعوب، وخاصة الشعب العربي، وله تركيز كثير في قرارات أذهان الناس وذاكرتهم . ولقد ا ستخدم الأئمة عليهم السلام تأثير الأدب في الناس، فكانوا يهتمّون بذلك، سواء في تطعيم ما يصدرونه، بألوان زاهية من الأدب العربي الراقي، نثراً وشعراء، كما كانوا يبعثون الشعراء على نظم القضايا الفكرية، والحقّة، في أشعارهم، ويروّجونها بين الناس . ولقد استثار الأئمة عليهم السلام على طول خط الإمامة شعراء فطاحل من المتشيّعين، للنظم في قضايا عقيدية تؤدي إلى تثبيت الحق والدعوة إلى الإسلام من خلال مذهب أهل البيت عليهم السلام، حتّى اشتهر عنهم الحديث (من قال فينا بيتاً من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص189 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشعر، بنى الله له بيتاً في الجنّة) . ولقد كان لهذا التوجيه أثر آخر، وهو انتشال الأدب وخاصة الشعر من مهاوي الرذيلة والمجون والاستهتار الذي سقط فيه والاُدباء وخاصة الشعراء في تلك العصور المظلمة، التي كادت تؤدّي إلى ضياع جهود جبّارة من ذوق الشعراء وفنّهم في متاهات الأغراض الفاسدة، وكذلك جهود الأمّة في سماع ذلك الأدب الماجن، ونقله وضبطه وتداوله . وقد أثّرت جهود الأئمة عليهم السلام بتعديل ذلك المجرى، للسير في السُبل الاَمنة، والأغراض الشرعيّة، والتزام الأدب الهادف المؤدّي إلى رفع المستوى الخلقيّ والفكريّ والثقافيّ . ولقد أثرى الإمام زين العابدين عليه السلام الأدب العربي: بمادّة غزيرة من النصوص الموثوقة، بشكل الأدعية التي تعدّ من أروع أمثلة الأدب العربي في النثر (34) . وامتازت بين مجموع ما رُوي عن الإمام زين العابدين من الأدعية، تلك التي ضمّنها (الصحيفة السجادية) التي تتلألأ بين أدعيته، لأنّها من تأليف الإمام نفسه، وإملائه، فلذلك فتح العلمأ لها مجالاً خاصاً في التراث الإسلامي، وأغدق عليها المبدعون بأجمل ما عندهم من مهارات في الخطّ والزخرفة، وأولاها الداعون عناية فائقة في الالتزام والأداء، والعلماء في الشرح والرواية، فلنتحدث عنها في الصفحات الأخيرة من هذا الفصل . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (لاحظ مقال: من أدب الدعاء في الإسلام، مجلة تراثنا، العدد (14) السنة الرابعة (1409) (ص 30) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص190 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأخيراً: مع الصحيفة السجّادية هدفاً ومضموناً: أوّلاً: مع الصحيفة هدفاً: إنّ التشيّع، وفي عصر الإمام زين العابدين عليه السلام خاصةً كان يواجه صعوبات بالغة الشدّة، حيث كان الظلم مستولياً على كلّ المرافق والمقدّرات، ولم يكن بالإمكان القيام بأيَة مقاومة إيجابية، أو محاولة . فآخر ثورة تلك التي أعلنها الإمام الحسين عليه السلام في صدّ التعدّي الغاشم، كان قد قضي عليها، وعلى جميع عناصرها بشكل دمويّ، وبقي منهم (غلام) فقط، وهو (الإمام زين العابدين عليه السلام) . وكانت الأوضاع الاجتماعية تسير باتجاهٍ خطر، خطورة الإجهاز على أساس النهضة، وإخماد روح الوثبة الإسلامية، بل القضاء على كلّ تفكير من هذا القبيل، وتناسيه إلى الأبد . وأبرز نموذج لهذه المشكلة، أنّ الإمامة وهي الجهاز الوحيد الباقي من كل مرافق الحكومة الإسلامية العادلة أصبحت على شُرُف التناسي عن الأذهان، لأنّ نظام الحكم الأموي استولى