الفَصلُ الخامِس مَوَاقِف حَاسِمَة للإمَامِ عَلَيهِ السَلاَمُ أوّلاً موقفه من الظلمة . ثانياً موقفه من أعوان الظلمة . ثالثاً موقفه من الحَركات المسلّحة . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص205 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبعد سنين من النضال المرير، الذي قام به الإمام زين العابدين عليه السلام، بالأساليب التي شرحنا صوراً منها في الفصول السابقة، والتي كان تطبيقها والاستفادة منها في تلك الظروف الحرجة لا يقلّ صعوبة عن إشهار السيف، وفائدتها لا تقلّ عن دخول المعارك الضارية . فلقد انتجت نتائجها الهائلة: .فعزّزت موقع الإمام عليه السلام لكونه القائد الإلهي المسؤول عن هذا الدين، وهذه الأمّة، والهادي لها . وتمكّن بالتزامه بالخطط الدقيقة المذكورة من أداء وظائف الإمامة، وتجميع القوى المتبدّدة حول مركز الحقّ، وتأسيس القاعدة لانطلاق الأئمّة من بعده على أسس رصينة محكمة . وعزّزت تلك المواقف الاجتماعية العظيمة، مكانة الإمام عليه السلام في أنظار الأمة، باعتباره سيّداً من أهل البيت عليهم السلام يتمتّع بمكارم الأخلاق وفضائلها، وعالماً بالإسلام من أصفى ينابيعه وروافده، ومحامياً عن الأمّة . وكانت لهذه المواقع، وهذه المكانة، آثارها في تغيير أسلوب العمل السياسي . عند الإمام زين العابدين عليه السلام في الفترة التالية، حيث نجد أن تعامله مع الحكّام والأحداث يختلف عمّا سبق، ويكاد الإمام عليه السلام يُعلن عن المعارضة، ويُبدي التعرّض للحكام . وكان من أبرز مظاهر هذا التعامل هو ما اتّخذه من مواقف حاسمة تجاه الحكّام الظالمين، وتجاه أعوانهم، وتجاه الحركات السياسية التي عاصرته . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص206 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أوّلاً: موقفه من الظالمين: موقفه من يزيد: . فقد اتّخذ الإمام عليه السلام موقفاً حكيماً من يزيد وهو من أعتى طغاة بني اُميّة وأخبثهم، وأبعدهم عن كلّ معاني الدين والإنسانية والمروة وحتّى السياسة فكان موقف الإمام عليه السلام منه فذّاً، فلم يدع له مبرّراً للقضاء عليه، مع انّه واجهه بكل الحقيقة التي لا يتحمّلها الطغاة، بل أجبره على إطلاق سراح الأسرى من آل محمّد، وذلك بما صنعه الإمام عليه السلام من أجواء لمثل هذا الإجراء . فرجع الإمام عليه السلام إلى المدينة ليبدأ عمله طبق التخطيط الرائع الذي شرحنا صوراً منه في هذه البحوث . وبعد أن قضى الإمام السجّاد عليه السلام عمراً في تطبيق خططه القويمة في معارضة الدسائس التي كان يضعها الحكّام من بني أميّة ضدّ الدين وأهله، وفضحها، وحاول ان يبني ما كانوا يهدمونه، ويهدم ما كانوا يبنونه، وصدّ ما يحاولونه . وبعد تعزيز المواقع والمكانة لوجوده الشريف بين الأمة، سوأ مَن كان من أتباعه أو من عامّة الناس، لم يكن للحكام أن يتعرَضوا للإمام عليه السلام من دون أن يكشفوا عن وجوههم أغطية التزوير، وأقنعة الدجل والكفر والنفاق . فالإمام الذي ذاع صيته في الاَفاق بالكرامة، والإمامة، والسيادة والشرف، والتقى والعلم والحلم والعبادة والزهد، أضف إلى ذلك حنانه وعطفه على الأمّة ورعايته لشؤونها، قد دخل أعماق القلوب، وأصبح له من الاحترام والتقدير ما لا يكون من مصلحة الحكّام التعرّض له بأذى . كما يبدو أنّ الإمام عليه السلام بعد أن استنفذَ أغراضه من خططه، وعلم بأنّ الدولة الأمويّة وحكّامها الحاقدين على الإسلام ورجاله وخاصة من أهل البيت عليهم السلام، سوف يقضون على حياته إن عاجلاً أو آجلاً، إن خفيةً أو علناً، بدأ العمل الهجومي عليهم . فكان يُفرغ ما بقي في كنانته من السهام على هيكل الحكم الامويّ الفاسد، والذي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص207 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بدأ التنازل من كثير من المواقع الاستراتيجية التي كان يحتلّها، فقام الإمام عليه السلام بالإشهار بهم، من خلال أعمال أصدق ما يُقال فيها أنها الاستفزاز والتحرّش السياسيّ . ومواقفه من عبد الملك بن مروان: . قد رأينا أنّ الأمويين بكلّ مرافق أجهزتهم، كانوا يرون من الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام خيراً لا شرّ فيه . وقد كانت علاقة مروان بن الحكم الأمويّ، بالخصوص، طيّبة مع الإمام عليه السلام لما أبداه الإمام تجاهه من رعايةٍ، أيام وقعة الحرّة، وكان مروان شاكراً للإمام عليه السلام هذه المكرمة . وطبيعيّ أن يعرف عبد الملك بن مروان، للإمام زين العابدين عليه السلام هذه اليد والمكرمة . ولذلك نراه، لمّا ولي الخلافة، يكتب إلى واليه على المدينة الحجّاج الثقفي السفَاك يقول: أما بعد: فانظر دماء بني عبد المطلب فاحتقنها واجتنبها، فإني رأيتُ آل أبي سفيان بن حرب [ لما قتلوا الحسين ] لمّا ولغوا فيها (نزع الله ملكهم) لم يلبثوا إلاّ قليلاً . والسلام (38) . لكن الإمام عليه السلام لم يمرّ بهذه الرسالة بشكل طبيعيّ، بل بادر إلى إرسال كتاب إلى عبد الملك، يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم . ...أما بعد . فإنّك كتبتَ يوم كذا وكذا، من ساعة كذا وكذا، من شهر كذا وكذا، بكذا وكذا . وإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنبأني وأخبرني، وأن الله قد شكر لك ذلك وثبّت ملكك، وزاد فيه بُرهة) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (38) المحاسن والمساوي للبيهقي (ص 78) وفي طبعة (55) كشف الغمة للاربلي (2: 112) مروج الذهب (3: 179) والاختصاص (ص 314) وبحار الأنوار (46: 28 و 119) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص208 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وطوى الكتاب، وختمه، وأرسل به مع غلام له على بعيره، وأمره أن يوصله إلى عبد الملك ساعة يُقدم عليه (39) . إن اُسلوب هذا الكتاب، ومحتواه، كلاهما مثار للاستفزاز: . فأولاً: يحاول الإمام عليه السلام أن يعرّف الحاكم باطّلاعه الكامل على تاريخ كتابته للرسالة، بدقة، حتّى اليوم والساعة . فهو يوحي إليه علم الإمام بما يجري داخل القصر الملكي . وهذا أمر لا يمر به الطواغيت بسهولة . وثانياً: يصرح الإمام عليه السلام باتصاله المباشر بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه الذي أخبره وأنبأه بالرسالة ومحتواها . وهذا أيضاً يوحي أنّ الإمام عليه السلام مع أنّه مرتبط بالرسول نسبيّاً، فهو مرتبط به روحياً، ويأخذ علمه ومعارفه منه مباشرةً ومثل هذا الإدعاء لا يتحملّه الخليفة، بل يثقل عليه، لأنّ ادعاء ذلك يعني كون الإمام عليه السلام أوثق صلة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، من هذا الذي يدّعي خلافته. ! والمقطع الأخير من الكتاب، حيث يخبر الإمام عليه السلام عن أن فعل عبد الملك وتوصيته بآل عبد المطلب (مشكور عند الله) وأنّه ثبّت بذلك ملكه، وزيد فيه بُرهة، ليس قطعاً أسلوب دعاء وثناء وتملّق، وإنّما هو تعبير عن قبول الصنيع، وردّ الجميل، والعطف عليه بزيادة بُرهة فقط في الملك ! لا الخلافة . مع أنّ صدور مثل هذا الخبر من الإمام عليه السلام إلى عبد الملك الخليفة فيه نوع من التعالي والفوقيّة الملموسة، التي لا يصبر عليها مَنْ هو في موقع القدرة، فضلاً عن الطغاة أمثال عبد الملك . والحاصل أنّ هذا الكتاب الصادر من الإمام عليه السلام لم يكن يصدر، إذا أراد الإمام عليه السلام أن يجتنب التعرض بالحاكم، وخاصة بهذا الأسلوب المثير، ومع أنّ الرسالة التي كتبها عبد الملك لم تكن مرسلة إلى الإمام عليه السلام . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 39) كشف الغمة (2: 112) وبحار الأنوار (46: 29) ورواه في عوالم العلوم (ص 42) عن الخرائج للقطب الراوندي . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص209 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكان عبد الملك واقفاً على بعض ما للإمام عليه السلام من موقعيّة ومكانة، لوجوده فترة كبيرة في المدينة إلى جوار الإمام عليه السلام وعلمه بأوضاعه . مضافاً إلى أنّ الإمام عليه السلام قد تحدّث معه بلغة الأرقام مما لا يمكنه دفعه أو إنكاره، فلذلك كلّه تظاهر عبد الملك بفرحه بهذا الكتاب . فقد جاء في ذيل ذلك الحديث أنّ عبد الملك لما نظر في تاريخ الكتاب وجده موافقاً لتلك الساعة التي كتب فيها الرسالة إلى الحَجّاج، فلم يشكّ في صدق عليّ بن الحسين، وفرح فرحاً شديداً وبعث إلى عليّ بن الحسين وَفْر راحلته دراهم وثياباً، لِما سرّه من الكتاب (40) . ثمَ الذي يُشير إليه الحديث التالي أنّ الإمام عليه السلام قاطعَ النظام، مقاطعة سلبيّة، توحي بعدم الاعتراف والاعتناء برأس الحكومة، وهو شخص الخليفة: . فقد روي أنّ عبد الملك بن مروان كان يطوف بالبيت، وعليّ بن الحسين عليه السلام يطوف أمامه، ولا يلتفت إليه . فقال عبد الملك: مَنْ الذي يطوف بين أيدينا ? ولا يلتفت إلينا ? . فقيل له: هذا عليّ بن الحسين . فجلس مكانه، وقال: ردّوه إليّ، فردّوه، فقال له: يا عليّ بن الحسين إنّي لستُ قاتل أبيك، فما يمنعك من المسير إليّ . فقال عليه السلام: إنّ قاتل أبي أفسد بما فعله دنياه عليه، وأفسد أبي عليه آخرته، فإنْ أحببت أن تكون هو، فكنْ (41) . إن تحدّي الإمام عليه السلام الاستفزازي، يتبلور في نقاط: فأولاً، يمشي بين يدي الخليفة متنكراً لوجوده، لا يأبَهُ به، وفي مرأىً ومسمع من الحجيج الطائفين، ولابدّ أنّه كان في الموسم، بحيث أثار الخليفة، وبعثه على السؤال عنه: مَنْ هذا الذي يجرؤ على تحدّي احترام الخليفة هكذا . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (40) كشف الغمة (2: 112) . (41) بحار الأنوار (46: 120) وإثبات الهداة، للحر العاملي (3: 15) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص210 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولمّا سمع اسم الإمام (عليّ بن الحسين) أجلسه (الاسمُ) في مكانه، وهذا يعني أنّه قطع طوافه، لعظم وقع النبأ عليه، وقطع الطواف على الإمام بردّه إليه . وثانياً، عتاب عبد الملك للإمام عليه السلام لعدم السير إليه، يكشف عن أنّ مقاطعة الإمام للخليفة والمسير إليه ولقائه، اتخذ شكلاً أكبر من مجرّد العزلة، بل دلّ على عدم الرغبة، أو الإعراض، حتّى أصبح الخليفة يحاسب عليه . وثالثاً، إنّ قول عبد الملك: (إنّي لست قاتل أبيك) كما يحتوي على التبرُؤ من الدماء المراقة على أرض المعركة المحتدمة بين أهل البيت عليهم السلام والأمويين، فإنّه في نفس الوقت تهديد، بهزّ العصا في وجه الإمام زين العابدين عليه السلام، وتلويح له بإمكانيّة كلّ شي: حتّى القتل . ورابعاً، ولذلك كان جواب الإمام حاسماً، وقوياً، وشجاعاً، إذ حدّد النتيجة في تلك المعارك السابقة، وأثبت فيها انتصار أهل البيت الذين ربحوا النتيجة، وخسران قتلتهم الأمويين ومع ذلك أبدى استعداده، لأن يقف نفس الموقف المشرّف الذي وقفه أبوه، إذا كان عبد الملك بصدد الوقوف على نفس الموقع الظالم الذي وقف عليه قاتل أبيه . إنّه استعداد، وطلب المبارزة والقتال، وتحد سافر لسلطة خليفة لا يمنعه شي من الإقدام على الفتك والقتل والظلم والإبادة . وهذا الموقف، وحده، كافٍ للدلالة على أن الإمام عليه السلام لم يكن طول عمره ذلك المسالم، الموادع، المنعزل عن الدنيا وسلطانها، والمشغول بالعبادة، والصلاة والدعاء والبكاء، فقط . ويبدو أنّ عبد الملك رأى أنّ الإمام عليه السلام بمواقفه الاستفزازية تلك، يبرز في مقام أبيه وجدّه، ويتزعّم الحركة الشيعية، وقد ركّز موقعيته كإمام، بعد تلك الجهود المضنية، واستعاد جمع القوى المؤمنة حوله، فأصبح له من القوّة والقدرة، أن يقف في وجه الخليفة، فلذلك تصدّى للإمام عليه السلام وحاول أن يفرّغ يد الإمام عليه السلام من بعض. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص211 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إثباتات الإمامة، كوجود مخلّفات النبوّة عند الإمام (42)، ومنها سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: .فلمّا بلغ عبد الملك أنّ ذلك السيف موجود عند الإمام زين العابدين عليه السلام بعث إليه يستوهبه منه . فأبى الإمام عليه السلام . فكتب إليه عبد الملك، يهدّده أن يقطع رزقه من بيت المال . فأجابه الإمام عليه السلام :. أما بعد: . فإنّ الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره: (إنّ الله لا يحبّ كل خوّان كفور) .[ سورة الحج (22) الاَية (38) ]. فانظر أيّنا أولى بهذه الاَية (43) . . إنّ طلب عبد الملك، للسيف من الإمام عليه السلام بهذه الشدّة إلى حدّ التهديد، ليس ناشئاً من مجرّد الرغبة، وإلاّ فعبد الملك هو ذا مُعرض عن الاحتفاء بأقدس الأشياء المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم و أعزَ من سيف الرسول، وهاهم أهله يعرَضون من قبله بالتهديد بقطع الرزق . فإنّ موقف الإمام عليه السلام بإبائه إعطائه السيف، إذا كانت الأمور في حالتها الطبيعيّة، لا يبرره شيء . إلاّ أن الوضع ليس طبيعياً قطعاً . وتشير بعض الأحاديث إلى بلوغ حدّة التوتّر بين الإمام وبين النظام إلى حدّ أنّ الحجّاج الثقفيّ، وهو من أعتى ولاة الأمويين، يكتب إلى عبد الملك بما نصه: (إن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 42) إقرأ عن سلاح رسول الله الموجود عند الإمام حديث ابي خالد الكابلي في المناقب لابن شهرآشوب (4: 148) . (43) عوالم العلوم (ص 117) عن المحاسن للبرقي، والمناقب لابن شهرآشوب (4: 302) وانظر بحار الأنوار (46: 95) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص212 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أردتَ أن يثبت ملكك فاقتل عليّ بن الحسين) (44) . فلو كان الإمام زين العابدين عليه السلام كما هو المعروف زاهداً في السياسة، فما معنى ربط الحجّاج الذي لا يرتاب في دهائه بين الإمام وبين الملك . فكلام الحجّاج واضح الدلالة على أنّ وجود الإمام عليه السلام أصبح يشكّل خطراً عظيماً على الملك، يزعزعه ويزيله، فهو لا يثبت إلاّ بقتل الإمام . وأما عبد الملك، فقد حاول أن يحدّد الإمام عليه السلام، كما يقوله الحديث التالي: . قال الزهري: شهدتُ عليّ بن الحسين، يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام، فأثقله حديداً، ووكّل به حفاظاً عدّة . فاستأذنتُهم في التسليم عليه، والتوديع له، فأذنوا لي، فدخلتُ عليه، وهو في قبّة، والأقياد في رجليه، والغلّ في يديه، فبكيتُ، وقلتُ: وددتُ أني مكانك، وأنت سالم . فقال: يا زهريّ، أوَ تظنّ هذا مما ترى عليَ وفي عنقي يكرثني، أما لو شئتُ ما كانَ، فإنّه وإن بلغ فيك وفي أمثالك ليذكّرني عذاب الله . ثمَ أخرج يديه من الغلّ و رجليه من القيد، وقال: لاجزتُ معهم على ذا منزلتين من المدينة . قال الزهريّ: فما لبثتُ إلاّ أربع ليالٍ، حتّى قدم الموكّلون به، يظنّون أنّه بالمدينة، فما وجدوه . فكنتُ فيمن سألهم عنه ? . فقال لي بعضهم: إنّا نراه متبوعاً، إنّه لنازل، ونحن حوله لا ننام، نرصده، إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلاّ حديده . قال الزهريّ: فقدمتُ بعد ذلك على عبد الملك بن مروان، فسألني عن علي بن الحسين ? فأخبرته، فقال لي: إنّه قد جاءني في يوم فقدوه الأعوان، فدخلَ عليَ فقال: ما أنا وأنت ? . فقلت: أقم عندي . فقال: لا أحبّ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (44) بحار الأنوار (ج 46 ص 28 ح 19) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص213 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم خرج، فو الله، لقد امتلأ ثوبي منه خيفةً . قال الزهري: فقلت: يا أمير المؤمنين ليس عليّ بن الحسين حيث تظنّ، إنّه مشغول بنفسه . فقال: حبّذا شغل مثله، فنعم ما شغل به (45) . إنّ هذا الحديث على طوله فيه من الدلالات على أن وضع الإمام عليه السلام السياسيّ أصبح بمستوى يُلجىء الدولة إلى اعتقال الإمام وتقييده وتكبيله الغلّ، وتطويقه بالحرس . فهل يعامل المنعزل عن السياسة والزاهد فيها، بهذا الشكل حتّى لو فرضنا أنّ الضرورة اقتضت جلبه إلى العاصمة ? . إنّ أسلوب الجلب هذا فيه الدلالة القويّة على أن تحرّك الإمام عليه السلام كان على مستوى بالغ الخطورة على الدولة . ثم ماذا كان يظنّ الخليفة في الإمام حتّى التجأ إلى فعل كلّ هذا ضدّه، لو لم يتوجّس منه خيفة التحرّك السياسي . ويبدو الإمام عليه السلام مصمّماً على التزامه، فقد أجاب الخليفة بما أحبّ هو، لا ما أراد الخليفة . وفي التجاء الإمام عليه السلام إلى إعمال قدراته الملهمة من الله كإمام للأمة، ووليّ من أولياء الله المخلصين، فأظهر للملك وللزهري إعجازه الخارق، تأكيد على ما نريد إثباته وهو أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام صرّح بأنّه يقوم بمهمّة الإمامة الإلهيّة، ويثبتُ للملك وأعوانه ولكل من اطّلع على مجاري الأحداث، أنّه الإمام الحقّ، والأولى بمقام الحكم الذي يدّعيه عبد الملك . وهذا هو أظهر أشكال النضال السياسيّ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (45) حلية الأولياء (3: 135) تاريخ دمشق (الحديث 42) مختصر ابن منظور (17: 234) ورواه ابن شهرآشوب في المناقب (4: 145) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص214 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وموقفه من هشام بن عبد الملك: . وموقف الإمام زين العابدين عليه السلام من هشام، من أشهر المواقف بين المسلمين، وقد تناقله الأعلام في صُحفهم وكتبهم، وأرسلوه إرسال المسلمات، وفيه من الدلالات الواضحة على قيام الإمام عليه السلام بالاستفزاز السياسيّ، مالا يخفى على أحد . والحديثُ: أنّ هشام بن عبد الملك حجّ في خلافة أبيه، فطاف بالبيت، وأراد أن يستلم الحَجَر الأسود، فلم يقدر عليه من الزحام، فنُصِبَ له مِنْبَر فجلس عليه . فبينا هو كذلك إذ أقبل عليّ بن حسين عليه السلام، عليه إزار وردأ، أحسن لناس وجهاً، وأطيبهم رائحةً، وبين عينيه سجّادة، كأنّها ركبة بعير . فجعل يطوف بالبيت، فإذا هو بلغ إلى موضع الحَجَر تنحّى الناس له عنه، حتّى يستلمه، هيبةً له وإجلالاً . فقال رجل من أهل الشام لهشامٍ: مَنْ هذا الذي قد هابه الناسُ هذه الهيبة، فأفرجوا له عن الحَجَر ? . فقال هشام: لا أعرفه , لئلاّ يرغبَ فيه أهل الشام !. فقال الفرزدقُ وكان حاضراً: أنا أعرفه :. هذا الذي تعرفُ البطحــــــــاءُ وَطْأتَـــــــهُ *** والبيتُ يعْرِفُــــــهُ والحـــــــل والحَـــــــرَمُ هذا ابنُ خَيْر عــبــــــــادِ الله كُلــــــــهِــــمُ *** هذا التــــقي النـــــقي الطاهِــــــــــرُ العَلَمُ هذا ابن فاطمةٍ إن كُنــــــْتَ جاهِلَـــــــــــهُ *** بِجَدهِ أنبـــــياءُ الله قـــــد خُـــــــــــــــــتِمُوْا يكادُ يُمْسِكُهُ عــِـــــــرْفانَ راحَتِـــــــــــــــهِ *** ركنُ الحطيمِ إذا ما جـــــــــــاء يستلــــــمُ من معشرٍ حُبهم دِيْــــــن وبُغْضُهُــــــــــــمُ *** كُفْر