على كلّ أجهزة الإعلام من المنبر، والمحراب، والمسجد، واشترى ذمم كلّ ذوي النفوذ في الرأي العام من قاض وحاكم ووالٍ، وأصبحت كلّ الإمكانات في قبضة (الخلافة ) وفي خدمة (الخليفة) !. أما الإمام زين العابدين، فقد بقي وحيداً في مواجهة المشكلات، مع أنّ الإرهاب والذعر كان يتحكّم في الرقاب، ويستولي على النفوس . في مثل هذه الظروف أصبح (الدعاء) ملجأ للإمام وللإمامة، لا، بل موقعاً اتّخذه الإمام زين العابدين عليه السلام للصمود والهجوم :. - صمود ماذا ? - صمود ذلك الفكر، وذلك الهتاف، وذلك الإيمان، الذي جنّدت الدولة الأمويّة كلّ الإمكانات في العالم الإسلامي ضدّه . - والهجوم على مَن ? - ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص191 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ - للهجوم على سلطة تمكنّت من كلّ قواعد القدرة، وسلبت من الأمة كلّ إمكانات المقاومة. فكان الدعاء هو سلاح النضال ومعنى ذلك: أنّه إذا طوّقت مقاومة، أو فكرة، أو نضال، وأدّت بها الظروف إلى مثل ما حصل في (كربلاء) إذ تعرّض كلّ رجالها للإبادة الدامية، ولم يبق سوى رجل (واحد) ووقع كلّ النساء والصغار في الأسر، وتحت القيود، وإذا لم تبق أيّة إمكانيّة للعمل المسلّح، والدفاع عن الحق بالقوّة، فإنّ هذا الرجل الوحيد لا تسقط عنه المسؤوليّة . إنّه مسؤول أن يدرّب الأمة على القناعة بأن على عاتقه إحياء الفكرة، وتحريك الأحاسيس، والدفاع عن ذلك الحق، ولو بلسان الدعاء، وجعل الرسالة مستمرّة ولو بالأمل والرجاء، ونقلها كذلك إلى الأجيال . إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام :. وإن كان قد فقد إمكانات التضحية والنضال المستميت إلى حدّ الشهادة، كما فعل أبوه الإمام الحسين عليه السلام في كر بلاء . وفقد إمكانات العمل الاجتماعي الحرّ، كما قام به ابنه الإمام الباقر وحفيده الإمام الصادق عليهما السلام . لكنّه لم يفقد فرصة المقاومة من طريق هذه الحربة النافذة في أعماق أشلا النظام الحاكم، والقابلة للتغلغُل في أوساط المجتمع الفاسد، والسارية مع كلّ نسيم، والممكنة في كلّ الظروف، والتي اسمها (الدعاء) . وإن قيل: إنّ هذا هو من أضعف فروض النضال والجهاد ?. قلنا: نعم، لكنّ الدعاء أمر ضروري حتّى لو كان الإنسان في غير هذه الحال، فلو كان بإمكانه النضال والمقاومة، بأشكال أخر، أقوى وأقدر، فإنّ من المستحيل استغناؤه عن الدعاء، وليس بالإمكان أن يمنع من هذا النضال، ولو كان أضعف، فلابّد له أن يكون قادراً على عملية الدعاء، وأن يُضمر في نفسه الارتباط بربّه، وأن يُعلن عن أفكاره وعقائده بأسلوب المناجاة والدعاء، ويعبّر عن آماله وآلامه، ومكنون نفسه، وأن يُبرز هتافاته، وأن يطالب برغباته المهضومة، والمغصوبة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص192 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ . على أن من الضروريّ لكل مناضل أن يركّز معتقداته، ويحدّد مواقعه الفكرية ويحصّن أصول دينه، حتّى يكون على بصيرةٍ من أمره، فيوحي إلى ذاته بالحقّ، ويوصي نفسه بالصبر عليه، بالدعاء . وليس في المقدور لأيّة سلطة حاكمة أن تسلبه هذه القدرة، أو أن تحاسبه على هذه الإرادة . وفي مثل هذا التركيز والتحديد يكمن سرّ خلود الإنسان عندما يكون مهدّداً بالإبادة . .والنطق بالدعاء وسيلة للإعلان عن المعتقدات وتبليغ الرسالات وتنمية الشعور بالمسؤوليات، في أحلك الظروف وأحرجها، وبثّ روح النضال والمقاومة، وتوثيق الرابطة الفكرية، وتأكيد التعهّدات الاجتماعية، وتثبيت العواطف الصالحة، حبّاً بالتولي والإعلان عنه، وبغضاً بالتبري وإبدائه، وتعميق الوعي العقائدي بين الأمّة، وتهيئة الأجواء روحياً وفكرياً وجسميّاً للإعداد للمسؤوليّات الكبرى، كلّ ذلك في ظروف جُندت فيه القوى المضادّةُ، للقضاء على الأهداف كلّها . إنّ الإمام في مثل ذلك عليه أن يخطّط للعمل، عندما لا يستطيع المؤمن من القيام بأي عمل، حتّى الموت الشريف، بعزّة وكرامة، حيث لا طريق إلى اختيار الشهادة كسلاح أخير، لأنّ الشهادة أيضاً تحتاج إلى أرضيّة وظروف مؤاتية، ومعركة، كي يتسنّى للشهيد أن يفجّر بدمه الوضع، ويكسر الصمت، وإلاّ فهو الموت الصامت غير المؤثّر، المهمل الذي لا يستفيد منه إلاّ العدوّ . والإمام زين العابدين عليه السلام أصبح قدوة للنضال في مثل هذه الظروف بكل سيرته، ووجوده، ومصيره، وسكوته، ونطقه، وخلقه، ورسم بذلك منهاجاً للعمل في مثل هذه الأزمات . إنّه رسم الإجابة عن كلّ الأسئلة التي تطرح: عن العمل ضدّ إمبراطورية ضارية، مستحوذة على كل المرافق والقدرات ? وعن الصمت الثقيل القاتل، المطبق، الذي يستحيل فيه التفوّهُ بكلمة الحقّ، كيف يمكنُ أنْ يُكْسَر? . وعن اُسلوب شخصي لعرض جميع الطلبات والقيم والعواطف ? . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص193 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن الصحيفة السجادية هي: . كتاب الجهاد عند الوحدة . وكتاب التعبير عند الصمت. وكتاب التعبئة عند النكسة . وكتاب الهتاف عند الوجوم . وكتاب التعليم بالشفاه المختومة . وكتاب التسلّح عند نزع كلّ سلاح . وهو قبل هذا وبعده، كتاب (الدعاء ) . . إنّ الدعاء كما يقول الدكتور الفرنسي الكسيس كارل: (تجل للعشق والفاقة) وقد أضاف الإسلام إلى هذين: (التوعية) . . وفي مدرسة الإمام زين العابدين عليه السلام يأخذ الدعاء بُعداً رائعاً هو تأثيره الاجتماعي الخاص . وبكلمة جامعة: إن الدعاء في مدرسة الإمام زين العابدين في الوقت الذي يعدّ كنزاً لأعمق التوجهات، وأحرّ الأشواق، وأرفع الطلبات منهاج يتعلّم فيه المؤمن تخطيطاً متكاملاً للوجود والتفكير والعمل، على منهج الإمامة وبقيادة حكيمة تستلهم التعاليم من مصادر الوحي . ثانياً: مع الصحيفة السجّادية مضموناً: . إن الحديث عن هذا الكتاب العظيم وأثره العلميّ والدينيّ عقيدياً وحضارياً وأثره الاجتماعي يحتاج إلى تفرّغ وتخصّص، وإلى وقت ومجال أوسع من هذا الفصل، ولا ريب أن النظر فيه سيوقف القارئ على مقاطع رائعة تدلّ على مفردات ما نقول بوضوح وصراحة . وإذا أخذ الإنسان بنظر الاعتبار ظروف الإمام زين العابدين عليه السلام وموقعه الاجتماعي وقرأ عن طغيان الحكام وعبثهم، وقارن بين مدلول الصحيفة ومؤشّرات التصرّفات التي قام بها أولئك الحكام، اتضح له أنّ الإمام قد قام من خلالها بتحدّ صارخ للدولة ومخططاتها التي استهدفَتْ كيان المجتمع الإسلامي لتزعزعه . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص194 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإذ لا يسعنا الدخول في غمار هذا البحر الزخّار لاقتناص درره فإنّا نقتصر على إيراد مقطعين من أدعية الصحيفة، يمثّلان صورة عمّا جاء فيها، ممّا تبرز فيه معالم التصدّي السياسيّ الذي التزمه الإمام عليه السلام بمنطق الدعاء المقطع الأول: دعاؤه لأهل الثغور: . إنّ الإمام، لكونه الراعي الإلهي، المسئول عن رعيتّه وهي الأمّة، يكون الحفاظ على وجود الإسلام، من أهمّ واجباته التي يلتزمها، فلا بدّ من رعاية شعائره ،واستمرار مظاهره، ومتابعة مصالحه العامة، وتقديمها على غيرها من المصالح الخاصّة بالأفراد، أو الأعمال الجزئيّة الفرعيّة، فالحفاظ على سمعة الإسلام وحدوده، أهمّ من الالتزام بفروع الدين وواجباته ومحرّماته، إذا دار الأمر بينه وبينها . ففي سبيل ذلك الهدف العام السامي، لابدّ من تجاوز الاهتمامات الصغيرة، والمحدودة، بالرغم من كونها في أنفسها ضرورات، لابدّ من القيام بها في الظروف العاديّة، لكنها لا تعرقل طريق الأهداف العامة الكبرى . فالإسلام: كدين، ليس قائماً بالأشخاص، ولا يتأثّر بتصرفاتهم الخاصّة، في مقابل ما يهدّده من الأخطار الكبيرة، فكريّة أو اجتماعية أو عسكرية، فإذا واجه الإسلام خطر يهدّد التوحيد الممثل بكلمة (لا إله إلا الله) أو الرسالة المتجليّة في (محمّد رسول الله) فإن الإمام يتجاوز كل الاعتبارات ويهبّ للدفاع عن هذين الركنين الأهمّ، وحتّى لو كان على حساب وجود الإمام نفسه، أو عنوان إمامته، فضلاً عن مصالحه الخاصة، وشؤونه وصلاحياته . ومن هذا المنطلق، يمكن تحديد المواقف الهامّة للأئمة من أهل البيت عليهم السلام :. فسكوت الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام عن مطالبته بحقّه، ولجو الإمام الحسن المجتبى عليه السلام إلى توقيع كتاب الصلح مع معاوية، وتضحية الإمام الحسين الشهيد عليه السلام بنفسه في كر بلاء. كلّ ذلك نحدّده على أساس متّحد، وهو رعاية المصلحة الإسلامية العامة، والحفاظ على كيان الإسلام لئلاّ يمسّه سوء . وبهذا أيضاً نميّز وقوف الإمام زين العابدين عليه السلام للدعاء لأهل الثغور .ومَنْ هم أهل الثغور في عصره ? . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص195 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليس للدعاء تاريخ محدّد، حتّى نعرف الفترة التي اُنشىء فيها الدعاء بعينها، إلاّ أنها لا تخرج من مجمل الفترة التي عايشها الإمام زين العابدين عليه السلام من سنة (61) إلى سنة (94) ولم تخرج عن حكم واحد من الخلفاء الأمويين . وحتّى لو فرضنا إنشاءه في فترة حكم (معاوية بن يزيد بن معاوية) الذي عرف بولائه لأهل البيت عليهم السلام، على قصرها، فلا ريب أنّ نظام الحكم وأجهزة الدولة كافَة، وعناصر الإدارة ورموز السلطة لم تتغير، وخاصة أهل الثغور الذين هم حرس الحدود، لم يطرأ عليهم التغيير المبدئي، في تلك الفترة القصيرة بتبدّل الخليفة . ومن المعلوم: أن الذين يتجهون إلى حدود الدولة الإسلامية، وهي أبعد النقاط عن أماكن لرفاه والراحة، ليسوا إلا من سواد الناس، ويمكن أن يكون اختيارهم لتلك الجهات البعيدة دليلاً على ابتعادهم عن التورّطات التي انغمس فيها أهل المدن في داخل البلاد . ومع ذلك، يبقى التساؤل: عن دعاء الإمام عليه السلام بتلك القوّة، وذلك الشمول، وبهذه اللهجة، وهذا الحنان، لحرس الحدود، وهم جز من جيش الحكومة الفاسدة، ووحدة من وحدات كيان الدولة الظالمة ?. إنّ الحقيقة التي عرضناها سابقاً، هي الجواب عن هذا التساؤل، لأنّ مصلحة