وقُرْبُهُمُ منجــــــى ومُعْـــــتَصــــــــــَمُ إن عُدَ أهْلُ التُقى كانــــــــــوا أئمّتَهُــــــــمْ *** أوقيل مَنْ خَــــيْـــــرُ أهل الأرض قيل هُمُ هُمُ الغُيُوثُ إذا ما أزمــــة أزمَـــــــــــــــتْ *** والاُسْدُ اُسْدُ الشَرى والبأسُ محتدِمُ (46) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 49) هذه الأبيات هي التي اختارها الاستاذ الفاضل المحقق الدكتور السيد جعفر الشهيدي، من مجموع ما نسب إلى الفرزدق في مدح الإمام السجادعليه السلام بعنوان(الميميّة) بعد أنْ أشبعها بحثاً وتحقيقاً في كتابه القيّم(زندكاني عليّ بن الحسين عليه السلام )(الصفحات112-133) وقد فصّل فيه الحديث عمّا وقع من الاختلاف في ما ورد من أبيات على وزن الميميّة في التراث العربي، من حيث قائلها، والممدوح الذي قيلتْ في حقّه، وفي عدد أبيات ما قيل في كلّ مناسبة، وفي خصوص ما نُسِبَ إلى الفرزدق في مدح الإمام عليه السلام في مقام الحجر الأسود، من حيث عدد الأبيات، ودقّق في مضمون الأبيات المنسوبة، فتوصّل إلى أنّ الأنسب بالمقام- زماناً و مكاناً و وضعاً - هو هذه الأبيات السبعة التي اختارها، وأنّها الأنسب بالشاعر وبالمناسبة لفظاً وبلاغة، ومعنى ودلالةً.. وأبان الوجوه التي استبعد بها الأبيات الاُخر، بتفصيل وافٍ، ومما يحسن ترجمته من كلامه، بعد إيراده البحث المذكور، قوله: إن كان الفرزدق قد أنشأ هذه الأبيات في حقّ الإمام علي بن الحسين، فقد أدّى جُزءاً ضئيلاً من دَيْنه، وخَفّفَ شيئاً من أثقال جرائمه التي يحملها على عاتقه، حيث يعجّ ديوان هذا الشاعر بمدائح معاوية، وعبد الملك بن مروان، وابنه الوليد، ويزيد بن عبد الملك، وعمّالهم مثل: الحجاج بن يوسف، ويُعثر في ديوانه على أكثر من عشرة قصائد في مديح هشام وابنه بالخصوص.إنماكتبه اليافعي-في حقّ الفرزدق- يبدو وافياً جدّاً، حيث قال: (وتنْسَبُ إلى الفرزدق مكرمة يُرتجى له بها الرحمةُ في دار الاَخرة) وأورد حديث الميميّة، في مرآة الجنان (ج1ص239) طبع مؤسسة الاعلمي بيروت - عن طبعة حيدرآباد الهند 1337. وإليك بعض مصادر هذه القصيدة: تاريخ دمشق (الحديث133) مختصره (17:6-247) ديوان الفرزدق (2:178) الأغاني (15:327) و (15:261ثقافة) وصفوة الصفوة (2:8-99) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي(1:153) وأمالي المرتضى(621) وانظر الإمام زين العابدين عليه السلام للمقرم (ص385)ومابعدها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص215 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنّ الموقف لم يكن بحيث يخفى شي من أبعاده على الإمام عليه السلام، ولم يكن هو عليه السلام بحيث يقوم بما قام متجاهلاً عواقبه وآثاره، فلابدّ لمن يحضر المطاف أن ينتبه لحضور مثل هشام وليّ العهد على المِنْبَر، وحوله الجلاوزة من أهل الشام . لكنّ الإمام زين العابدين عليه السلام تجاهل وجود هشام، قاصداً إلى عواقب إقدامه الجرىء ذلك: . فهو يسير في إكمال أشواط الطواف، متزيياً بزيّ الأنبياء، والناس يتنسّمون منه ريح النبّوة وعبق الرسالة، وهذا واحد من آثار نضال السنوات الطويلة العجاف الشداد، التي كابد فيها الإمام أنواع الصعاب، ليفتح أمام الناس طريق معرفة الإمام والوصول إلى الإمامة، بينما كانت الخلافة في غفلة عن هذا كلّه، ومنهمكة في عتوّها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص216 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وظلمها ولهوها وبذخها وترفها وطغيانها، بعيداً عن الناس . والناسُ، أولئك الذين تجاهلوا ابن الخليفة، ولم يأبهوا به، ولم يفتحوا له طريقاً إلى لمس الحجر الأسود، هاهم يقفون سماطين، هيبةً للإمام زين العابدين عليه السلام، يُفْرِجون له عن الحَجَر، ليستلمه !. ومثل هذا العمل يخدش غرور هشام الذي يمثّل الخلافة، ويغيض المنتمين إلى الدولة، ولذلك تجاهل هشام شخص الإمام عليه السلام . ومما يدلّ على حدّة تأثير الموقف فيهم رواية المدائني , عن كيسان , عن الهيثم أن عبد الملك قال للفرزدق: أوَ رافضي أنت يا فرزدق ? !. فقال: إن كان حبّ أهل البيت رفضاً، فنعم (47) . والشاعر الشعبيّ الفرزدق الذي يعيش بين العامة، استصعَبَ ذلك التجاهل، وانبرى بإنشاد الميمية العصماء، التي طار صيتها مع الحُجّاج عندما عادوا إلى مختلف البقاع . إنّ أيّ حكم سياسيّ لا يتحمّل مثل هذه المواقف التي تحطّ من كرامة رجال الدولة، وخاصّةً رجال البلاط، وبهذه الصورة . ولذلك، فإنّ الأمويين سجنوا الفرزدق على هذا الشعر الذي اعتبروه إهانةً للنظام . فكيف لا يكون عمل الإمام زين العابدين عليه السلام استفزازاً سياسيّاً ? !. وممّا يؤكّد على استهداف الإمام عليه السلام للنظام في هذا التصرّف هو أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام سارع إلى الاتصال بالفرزدق في السجن، ووصله بشي رمزيّ من المال، مكافأة لموقفه السياسي ذلك . ولا ريب أنّ في هذا أيضاً إعلاناً لدعم المعارضة المعلنة من قبل الفرزدق، لا يمكن إغفاله عن سجلّ الأعمال السياسيّة التي قام بها الإمام عليه السلام . وموقفه من عمر بن عبد العزيز: . كان عمر بن عبد العزيز، قبل تولّيه الخلافة، يسكن المدينة، يَرْفُلُ أثوابَ التَرَف، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (47) المحاسن والمساوي للبيهقي (ص 22 -213) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص217 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باعتباره من العائلة المالكة . وكان من ترفه انّه يلبس الثوب بأربعمائة دينار، ويقول: (ما أخْشَنَهُ ) (48) . وقال بعضهم: كنّا نعطي الغسّال الدراهم الكثيرة حتّى يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز، من كثرة الطيب الذي فيها (49) . قال عبد الله بن عطاء التميمي: كنت مع علي بن الحسين في المسجد فمرّ عمر بن العزيز، وعليه نعلان شراكهما فضَة، وكان من أمجن الناس، وهو شاب ...(50) . ولما كان يتمتع به من ذكاء وتدبير، كان يُراقب أعمال الإمام زين العابدين عليه السلام عن كَثَب، فيجد أنّه عليه السلام قد هيّأ بجهاده وصبره الأرضيّة الصالحة لانقلابٍ اجتماعي جذري على الحكم الأمويّ المروانيّ . وكان الإمام يتوسّم في عُمَرَ التطلّع إلى الخلافة، فقد قال عليه السلام لعبد الله بن عطاء ذيل حديثه السابق: أترى هذا المترَف -مُشيراً إلى عمر - إنّه لن يموت حتّى يلي الناس، فلا يلبث إلاّ يسيراً حتّى يموت، فإذا مات لعنه أهلُ السماء، واستغفر له أهلُ الأرض (51) . ففي هذا الحديث :. 1-يشاهد توسّم الإمام عليه السلام في عُمَرَ أنّه يتطلّع إلى الحكم والولاية، رغم بعده عنها، واشتغاله في المدينة بما لا يمتّ إلى ذلك . وإعلانه عن هذا التوسّم يدل بوضوح على أنّ الإمام كان يفكّر في شؤون الحكومة لا حاضرها بل ومستقبلها، وأنّه كان مفتوحاً أمامه بوضوح . 2-إنّ الإمام عليه السلام كان يعرف من ذكاء عمر ودهائه أنّه سوف يُنافق في ولايته، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (48) طبقات ابن سعد (5: 246) . (49) الأغاني (9 262) . (50) مناقب ابن شهرآشوب (4 :155) . (51) بصائر الدرجات (ص 45) ودلائل الإمامة للطبري (ص 88) وبحار الأنوار (46: 23 و 327) وإثبات الهداة (3: 12) وقد روى عاصم بن حُميد الحنّاط في أصله (ص 23) قريباً من هذا النصّ عن عبد الله بن عطاء قال: كنت آخذاً بيد أبي جعفر , وعمر بن عبد العزيز عليه ثوبان معصفران، قال: فقال أبو جعفر: أما انّه سيلي ثم يموت، فيبكي عليه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء، ودلالته على المعاني التي ذكرناها أوضح ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 218 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بما ينطلي على الناس أنّه صالح و (عادل) في الحكم، بينما هو، قد احتال في ضرب الحقّ وتثبيت الباطل مدّةً أطول، وقد كان من شأن الدولة الأموية أن تزول قبل ذلك , لولا تصرّفاته المريبة حيث أن آثار جهود الإمام زين العابدين عليه السلام ونضاله ضدّ الطاغوت الأمويّ، كانت قد بدت ظاهرةً، فكان الجوّ السياسيّ على أثر انتشار الوعي مشرفاً على الانفتاح، بحيث لم يطق التعنّت الأمويّ على الاستمرار في عتوّه، وإعلان فساده، وانتهاكه للحرمات كسَبّ الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر، على رؤوس الأشهاد، وصَدّ الأمّة عن المعارف والثقافة الإسلامية الصحيحة بمنع الحديث والسنّة، والأدهى من كلّ ذلك استمرار الضغط على كبار المسلمين وسادتهم كعلماء أهل البيت عليهم السلام بالتقتيل والتشريد والسجن، وكعلماء الصحابة و مؤمنيهم بالإهانة والمطاردة والقتل . فكان عمر بن عبد العزيز، وهو الذي راقب الأوضاع عن كَثَبٍ ,يعرف كلّ هذه المفارقات في حكم آبائه وسلفه، فلمّا استولى على كرسيّ الخلافة بدأ بتبديل تلك السياسة الخاطئة . فعمد إلى رفع ذلك السبّ عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، الذي كان وصمة عار على جبين الحكم الأمويّ، و لطخة سوداء في صفحات تاريخ المسلمين لا تُمحى مدى الدهر، إذ يُسبّ أحد الخلفاء، ابن عمّ رسول الله وصهره، وأحد كبار الصحابة، على منابرهم مدّة مديدة، بكلّ صلافةٍ وجُرْأةٍ (52) . وقد كان عمر نفسه ممن يلعن عليّاً قبل تولّيه السلطة، حينما كان يتعلّم في المدينة (53) . ويمكن التوجه إ لى بعض سياسات عمر في هذا المجال من خلال ما روي من أمره بجلد من سب معاوية (54) مع أن من غير المتصور أن يكون عمر جاهلا