الإسلام، ككلّ، مقدّمة على كلّ ما سواه من أمور الإسلام سواء فروع الدين، أو عناوين الأشخاص، أو مصالح الاَخرين حتّى الجماعات المعيّنة . ثمّ إنّ هذا الدعاء بنفسه دليل مُقنع على انّ الإمام زين العابدين عليه السلام لم يكن كما شاء أن يصورّه الكتّاب الجدد متخلّياً عن مركزه القيادي والسياسي، كإمام يرعى مصلحة الإسلام، والأمة الإسلامية . فمن خلال أوسع جبهاتها، وهي الحدود الإسلامية، المهدّدة دائماً، بلا شكّ، من قبل الدول المجاورة الحاقدة على الإسلام الذي قهرها، واستولى على مساحات من أراضيها، فرض الإمام عليه السلام رعايته واهتمامه، وبشكل الدعاء الذي لا يثير الحكّام . وحرس الحدود أنفسهم، مهما كانت هواياتهم، لايُعَدّون أنصاراً للحكومة، بقدرما هم محافظون على الأرض الإسلامية، وكرامة الإسلام، فإنّهم مدافعون عن ثغوره، ومراقبون لحماية خطوط المواجهة الإمامية: وهو أمر واجب على كل مسلم أن يبذل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص196 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جهداً في إسناده ودعمه وتسديد القائمين به، بكل شكل ممكن . وهذا هو الذي استهدفه الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه لأهل الثغور، فهو ينبّه الناس إلى خطورة هذا الواجب ويهيّج الأحاسيس تجاه الثغور وحمايتها . ومهما كان الحكّام في الداخل، يعيثون فساداً، فإنّهم لا محالة زائلون، ومهما جدّوا في التقتيل والظلم والإجرام، والتخريب فإنّهم لن يتمكّنوا من القضاء على كل معالم هذا الدين، الذي يعدّ المسلمون الحفاظ عليه من واجباتهم . والإمام عليه السلام وإن كان معارضاً للنظام الأموي، ويجدّ في فضحه وتزييف عمله والكشف عن سوء إدارته، ويحكم على القائمين به بالخروج عن الحق والعدل، وهو لا يزال ينظر إلى مصارع شهداء كر بلاء بعيون تملؤها العَبْرة، لكنه يدعو بصوت تخنقه العَبْرة كذلك لأهل الثغور الإسلامية، وباللهجة القوية القاطعة لكلّ عذر . وبالنبرة الحادة ذاتها التي يدعو بها لزوال حكم الظالمين، يدعو لاستتباب الأمن والعدل والصلاح على أرض الإسلام . فلنقرأ معاً هذا الدعاء العظيم :. اللهمّ: صلّ على محمّد وآله، وحصّن ثغور المسلمين بعزّتك، وأيّد حماتها بقوّتك، وأسبغ عطاياهم من جِدَتك . اللهمّ: صلّ على محمّد وآله، وكثّر عدّتهم، واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألّف جمعهم، ودبّر أمرهم، و واتر بين مِيَرهم، وتوحّد بكفاية مؤنهم، و اعضدهم بالنصر، و أعنهم بالصبر، والطف لهم في المكر . اللهمّ: صلّ على محمّد وآله، وعرّفهم ما يجهلون، وعلّمهم ما لايعلمون، وبصّرهم ما لا يبصرون . اللهمّ :صلّ على محمّد وآله، وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة الغرور، وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفتون، واجعل الجنّة نصب أعينهم، ولوّح منها لأبصارهم ما أعددتَ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص197 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيها من مساكن الخلد، ومنازل الكرامة، والحور الحسان، والأنهار المطّردة بأنواع الأشربة، والأشجار المتدلية بصنوف الثمر، حتّى لا يهمّ أحد منهم بالإدبار، ولا يحدّث نفسه عن قرنه بفرار . اللهمّ: افلل بذلك عدوّهم، واقلم عنهم أظفارهم، وفرّق بينهم وبين أسلحتهم، واخلع وثائق