بما جناه معاوية على هذا الدين من مآس وإجرام بدءا بمحاربة أمير المؤمنين عليه السلام وانتهاءا بتنصيبه ابنه يزيد على رقاب المسلمين بالولاية والحكم . ثم إنّ سبّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لم يؤدّ إلاّ إلى النتائج المضادّة لأهداف بني اُميّة، مهما تطاول . وقد تنبّه العقلاء إلى ذلك، وجاء نموذج من هذا في ما روي عن عامر بن عبد الله بن الزبير وكان من عقلاء قريش سمع ابناً له ينتقص علي بن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( 52) لاحظ الكشكول في ما جرى على آل الرسول (ص 156) . ( 53) الكامل في التاريخ لابن الأثير (5 :42) . (54) انظر الاستيعاب لابن عبد البر القرطبي (3 :1422 ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص219 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبي طالب عليه السلام، فقال له: لا تنتقص عليّاً، فإنّ الدينَ لم يَبْنِ شيئاً فاستطاعت الدنيا أنْ تهدمَه، وإنّ الدنيا لم تبْنِ شيئاً إلاّ هدمه الدين !. يابنيّ، إنّ بني اُميّة لهجوا بسبّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مجالسهم ولعنوه على منابرهم، فإنّما يأخذون- والله - بضَبْعَيْه إلى السماء مدّاً، وإنّهم لهجوا بتقريظ ذويهم وأوائلهم من قومهم فكأنّما يكشفون منهم عن أنتن من بطون الجيَف، فأنهاك عن سبّه (54). ثم رفع عُمَر بن عبد العزيز المنع عن نشر الحديث والسنّة، فعمّم أمراً بكتابة الحديث وتدوين العلم، وسجّل باسمه هذه المأثرة التي لا يزال كثير من المصنفين يمدحونه بها !. إنّ عمر بادر إلى هذه الأعمال وأمثالها، لتلافي أمر انهدام الدولة الأموية، وقبل أن ينسحب البساط من تحته وتحت قبيلته . وأخطر ما في عمله أنّه أخّر نتائج الجهود الجبّارة التي قام بها الإمام زين العابدين عليه السلام إلى فترة أبعد، لما فتحه أمام الناس من نوافذ للأمل بالإصلاح، فتقاعسوا عن متابعة الأهداف التي خطَط لها الإمام عليه السلام، لأنهم علَقوا آمالاً طوالاً عراضاً على عمر، وتظاهره بالصلاح، بل عدّوه مجدّداً للإسلام في بداية القرن الثاني، وكالوا له المدح والثناء، وكَسَبَ وُدَ كثير من الناس، حتّى أتبعوه بالاستغفار بعد هلاكه . بينما هو، لو كان يريد الخير للأمّة لردّ الأمر إلى أهله، والحقّ إلى نصابه، ولأصلح أهمّ ما أفسده بنو أمية والخلفاء من قبله، وهو إرجاع الأمر إلى أهل البيت عليهم السلام الذين هم أولى بالأمر منه . قال السيّد المقرّم: ولو كان ابن عبد العزيز صادقاً ... لردّ الخلافةَ إلى أهلها، وهل ظُلامة أحدٍ أكبرُ من ظلامة أهل البيت عليهم السلام في عدم إرجاع الحقّ إليهم ? وتعريف الأمّة أنهم الأولى ممّن تسنّم منبر النبوّة بغير رضاً من الله ولا من رسوله ? (55) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (54)الأمالي للطوسي ط البعثة ص 588 رقم 1217 المجلس (25) . (55) الإمام زين العابدين عليه السلام (ص 65) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص220 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولكنّه لم يفعل ايّ شيّ في هذا المجال . ولو كان محبّاً للعلم، وحفظه من الدروس، لما اكتفى برفع المنع من تدوينه، بل لتصدّى لتلك المجموعة التي دأبَ الخلفاء وخاصة معاوية على اختلاقها ووضعها ونشرها وتشويه الحقّ بها، وكان من السهل وقوف عُمَرَ عليها فجمعها وأبادها، أو كشفها وأعلن عن زيفها ولأمكنه كذلك السعي لفسح المجال أمام تلك المجموعة الممنوع نقلها وتداولها من الحديث والعلم، والتي كانت تحتوي على فضائل علي وآله عليهم السلام، فنشرها وأفصح عنها وأذاعها . ولكن تلك الأحاديث لو نشرت لما بقي لدولة بني أمية ذكر . فهو لم يفعل شيئاً من هذا، وإنّما اكتفى بتصرّفاتٍ تغرّ الناس وتقنعهم بأنّه عادل، يحبّ العلم، ويحافظ على الإسلام، كي لا تتعمّق نقمة الناس عليه وعلى الخلافة الأموية، فتنقلب عليه الأمة . ومهما يكن، فإنّ تعرّض الإمام زين العابدين عليه السلام لعمر بن عبد العزيز، في ذلك الوقت، وهو من العائلة المالكة، ويتطلّع إلى الخلافة، وهو على ما كان عليه من الترف والبذخ اللذين يدّلان على روح الطاغوت في وجوده . إنّ تعرّض الإمام له يدّل على نوع من الاقتحام السياسي، وهو موقف خطر يقفه الإمام، بلا ريب، يستتبع المؤاخذة من الحكّام الظلمة . ولكن الإمام عليه السلام كان يقتطف ثمار خطّته السياسيّة، فلا يبالي بما سيقع عليه من جراء هذا الإعلان . ولقد أعلن، فعلاً تصدّيه لمثل ذلك في ما رواه حفيده جعفر الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً) [ سورة مريم: 98 ] قال: هم بنو اُمية، و يوشك أن لا يحسّ منهم أحد ولا يُخشى ... ما أسرعه سمعتُ علي بن الحسين عليه السلام يقول: إنه قد رأى أسبابه (56) . نعم، رأى الإمام السجّاد عليه السلام تلك الأسباب التي كانت من صنع سياسته الحكيمة . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (56) مناقب شهرآشوب (3 :276) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص221 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثانياً: موقفه من أعوان الظلمة: لقد شدّد الإسلام النكير على إعانة الظالمين، واعتبره ظلماً وتعديّاً وتجاوزاً للحدود، حتّى عُدّ في بعض النصوص من الكبائر التي تُوعدَ عليها بالنار . ففي رواية معايش العباد التي ذكر فيها وجوه الاكتساب وأحكامها، قال الصادق عليه السلام . : وأما وجه الحرام من الولاية: فولاية الوالي الجائر، وولاية ولاته، الرئيس منهم، وأتباع الوالي، فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم ،... لأنّ كلّ شي من جهة المعونة لهم معصية، كبيرة من الكبائر، وذلك: أنّ في ولاية الوالي الجائر درس الحقّ كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب، وقتل الأنبياء والمؤمنين، وهدم المساجد، وتبديل سنّة الله وشرائعه . فلذلك حرم العمل معهم، ومعونتهم، والكسب معهم (57) . ومما لا يخفى على أحد: أنّ الجائرين لم يصلوا إلى مآربهم، لو لم يجدوا أعوانا على ما يقومون به من مظالم ومآثم . وقد عبَر الإمام عليه السلام عن ذلك لمن راح يذرف الدموع على ما يجري على أهل البيت من المصائب والظلم، ما معناه: أنّ المسؤول عن ذلك ليسوا هم الظالمين فقط، بل مَنْ توسّط في إيصال الظلم وتمكين الظلمة، وتمهيد الأمر لهم، كلهم مشاركون في الجريمة . ولذلك أيضاً ورد اللعن على (مَنْ لاقَ لهم دواة، أو قطّ لهم قلماً، أو خاط لهم ثوباً، أو ناولهم عصاً) . مع أن هذه الأدوات لا تباشر الظلم، وإنّما هي جوامد لا تعقل، إلاّ بوسائط وبعد مراحل، وقد يستفاد منها للخير والصلاح، ولكنّ القيام بخدمة الظالم، ولو بهذه الأمور، يكون من المعونة له . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (57) تحف العقول (ص 332) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص222 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد اعتمد الإمام زين العابدين عليه السلام على هذه القاعدة الإسلامية، وجعلها ركيزة في مقاومة النظام الفاسد، وحاول تجريده من سلاح الوعّاظ المحيطين به، المتزلّفين، الذين تمرّر السلطة على وجودهم ما تقوم به من إجراء يحسّنون بذلك أفعالها أمام العوامّ، ويوقّع علماء الزور على آثامها . ففي الحديث أنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان يقول: العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به: شركاء ثلاثة (58) . وكان يُحذر الناس من التورّط في أعمال الظلمة، ولو بتكثير سوادهم والحضور في مجالسهم، والانخراط في صحبتهم، لانّ الظالم لا يريد الصالح لكي يستفيد من صلاحه، وإنّما يريده: إمّا لتوريطه في مظالمه وآثامه، او أن يجعله جسراً يعبر عليه للوصول إلى مآربه وأهدافه الفاسدة . فكان الإمام عليه السلام يقول: . لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم، إلاّ أوشك أن يقول فيه من الشرّ ما لا يعلم، ولا اصطحب اثنان على غير طاعة الله، إلاّ أوشك أن يتفرّقا على غير طاعة الله (59) . فبعض ظاهري الصلاح يتصوّر أنّ اصطحاب الظالمين لا يضرّه شيئاً، وإنّما يفيد من خلاله خدمةً، أو على الأقلّ يكفيه شرّاً ويدفع عنه ضرراً !!. ولكّنه تصوّر خاطىء، مرتكز على الغفلة عن الذي قلناه من استغلال الظالم لصحبة الصالحين لتوريطهم، أو تمرير أغراضه عبر سمعتهم، وهو لا يصحبهم على أساس الطاعة قطعاً، فلابدّ أن يتفرّقا على غير طاعة الله أيضاً، وهذا أقلّ الأضرار الحاصلة من هذه المصاحبة الخطرة . كما أنّ الذي يعيش مع الظالم، ولو لفترة قصيرة، فإنّ اصطحابه لا يخلو من كلمات التزلّف والمجاملة، والملاطفة بما لا واقع لكثير منه، ولو بعمل مثل الاحترام والتبجيل، وهذا كلّه ممّا يزيد من غرور الظالم وهو تصديق لما يقول، وتوقيع على ما يفعل . كما أنّ فيه تغريراً للناس البسطاء الذين يرون الصالحين في صحبة الظالم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (58)بلاغة علي بن الحسين عليه السلام (224) عن الاثني عشرية، للعاملي . (57) تاريخ دمشق (الحديث 128) ومختصره لابن منظور (17: 24) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص223 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فيعتبرون ذلك تصويباً لتصرّفاته، وإسباغاً للشرعيّة عليها . بل، إنّ مجرّد سكوت مَنْ يصحب الظالم، على ما يرى من فعله، هو جريمة يحاسب عليها . وقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يسعى بكلّ الوسائل من النصح والموعظة والإرشاد، إلى التخويف والتهديد، إلى الفضح والتشهير، في سبيل إقناع المتصلين بالأمويين من علماء السوء، ليرتدعوا، ويتركوا الارتباط بالبلاط، هادفاً من وراء ذلك فضح الحكّام، وتجريدهم عن كلّ أشكال الشرعية . ومن أعلام البلاط الذين ركَز الإمام عليه السلام جهوده في سبيل قطع ارتباطه بالحكّام هو: الزُهْريّ . الذي أكسبه الأمويّون زوراً وبهتاناً شهرةً عظيمةً ،وروّجوا له، ونفخوا في جلده، حتّى جعلوه من أوثق الرواة في نظر الناس . بينما كان من المنحرفين عن الإمام علي عليه السلام (60) . وقال محمّد بن شيبة: شهدتُ مسجد المدينة، فإذا الزهريّ، وعروة بن الزبير جالسان يذكران علياً عليه السلام فنالا منه (61) . واشتهر أنه كان يعمل لبني اُمية (62) و كان صاحب شرطتهم (63) ولا يختلف الناس أنه كان يأخذ جوائزهم (64) . ولم يزل مع عبد الملك وأولاده هشام وسليمان ويزيد، وقد استقضاه الأخير (65) . وجميع أهل البيت عليهم السلام يجرحونه، وتكلّم اُناس فيه من غيرهم: قال عبد الحق الدهلوي: إنّه قد ابتلي بصحبة الأمراء، وبقلّة الديانة، وكان أقرانه من العلماء والزهّاد يأخذون عليه و ينكرون ذلك منه . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (60) شرح نهج البلاغة (4: 102). (61 )شرح نهج البلاغة (4: 102) والاعتصام بحبل الله المتين (2: 258) . (62) تهذيب التهذيب (4: 225) . (63 )الجامع لأخلاق الراوي (2: 203) . (64 )الاعتصام (1: 285) . ( 65) لاحظ وفيات الأعيان، لابن خلكان (3: 371) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص224 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكان يقول: أنا شريك في خيرهم دون شرّهم !. فيقولون له: ألا ترى ما هم فيه، وتسكت ?(66) ولذلك أيضاً كانوا يعلنون: (مَنْ كان يأتي السلطان، فلا يحضر مجلسنا) (67) . وفي علوم الحديث للحاكم: قيل ليحيى بن معين: الأعمش خير أم الزهري ? فقال: برئتُ منه إن كان مثل الزهري، إنّه كان يعمل لبني أميّة، والأعمش مُجانب للسلطان، وَرِع (68) . وفي ميزان الذهبي في ترجمة خارجة بن مصعب أنه قال: قدمتُ على الزهري وهو صاحب شرطة بني أمية فرأيته يركب وفي يده حَرْبَة، وبين يديه الناس، وفي أيديهم الكافركوبات !. فقلت: قبّح الله ذا من عالم، فلم أسمع منه (69) . وقد عدّه ابن حجر في من أكثر من التدليس وقال: وصفه الشافعي و الدارقطني وغير واحد بالتدليس (70) . وقال القاسم بن محمد من أئمة الزيدية: أمّا الزهريّ فلا يختلف المحدثّون وأهل التاريخ في انّه كان مدلّساً (71)، وأنّه كان من أعوان الظلمة بني أمية، وقد أقرّوه على شرطتهم (72) . وقال الشيخ محمد محمد أبو شهبة: اعتبروا من الجرح الذهاب إلى بيوت الحكّام، وقبول جوائزهم، ونحو ذلك مما راعوا فيه إنّ الدوافع النفسيّة قد تحمل صاحبها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (66 )رجال المشكاة، للدهلوي . (67 )رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1 530) ضمن كلام الفزاري، ونقل ابن حجر الكلام في ترجمته في تهذيب التهذيب (1 :152) إلاّ أنه حذف هذه الجملة !. (68 )الاعتصام (2: 257) ومعرفة علوم الحديث للحاكم (ص 54) . (69 )الاعتصام (2: 257) وميزان الاعتدال (1: 625) والكامل لابن عديّ (3: 922) . (70) تعريف أهل التقديس (ص 109) رقم (102) . (71 )لاحظ طبقات المدلسين لابن حجر (ص 15) وانظر الجامع لأخلاق الراوي (1 :191 )الحديث 131 . (72) الاعتصام (2: 257) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص225 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الانحراف (73) . وقد جرح أبو حازم سلمة بن دينار، الزهريَ لما أرسل إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك، ومعه ابن شهاب الزهري، فدخل أبو حازم فإذا سليمان متكىء، وابن شهاب عند رجليه، فقال أبو حازم كلمات لاذعة لابن شهاب، منها قوله: (إنّك نسيتَ الله، ما كلّ مَنْ يُرسل إليّ آتيه، فلولا الفَرَقُ من شرّكم ما جئتكم ...) (74) ولقد تكلّم فيه شيخ أهل الجرح والتعديل يحيى بن معين بكلام خشن حول قتل الزهري لغلامه وقال: إنه ولي الخراج لبعض بني اُمية (75) . وقال يحيى بن معين في معرفة رجاله: هجا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان أعمى: الزُهرْيَ وصالح بن كيسان، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر، في بيت واحد فقال: ليس بإخوان الثقات ابنُ مسلم *** ولا صالح ولا الطويل معاويهْ (76) فنفى ابن معين الوثاقة عن الزهري على لسان الشاعر، وهو لو لم يوافق عليه ولم يعتقده لم ينقله أو لردّ عليه، لكنه لم يفعل . وقال القاسم بن محمّد: أليس كان بنو أمية وأتباعهم يلعنون عليّاً عليه السلام على المنابر، وابن شهاب يسمع ويرى، فماله ما يغضب ويُظهر علمه ? (77) . وقال السيّد مجد الدين المؤيّدي: أمّا كون الزهريّ من أعوان الظلمة فمما لا خلاف فيه، وقد قدح فيه نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم . وابن شهاب ممن لا يعدّلون، بطاعة بني أميّة، وتلبيسه وتحريفه لمكان كثرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (73) دفاع عن السنة (ص 31) وانظر قصة حماد بن سلمة مع أمير البصرة، في الجامع لأخلاق الراوي (1 :7 -568) وحلية الأولياء (6: 249) . ( 74) الاعتصام (2: 258) والكلام بطوله في الإمامة والسياسة (2: 105 110) . ( 75) انظر جامع بيان العلم للقرطبي (2 :160) وصرَح بأنه ترك الكلام الخشن لأنه لا يليق بمثله، ولكن لم نجد ذكراً لمثل ذلك في رجال ابن معين، ولعلّ الطابعين أيضاً تركوا ذلك رعاية لما يليق بالزهري، وان كان فيه إساءة إلى ابن معين وإلى التراث بالخيانة فيه ( 76) معرفة الرجال (2: 50) رقم (80) . (77 )الاعتصام (2: 260). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص226 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفادته اليهم معروف، وهو لسان بني أميّة (78) . وقال المؤيد بالله في شرح التجريد: الزهريّ عندنا في غاية السقوط (79) . واستعمل الإمام زين العابدين عليه السلام أساليب عديدة لإتمام الحجّة على الزهريّ، ليعتبر به هو وأمثاله، وكان التركيز عليه لكونه أكبر علماء البلاط، وأعرفهم عند العوام: فمن أساليبه: إسماعهُ المواعظ في المناجاة . قال الزهريّ: سمعتُ علي بن الحسين سيّد العابدين يحاسب نفسه ويناجي ربّه، ويقول: . حتّام إلى الدنيا غرورك: وإلى عمارتها ركونك ... ? (80) . ولما سأله الزهري: أيّ الأعمال أفضل عند الله تعالى ? . فقال عليه السلام: ما من عمل بعد معرفة الله تعالى ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من بغض الدنيا، وإن لذلك لشعباً كثيرة، وللمعاصي شعباً: فأول ما عُصي الله به: الكبر ... ثم الحسد . فتشعّب من ذلك حب النساء، وحب الدنيا، وحبّ الرئاسة، وحبّ الراحة، وحبّ الكلام، وحبّ العلوّ والثروة، فصرن سبع خصال . فاجتمعن كلهنّ في حبّ الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء: (حبّ الدنيا رأس كل خطيئة) والدنيا دنياوان: دنيا بلاغ: ودنيا ملعونة (81) . ومنها: التنبيه الخاصّ: . قال المدائني: قارف الزهريّ ذنباً استوحش منه، وهام على وجهه، فقال له علي ابن الحسين: يا زهريّ، قنوطك من رحمة الله التي وسعت كلّ شي أعظم عليك من ذنبك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (78) لوامع الأنوار (ص 79) . (79) لوامع الأنوار (ص 110) وقد ألّف سماحة السيد بدر الدين الحوثي حول (الزهري) كتاباً حافلاً في فصلين، فليراجع (80 )إلى آخر ما ذكره عليه السلام . (81 )الكافي (2: 130) المحجة البيضاء (5: 365) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص227 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقال الزهري: (الله أعلم حيثُ يجعل رسالته) . [ الأنعام (6) الاَية (124) ]فرجع إلى ماله وأهله (82) . وكان يقول بعد ذلك: علي بن الحسين أعظم الناس عليَ منَة (83) . ومنها: التصغير والتهوين: . فحيثما كان الزهري وعروة بن الزبير ينالان من الإمام علي عليه السلام، بلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام فجاء حتّى وقف عليهما، وقال: أمّا أنت يا عروة، فإنّ أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك . وأمّا أنت يا زهريّ، فلو كنت بمكة لأريتك كيرَ أبيك (84) . ومنها: التكذيب لتزلّفاته: . ففي الحديث أن الزهريّ قال لعلي بن الحسين عليه السلام: كان معاوية يُسكته الحلم، وينطقه العلم فقال الإمام عليه السلام: كذبتَ يا زهريّ، كان يُسكته الحَصَر، وينطقه البَطَر (85) . ومنها: الرسالة التي وجّهها الإمام عليه السلام إليه: . ويبدو أنّ الزهريَ لم يأبه بكلّ النصائح والتوجيهات السابقة، فتوغّل في دوّامة الحكم الغاشم، والتحق بالبلاط الشاميّ، فلم يتركه الإمام عليه السلام، بل أرسل إليه رسالة دامغة، يصرّح فيها بكل أغراضه، ويكشف له، ولأمثاله، أخطار الاتصال بالأجهزة الظالمة . وقد رواها العامة والخاصة، ونصّ الغزّالي على أنها كتبت إلى الزهري (لما خالط السلطان) (86) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (82 )مختصر تاريخ دمشق (17: 245) وكشف الغمة (2: 302) وبحار الأنوار (46: 7) . (83 )تاريخ دمشق (الحديث 125) ومختصره لابن منظور (17: 246) . (84 )شرح نهج البلاغة (4: 102) . ب (3) (85 )الاعتصام (2: 257) وانظر نزهة الناظر (ص 43) وعن معاوية وكذب ما نسب إليه من صفة الحلم إقرأ ما نقل عن شريك لما ذكر عنده باحلم فقال: هل كان معاوية إلا معدن السفه؟!والله لقد أتاه قتل أمير المؤمنين -وكان متكئا فاستوى حاليا ثم قال: يا جارية غنيني بايوم قرت عيني يأنشأت تقول : ألا أبلغ معاوية بن حـــــرب * فلا قرت عـيون الشــامتيـــنا أ في شهر الصيام فجعتمونا * بخير الناس طــــــرا أحمعينا قتلتم خير من ركب المطايــا * وأفضلهم ومن ركب السفينا فرفع معاوية عمودا كان بين يديه فضرب رأسها ونثر دماغها أين كان خلمه ذلك اليوم ؟! نقل ذلك في الغدير (11 /79) عن نسخة مخطوطة من محاظرات الراغب الأصبهاني لكنه لم يوجد في مطبوعة المحاظرات !!! (86 )إحياء علوم الدين (2: 143) وانظر المحجة البيضاء في إحياء الإحياء (3: 260) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص228 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ورواها من أعلامنا ابن شعبة، ونعتمد نسخته هنا (87) قال: . كتابه عليه السلام إلى محمّد بن مسلم الزُهْريّ، يعظه: . كفانا الله، وإيّاك، من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحتَ بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك، فقد أثقلتك نِعمُ الله بما أصحّ من بدنك، وأطال من عمرك، وقامت عليك حجج الله بما حمّلك من كتابه، وفقّهك من دينه، وعرّفك من سنّة نبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فرضي لك في كلّ نعمةٍ أنعم بها عليك، وفي كلّ حُجّة احتجّ بها عليك الفرض بما قضى، فما قضى إلاّ ابتلى شكرك في ذلك، وأبدى فيه فضله عليك، فقال: (لئن شكرتم لأزيدنّكم، ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد) .[ إبراهيم (14) الاَية (7) ] فانظر: أيَ رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك: كيف رعيتها ? وعن حججه عليك: كيف قضيتها ? . ولا تحسبنّ الله قابلاً منك بالتعذير، ولا راضياً منك بالتقصير . هيهات هيهات ليس كذلك أخذ على العلماء في كتابه إذ قال: (لِتبِيّنُنَه للناس ولاتكتمونه) .[ آل عمران (3) الاَية (187) ] واعلم أنّ أدنى ما كتمتَ، وأخفّ ما احتملت أن آنست وحشة الظالم، وسهّلت له طريق الغيّ بدنوّك منه حين دنوت، وإجابتك له حين دُعيت !. فما أخوفني أن تبوء بإثمك غداً، مع الخونة، وأن تُسأل عمّا أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة، إنك أخذت ماليس لك ممَن أعطاك، ودنوت ممّن لم يردَ على أحدٍ حقّاً، ولم تردَ باطلاً حين أدناك، وأحببتَ مَنْ حادَ الله !. أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلّما إلى ضلالتهم . داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يُدخلون بك الشكَ على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم . فلم يبلغ أخصّ وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم إلاّ دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (87)تحف العقول (ص 274) والمحجة البيضاء (3: 260) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص229 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واختلاف الخاصّة والعامّة إليهم . فما أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، وما أيسر ما عمّروا لك في كَنَف ما خربّوا عليك ? . فانظر لنفسك، فإنّه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول . وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً ? . فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه: (فَخَلَف من بعدهم خَلْف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيُغفر لنا) .[ الأعراف (7) الاَية (169) ]. إنّك لست في دار مقام، أنت في دارٍ قد آذنتْ برحيل، فما بقاء المرء بعد قرنائه ?. طوبى لمن كان في الدنيا على وجلٍ، يا بؤس مَن يموت وتبقى ذنوبه من بعده . إحذر فقد نُبّئتَ، وبادر فقد اُجّلتَ . إنّك تعامل مَن لا يجهل، وإنّ الذي يحفظ عليك لا يغفل . تجهّز فقد دنا منك سفر بعيد، وداوِ دينك فقد دخله سقم شديد . ولا تحسب أني أردتُ توبيخك وتعنيفك وتعييرك، لكنّي أردتُ أن ينعش الله ما فات من رأيك، ويردّ إليك ما عزُب من دينك، وذكرت قول الله تعالى في كتابه: (وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين) .[ الذاريات (51) الاَية (55) ]. أغفلتَ ذكر مَن مضى من أسنانك وأقرانك، وبقيتَ بعدهم كقَرن أعضب . انظر: هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به ? أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه ? أم هل تراهم ذكرت خيراً أهملوه ? وعلمت شيئاً جهلوه ? . بل: حظيت بما حلّ من حالك في صدور العامّة، وكلفهم بك، إذ صاروا يقتدون برأيك، ويعملون بأمرك، إن أحللت أحلّوا، وإن حرّمت حرّموا، وليس ذلك عندك، ولكن أظهرهم عليك رغبتهم في ما لديك ذهابُ علمائهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وحبّ الرئاسة، وطلب الدنيا منك ومنهم . أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرّة ? وما الناس فيه من البلاء والفتنة ? . قد ابتليتهم، وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم ممّا رأوا، فتاقت نفوسهم إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغتَ، أو يدركوا به مثل الذي أدركتَ، فوقعوا منك في بحرٍ لا يدرك عمقه، وفي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص230 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بلاء لا يقدّر قدره . فالله لنا ولك، وهو المستعان . أمّا بعد: . فأعرض عن كلّ ما أنت فيه حتّى تلحق بالصالحين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقةً بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، ولا تفتنهم الدنيا، ولا يفتنون بها . رغبوا، فطلبوا، فما لبثوا أن لحقوا . فإن كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ، مع كبر سنّك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فكيف يسلم الحدث في سنّه ? الجاهل في علمه ? المأفون في رأيه ? المدخول في عقله ? . إنّا لله وإنّا اليه راجعون . على من المعوّل ? وعند مَن المستعتب ? . نشكو إلى الله بثّنا، وما نرى فيك، ونحتسب عند الله مصيبتنا بك . فانظر: . كيف شكرك لمن غذَاك بنعمه صغيراً وكبيراً ? . وكيف إعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلاً ? . وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيراً ? . وكيف قربك أو بعدك ممّن أمرك أن تكون منه قريباً ذليلاً ? . مالك لا تنتبه من نعستك ? وتستقيل من عثرتك ? فتقول: والله ما قمتُ لله مقاماً واحداً أحييتُ به له ديناً أو أَمَت له فيه باطلاً ? . فهذا شكرك من استحملك ? . ما أخوفني أن تكون كما قال الله تعالى في كتابه: (أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيّاً) .[ مريم (19) الاَية (59) ] استحملك كتابه، واستودعك علمه، فأضعتهما . فنحمد الله الذي عافانا ممّا ابتلاك به . والسلام (88) . . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (88)روى الرسالة في تحف العقول (274 - 277) ورواها الحائري في: بلاغة علي بن الحسين (ص 122 -126)ورواها المقرم في: الإمام زين العابدين (ص 4 -159) ولاحظ إحياء علوم الدين للغزالي (2: 143) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص231 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إنّ هذه الرسالة تدلّ على سياسة الإمام عليه السلام من جهتين: . فأولاً: محتواها يدلّ على انّ الإمام كان يراقب الأوضاع بدقّة فائقة، فهو يضع النقاط على مواضعها من الحروف، ولا تشذّ عنه صغار الأمور فضلاً عن كبارها ? ومثل هذا لا يصدر إلاّ ممّن لم ينعزل عن الحياة الاجتماعية، ولم يزهد في السياسة . وثانياً: إنّ إرسال مثل هذه الرسالة إلى الزهري، وهو من أعيان علماء البلاط، لابدّ أن لا تخفى عن أعين الحكّام، أو على الأقل يحتمل أن يرفعها الزهري إلى أسياده من الحكّام وفي هذا من الخطورة على الإمام الذي أرسل الرسالة ما هو واضح وبيّن، وقد وصفهم فيها بالظلم والفساد، ونهى، وحذّر، وحاول صرف الزهري عن اصطحابهم . فالسياسة تطفح من جُمَل هذه الرسالة . لكنّ الإمام عليه السلام في هذه المرحلة لا يأبه بكل الاحتمالات، والأخطار المتوقّعة، بل يصارح أعوان الظلمة بكلّ ما يجب إعلانه من الحقّ، كما صارح الظالمين أنفسهم بالمواجهة، والاستفزاز . وقد وقفنا على شي من مواجهة الإمام عليه السلام للمتظاهرين بالزهد والصلاح ممن كان يميل باطناً إلى الدنيا، ويحبّ الرئاسة والوجاهة، وأوضح مصاديق ذلك: هم عُلماء البلاط ووعّاظ السلاطين الذين ارتبطوا بالولاة والحكّام، ليستمتعوا باللذات من خلال الحضور معهم، والتطفّل على موائدهم . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص232 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثالثاً: موقفه من الحركات المسلّحة: كان الإمام زين العابدين عليه السلام يخطو نحو أهدافه بحذر تامٍ، ووعي كامل، لا يُثيرُ انتباه الحكّام والولاة المغرورين، كي لا يقضوا على حركته وهي في المهد . فهم ،بانهماكهم في ترفهم واغترارهم بقدراتهم، كانوا بعيدين عن الأجواء التي يصنعها الإمام عليه السلام، فكانوا يعدّون مواقفه شخصيّة خاصة وفرديّة، بل يستوحون منها الانصراف عن التصدّي لأيّ نشاط سياسيّ . فلذلك لم يُظهر الإمام انتماءاً إلى أيّة حركة معارضة للدولة، ولم يسمح لها أن تتصل بالإمام، سواء الحركات المتحبّبة إليه، كحركة التوّابين وحركة المختار، أو الحركات المحايدة كحركة أهل الحرَة، أم المعادية له كحركة ابن الزبير في مكّة والعراق . لكن الاَثار تشير إلى أن الإمام عليه السلام لم يكن في معزل عن تلك الحركات، سلباً أو إيجاباً، حسب قربها أو بعدها عن الأهداف الأساسية التي كان الإمام وراء تحقيقها وتثبيتها . فهو من جهة كان يركّز على خططه العميقة والواسعة، بالشكل الذي يغرّر بالحكّام الأمويين بصحّة تصورّاتهم عن شغله وشخصه، حتّى أعلنوا عنه أنّه (الخير) . ولعلّ رجال الدولة كانوا في رغبة شديدة في الاحتفاظ بهذا التصوّر، حتّى لا يتورّطوا مع آل أبي طالب بأكثر ممّا سبق، وليتفرّغوا لغير الإمام زين العابدين عليه السلام ممّن أعلن الثورة والمعارضة لهم كابن الزبير، فلذا نشروا هذا المعنى في عملية تحريف، ليدفعوا مجموعة من الناس للمشي بسيرة الإمام عليه السلام . وقد وقف كتّاب من مؤرخي عصرنا الحاضر على هذه الاَثار، فأعلنوا: (أنّ الإمام عليه السلام تبنّى مسلكاً، يرفض فيه كلّ تحرك مناهض للسلطة، ويبتعد عن كلّ نشاط معادٍ لها) (89) . مع أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان يهدف من خلال مواقفه حتّى العبادية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (89)الإمام السجاد عليه السلام لحسين باقر (ص 98) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص233 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والعلمية والشخصية منها إلى تثبيت مخططاته السياسية كما عرفنا في الفصول السابقة . وكان مع ذلك يتعامل مع الحركات السياسية الأخرى بشكل مدروس ومدبّر، حسب المواقع والظروف: فبالنسبة إلى حركة الحرّة: . وجدنا الإمام عليه السلام قد أحرز أنها حركةً لم تنبع عن مبدأ يتّفق وضرورات الموقف الإسلاميّ الصحيح، فلا القائمون بها كانوا من العارفين بحقّ الإمام عليه السلام، ولا خططهم المعلنة كانت أساسية، ولا أهدافهم كانت واضحة أو مدروسة، وأهم ما كانت عليه خطورةَ الموقع الذي اختاروه للتحرّك، وهو (المدينة) فقد عرّضوها للجيش الشامي الملحد، ليدنّس كرامتها ويستهين بمقدّساتها . وقد عرفنا أن الإمام عليه السلام اتخذ موقف المنجي للمدينة المنكوبة ولأهلها الذين استباح حرماتهم الجيشُ الأمويّ . ولم تكن حركة الحرّة تتبع أمر الإمام عليه السلام ولا قيادته بل ولا إشرافه، بل كان الإمام عليه السلام يومها في فترة لملمة قواه وتهيئة وضعه، والتأهّب لخطته المستقبلية . كما سبق حديث عن ذلك كلّه في الفصل الأول (90) . وأما فتنة ابن الزبير: . فمع أن ابن الزبير لم يكن بأولى من ابن مروان، في الحكم والسيطرة، وأن طموحاته المشبوهة كانت مرفوضة لدى أهل الحقّ، وخاصّة للعلويين وعلى رأسهم الإمام زين العابدين عليه السلام . ومع ما كان عليه من الحقد والعداء لاَل عليّ عليه السلام (91) ذلك الذي بدأه في حياته بدفع أبيه في أتون حرب الجمل، وقد حمّله الإمام الصادق عليه السلام ذلك الوزر في كلمته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (90)لاحظ (ص 65 - 72) من هذا الكتاب . (91) فقد قال لابن عباس: إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة مروج الذهب (3: 84 و 89) وانظر تاريخ اليعقوبي (2: 261) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص234 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشهيرة: (ما زال الزُبير منّا أهل البيت حتّى أدرك فرخه فنهاه عن رأيه) (92) .وبدأ في عهد سطوته العداء لاَل محمد عليهم السلام بصورة مكشوفة لمّا هدّد مجموعة منهم بالإحراق عليهم في شعب أبي طالب بمكة (93) . وبلغ به حقده أنْ منع الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: (إنّ له (أهيل سو) يشمخون باُنوفهم) حسب تعبيره الوقح (94) . وكان بحكم معرفته بموقعيّة الإمام السجاد عليه السلام يضع العيون على الإمام يراقبون تصرّفاته (95) . وقد قتل أخوه مصعب الشيعة بالعراق، حتّى النساء (96) . فلذلك كان الإمام يظهر التخوّف من فتنته (97) . ولعلّ من أوضح مبرّرات الإمام في تخوّفه من فتنة ابن الزبير أنّه اتّخذ مكّة موقعاً لحركته، مما يؤدي عند اندحاره إلى أن يعتدي الأمويون على هذه البلدة المقدَسة الاَمنة، وعلى حرمة البيت الحرام والكعبة الشريفة ? . وقد حصل ذلك فعلاً . مع أنَ علم الإمام عليه السلام بفشل حركته لضعفه وقلّة أنصاره بالنسبة إلى جيوش الدولة الجرّارة، كان من أسباب امتناع الإمام ومعه كل العلويين من الاعتراف بحركة ابن الزبير . وهو كان يؤكّد على أخذ البيعة منهم لكسب الشرعية أولاً، ولجرّهم معه إلى هاوية الفناء والدمار في ما لو اندحر، وقد كان متوقّعاً ذلك، فيقضي على آل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (92)أرسله الصدوق في الخصال (ص 157) باب الثلاثة ح 199 . (93) تاريخ اليعقوبي (2: 261) وسير أعلام النبلاء (4: 118) وطبقات ابن سعد(5: 100) ومروج الذهب (3: 85) . (94) تاريخ اليعقوبي (2: 261) مروج الذهب (3: 88) . (95) شرح رسالة الحقوق، لعبد الهادي المختار (ص 102) . (96)مروج الذهب (3: 107) وتاريخ اليعقوبي (2 :264 ( 97 )الكافي () التوحيد للصدوق (ص 374) وشرح الأخبار (3: 261) وبحار الأنوار (46: 37 و 145) . وحلية الأولياء (3 :134) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص235 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محمد عليهم السلام فيكون قد وصل إلى أمنيته القديمة . إن الإمام عليه السلام بإظهاره التخوّف من فتنة ابن الزبير، كان قد أحبط كلّ أهداف ابن الزبير وأمانيه الخبيثة تلك . كما أنّ في هذا التصرّف تهدئةً لِوَغَرِ صدور الأمويين ضدّ آل محمّد عليهم السلام وشيعتهم، تمهيداً لتثبيت العقيدة وترسيخ قواعدها . وبهذا حدّد الإمام عليه السلام موقفه من الحركات البعيدة عن خطّ الإمامة، والتي لم تنتهج اتّباع الإسلام المحمّدي الخالص الذي يحمله أئمة أهل البيت عليهم السلام . فهو لم يظهر تجاهها ما يستفيده الأمويون، كما لم يؤيدها بحيث تكون ذريعة للأمويين على محاسبة الإمام عليه السلام . ولا قام بما يعتبر وسيلة يتشبَث بها أولئك المتحرّكون غير الأصيلين في الفكر والعقيدة، والمشبوهون في الأهداف والمنطلقات . فاتّخذ الإمام من هذه الحركات موقف الحزم والحيطة، فهي وإن لم تكن على المعلوم من الحقّ إلاّ أنها كانت معارضة للمعلوم من الباطل الحاكم، ومؤديّة إلى تضعيفه وزعزعته، وتحديد سطوته . والإمام عليه السلام لا يهدف إلى مجرّد إحداث البلبلة، وتعويض فاسد بفاسد، أو نقل السلطة من ابن مروان، إلى ابن الزبير، أو ابن الأشعث، أو غيرهم من المتصدّين للحكم بالباطل، فتركهم الإمام عليه السلام يشتغل بعضهم ببعض حتّى ينكشف للأمة زيف دعواهم الإمامة والخلافة، ويظهر للأمة أنهم جميعاً لا يطلبون إلاّ الحكم والسلطة، دون صلاح الإسلام وإصلاح ما فسد من أمور المسلمين . وأمّا موقفه من الحركات الاُخرى: . فهي بفرض انّها قامت بشعارات حقّة . .كحركة التوّابين في عين الوردة، وشعارهم (يالثارات الحسين) (98) وهم الذين تحالفوا على بذل نفوسهم وأموالهم في الطلب بثأر الحسين عليه السلام ومقاتلة قتلته وإقرار ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (98) أيام العرب في الإسلام (ص 436) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص236 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحقّ مقرّه في رجل من آل بيت نبيّهم صلوات الله عليه وسلامه (99) . وكحركة المختار الذي كتب إلى الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام يريده على أن يُبايع له، ويقول بإمامته، ويظهر دعوته، وأنفذ إليه مالاً كثيراً (100) وتتَبع قتلة الحسين عليه السلام فقتلهم (101) . ولكنّ الإمام عليه السلام كان حكيماً في تعامله مع المتحرّكين أولئك، فلم يعلنْ عن ارتباطه المباشر بهم، وكذلك لم يعلن عن رفض حركتهم , مثلما واجه ابن الزبير، بل أصدر بياناً عاماً، يصلح لتبرير الحركات الصالحة، من دون أن يترك آثاراً سيئة على الإمام عليه السلام: فقال لعمّه محمد بن الحنفية: (يا عمّ، لو أنّ عبداً تعصّب لنا أهلَ البيت، لوجب على الناس مؤازرته، وقد ولَيتك هذا الأمر، فاصنع ما شئت) (102) . إن تولية الإمام عليه السلام لعمّه في القيام بأمور الحركات الثوريّة تلك كان هو الطريق الأصلح، حيث أن محمّد بن الحنفيّة لم يكن متّهما من قبل الدولة بالمعارضة، ولم يُعْرَف منه ما يشير إلى التصدي للإمامة لنفسه، بينما الإمام عليه السلام كانت الدولة تتوجّس منه خيفةً باعتباره صاحب الدم في كربلاء، والمؤهّل للإمامة، لعلمه وتقواه وشرفه، ولم يخفَ على عيون الدولة أنّ جمعاً من الشيعة يعتقدون الإمامة له . وبذلك كان الإمام عليه السلام قد حافظ على وجوده من أذى الأمويين واستمرّ على رسم خططه والتأكيد على منهجه لإحياء الدين وتهيئة الأرضيّة للحكم العادل . وهو مع ذلك لم يقطع الدعم عن تلك الحركات التي انتهجت الثأر لأهل البيت عليهم السلام . فلمّا أرسل المختار برؤوس قتلة الإمام الحسين عليه السلام إلى الإمام السجّاد عليه السلام، خرّ الإمام ساجداً، ودعا له، وجزّاه خيراً (103) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (99) الفخري في الاَداب السلطانية (ص 104) . (100 )مروج الذهب (3: 83) . (101) مروج الذهب (3 :84 ) (102)بحار الأنوار (45: 365 )وانظر أصدق الأخبار للسيد الأمين(ص39 )و المختار الثقفي لأحمد الدجيلي (ص39) (103)رجال الكشي( ص 125 و 127) وشرح