أفئدتهم، وباعد بينهم وبين أزودتهم، وحيّرهم في سبلهم، وضلّلهم عن وجههم، واقطع عنهم المدد، وانقص منهم العدد، واملأ أفئدتهم الرعب، واقبض أيديهم عن البسط، واخزم ألسنتهم عن النطق، وشرّد بهم مَن خلفهم، ونكّل بهم مَن ورائهم، واقطع بخزيهم أطماع من بعدهم . اللهمّ: عقّم أرحام نسائهم، ويبّس أصلاب رجالهم، واقطع نسل دوابّهم وأنعامهم، لا تأذن لسمائهم في قطر، ولا لأرضهم في نبات . اللهمّ: وفّق بذلك محالّ أهل الإسلام، وحصّن به ديارهم، وثمّر به أموالهم، وفرغّهم عن محاربتهم لعبادتك، وعن منابذتهم للخلوة بك، حتّى لايُعبد في بقاع الأرض غيرك، ولا تعفّر لأحد منهم جبهة دونك . اللهمّ: اغز بكل ناحية من المسلمين على مَن بإزائهم من المشركين، وأمددهم بملائكة من عندك مردفين، حتّى يكشفوهم إلى منقطع التراب قتلاً في أرضك وأسراً، أو يقرّوا بأنك أنت الله الذي لا إله إلاّ أنت، وحدك لا شريك لك . اللهمّ: واعمُم بذلك أعداءك في أقطار البلاد، من الهند، والروم، والترك، والخزر، والحبش، والنوبة، والزنج، والسقالبة، والديالمة، وسائر أمم الشرك الذين تخفى أسماؤهم وصفاتهم، وقد أحصيتهم، بمعرفتك، وأشرفت عليهم بقدرتك . اللهمّ: أشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين، وخُذهم بالنقص عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص198 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تنقيصهم، وثبّطهم بالفرقة عن الاحتشاد عليهم اللهمّ: أخْلِ قلوبهم من الأمنة، وأبدانهم من القوّة، وأذهل قلوبهم عن الاحتيال، وأوهن أركانهم عن منازلة الرجال، وجنّبهم عن مقارعة الأبطال، وابعث عليهم جنداً من ملائكتك ببأس من بأسك، كفعلك يوم بدر، تقطع به دابرهم، وتحصد به شوكتهم، وتفرّق به عددهم . اللّهمّ: وامزج مياههم بالوباء، وأطعمتهم بالأدواء، وارم بلادهم بالخسوف، وألحَ عليها بالقذف، وأفرعها بالمحول، واجعل مِيَرهم في أحص أرضك، وأبعدها عنهم، وامنع حصونها منهم، أصبهم بالجوع المقيم والسقيم الأليم . اللّهمّ: وأيّما غازٍ غزاهم من أهل ملّتك، أو مجاهد جاهدهم من أتباع سنتك، ليكون دينك الأعلى، وحزبك الأقوى، وحظّك الأوفى، فلقه اليُسْر، وهيىء له الأمر، وتولّه بالنُجح، وتخيّر له الأصحاب، واستقْوِ له الظهر، وأسْبِغْ عليه في النفقة، ومتّعه بالنشاط، وأطفىء عنه حرارة الشوق، وأجِرْهُ من غمّ الوحشة، وأَنْسِهِ ذكر الأهل والولد، وأثر له حسن النيّة، وتولّه بالعافية، وأصحبه السلامة، وأعفه من الجبن، وألْهمه الجرأة، وارزقه الشدّة، وأيّده بالنصرة، وعلّمه السير والسنن، وسدّده في الحكم، واعزل عنه الرياء، وخلّصه من السمعة، واجعل فكره وذكره وظعنه وإقامته فيك ولك، فإذا صافّ عدوك وعدّوه فقلّلهم في عينه، وصغّر شأنهم في قلبه، وأدل له منهم، ولا تدلهم منه . فإن ختمت له بالسعادة، وقضيت له بالشهادة، فبعد أن يجتاح عدوّك بالقتل، وبعد أن يجهد بهم الأسر، وبعد أن تأمن أطراف المسلمين، وبعد أن يولّي عدوّك مدبرين . اللهمّ: وأيّما مسلم خَلَفَ غازياً، أو مرابطاً، في داره، أو تعهّد خالفيه في غيبته، أو أعانه بطائفة من ماله أو أمدّه بعتاد، أو شحذه على جهاد، أو أتبعه في وجهه دعوةً، أو رعى له من ورائه حرمةً، فأجْرِ له مثل أجره، وزناً بوزن، ومثلاً بمثل، وعوّضه من فعله عوضاً حاضراً يتعجّل به نفع ما قدّم، وسرور ما أتى به، إلى أن ينتهي به الوقت إلى ما أجريت له من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص199 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فضلك، وأعددت له من كرامتك . اللهمّ: وأيّما مسلم أهمَه أمرُ الإسلام، وأحزنه تحزّب أهل الشرك عليهم، فنوى غزوة، أو همّ بجهاد، فقعد به ضعف، أو أبطأت به فاقة، أو أخّره عنه حادث، أو عرض له دون إرادته مانع، فاكتب اسمه في العابدين، وأوجب له ثواب المجاهدين، واجعله في نظام الشهداء والصالحين . اللهمّ: صلّ على محمّد عبدك ورسولك، وآل محمّد، صلاةً عالية على الصلوات، مشرفة فوق التحيّات، صلاة لا ينتهي أمدها، ولا ينقطع عددها، كأتمّ ما مضى من صلواتك على أحد من أوليائك . إنّك المنّان، الحميد، المبدي، المعيدُ، الفعّال لما تريد (35) . هذا على مستوى كيان عسكريّ مرتبط بالدولة، وأمّا على مستوى الشعب فلنقرأ معا: . المقطع الثاني: دعاء الاستسقاء بعد الجدب: . حيث تتجلّى فيه رعاية الإمام عليه السلام لحالة الأمّة، ومراقبته لأحوالها، وبخصوص اقتصادها الذي هو عصب حياتها، فإذا رآه يتعرّض للانهيار على أثر الجفاف، ينبري عليه السلام لإنجاده بطريقته الخاصّة، التي لا تثير أحقاد الحكام ضدّه، ولا تمكّنهم من أخذ نقاط سياسيّة عليه، ومع ذلك فهو يجلب أنظار الشعب المسلم المقهور، المغلوب على أمره، إلى أنّ هناك مَنْ يعطف عليه إلى هذا الحدّ، ومَنْ يراقب أوضاعه، ويهتّم بشؤونه ومشاكله . والإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الشكل، يفرض نفسه على الساحة السياسيّة، وهو تدخّل صريح في شؤون الأمّة، وظهور واضح على أرض العمل، فإنّ الملجأ في مثل هذه المشاكل هُم كبار القوم، ومَنْ لهم قدسيّة، وفضل، وتقدّم على الاَخرين، ولا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (35) الصحيفة السجادية، الدعاء السابع والعشرون . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص200 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تشخص الأبصار في مثل ذلك إلاّ إلى الخليفة إنْ كانت له قابليّة ما يدّعي من مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتسنّم أريكة الحكم. والإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الدعاء، يُثبت أنّه الأحقّ بالتصديّ لذلك المقام، وأنّه الملجأ الذي لابدّ أن يوسّط بين الأرض والسماء . هذا كله، مع أنّ الأمّة لم تقف إلى جانب الإمام عليه السلام، ولم تراعِ حُرمته في النسب، ولاحقّه في الإمامة، بل خذلته، حتّى راح يقول: (ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يُحبّنا) . وليس المراد بذلك الحبّ مجرّد العواطف والدموع والمجاملات، فهؤلاء أهل الكوفة كانوا من أحذق الناس في ذرف دموع التماسيح على أهل البيت عليهم السلام بعنوان الحبّ حتّى كان الإمام عليه السلام يستغيث من حبّهم له، ذلك الحبّ المعلن، المبطّن بالنفاق، والذي انقلب على أبيه الإمام الحسين عليه السلام سيفاً أودى به. فليس الحبّ المطلوب لاَل الرسول، والذي دلّت على لزومه آية المودّة في القربى وأحاديث الرسول المصطفى، هو الفارغ عن كلّ حقّ لهم في الحكم والإدارة، أو الفقه والتشريع وعن كلّ معاني الولاء العمليّ، و الاقتداء و الاتّباع وإن ادعاه المحرّفون، أو حرفوه إلى مثل ذلك، مكتفين لأهل البيت باسم (الحبّ) (36) . . لكن