الأخبار (3: 270) وتاريخ اليعقوبي (2: 259 ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص237 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقام أهل البيت كافّة بإظهار الفرح، وترك الحداد والحزن، ممّا يدلّ على تعاطفهم عملياً، وعلنيّاً مع المختار وحركته . ولو نظرنا إلى هذا العمل، نجده لا يُثير من الأمويين كثيراً من الشكوك تجاه الإمام، إذ من الطبيعي أن يفرح الموتور بقتل ظالمه، ويدعو لمن قتله وانتقم منه وثأر لدماء الشهداء خصوصاً، إذا اقترن مع رفض الإمام عليه السلام لقبول هدايا المختار المادّية (104) . فإنّ ذلك يدلّ بوضوح على أن الإمام عليه السلام لا يريد التورّط سياسيّاً مع حركة بعيدة عنه جغرافيّاً، ولم تلتق مع أهدافه البعيدة المدى حضارياً وتاريخيّاً . ولا تعدو أن تكون فوزاً أو بُروزاً مقطعيّاً فقط . وأمّا ما ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام من أحاديث في ذمّ المختار أو لعنه: . فالذي يوجّهه أنّ الحكّام الظلمة عامّةً وبني أمية خاصّة استعملوا أساليب التزوير والاتّهامات الباطلة ضدّ معارضيهم بغرض إسقاط المعارضة في نظر العامة . قد استهدفوا شخص المختار وأصحابه بأشكال من الاتهامات التي تعبُر على أذهان العوام، مثل السحر والشعوذة، كما اتّهموه بدعوى النبوّة، والاُلوهية، وما أشبه ذلك من الخرافات، سعياً في إبطال مفعول حركته، وإبعاد الناس عنه، والتشويش على نداءاته وشعاراته بالطلب بثارات الحسين عليه السلام وتأسّفه على قتله، وإعلانه عن هويَة القاتلين، وحمايته لبني هاشم من الأذى . ولقد تواترت أخبار البلاطيّين، واتّهامهم إيّاه على طريقة (اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتّى يصدّقك الناس) وقد ملئت الصحف والكتب والأخبار بتلك الأكاذيب، حتّى صدّقها الناس فعلاً !!. وإذا كان المختار بتلك المنزلة التي أبداها الحكّام والنقلة والرواة والمؤرّخون، وكان من أخبارهم الموحشة عنه ما ملأ مسامع الناس وأفكارهم: أنّه ساحر، كذّاب على الله ورسوله، مدّعٍ للنبوّة، وما إلى ذلك من الترّهات والأكاذيب . إذا كان المختار عند العامة بهذه المنزلة، فهل يجوز للإمام عليه السلام أنْ يدافع علناً عن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (104) مروج الذهب (3: 83) ورجال الكشي (ص 126) رقم (200) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص238 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حركته ? أو أنْ يسكت إذا سُئِلَ عنه ? . إنّ إظهار التعاطف معه، ولو بأدنى شكل، كانت الدولة تستغلّه لضرب الإمام عليه السلام وتشويه سمعته عند العامة العمياء . فلا نستبعد أن يكون الإمام عليه السلام قد أصدر ضدّ ما يعرفه الناس عن المختار، ما يبرّى ساحة الإمام عليه السلام من الموافقة عليه، أو السكوت عنه، ففي الخبر: قام الإمام عليه السلام على باب الكعبة يلعن المختار !. فقال له رجل: يا أبا الحسين، لِمَ تسبه ? وإنّما ذُبِحَ فيكم ? . قال الإمام عليه السلام: إنّه كان كذّاباً، يكذب على الله ورسوله (105) فلو صحَ هذا الخبر، فإنّ وقوف الإمام عليه السلام على باب الكعبة، وإعلانه بهذا الشكل عن ذمّ المختار ولعنه، لا يخلو من قصد أكثر من مجرّد اللعن حيث أنّ في ذلك دلالة واضحة على إرادة مجرّد الإعلان بذلك وتبيينه للناس . وفي قول المعترض: (ذُبِحَ فيكم) الهدف السياسيّ من تلطيخ سمعة أهل البيت عليهم السلام وتوريطهم بما لطّخوا به سمعة المختار . إذ لا يصدر مثل هذا الاعتراض، وهذا الإعلان، عن شخص غير مغرض في مثل ذلك الموقف . ثمّ إنّ ما ورد من أمثال هذه الأحاديث، المشتملة على ذمّ المختار من قبل أهل البيت عليهم السلام ورواتهم، إنّما رواها رجال الدولة وكتّابهم ومؤرّخو البلاط، مما يدّل على أن المستفيد الوحيد من ترويجها هم أولئك الذين يرتزقون من الارتباط بالدولة . هذا لو صحّت تلك الأحاديث والنقول . وإلاّ، فهل يشكّ أحد من دارسي التاريخ في أنّ المختار تحرّك بشعار الأخذ بثارات الحسين عليه السلام وقد وصفه زوجتاه بعد قتله بأنّه (رجل يقول ربّي الله، كان صائم نهاره، قائم ليله، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهله وشيعته، فأمكنه الله منهم حتّى شفى النفوس) (106) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (105) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (17: 243) . (106) مروج الذهب (3: 107) وانظر تاريخ اليعقوبي (2 :264) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص239 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقتل معه سبعة آلاف رجل كلّهم طالبون بدم الحسين (107) . أليس ما قام به المختار من أخذ الثار، مكرمةً تدعو إلى السكوت عنه، على الأقلّ ? . ولقد ذكّر الإمام الباقر عليه السلام بمثل هذا في حديثه عن المختار لمّا دخل عليه أبو الحكم بن المختار، فتناول يد الإمام ليقبّلها فمنعه، ثم قال له: اصلحك الله، إنّ الناس قد أكثروا في أبي وقالوا، والقول والله قولك ... ولا تأمرني بشي إلاّ قبلتُه . فقال الإمام: سبحانَ الله أخبرني أبي - والله - أنّ مهر اُمّي كان ممّا بَعَثَ به المختار . أوَلم يبْنِ دورنا، وقَتَلَ قتلتنا، وطلب بدمائنا، فرحمه الله . وأخبرني - والله - أبي: أنّه كان ليسمر عند فاطمة بنت عليّ يمهّدها الفراش ويُثْني لها الوسائد، ومنها أصاب الحديث . رحم اللهُ أباك، رحم اللهُ أباك، ما أصاب لنا حقّاً عند أحدٍ إلاّ طلبه .... (108) وعلى حدّ قول ابن عباس لما طُلِبَ منه سبّ المختار: ذاك رجل قَتَلَ قتلتنا، وطلب ثأرنا وشفى غليل صدورنا، وليس جزاؤه منّا الشتم والشماتة (109) . إنّ خروج الإمام زين العابدين عليه السلام من أزمة الحركات المعارضة للدولة، على اختلاف مواقفها تجاهَ الإمام، من مُواليةٍ، ومُحايدة، ومُعاديةٍ، وبالشكل الذي لا يترك أثراً سلبيّاً عليه، ولا يحمّله مسؤوليّة، ولا تستفيد الأطراف المتنازعة من موقعه كإمام، وككبير أهل البيت عليه السلام، ولا تتضرّر أهدافه وخططه التي رسمها لإحياء الدين . إنّ الخروج من مثل هذا المأزق، وبهذه الصورة، عمل جبّار لابدّ أن يُعدّ من أخطر مواقف الإمام السياسيّة، ويستحقّ دراسة معمّقة لمعرفة أسسه، وأبعاده . وبعد: . إنّ ما بذله الإمام السجّاد عليه السلام من جهود وجهاد في سبيل الله، وما قام به من ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (107) مروج الذهب (3: 107) . (108) رجال الكشي (اختيار معرفة الرجال) (ص 126) رقم (199) . (109) الكامل في التاريخ لابن الأثير (4 :278) . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص240 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فرض الإمامة وواجب الولاية تجاه الدين والأمة، مع اقتران المهمّة بظروف صعبة وحرجة للغاية، حيث ملئت الأجواء بالرعب والردّة والانحراف عن القيم والموازين والأعراف، سواء الدينيّة، ام الأخلاقية، بل حتّى الإنسانية !. إنّ ما بذله الإمام عليه السلام في سبيل القيام بالمهمة تمَ بأفضل ما يُتصوّر، فقد رسم لمخططاته خطّة عمل ناجحة بحيث مهّد الأرضية لتجديد معالم التشيع، ممثلاً لكلّ ما للإسلام من مجد وعدل وعلم وحكمة، لَهُوَ عمل عظيم، يدعو إلى الإعجاب والفخر والتمجيد، ويجعل من الإمام عليه السلام في طليعة القوّاد السياسيّين الخالدين . ولقد حقّ له عليه السلام أن يكلّل تلك الحياة العظيمة بالطمأنينة التي ملأت وجوده الشريف عندما حُضِرَ، فأغمض عينيه حين الوفاة، وفتحهما ليقول كلمته الأخيرة، فيقرأ (الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الأرض، نتبوّأ من الجنة حيث نَشأ، فنعم أجر العاملين).[ سورة الزمر (39) الاَية 74 ] ثم قبض من ساعته (110). فسَلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً . وكما كانت نَتائج الثورة الحسينيّة في كربلاء تتبلور في انتصار الإسلام باستمرار شعائره وعدم تمكّن الأعداء من القضاء عليها، بالرغم من استشهاد الصفوة من خيرة المسلمين وعلى رأسهم الإمام أبو عبد الله الحسين السبط الشهيد عليه السلام وأهل بيته وشيعته، فإنّ الظلمة لم يتمكنّوا من محو الإسلام، بل بقيَ مستمرّاً، ممثّلاً في أذانه وصلاته وكعبته وسائر أصوله وضروريّاته . وقد أعلن الإمام السجّاد عليه السلام عن هذه الحقيقة، وأبرزَ هذه النتيجة في ما أجاب به إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله، حين قدم علي بن الحسين عليه السلام وقد قتل الحسين صلوات الله عليه استقبله إبراهيم وقال: يا عليّ بن الحسين، مَنْ غَلَبَ ? - وهو مغط رأسَه وهو في المحمل ! - فقال له علي بن الحسين: إذا أردت انْ تعلم مَنْ غَلَبَ، ودخل وقتُ الصلاة، فأذنْ ثُمّ أقم (111) . فإنّ الإمام عليه السلام جعل استمرار الشعائر التي تُذكر فيها شهادةُ التوحيد والرسالة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (110) الكافي (1: 468) و( 3 - 165) وانظر عوالم العلوم (ص 299) . (111) أمالي الطوسي (ص 677) المجلس (37) الحديث 1432 - 11 . . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص241 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عَلَناً وعلى رؤوس الأشهاد دليلاً على انتصار الحسين عليه السلام وغلبته، وهذا من أعظم العِبَر لمن اعتبر . فكذلك تبلورت نتائج مخططات الإمام السجّاد عليه السلام في إحياء التشيع من جديد، والتمهيد لقيام أولاده الأئمة عليهم السلام بالحركات التجديدية المتتالية .
|