قضيّة الأمّة الإسلامية، واقتصاد البلاد الإسلامية، من القضايا المصيريّة الكبرى، التي لا توازيها الأضرار الصغيرة ولا الأخطاء الخاصّة، بل لابدّ من تجاوز كل الاعتبارات في سبيل إحياء تلك القضايا الكبار . وبعد، فلنعش في رحاب دعاء الاستسقاء :. اللهمّ: اسقنا الغيث، وانشر علينا رحمتك بغيثك المغدق، من السحاب المنساق لنبات أرضك، المونق في جميع الاَفاق، وامنن على عبادك بإيناع الثمرة، وأحْيِ بلادك ببلوغ الزهرة، وأشهد ملائكتك الكرام السفرة بسقي منك نافعٍ، دائم غزره، واسع درره، وابلٍ، سريع، عاجلٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (36) قد تحدّثنا عن هذا التحريف لمؤدّى الحبّ لأهل البيت: والذي تعمّده الأعداء ظلماً، والتزمه العامة جهلاً، في كتابنا: الحسين سماته وسيرته، الفقرة (13) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص201 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تُحيي به ما قد مَات، وتردّ به ما قد فات، وتخرج به ما هو آت، وتوسّع به في الأقوات، سحاباً متراكماً، هنيئاً مريئاً، طبقاً مجلجلاً، غير ملث ودقه ،ولا خلّب برقه . اللهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً، مريعاً ممرعاً، عريضاً واسعاً، غزيراً، تردّ به النهيض، وتجبر به المهيض . اللهمّ: اسقنا سقياً تُسيل منه الظراب، وتملأ منه الجباب، وتفجّر به الأنهار، وتُنبت به الأشجار، وترخّص به الأسعار في جميع الأمصار، وتنعش به البهائم، والخلق، وتكمل لنا به طيّبات الرزق، وتُنبت لنا به الزرع، وتدرّ به الضرع، وتزيدنا به قوّةً إلى قوّتنا . اللهمّ: لا تجعل ظلّه علينا سموماً، ولا تجعل برده علينا حسوماً، ولا تجعل صوبه علينا رجوماً، ولا تجعل ماءه علينا أجاجاً . اللهمّ: صلّ على محمّد وآل محمّد، وارزقنا من بركات السماوات والأرض إنّك على كلّ شي قدير (37) . وهكذا فإن الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء الاستسقاء، لا يحصر اهتمامه بما حوله من الأفراد والشؤون الخاصة، بل يعمّم اهتمامه على كل العباد وكل البلاد، وينظر برقّةٍ ولطف إلى كل قضاياها الطبيعيّة والنفسية والمعاشيّة، وحتّى الجويّة والزراعية وحتّى طلب (القوّة ). إن التأمّل في مضامين هذا الدعاء يفتح آفاقاً من سياسة الإمام السجاد عليه السلام . وهكذا ننتهي من هذا الفصل، وقد وقفنا فيه على أبرز ما امتاز به الإمام زين العابدين عليه السلام من التزام العبادة، والبكاء، والدعاء، ووجدنا كيف أنّ الإمام عليه السلام قد استخدم كلّ ذلك في تمرير خطّته الحكيمة التي اتخذها لتثبيت قاعدة الإمامة الحقّة، وما فيعمله من تعرّض للحاكمين، وتعريض بهم وبفساد تصرّفاتهم ومخالفتهم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 37)الصحيفة السجادية (الدعاء التاسع عشر) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص202 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للشريعة والدين . ومع أنّ الإمام كان يقوم بما يخصّه، ويعدّ من حقّه الشخصي أن يتعبّد، ويبكي، ويدعو، فإننا نرى في أعماله نضالاً سياسيّاً، وتدبيراً حكيماً ضدّ الحكومات . وسنقرأ في الفصل الاَتي، مواقف في مواجهة الحكّام وأعوانهم الظلمة، من دون غطاء أو تقيّة، وهي المواقف الحاسمة التي وقفها الإمام زين العابدين عليه السلام منهم .
|